Friday, December 30, 2011

الألتراس .. صوت المشجع الصاخب


تفاصيل متشابكة عن مجموعات أثارت الجدل

كتب – عبدالرحمن مصطفى
في أثناء أحداث شارع محمد محمود الأخيرة كان محمد جمال بشير يتنقل من موقع إلى الآخر في ميدان التحرير حاملا في حقيبته أول أعماله "كتاب الألتراس" الذي تصادف صدوره في 19 نوفمبر الماضي مع بداية الاشتباكات، ورغم الأجواء المصاحبة للطبعة الأولى من الكتاب الصادر عن "دار دوّن" في حوالي 220 صفحة، إلا أن ذلك لم يمنع أن يتصدر الكتاب قوائم الأكثر مبيعا في الأسابيع القليلة الماضية. النظرة الأولى على عنوان "كتاب الألتراس" قد تنقل إلى القارئ إيحاء بأنه سيطالع كتابا مقدسا أو مرجعا تاريخيا عن طائفة خاصة، إلا أن الأقرب إلى الواقع هو ما سجله أحد القراء في مجموعة "كتاب الألتراس" على شبكة فيسبوك الاجتماعية إذ يقول: "دلوقتي بقي لينا مرجع نقدر نتكلم بيه قدام أي حد ". ما يقدمه الكاتب من معلومات حيادية في الكتاب لم تخف تبنيه دورا وسيطا بين ثقافة الألتراس والقارئ العادي، إذ يبدأ الكتاب بمقدمة وضع لها العنوان الآتي: مقدمة متواطئة بعض الشيء ! يقدم فيها تعريفا بروح الألتراس وكيف تحولت إلى أسلوب حياة قائلا: "فرد الألتراس يمشي رافعا رأسه دوما لأنه يدرك أن هناك جيشا خفيا قابعا بداخله يستطيع أن يطلق عنانه في أسوأ الظروف". هذه المقدمة كتبها الكاتب محمد جمال بشير – أو جيمي كما يعرفه رفاقه- في عدد من المواقع الالكترونية في عام 2008، إذ أنه أحد مؤسسي رابطة "الوايت نايتس" ألتراس نادي الزمالك، كما أنه مدون على الانترنت منذ بدايات حركة التدوين المصرية.
وفي عرضه لأفكار الكتاب اختار الكاتب تقسيما سهلا للفصول حتى أنه استغنى عن الفهرس التقليدي للعناوين مفضلا أن يقدم فصولا سريعة أشبه بهتافات حماسية من المدرجات يقدم فيها كما لا بأس به من المعلومات، إذ لا تتجاوز أغلب الفصول الخمس صفحات للواحد. ويبدأ أول فصول الكتاب بعنوان عن "أنواع مشجعي كرة القدم" وصنفهم حسب مواقفهم المختلفة من التشجيع الكروي، وهو ما قد لا يلتفت إليه المشجع العادي، إذ قسمهم إلى: جمهور النتائج الذي يشجع حسب نتائج الفريق، وجماهير التلفاز، والجماهير العادية غير المنتظمة في الحضور إلى الإستاد، ثم ينقلنا الكاتب إلى أنواع أخرى من المجموعات الجماهيرية المنتشرة حول العالم مثل: