Saturday, March 14, 2015

المسرح المصرى ينتظر دقات البداية

فى الوقت الذى أبدت الدولة اهتمامها باستعادة النشاط فى دور العرض المسرحية، برز تيار شبابى يدعو لاستغلال المسارح المهجورة لصالح الفنانين الشباب، ورغم ذلك تستمر «أزمة المسرح» فى مواجهة عالم تشتعل فيه الأحداث يوميا، ومزاج جديد يجذب المشاهد ناحية شاشات السينما والفضائيات، ومساحات أخرى من التفاعل صنعها الانترنت، ليظهر عبء جديد على المسرحيين المصريين، فى كيفية تحقيق الجاذبية والابهار، حتى يعود النشاط المسرحى إلى قوته.. كصناعة وفن يؤثران فى المجتمع.
محرر الشروق يشتبك مع حارس سينما قصر النيل :)
فى منتصف شارع عماد الدين داخل منطقة وسط القاهرة، سور يحيط بأرض فضاء، عليه لافتة تحذر من التعدى على قطعة الأرض التى تخص البيت الفنى للمسرح، حيث تقع أطلال مسرح مصر، وعلى مدار سنوات سابقة تكررت الوعود بإعادة بناء المسرح من جديد، وهو ما لم يتم حتى الآن.
«كان المسرح يعمل حتى التسعينيات ثم انهار، وتحول إلى أرض فضاء». يتحدث باختصار حارس المسرح المتهدم، بينما يستكمل الحديث سامى سالم، صاحب المحل المجاور، الذى يحفظ تاريخ عدد من المسارح القديمة فى شارع عماد الدين.
وفى خارج تلك المنطقة من القاهرة يكثر عدد المسارح التاريخية، التى يصعب حصر تبعيتها فى جهة واحدة، إذ تنقسم بين مسارح تابعة للدولة وأخرى خاصة، وبين مسرح مهجور بسبب الإهمال، وآخر معطل بسبب غياب العروض والجمهور، يبدو المشهد فى تلك المنطقة بائسا مع انسحاب العروض المسرحية من شارع عماد الدين ومنطقة وسط البلد.
«تم الاتفاق مع القوات المسلحة على امدادنا بالمخططات الهندسية اللازمة لإعادة بناء مسرح مصر فى شارع عماد الدين، كما سيتم تخصيص جزء من ميزانية البيت الفنى للعام القادم من أجل هذا المشروع». هذا ما يوضحه فتوح أحمد رئيس البيت الفنى للمسرح الذى يخضع له مسرح مصر.
حسب حديث رئيس البيت الفنى للمسرح لـ«الشروق» فإنه يدير 13 مسرحا، كما أن لديه برامج مزدحمة بالعروض الفنية التى تحتاج إلى مزيد من المسارح، ويقول «ليس لدينا مسارح مهجورة أو معطلة». لكنه عاد واستثنى مشروع إعادة بناء مسرح مصر الذى ينتظر الدعم.
فى الجهة المقابلة لأطلال «مسرح مصر» يقع مبنى مهجور لسينما القاهرة، إذ ترجع ملكية المبنى لورثة أحمد الحاروفى، الذى كان قد خصص جزءا من هذا المبنى لعرض مقتنيات المطرب الراحل عبدالحليم حافظ، نظرا لعلاقتهما الوطيدة، وهو ما انتهى قبل سنوات، ولم يتبق من المبنى سوى كافتيريا مهجورة ومحل لبيع السجائر.
«المكان لن يتم إعادة إحيائه كمسرح أو سينما.. لقد توقف النشاط مع وفاة أحمد الحاروفى الذى كان متفرغا لإدارة هذا النشاط الفنى». هذا ما يؤكده خالد صالح، أحد ورثة الحاروفى.
وتتكرر القصة مع مسارح أخرى هجرها ملاكها أو تعطل إنتاجها مقارنة بما كانت تنتجه فى السابق، فعلى سبيل المثال لا ينتج المسرح الخاص حاليا سوى ثلاث مسرحيات هى «تياترو مصر» على مسرح جامعة مصر، و«دنيا حبيبتى» على مسرح الفن، و«بابا جاب موز» على مسرح الريحانى. ولا تعمل هذه المسرحيات على مدار الأسبوع.
وفى تلك الأثناء فإن هناك نماذج أخرى من المسارح الخاصة، تحولت عن تقديم العروض المسرحية الكلاسيكية إلى أنشطة أخرى بديلة، إذ إن بعضها تديره شركات تهدف إلى الربح، مثل شركة أفلام محمد فوزى التى امتلكت حق إدارة دار سينما ومسرح قصر النيل منذ عام 1988، وهو المسرح الذى شهد العديد من مسرحيات ذات الانتاج الخاص، بينما كان آخر العروض المسرحية التى أقيمت عليه، هو عرض «براكسا» فى العام 2011، وتم استغلاله فيما بعد فى حفلات غنائية.
