جوار مسجد القرية اجتمع أفراد من أهالى العزبة مع فتحى عبدالمعبود، الذى
أصبح أبا فى التاسعة والثلاثين من عمره ويعمل كيميائيا فى أبى زعبل، ودار الحديث
حول علاقتهم بمركز «كاريتاس» ومستقبله فى المنطقة. تحدث يوسف، وهو أحد الشباب المتحمسين الذى نشأ فى المنطقة لأب مصاب بالمرض، عن
الخطوة الأخيرة فى علاقة هذه المجموعة بكاريتاس، وقال: «قدمنا بلاغا إلى النيابة
وأغلقنا المركز الاجتماعى بالسلاسل حتى لا نتهم بإتلاف المكان أو السطو عليه، وذلك
لأننا نرى أن الجمعية قد ابتعدت عن أنشطتها الأصلية». تعمل جمعية «كاريتاس» فى مصر منذ عام 1968 بمجالات متعددة إحداها هو مساعدة مرضى
الجذام، وأسست المركز الاجتماعى الصحى فى العام 1980، فى منطقة أبوزعبل (18 كم من
القاهرة) حيث يضم المركز: حضانة لأبناء المرضى وفصول تقوية ومشغلا وفصول محو الأمية
وناديا للشباب ومستوصفا. وأثناء تلك الفترة كان شعار الجمعية هو عدم التمييز بين
المستفيدين من خدماتها على أساس اللون أو الجنس أو الدين ــ حسب مجدى جرس، مدير عام
مساعد فى جمعية «كاريتاس»، الذى ذكر أن ما حدث للمركز الاجتماعى والصحى من بعض
أبناء العزبة لا يمثل الجميع، إذ إن هناك مستفيدين من خدمات المركز، ويعلق قائلا:
«بعد الثورة وازدياد النبرة الاحتجاجية فى المجتمع، بدأت المناوشات والتهديدات من
بعض الأفراد، وأشاعوا معلومات غير صحيحة عن المكان».
تعود بداية القصة إلى الأسابيع القليلة قبل الثورة فى عام 2010 حين بدأ بعض من
رواد نادى الشباب بكاريتاس فى الاحتجاج على إنشاء مبنى جديد داخل المركز، وكان ذلك
على خلفية توقف بعض خدمات المركز مثل الورشة ومحو الأمية نتيجة عدم الإقبال
والمشاكل الإدارية، وتناقل البعض وقتها أن هناك نية لجعل هذا المبنى الجديد دارا
لإقامة الراهبات العاملات فى خدمة مرضى الجذام، وانتشرت ترجيحات نقلها أحد المواقع
الالكترونية أن ذلك تمهيدا لإنشاء دير فى المنطقة، وهو ما نفته الإدارة تماما
ووصفته بالتحريض ضد أنشطتها. وعلى مدار عام ونصف دارت مساجلات بين تلك المجموعة من الأهالى وإدارة كاريتاس،
يعلق مجدى جرس، مدير عام مساعد الجمعية: «تفهمنا هذه النقطة مبكرا ووجدنا أن فكرة
إقامة سكن داخل المركز الاجتماعى غير مناسب، ودائما ما نحاول النظر إلى الأمور
بإيجابية بحثا عن الاستمرارية دون الالتفات إلى ما يحدث من معوقات».
يقوم حاليا أحد مرضى الجذام المتعافين على حراسة المكان، وما زالت تحتفظ ملامح
الرجل بآثار المرض، ويذكر قائلا: «أعمل على حراسة المكان ورى الحديقة، حتى نجد حلا
للموقف». هذا الواقع الحالى يختلف تماما عن ماضى تلك المنطقة، حين أسست الحكومة
المصرية فى عام 1932 مصحة للجذام فى مكان معزول، وكانت القوانين تسمح بضبط المريض
وتسليمه للمصحة تحت هاجس انتشار العدوى، ويؤكد مجدى جرجس أن أحد أهم منجزات
«كاريتاس» هى رفع الوصم عن هذا المرض، وتوفير العلاجات اللازمة مع وزارة الصحة ودعم
المجتمع الذى تكون فى «قرية قدامى المرضى». هذا المجتمع يتجاوز تعداده اليوم نحو
5000 نسمة، حسب تقديرات العاملين هناك. المنزل الحالى الذى يقيم فيه فتحى عبدالمعبود كان على أيام والده طينيا بسيطا
لكنه أصبح اليوم مكونا من طابقين، وفى حجرة المعيشة اجتمع عدد من زملاء الشيخ فتحى.