الهوليجانز، والهولز، والبارابرافا، والتورسيدا، موضحا تفاصيل شيقة عن كل فئة، ولا يخفى هنا أن الكاتب يعرض المشهد بعيون الألتراس، وبخلفية رؤيتهم ومواقفهم من قضية التشجيع الرياضي، خاصة أننا بصدد مجموعات لا تهتم كثيرا بالتواجد الإعلامي، خاصة أنها كانت في مرمى الاتهامات لسنوات إلى أن تحولت إلى أحد أهم عناصر الثورة منذ 25 يناير الماضي.
ينتقل الكاتب إلى فصل "دخول الألتراس إلى الوطن العربي" وهو أطول فصول الكتاب نسبيا، رغم تقسيمه إلى عدة أجزاء أصغر لافتا فيه إلى معلومات قد لا يدركها كثيرون، منها أن أول ظهور للألتراس كان في ليبيا عام 1989 في محاولة جريئة تم قمعها في ذلك الوقت على يد الرئيس السابق القذافي، ثم عرض الكاتب ملامح اختلافات تجارب الألتراس في تونس – خاصة بعد رحيل بن علي- وفي الجزائر والمغرب، وهنا يظهر في عرض الكاتب لهذه التجارب أثر الزيارات التي قام بها إلى بعض هذه الدول، إذ لا يخفي على القارئ منذ البداية ذلك التوقيع الذي دونه الكاتب للمقدمة الثانية للكتاب من الرباط عاصمة المغرب. أما في تناوله لظهور الألتراس في مصر فيظهر تأثير انخراطه المبكر في عالم الانترنت وربطه بين الانترنت وتطور ظهور الألتراس، مفاجئا القارئ بوجود مجموعات للألتراس بعيده عن الأندية المركزية في القاهرة (الأهلي، الزمالك)، مثل (التراس 300) التي تساند وتشجع فريق طنطا في دوري الدرجة الثانية، وكيف تؤثر ثقافة المدينة في عقلية الألتراس مثلما حدث في السويس الذين لقبوا أنفسهم بالفدائيين مستحضرين تاريخ المدينة الباسلة.
على مدار فصول الكتاب القصيرة تتلخص رسالة الكتاب في سؤال: "من هم الألتراس ؟" ولا يتوقف الكاتب كثيرا عند علاقة الألتراس بالثورة، بل يركز بشكل أكبر من خلال عناوين الفصول المتتالية على "عقلية وثقافة الألتراس"، و"هيكل المجموعة"، مؤكدا على الاختلاف بين الألتراس ومجموعات المشجعين الأخرى مثل الهوليجانز الانجليز الأكثر ميلا إلى العنف، ومجموعة البارابرافا اللاتينية التي تعتمد في تمويلها على عصابات المخدرات والدعارة، وهنا يؤكد الكاتب على موقف الألتراس من العنف وكيف يتم الصلح بين مجموعات الألتراس وقت وقوع الخلاف، مع الحفاظ على دأبه في الانتقال بين خارج وداخل مصر لإعطاء أمثلة، مثل الصلح الشهير بين مجموعات الألتراس المنسوبة للأهلي والزمالك، ومجموعات أخرى أوروبية في فترات سابقة.