«حُسن البضاعة ولا حُسن السوق». يستعير عماد عبدالمنعم مدير دار سينما ومسرح قصر النيل هذا المثل الشعبى فى وصف التطور الأخير لحالة المسارح الخاصة، فغياب أبطال العروض المسرحية الذين نشطوا منذ السبعينيات، قد أثر بشكل مباشر على حالة تلك المسارح.
وكما يوضح مدير دار سينما ومسرح قصر النيل فإن هناك طريقين للتعاقد عند إتاحة استغلال المسرح، وهو إما أن تحصل إدارة المسرح على مبلغ كامل مقابل العرض، أو أن تحصل على نسبة من الإيراد، ويعلق على تجربة إتاحة المسرح للحفلات الغنائية فى السنوات الأخيرة: «كانت التذاكر ذات أسعار معقولة، فى متوسط 40 جنيها ثمنا للتذكرة، وهو ما لم يكن مربحا على المدى البعيد». وعلى نفس هذا المسرح أقامت المطربة الراحلة أم كلثوم أهم حفلاتها الغنائية، وكذلك كان المطرب عبدالحليم حافظ، والفنان فريد الأطرش. بينما تطمح إدارة مسرح قصر النيل أن تعد برنامجا شهريا بحفلات غنائية، يعيد ارتباط الجمهور بالمسرح ذى الطابع التاريخى. أما فى مسرح راديو المجاور فقد اختارت شركة الإسماعيلية التى تدير عددا من المبانى التاريخية فى منطقة وسط البلد، أن تقوم على تأجيره لبرامج تليفزيونية، كما كان الحال مع برنامج «البرنامج» للإعلامى باسم يوسف، قبل توقفه.
ومع قلة العروض المسرحية الخاصة، وانسحاب نجومها منذ سنوات إلى العمل التليفزيونى والسينمائى، أصبح للمسرح المدعوم من الدولة أكثر أهمية، لما تقدمه الدولة من دعم، لكن حقيقة أرقام ميزانية وزارة الثقافة التى تدير مسارح البيت الفنى للمسرح، وهيئة قصور الثقافة، دار الأوبرا، تبرز مشكلة أخرى فى حقيقة دعم الدولة للحركة المسرحية، إذ كانت وزارة الثقافة قد أعلنت عن أن ميزانيتها للعام الماضى تمثل نسبة 0.23% من إجمالى الموازنة العامة للدولة بما يقارب واحد ونصف مليار جنيه، وأن 52.43% منها ينفق على أجور وتعويضات على العاملين فى الوزارة حسب تصريحات الوزير السابق صابر عرب.
«هناك أزمة أعمق من مسألة دعم المسرح، وهى عن التحدى الذى يتعرض له المسرح منذ سنوات، فعلى سبيل المثال، قمنا بإعداد استطلاع للرأى بين جمهور المسرح، وكشف عن أزمات فى التسويق والامكانيات المحدودة، وضعف المستوى الفنى، وغياب الإبهار». الحديث هنا لهانى أبوالحسن مدير عام المركزالقومى للمسرح.
وخلف مكتبه فى مقر المركز فى حى الزمالك بالقاهرة، يوضح هانى أبوالحسن أن المسرح يعانى عالميا من أزمة انسحاب الجمهور، حيث اتجه الكثيرون إلى إبهار السينما والتليفزيون، وإلى حالة التفاعلية التى يتيحها الانترنت، ما يجب أن ينتبه إليه الفنان المسرحى.
«كانت الفترة الماضية منذ السبعينيات تعمل على تغذية الحس المحافظ فى المجتمع، ما أنتج مزاجا غير مقبل على الحياة المسرحية، وهو ما يبرز فى قلة أعداد دارسى المسرح، وفى جانب آخر فإن انخفاض ميزانية العروض، ينعكس على كم الإبهار البصرى الممكن فى هذه العروض». يستكمل هانى أبوالحسن حديثه مستعيرا بعض النماذج التى تخلصت من عبء الإنفاق على الموظفين فى تجربتى مسرح الهناجر ومركز الإبداع الفنى، بينما تواجه أماكن أخرى كما كبيرا من العمليات الروتينية، والزيادة المفرطة فى أعداد الموظفين.