كان اثنان من أصل ثمانية فقط هم من المتعافين، أما البقية فهم من أبناء الجيل
الثانى الذين ولدوا أو جاءوا صغارا مع أسرهم، وأغلبهم يدير أعمالا خاصة أو يعمل فى
المصانع المجاورة. أحدهم هو يوسف الشاب «الملتزم» ذو النبرة الحماسية: «عن نفسى لم
أستفد شيئا من المجتمع القديم فى المنطقة، فأنا لست مريضا كى أذهب إلى المستشفى،
وأستطيع الاعتماد على نفسى الآن».
فى فترة المراهقة كان يوسف وفتحى يشاركان فى بعض معسكرات «كاريتاس» لأبناء
المجذومين، لكنهما ابتعدا عن أنشطة الجمعية «بعد التزامهما النهج الدينى»، ويرون أن
خلفية كاريتاس لا تلائم نزعتهما الإسلامية، وهى الأزمة التى لا يواجهها كثير من
السكان الذين يودعون أطفالهم فى دار الحضانة بالجمعية دون قلق.
«هذه الرغبة فى الاستغناء عن أنشطة كاريتاس ليست لدى جميع سكان القرية الذين ما
زالوا يحصلون على خدمات منها»، العبارة لخالد أمين المتعافى من الجذام، الذى يصف
الموقف الحالى قائلا: «مبدئيا فالموضوع ليس له علاقة بإقامة الراهبات أو تواجدهن،
فأنا قد نلت علاجا بأيديهن، ولهن كل التقدير فى هذا المجتمع الصغير، لكن هناك أسباب
أخرى، أهمها خصوصية المكان، فأحيانا لا تحصل على دعم حكومى حين يقال لنا: لديكم
كاريتاس هى من يقدم لكم الدعم، أو حين نفكر فى إنشاء مركز شباب بديل لنا، يقال
لديكم نادى الشباب فى مركز كاريتاس الاجتماعى، أرى أننا أصبحنا مجتمعا جديدا، يختلف
عن السابق».
وفد خالد أمين إلى مستشفى الجذام قبل 12 سنة، لكنه اختار الزواج والإقامة فى
العزبة، وحسب أحد الأهالى فإن هناك «صلات نسب عديدة بين السكان منذ سنوات، أوجدت
مجتمعا جديدا متآلفا مع تاريخه».
قبل عام تقريبا طالبت هذه المجموعة الإشراف على أنشطة المركز الاجتماعى
لكاريتاس، ويعلق مجدى جرس على ذلك قائلا: «نحن نعمل وفق لوائح مؤسسية، ونخضع لإشراف
عدة جهات حكومية، وكل إجراء يتم بترخيص، وفى النهاية نحن مؤسسة لا يمكن أن يأتى فرد
ليطلب المشاركة فى إدارتها بهذا الشكل الإجبارى، خاصة أن هذا المشروع جزء من أعمال
أخرى خدمية تقوم بها الجمعية فى محافظات مختلفة».
قبل شهر حدث تصعيد بين هذه المجموعة الباحثة عن الاستقلالية وإدارة المركز، وجرى
إغلاق المركز وتقديم بلاغ إلى الشرطة تحت دعوى أن المركز لا يمارس جميع مهامه وأن
هناك نية لتغيير نشاطه، ويعيش الجيل الثانى من أهالى قرية مرضى الجذام فى أعمار
الثلاثينيات والأربعينيات، ويسعون إلى فرض واقع جديد وإزاحة ماضى الجذام عن القرية،
وهو ما دفعهم إلى الاصطدام بكاريتاس، معتبرين دور الجمعية فى تنمية المكان قد
انتهى، ويسعون إلى إيجاد أدوار جديدة لهم.
هنا لا يخفى مجدى جرس مرارة فى حديثه قائلا: «صنعنا تحولا فى هذه المنطقة، وكنا
وما زلنا حريصين على تقديم خدماتنا لمرضى الجذام، وذلك من خلال اتفاقيات مع الجهات
المختصة، وأرجو من الجيل الجديد الذى لم يعش تجربة مرض الجذام ألا يمنعنا من
مهمتنا».
No comments:
Post a Comment