كل رجال الأمن أوغاد
ومثلما لم يخف "كتاب الألتراس" تبنيه رؤية الألتراس للعالم وكيف يفكرون، فإن مجموعة أخرى من الفصول المتتالية تناولت جانبا آخر يهتم بتحديد الجبهات التي تتبادل العداء مع الألتراس، وفي فصل تحت عنوان "كل رجال الأمن أوغاد" يستعرض الكاتب محمد جمال بشير خلفية هذا الشعار الذي ينظر إلى رجال الأمن في الاستادات على أنهم حائط صد ضد متعة الجماهير واحتفالاتهم وصخبهم عبر السيطرة على حركة الجمهور، أما العداء للإعلام فعبر عنه في فصل آخر يبرز رفض الألتراس لما يقوم به الإعلام من تضليل وتزييف لبعض الحقائق، خاصة أن هذه المجموعات تتعمد الابتعاد عن النجومية والبحث عن الأضواء، وهو ما يجعل تعاملاتهم مع الإعلام مرفوضة أو في أضيق الحدود. أما ثالث أضلاع العداوة فهو ضد الكرة الحديثة، وهنا تبرز عقيدة هامة لدى الألتراس يستعرضها الكاتب في فصل تحت عنوان "ضد الكرة الحديثة"، وهي مواقف ضد غلاء أسعار التذاكر، و ضد دخول فرق الشركات والمؤسسات العسكرية إلى المنافسات الكروية لأنها تقريبا بلا جمهور، وهو ما يرفضه الألتراس الذين يرون أن أحد أهم أهداف كرة القدم هي الحضور إلى الإستاد للتعبير عن الولاء والانتماء للنادي، لأنهم بمثابة اللاعب رقم 12، ولا ينسى الكاتب أن يذكر قصة الألتراس في إيطاليا – مهد حركة الالتراس العالمية- التي نالت تطورها الأول كاحتجاج على غلاء أسعار التذاكر .
وفي طيات الكتاب استعراض للكثير من الأمور الفنية المتعلقة بتشجيع الألتراس منها (الدَخلة) التي تقوم بها مجموعات الألتراس في بدايات وفي منتصف المباريات للاحتفال وتشجيع فريقها، وكذلك بعض الألفاظ ذات الأصل اللاتيني التي تتكرر في الكتاب، وهو ما قد يدفع القارئ إلى الانتقال إلى "قاموس الألتراس" في الجزء الأخير من الكتاب لمطالعة تعريف المصطلحات المستخدمة لدى مجموعات الألتراس التي يتضح للقارئ في ختام الكتاب أنها ليست كيانا واحدا، حتى تلك التي تستقر في مكانها التقليدي في المدرجات. ورغم ابتعاد الكاتب عن التوثيق على طريقة الهوامش التي يسجل فيها المعلومات و تواريخ الحوادث المذكورة في الكتاب، إلا أنه لم ينس أن يضيف ملحقا كبيرا لشعارات مجموعات الألتراس حول العالم، كما لم يفت الكاتب – مثلما أعلن في مجموعة الكتاب على الفيسبوك- أن يخصص مكسبه من الطبعات الأولى كصدقة جارية على روح أخر شهداء الألتراس الذي استشهد في شارع محمد محمود حيث كان الكاتب متواجدا أيضا في تلك الأحداث.