وبين ما تبديه الدولة من اهتمام بعودة الحياة المسرحية كما هو واضح من تصريحات كبار المسئولين الحكوميين، إلا أن الواقع يحمل معه مشاكل أخرى، عن تغير المزاج العام، وكم الانفاق المتاح على الحياة المسرحية.
مسرح روابط

كشف حساب المسرح المصري فى 3 سنوات

تشير أرقام الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء إلى تغيرات سنوية فى عدد المسارح العاملة فى المجال الفنى على مدار العام، وكذلك عن عدد جمهور المسرح فى مصر.
- يشير آخر إحصاء حسب النشرة السنوية الثقافية الصادرة عن الجهاز المركزى للتعبئة والاحصاء، إلى أن عدد المسارح النشطة فى العام 2013 قد بلغ 40 مسرحا، فى مقابل 31 مسرحا لعام 2012 بنسبة زيادة قدرها 29%، فيما تشير أرقام العام 2011 إلى وجود40 مسرحا مقـابل 37 خلال عام 2010. وهو ما يكشف عن هبوط النشاط المسرحى فى عام تولى جماعة الاخوان المسلمين للحكم.
- ورغم ازدياد عدد المسارح فى العام 2013 وإقامة 1998 عرضا شاهدها 340 ألف مشاهد، إلا أن ذلك لم يجنى سوى 4.8 مليون جنيه، بينما بلغ عـــدد المترددين على المســارح 453 ألف مشاهد عــام 2012 بلغت جملة إيراداتها 8,3 مليون جنيه.

إحياء المسارح.. اتجاه معاكس بين الفنانين الشباب

مسرح مصر

اختار الفنان الشاب على قنديل التوقف تماما عن إدلاء تصريحات صحفية حول حملة «عايز مسرح» التى بدأها فى نوفمبر الماضى، وانتهت بوعد رئاسى عن إتاحة مسرح الفردوس للفنان الشاب ونشطاء حملته كى يبدأوا تجربتهم فى إحياء المسرح المهجور. وكانت الشروق قد حصلت فى وقت سابق على تصريحات من مؤسس حملة «عايز مسرح»، حول خطته المستقبلية فى حالة ما تحققت أمنيته فى الحصول على مسرح الفردوس، وذكر قائلا: «مبادرة عايز مسرح ليست ممثلة فى على قنديل فقط، هى مجرد خطوة لإثبات أن هذا الجيل من الشباب، لديه الكفاءة والخبرة فى الإدارة، والقدرة على تحقيق النجاح.. هى مجرد خطوة، سنسعى لتكرارها وإعداد كوادر لها». اشتهر على قنديل بأداء كوميديا الـ«ستاند أب»، بعد أن قضى سنوات سابقة فى تقديم العروض التمثيلية والتدريب فى مسارح ومراكز ثقافية مستقلة.
تعتمد حملة «عايز مسرح» على عدم تكليف الدولة نفقات إحياء مسرح الفردوس المستهدف، بل ستعتمد على أنشطة تدر ربحا، وستستخدم ذلك الربح فى عملية تطوير المكان، على أن يتم تقييم التجربة بعد فترة ثلاث سنوات، وهى الفترة التى يراهن فيها على قنديل وفريقه المكون من عشرات الشباب على تحقيق النجاح المنشود.
أما الدعوة التى طرحها على الانترنت فى شكل استمارة، فقد نالت أكثر من 3000 توقيع من متضامنين مع الحملة، كما تضامن معه فنانون شباب، يسعون خلف هذه المساحة التى ستستوعبهم فى المستقبل.
لن تكون هذه التجربة هى الأولى فى إحياء مسرح مهجور، ففى شارع «خليج الخور» المتفرع من شارع رمسيس فى وسط القاهرة، يقع مركز أوبرا ملك، الذى تم افتتاحه فى يونيو الماضى، وتتلخص قصته فى أنه كان مسرحا تديره الفنانة ملك حتى بداية الخمسينيات من القرن الماضى، ثم آلت ملكيته إلى الدولة بعد وفاتها فى العام 1983، ومن العام 2007 انتقلت إدارته إلى البيت الفنى للمسرح، وظل غير مستغل حتى العام 2013، حتى تحول إلى مركز فنى حكومى. «كان مجرد مخزن يضم بعض المعدات السينمائية، وله مديرين دون عمل حقيقى..». على حد قول أحمد السيد مدير مسرح أوبرا ملك.
فى الطابق العلوى من المسرح، يبدو أحمد السيد مشغولا بالتجهيز لفعاليات قادمة، وهو أحد الوجوه التى برزت فى اعتصام وزارة الثقافة قبيل ثورة 30 يونيو 2013.