الثورة بعيون قيادي سابق انضم إلى الثوار
حزب الكنبة .. رحلتي من الكنبة إلى الميدان

كتب – عبدالرحمن مصطفى
في 22 فبراير الماضي كتب عزت أمين مقالا تحت عنوان "رسالة إلى حزب الكنبة العظيم" ليكون هذا المقال بداية استخدام مصطلح "حزب الكنبة" الذي استمر معنا حتى اليوم، ومؤخرا صدر لعزت أمين كتاب "حزب الكنبة" عن دار الشروق في 175 صفحة، اختار له عنوانا فرعيا هو " رحلتي من الكنبة إلى الميدان " في محاكاة ساخرة للعنوان الأشهر "رحلتي من الشك إلى الإيمان" أحد أهم كتب الراحل الدكتور مصطفى محمود. ويصف الكاتب نفسه في المقدمة بأنه أحد الأعضاء المؤسسين في حزب الكنبة الذي يرمز إلى السلبية وتبرير الأحداث أيا كانت، مع تعريف قصير بظروف أبناء جيله من الشباب الذين تخبطوا كثيرا بين تيارات متعددة مثل قضية "عبدة الشيطان" التي لفقها أمن الدولة لهؤلاء الشباب، ومثل شباب وفتيات آخرين ترنحوا ناحية التشدد الديني، حتى توالت الأحداث ووجد الجميع خلاصه في ثورة 25 يناير.
يعمل مؤلف الكتاب عزت أمين في مجالي التأليف والإخراج بالإضافة إلى التمثيل، كما ساهم في صناعة فيلم قصير بعنوان "أين ودني" وكان البداية الأولى لظهور السلفيين في مجال الأفلام.
وينقسم الكتاب إلى قسمين كبيرين وهو ما يوضحه الكاتب في عبارات خفيفة قبل الفهرس قائلا: "الجزء الأول حكايات عن تجربة شخصية وما لاحظته على المجتمع من تغيرات أدت إلى قيام الثورة، ثم بعض ما شاهدته أثناء الثورة. أما الجزء الثاني هو المقالات التي نشرتها بعد التنحي". ويعرض الكاتب في القسم الأول تجربته وأفكاره على مدار ثمانية فصول بدأها بعنوان ساخر: "ذكرياتي على الكنبة" ثم يتوالى عرضه لمظاهر الحياة الراكدة قبل الثورة وكيف كانت ردود الأفعال تتصاعد حتى يصل في سرده إلى الفصل الخامس، إذ تزداد مساحة التشويق حيث يستعرض تجربته الشخصية وكيف انخرط في أحداث الثورة رغم انه لم تكن له علاقة سابقة بالمظاهرات ، يقول عن ذلك : "قلت لما أكلم أصدقائي أعضاء حزب الكنبة لأحاول أن انتقد مواقفهم السلبية إلا أنني فوجئت أن أحدهم يتظاهر في جامعة الدول العربية، ويقول: ثواني هنكسر الأمن أو نضربهم بالطوب وأجيلك، استناني عند هارديز.. إيه الكلام الجديد ده؟". ولم يلجأ عزت أمين إلى اللهجة العامية إلا حين يضطره الوصف أو الاحتياج إلى نبرة ساخرة في الحديث، كما تعمد ألا يفرط في السخرية على حساب التوثيق سواء من خلال تجارب شخصية أو بتحليله لتطور الأحداث.
في القسم الثاني من الكتاب مجموعة من المقالات والحكايات أغلبها منشور على الانترنت في فترات متتالية كان أولها المقال الأشهر: "رسالة إلى حزب الكنبة" الذي نشر في أعقاب تنحي مبارك بفترة وجيزة. ويتخذ الكاتب في مقالاته عدة طرق في الكتابة، إذ أحيانا ما يطرح أفكاره في المقال من خلال أسئلة وإجاباتها مثلما فعل في حوار متخيل داخل مقال بعنوان "نظرية أم فتحي السياسية"، وأحيانا ما يستعين باللهجة العامية الخالصة، وفي أحيان أخرى يكثف أفكاره في شكل ومضات مثلما فعل في مقال تحت عنوان: مانشيتات الجرائد في الذكري 74 للثورة. وتتوالي المقالات في هذا القسم بشكل متتالي زمنيا يبينه في كل عنوان تاريخ الكتابة والحدث الأبرز المصاحب لهذا التاريخ، وعلى عكس القسم الأول من الكتاب الذي يبرز حالة من التعرف على الثورة، فإن القسم الثاني أكثر تمردا على أحداث ما بعد الثورة، ولذا اختار الكاتب عزت أمين أن يختم كتابه بهذه الروح في صفحتين تحت عنوان خفيف هو : "آخر كلمتين على السلم"، إذ يقول: "لا تكن جزءا من دولة الإجابة النموذجية وتجعلهم يحددون لك دراستك وزواجك". ثم يختم كتابه قائلا: "دي كانت رحلتي من الكنبة إلى الميدان.. لا يوجد فيها ما يميزها، ولا دور للبطولة الزائفة بها، ولكني افتخر أني كنت واحدا على اتناشر مليون من هذا الانجاز.. وكتبت مع الملايين التاريخ".
PDF