«كان السؤال الذى يلاحقنى حين توليت إدارة المسرح فى أغسطس 2013، عن خبراتى السابقة فى إدارة المسارح، وكنت أجيب: وماذا فعل من قبلنا الذين تراكمت خبراتهم دون تحقيق نهضة مسرحية.؟ للأسف هناك كثيرون لا يعرفون كم الخبرات التى تكونت لدى جيلنا فى الفترة الماضية».مازال الحديث لأحمد السيد الذى يسترجع الفترة التى استغرقت قرابة العام فى تجهيز المسرح حتى لحظة افتتاحه، قائلا: «فى تلك الفترة لم انتظر استلام المسرح دون عمل، بل حاولت استخدام مسارح أخرى زميلة فى التحضير لورش فنية حتى يتم افتتاح مسرح ملك، لكنى كنت أقابل بفتور أو بعدم ترحيب فى بعض الحالات».
تلك المحاولات والتجارب اعتمدت بشكل مباشر على الحصول على مسرح خاضع للدولة، بينما كان هناك مسار آخر فى تجربة إحياء أماكن مهجورة وتحويلها إلى ملتقى فنى ومسرح يحتضن العروض الفنية، أحد أشهر هذه النماذج هو مسرح روابط الذى تم تأسيسه قبل 9 سنوات. بدأت القصة حسبما يرويها محمد عبدالخالق أحد مؤسسى روابط، وهو بدوره رئيس مجلس إدارة جمعية دراسات وتدريب الفرق المسرحية الحرة.
«البحث عن إحياء مسارح جديدة هو أحد تداعيات حركة المسرح المستقلة، التى بدأت قبل 25 سنة، وعلينا أن نعترف بأن العروض المستقلة هى من أنقذ الحركة المسرحية، بكثرة عروضها مقارنة بالمسرح الحكومى والمسرح الخاص». وعلى حد تعبير محمد عبدالخالق، فإن هناك منابر اجتذبت الفرق المستقلة، حين لم تجد حفاوة بها فى مسارح الدولة، بسبب مساحة اشتباكها مع الواقع والتجديد.
ويفتح باب تدشين مساحات جديدة للحركة المسرحية سؤالا حول مدى قدرة هذه التجارب على الاستمرار، فبينما تعرض مسرح روابط للتوقف بين العامين 2013 و2014 بسبب ضعف القدرات المالية، فإن هناك نماذج أسبق فى فتح مساحات لعروض مسرحية، مثل ساقية الصاوى التى عاونتها الدولة فى الحصول على المساحة التى أقيمت عليها قاعة النهر.
«الحصول على تمويل لدعم تدشين مسرح أمر وارد، لكن أزمة التمويل من مؤسسات خارجية، قد أساء إليها آخرون». يستكمل محمد عبدالخالق حديثه موضحا أن تجربة مسرح روابط لم تكن إعادة بناء مسرح، لكن فى بناء مسرح فى مساحة خاصة بمخزن قديم فى منطقة وسط البلد. ومرت بعدد من المطبات فى محاولة توفير الدعم اللازم للإيجار، وهو ما اضطر المؤسسين فى البداية إلى الإنفاق على المسرح منذ البداية. تلك الأزمات قد لا يواجهها أحمد السيد فى إدارته لمسرح أوبرا فلك التابع للبيت الفنى للمسرح، لكنه فى التوقيت نفسه مقيد بميزانية، عليه أن يوزعها على رواتب الموظفين، وإقامة فعاليات لائقة.
أما بالعودة لعلى قنديل الذى يستهدف مسرح الفردوس التابع لوزارة الداخلية، فقد أعلن مبكرا نيته عدم الاعتماد على تمويل، بقدر ما سيعتمد منهجا فى الادارة يتيح إمكانية الحصول على دخل يمكنه الانفاق على متطلبات المسرح.
PDF

Wednesday, March 4, 2015

حكاية سيدات يجبرهن «الرزق» على «السعى فى الليل وآخره»

- أقدم بائعة حمص على الكورنيش: السمعة الطيبة هى أكبر حماية للمرأة.. ومنة الله «الجامعية» تحلم بمشروع «نصبة الشاى»
- «المركزى للتعبئة والإحصاء»: 17.8% من إجمالى الأسر المصرية يترأسها نساء
- صاحبة مشروع «النصبة»: البعض مازال فى ذهنه صورة السيدة البسيطة التى تعمل فى الشارع.. لكنى جامعية وأقدم المشروع بشكل راقٍ
- مهندسة طوارئ فى «الكهرباء»: 40% من المهمات التى أنجزها تكون بعد الساعة الواحدة صباحا
- باحثة فى مؤسسة المرأة الجديدة: قضايا التمييز فى الأجور تكشف واقع المرأة

كتب- عبدالرحمن مصطفى
تقف «أم علاء» بمحاذاة كورنيش النيل أمام منطقة رملة بولاق القاهرية، تبيع الشاى وحمص الشام، وتستمر هكذا لساعات متأخرة بعد منتصف الليل، على أمل مجىء المزيد من الزبائن، وفى ذلك اليوم لم يحدث ما تتمناه، إذ أحيانا ما يقل عدد الزبائن تدريجيا بسبب قسوة برد الشتاء، والاضطرابات الأمنية التى تتصاعد فى لحظات غير متوقعة.
تقول عن نفسها: «أنا أقدم بائعة شاى وحمص الشام على كورنيش الساحل، كنت أعمل مع والدى قبل أكثر من 40 سنة، ما زلت فى نفس المهنة، وأعمل من العصر حتى مطلع الفجر، فليس لى دخل آخر سوى ما أحصل عليه من عربة الحمص ونصبة الشاى».
تتحدث أم علاء ــ التى تفضل مناداتها بهذا الاسم ــ عن ظروف أسرية أجبرتها على أن تنفق على أبنائها الخمسة بعد وفاة الزوج، وفى ساعات الليل المتأخرة يعاونها أبناءها فى العمل، أكبرهم علاء، وهو أبكم يصعب التواصل معه سوى بالإشارات، وهو ما دفعه إلى التنحى جانبا عن الحديث والانشغال بالوقوف أمام عربة حمص الشام.
يبدأ التحضير ليوم عمل جديد مع نهاية اليوم الذى يسبقه، إذ تبدأ أم علاء فى شراء وتجهيز مستلزمات الشاى وحمص الشام مع شروق الشمس، بعد أن تكون انتهت من بيع ما لديها، ثم تبدأ فترة النوم والراحة حتى الاستيقاظ ظهرا، ثم يبدأ العمل فى اليوم الجديد من العصر حتى مطلع الفجر، وتتحدد ساعات العمل حسب إقبال الزبائن، ويبقى الأمل فى زبون ميسور الحال، يقدم بقشيشا مناسبا.
تحصل أم علاء على 300 جنيه من معاش زوجها، بينما يبقى دخلها من بيع الشاى وحمص الشام متباينا حسب حالة الشارع، وذلك لا يزعجها كثيرا، تقول: «حصلت فى فترات سابقة على مكاسب كبيرة، وعرفت فترات خسارة، ومنذ وقت مبكرة نجحت فى صنع سمعة تحمينى من مشاكل الشارع، لكن أكثر ما يزعجنى الآن هو مستقبل أبنائى».
يتحرك ابنها أحمد مختار ذى الاثنين والعشرين عاما تاركا «نصبة» الشاى، ليشارك فى الحديث: «أنا أبحث عن عمل آخر.. سائق تاكسى أو سائق توك توك، وأطلب لمن يجد لى وظيفة أخرى أن يدلنى عليها، فى النهاية أنا وإخوتى سنحتاج إلى توفير شقة للزواج».
هذه الأسرة الصغيرة، لا تخشى برد الشتاء أو العمل الليلى، بقدر ما تخشى الحفاظ على صورتها وسمعتها فى هذه المنطقة، وهى السمعة التى أسستها «أم علاء» على مدى عشرات السنوات، تنقلت فيها بين عدة أماكن فى كورنيش الساحل ورملة بولاق.
«أم علاء» هى نموذج لشريحة من النساء تمثل 17.8% من إجمالى الأسر المصرية، وهى نسبة الأسر التى يترأسها نساء، حسب أرقام الجهاز المركزى للتعبئة العامة والاحصاء، وفى هذه الحالة تصبح المرأة هى المسئولة عن توفير احتياجات أسرتها بشكل كامل، وهو ما ظلت تفعله بائعة الشاى المخضرمة طوال السنوات الماضية، حتى مع وجود زوجها الراحل.

نهاية النصبة
هذه التجربة التى تقدمها بائعة الشاى وحمص الشام، هى خلاصة عشرات السنوات من الاحتراف حتى استقرت الأمور نسبيا فى النهاية، وهو ما لا يحدث دائما مع من يخوضون تجربة العمل الليلى فى الشارع، خاصة فى حالة إذا ما كانت تلك التجربة مع فتاة شابة لا تتجاوز الرابعة والعشرين سنة من عمرها، هذا ما حدث مع منة الله الحسينى، التى أثارت جدلا أخيرا، حول مشروع «النصبة».