Wednesday, December 28, 2011

فنان سويسري ينقب في سيرة الأسطول الأصفر





في غرفة داخل مركز الصورة المعاصرة بوسط القاهرة، استخدم الفنان السويسري أورييل أورلو العديد من العناصر في معرضه الذي تدعمه المؤسسة الثقافية السويسرية "بروهلفتسيا"، أما الهدف فهو نقل الزائر إلى مرحلة غائبة من تاريخ قناة السويس في زمن ما بعد حرب 67.
و اختار الفنان السويسري تقديم فكرته عبر فن "التجهيز في الفراغ - Installation" معتمدا على وسائط متعددة منها الصور القديمة والمادة الفيلمية والوثائق التاريخية.
وتقوم فكرة المعرض استنادا إلى قصة حقيقية حدثت في قناة السويس لأربعة عشر سفينة علقت في منطقة البحيرات المرة بعد إغلاق قناة السويس في يونيو 67 وظلت في وضع قانوني غامض حتى افتتاح القناة في العام 75، وعرفت هذه المجموعة من السفن فيما بعد بالأسطول الأصفر نتيجة تأثر لونها بهبوب العواصف الرملية عليها.
وظل طاقم هذه السفن متواجدا على هامش الأحداث لا يدرك مصيره، مع استبدال العاملين في فترات متباعدة بعاملين آخرين.
في هذا الموقف الذي يتضاءل فيه الإحساس بالصراعات القومية والكثير من القيم الكبرى، ظهر نمط حياة خاص لدى بحارة هذه السفن، وهو ما أراد الفنان السويسري التعبير عنه بعد أن حصل على صور و فيديوهات وبعد نجاحه في عقد لقاءات مع من تبقى من هؤلاء الملاحين.
أما المفارقة الكبرى التي ينبه إليها أورييل أورلو فهي أن أفراد طاقم تلك السفن كانوا ينتمون إلى معسكري الحرب الباردة في تلك الحقبة، أي الكتلة الغربية الرأسمالية والكتلة الشرقية الشيوعية.
وفي بدايات شهر ديسمبر التقي أورييل عددا من المهتمين بهذا الفن في ندوة خاصة في مركز الجزيرة للفنون المعاصرة بالزمالك ثم رحل قبل افتتاح المعرض لظروف طارئة تاركا عمله للزائرين في صالة عرض مركز الصورة المعاصرة في وسط المدينة ضمن معرض أكبر يحمل اسم "هيدراركية" يضم فنانين انشغلوا بقضايا شبيهة بانشغالات أورييل المتعلقة بعالم البحر المهمش.
وما أن يمر الزائر بقاعات العرض الأخرى بما تحمله من أفكار، يتجه الزائر إلى غرفة معرض "الزمن: قصيره.. وطويله" الخاصة بالتجهيز الفني للفنان أورييل أورلو، الذي كان قد أكد في ندوته السابقة على افتتاح العرض، أنه لا يقدم تأريخا لهذه الفترة، بل عملا فنيا أجرى قبله بحثا طويلا، وهو ما اعتاده في أعمال سابقة على هذا العمل مستهدفا ما سماه بالنقطة العمياء في التاريخ، التي لم يهتم بها المؤرخون.
وقد عرض أورييل هذا المعرض في تجارب سابقة خارج مصر لكنه على حد قوله قد أدخل تعديلات بسيطة بعد إقامته الأخيرة في مصر، إذ زار أثناء إقامته أرشيف الصحف المصرية، ومدينة بورسعيد.