كانت تدير مشروعها فى منطقة وسط البلد القاهرية، حيث دشنت «نصبة» تقليدية لتقديم المشروبات بأسعار متوسطة، ثم فاجأها قرار بإزالة مشروعها تماما من الساحة القريبة لمقر وزارة الأوقاف، بعد مضايقات من موظفى البلدية وبلطجية المنطقة.
بعد أن تركت مشروعها مؤقتا، تتذكر الآن كيف كانت مضطرة أن تدافع عن فكرتها البسيطة، وهى أنه يمكن لفتاة متعلمة أن تدير مشروعا خاصا فى الشارع، تقول: «نعم.. كان هناك جزء من المعاناة التى تعرضت لها بسبب التنميط، فالبعض مازال فى ذهنه صورة السيدة البسيطة التى تعمل فى الشارع، لكنى جامعية أدرس فى كلية الحقوق، وأقدم المشروع بشكل راقٍ، وحتى وقت متأخر.. لذا كنت فى حالة دفاع دائمة عن النفس، لأنى خارج توقعات الشارع».
انتهى مشروع «النصبة» قبل أسابيع، لكنها مازالت تحلم بإعادة إحيائه من جديد، وانتهت الفكرة بسبب رفض أجهزة الحى استمرار المشروع، وتعرض منة للمضايقات المتكررة والاتهامات القاسية، لكنها مازالت تطمح فى أن تصبح فكرة «النصبة» وسيلة لكسر بطالة الكثير من الشباب، ضاربة المثل بعربات «السجق» الشهيرة فى شوارع نيويورك، التى تحصل على ترخيص، وتنتشر هناك دون تهديدات لأصحابها.
«كان الفيصل فى إفشال المشروع، هو الابتزاز الذى أتعرض له من بعض الموظفين كى أدفع لهم رشوة»، على حد قول الفتاة الجامعية التى خسرت حلمها.
أما الأزمة الأخرى التى واجهت منة الله الحسينى صاحبة مشروع «النصبة»، فكانت فى عدم وجود إجراء قانونى لتنفيذ فكرة مشروعها، فالتراخيص تصدر عادة لبناء أكشاك ثابتة، وهو ما لا يصدر للعربات المتجولة التى تقدم طعاما فى الشارع.
«كنت أواجه يوميا بنظرات تحرش واستفزاز، إلى جانب ما أوجهه من مشاكل العمل العادية مع تأخر الوقت ليلا، لكن استمرار المشروع لأسابيع طويلة، كان يعطينى أملا». هكذا تصف منة الحسينى ما كانت تواجهه، وهو ما كان يجعلها فى حالة تحفز دائمة، انتهت بهدنة مؤقتة بعد توقف المشروع.

العمل اختيار
ليست كل التجارب النسائية فى العمل الليلى ذات طابع واحد، فأحيانا ما يكون اختيار العمل فى ساعات متأخرة من الليل، هو اختيار المرأة لأسباب مهنية بحتة، على سبيل المثال فإن المهندسة الشابة نهى عبدالفتاح، ذات التاسعة والعشرين عاما، التحقت بالعمل فى وزارة الكهرباء فى العام 2008، وبعد قضاء سنتين فى العمل المكتبى التقليدى، جاءتها فرصة للعمل فى صيانة محولات الكهرباء داخل نطاق القاهرة وبعض المناطق المجاورة، وتصف ذلك: «جذبتنى الفكرة من صديقة تعمل هى الأخرى فى قسم العمل الميدانى للطوارئ، وهو ما دفعنى إلى التجربة التى ستزيدنى خبرة وتميزا»، أما ما شجعها على ذلك فهو أن والدها هو الآخر كان يعمل بالطريقة نفسها.

يقوم نظام عمل المهندسة الشابة، على أن تنتظر فى كل ليلة أن يأتيها أمر بالذهاب إلى أحد المواقع التابعة للوزارة، فهى ليست مضطرة إلى الحضور التقليدى وقضاء ساعات عمل فى نفس المكتب، بل تنتقل من مكان لآخر.
«نحو 40% من المهمات التى أنجزها تكون بعد الساعة الواحدة صباحا، لسبب فنى بحت، فهذا هو الوقت الذى تقل فيه الأعباء الكهربائية»، على حد قولها.
ليست كل المهام سهلة، وفى أغلب انتقالاتها من موقع لآخر، تقابل بأسئلة العاملين فى تلك المحطات التى تقوم على صيانتها، حين يندهشون من مجىء مهندسة فى ساعة متأخرة من الليل، يرافقها 4 من الفنيين والمهندسين، وتنتقل بصحبة المعدات وسيارة العمل، بين مجتمعات وبيئات مختلفة.
«وقت حظر التجول فى العام 2013 تم احتجازنا قرب كمين عسكرى، بسبب أحداث عنف وقعت جواره، وأصيب أهلى بالذعر، بعد أن قضينا ساعات دون حركة، وانقطع الشحن عن هواتفنا المحمولة. كانت تجربة سيئة»، هذا ما تتحدث نهى عبدالفتاح عن إحدى المهام التى قامت بها.
وتبدو نهى راضية عما تحققه من خبرة وتميز، لما تلمسه من سمعة طيبة لمن يحترفون العمل الميدانى فى داخل الوزارة، وحسب المادة 89 من القانون رقم 12 لسنة 2003، فإنه «يصدر الوزير المختص قرارا بتحديد الأحوال والأعمال والمناسبات، التى لا يجوز فيها تشغيل النساء فى الفترة ما بين الساعة السابعة مساء والسابعة صباحا». ورغم هذه الصيغة إلا أن قانون العمل فى الوقت نفسه لا يحظر عمل النساء فى هذه الأوقات بشكل قاطع. لذا فإن بعض الآراء المدافعة عن حق المرأة فى العمل قد اقترحت تعديلات على قانون العمل، ومنها ما قدمته مؤسسة المرأة الجديدة، عن تعديل مواد مثل المادة رقم 91 الخاصة «بتحديد الأعمال الضارة صحيا أو أخلاقيا وكذلك الأعمال الشاقة وغيرها من الأعمال التى لا يجوز تشغيل النساء فيها». وهو ما اعتبره البعض نوعا من تمييز غير المستحب ضد المرأة.
ترى مى صالح الباحثة فى مؤسسة المرأة الجديدة، أن الهدف من الاعتراض على مثل هذه المواد، يأتى سعيا لإغلاق باب التمييز بين المرأة والرجل، فقد ترغب امرأة فى العمل على مسئوليتها فى أى مجال، لذا فإن المؤسسة تقترح فتح المجال، بأن تكون هناك موافقة كتابية على الأعمال التى قد تمثل خطورة.
وتضيف قائلة: «الأصل هو الإباحة وليس التقييد فى العمل، وعلينا ألا نفتح المجال لفكرة أن هناك ما يناسب المرأة ومالا يناسبها، حتى لا يصبح ذلك بابا للتضييق، خاصة حين نعلم أن هناك قضايا أخرى متعلقة بعمل المرأة، مثل التمييز فى الأجور».
وسط تلك الصعوبات التى تواجهها شريحة من النساء فى العمل الليلى، لكن الصورة العامة لعمل المرأة توضح صعوبات أخرى خاصة بأجور المرأة فى مقابل أجور الرجل، إذ يبلغ متوسط دخل الفرد الأسبوعى للعاملين الذكور فى كل من القطاع العام والأعمال العام والقطاع الخاص هو 769 جنيها، بينما يبلغ متوسط الأجر الأسبوعى للعاملات الإناث 714 جنيها، وذلك حسب أرقام الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء فى تقريره السنوى لإحصاءات التوظيف والأجور وساعات العمل.
وتكشف تجربة التواصل مع عدد من النساء اللاتى يضطررن إلى العمل فى أوقات متأخرة من الليل، قد كشفت عن أمور تجمعهن، رغم اختلاف ثقافتهن، من أهمها أنهن لا يبدين فخرا بالعمل لأوقات متأخرة من الليل، بل رفض عدد منهن الحديث عن تلك التجربة بسبب ما يرد فى أذهان البعض من ارتباط بين العمل ليلا للمرأة والصورة النمطية عن سوء السلوك.
PDF