وما أن يمر الزائر بغرفة العرض، حتى يفاجأ على يسار الباب بعناوين متتالية لأخبار وأسماء الأفلام وعناوين مانشيتات صحفية من تلك الحقبة وكلها تظهر بغير ترتيب، ويتعمد الفنان السويسري أن يظهرها هكذا بغير ترتيب حتى يفقدنا معنى الزمن، لكنه في داخل غرفة القاعة يعرض على طاولة بعض الصور الخاصة بالبحارة ونسخة من مقال قديم عن قصتهم، وهكذا يعيدنا إلى الواقع مرة أخرى وكأنه يقدم دلائل على مصداقية عمله واجتهاده في البحث، وعلى الحائط المقابل علامة (x) تشير إلى لغة عالمية يستخدمها البحارة عند الإشارة إلى أن سفينتهم عالقة في المياه.
يعتمد هذا النوع من الفن "التجهيز في الفراغ - Installation" على تكسير القوالب التقليدية، فعلى الزائر ألا يتوقع مشاهدة لوحات أو فيديوهات تعبر عن معارك، أو أجواء بحرية تقليدية، لكننا هنا أمام ظرف تاريخي استغله الفنان في التعبير عن أفكار واتجاه فني لا يكترث كثيرا للقيم الكبرى بما تحمله من ادعاءات وطموحات، كأن تجد صورة لحمولة السفن من فواكه وقد ألقوها في البحر بعد فسادها، وكأنها رسالة عن عدمية المشهد الذي يجبر البحارة على رفض الخضوع لسلطة الشركات في الحفاظ على منتجاتها.
أما أكثر ما يعبر عن هذه القناعات الفنية هو الفيديو الذي يعد بمثابة الركن الأهم في هذه الحجرة، إذ يلخص جهد الفنان في جمع مادته من مصر وخارجها في مادة لا تعبر هي الأخرى عن بداية أو نهاية زمنية.
يعرض البروجكتور مادة فيلمية من صور ولقطات قصيرة التقطها البحارة لأنفسهم، وفي هذه المشاهد تترسخ الحالة التي يبحث عنها الفنان، وأكثرها لفتا للأنظار صورة البحار الذي يقود دراجة وأمامه بحار آخر يرتدي زيا نسائيا، ولقطات تصور أطفالا يجمعون مخلفات السفن التي أزاحتها المياه ناحية الشاطئ في محاولة لاستعادة روح الماضي عبر ممثلين مساعدين إلى جانب اللقطات القديمة، وطوال اللقطات نشعر بأن عين الفنان تبحث عن المهمشين، وهو ما ينقل حالة الاستهانة بالقيود التقليدية عن صورة البحار ذو المظهر الرجولي التقليدي، وأن هناك من كانوا على الهامش بعيدا عن ظروف الحرب.
لا يخفي على الزائر ظهور أفكار ما بعد الحداثة في معرض الفنان السويسري أو في تيمة معرض هيدراركية بأكمله، وتحديدا في أفكار المفكر الفرنسي ميشيل فوكو عن التهميش الذي درس المهمشين و علاقة المؤسسات والسلطة بأجسادهم وحيز وجودهم.
وهو ما نجده لدى الفنان السويسري في تركيزه على مجال حركة هذه المجموعة المهمشة قسرا، حتى هو نفسه يظهر في مشاهد على هامش الفيديو، وفي نفس الوقت يجسد صراعا مع الخطابات السائدة في تلك الفترة، منها صورة الدورة الاوليمبية التي نظمها أفراد ملاحة تلك السفن فيما بينهم في محاكاة لدورة الألعاب الأوليمبية في عام 74، وكأن لسان حالهم أن كل كبير وعظيم في العالم هو هين وبسيط في عالمنا.
وهو ما يعيدنا إلى قصة المعرض في بدايته إذ يذكر أورييل أن فكرة المعرض ورحلة بحثه وجمعه لمادته، بدأت باكتشافه صورة لطابع بريد غريب الشكل على الانترنت، فاكتشف أنه على أحد خطابات هؤلاء البحارة، فاجتهد في بحثه حتى تطور الأمر إلى إقامة هذا المعرض، وكأن فكرة المعرض أيضا قد بدأت من هامش صغير لصورة طابع على الانترنت.

Tuesday, December 27, 2011

إيه اللى نزلها الشارع ؟ .. شعار ضد التاريخ




فى نسخة على الإنترنت من الكليب الشهير للصيدلانية غادة كمال التى تعرضت للضرب وتمزيق ملابسها على أيدى جنود القوات المسلحة أمام مجلس الوزراء دارت مئات التعليقات التى تستنكر المشهد وتلوم الجنود، لكن من بين أكثر من مليون مشاهد للفيديو كان هناك من ترك تعليقا مسيئا للفتيات اللائى يشاركن فى الاحتجاجات، وتم توجيه تعليقات مسيئة إلى غادة كمال بنفس الدعاية التى رددها إعلاميون على شاشة الفضائيات. وطرح هذا الجدل سؤالا حول: هل كانت الفتاة تواجه الأزمة نفسها مع المجتمع طوال الوقت فى مشاركتها داخل المظاهرات أم أنه أمر طرأ مؤخرا؟
«نحن لم نواجه مثل تلك المواقف التى تدين تواجد الفتاة فى مظاهرة أو اعتصام فى الستينيات والسبعينيات على سبيل المثال»، الإجابة للكاتبة الصحفية منى أنيس، إحدى المشاركات بفاعلية فى الحركة الطلابية فى أوائل السبعينات، إذ شهدت أعوام 68، 71، 72، 73 عددا من المظاهرات والاعتصامات داخل الجامعة وخارجها على خلفية هزيمة يونيو 67 وتداعياتها، وكان لطالبات الجامعة مشاركة فيها وتعرضت بعضهن للاعتقال. هذه الصورة لمشاركة المرأة فى المظاهرات دون إدانة اجتماعية دفع بعض الشباب اليوم إلى الاستعانة بالتاريخ فى دعم وجهة نظرهم حول حق الفتيات فى المشاركة فى الاحتجاجات دون التقليل من قيمتها، إذ انتشرت على الإنترنت مؤخرا صورة فتيات كن ضمن المقاومة الشعبية فى بورسعيد أثناء العدوان الثلاثى على مصر، وكتب أسفل الصورة: مصريات متطوعات فى بورسعيد أثناء العدوان الثلاثى.. إيه اللى نزلهم؟ وتكرر السؤال نفسه مع صور أخرى لنساء وفتيات فى أحداث 1919 جنبا إلى جنب مع الرجل. وتذكر هدى شعراوى ــ من رائدات الحركة النسائية ــ عن تلك الفترة المبكرة وقت ثورة 1919 أن النساء كن يقفن أمام المصالح الحكومية كى يحثثنهم على الإضراب، بل وكن يعرضن إعطائهم أساورهن الذهبية كتعويض مادى وإحراجهم على عدم مشاركتهم فى الإضراب. وحسب عبارات عدد من الباحثين والمؤرخين فإنه لم تكن هناك إدانة اجتماعية حادة ضد مشاركة المرأة فى احتجاجات الشارع، وحسب عبارة المؤرخ عبدالرحمن الرافعى فى كتابه عن ثورة 1919 فإن المسيرة النسائية التى اعترضها الإنجليز بالسلاح أثناء الثورة قد «قوبلت فى كل مكان بتصفيق الناس وهتافهم».
واستمر وجود الفتاة فى الثلاثينيات والأربعينيات خصوصا داخل الحركة الطلابية والسياسية، إلا أن النقلة الكبرى كانت فى وجود الفتيات فى الحركة الطلابية منذ عام 1968، ورغم هذا الوجود لم تبرز هذه الإدانة الاجتماعية للفتيات، أما السلطة فكانت تجرى مفاوضات أحيانا جنبا إلى جنب مع الاعتقالات السياسية. كما لم يبرز العنف المهين للمرأة والتحرشات الفاضحة فى الشارع حسبما تؤكد الكاتبة الصحفية منى أنيس، عدا حالات نسائية محدودة تعرضت للانتهاك الجسدى أثناء الاعتقال، وهى التى استوحى منها نجيب محفوظ بعض شخصيات روايته «الكرنك». تعرضت منى أنيس لتجربة الاعتقال على خلفية المشاركة فى اعتصامات طلابية فى بداية العام 1973، وأثناء فترة الاعتقال تذكر أنها لم تتعرض لإساءة من مأمور السجن الذى كان يعتبرهن أخوات صغارا له، لذا فإن مشهد إساءة جنود القوات المسلحة للفتيات أثناء اعتصامهن يدفعها لا إراديا إلى تذكر فترة السبعينيات حين كان الموقع الوحيد للجندى هو جبهة القتال على حد قولها. وتضيف: «صعود التيارات الدينية فى المجتمع منذ نهاية السبعينيات حتى الآن زاد من الحس المحافظ الذى يحط من دور المرأة ويلخص دورها فى داخل المنزل بعيدا عن أى مشاركة فما بالنا بالمشاركة فى المظاهرات، هذا ما يجعلنا نرى الآن من يبرر انتهاكات الجنود ضد الفتيات». تقطع حديثها محيلة النقاش إلى فيديو انتشر مؤخرا على الإنترنت لخطبة للرئيس جمال عبدالناصر حول حديثه مع مرشد جماعة الإخوان المسلمين بعد الثورة حين طالب عبدالناصر بفرض الحجاب على السيدات فى بداية فترة حكمه فأجابه عبدالناصر: «كيف لم تستطع أن تفرض على ابنتك طالبة الطب أن تكون محجبة وتطلب منى أن أفرض الحجاب على 10 ملايين مواطنة؟». وتكمل منى أنيس قائلة: «فكرة وصاية المجتمع على جسد المرأة لم تكن موجودة فى الماضى بهذا الشكل، لذا فحوادث الانتهاك الجسدى التى تعرضت لها الفتيات فى اعتصامهن أثارت نزعة الإدانة من بعض المعلقين تجاه الفتيات نتيجة نمو الحس المحافظ الذى لا يقبل رؤية هذه المشاهد، ما يجعل هذا التيار يفضل ابتعاد المرأة عن الحياة العامة».


سياسة فضح النساء
تناقل البعض منذ أشهر، فى مواقع الإنترنت الإسلامية وعلى الشبكات الاجتماعية، فتوى الشيخ أبوإسحق الحوينى ــ صاحب النفوذ الكبير على المجتمعات السلفية ــ حين تلقى سؤالا عن حكم مشاركة النساء فى المظاهرات، فأجاب: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تنزل إلى أى مظاهرة كانت، أو أن تشترك فى أى حزب سياسى». وانتقلت هذه الفتوى إلى ملصقات مطبوعة على جدران بعض المساجد.
لكن «صعود التيارات المحافظة» ليس السبب الوحيد وراء ظهور تيار إدانة الفتيات الموجودات فى المظاهرات والاعتصامات، فهناك عامل آخر تراه هالة كمال ــ المدرس فى قسم اللغة الانجليزية بجامعة القاهرة والمهتمة بالدراسات النسوية ــ إذ تؤكد أن هناك خطابا إعلامى يعمل على الدفع فى اتجاه «رجعى» يدين الفتيات اللائى تعرضن لانتهاك جسدى على أيدى جنود الأمن، دون الالتفات إلى المعتدى، ولوم الضحية على كشف جسدها أثناء تعرضها للضرب، تعلق الدكتورة هالة كمال قائلة: «هناك عامل آخر وراء اتجاه البعض لإدانة الفتيات والتشنيع عليهن بسبب وجودهن فى المظاهرات وهو الخطاب الإعلامى الذى يطعن فى شرف الموجودات فى المظاهرات والاعتصامات دون محاسبة، وعلينا أن نتأكد أن هناك شرائح فى المجتمع ستخضع لهذه الدعاية المسيئة، خصوصا أن أغلب المجتمع لا يتمتع بالعقلية النقدية التى تحلل المواقف جيدا، كذلك فهناك عامل آخر علينا ألا ننساه وهو أن نظام مبارك قد رسخ فكرة فضح النساء المشاركات فى المظاهرات وامتهان أجسادهن، لذا فنحن أمام ممارسة تطورت بهذا الشكل المؤسف». وترى الدكتورة هالة كمال، بحكم وجودها القريب من الحركة الاحتجاجية التى ظهرت بقوة منذ العام 2005، أن أسلوب التشهير وامتهان النساء فى المظاهرات كان هدفه ــ مثلما هو الحال الآن ــ إفزاع الفتيات من المشاركة فى أى مسيرة أو مظاهرة لإضعاف الحركة الاحتجاجية آنذاك، وتضيف: «على الحكام ألا يكرروا الأخطاء نفسها مرة أخرى.. فمن الصعب كسر إرادة الناس».
PDF

Thursday, November 10, 2011

اللعب حول الخط الأحمر






عبد الرحمن مصطفى

لم تختلف ملامح المدرعة العسكرية فى زمن حرب أكتوبر كثيرا عن ملامحها الحالية، ما اختلف هو مواقعها حين تنطلق التحركات العسكرية وسط شوارع المدينة، وهو ما جعل صورة المدرعة التى التقطها مصور مثل «تونى فارس» فى عام 1973 مختلفة تماما عن صور المدرعات الحالية حيث المظاهرات والاشتباكات، وهو واقع جديد فى عالم التصوير لم يكن موجودا قبل عدة أشهر فقط.
فى داخل مبنى جريدة الأهرام اليومية يبدو تونى فارس (82 سنة) متصالحا مع تجربته الثرية فى التصوير الصحفى، إذ يحرص على الحضور مبكرا وسط زملائه الأصغر سنا رغم بلوغه سن المعاش منذ أكثر من 20 سنة، ويروى عن تجربة التصوير فى زمن الحرب قائلا: «كان يتم إخطارنا عبر الجريدة من الشئون المعنوية بالقوات المسلحة عن إقامة مناورة أو عملية عسكرية مرتقبة، وكان علينا الالتزام التام بصحبة مرافقينا وعدم الارتجال أثناء التصوير بعيدا عن أهدافنا». التقط تونى فارس صورا فى زمن حرب أكتوبر 1973 ولمناسبات عسكرية أخرى مثل مفاوضات تسلم مدينة طابا وحرب تحرير الكويت عام 1991، وعلى مدى سنوات كان المجال العسكرى أبرز مجالات التصوير الصحفى لديه، وهو ما جعله يحرص حتى اليوم أثناء شرحه لقواعد العمل مع القوات المسلحة أن يبرز أهمية الالتزام بالقواعد الرقابية على النشر، أما تعليقه على الواقع الجديد الذى أصبحت فيه المدرعات تجول فى شوارع المدينة، فيصفه قائلا: «الدنيا اختلفت تماما.. والسياسة التحريرية للصحف المستقلة أصبحت مختلفة عن الماضي»، لكنه يستدرك أن القواعد المعمول بها فى نشر الصور التى تخص القوات المسلحة ما زال مفعولها ساريا.
لم تعد حركة المدرعات والجنود مثلما كانت من قبل، فقد صرج اللواء حسن الروينى ــ عضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة ــ بأن : مدرعات الجيش تجوب شوارع القاهرة الكبرى ليلا فى سرية تامة لمواجهة الخارجين عن القانون. وهو ما يفرض واقعا جديدا قد يواجه المصور الصحفى. يتذكر عمرو نبيل ــ نائب رئيس شعبة المصورين بنقابة الصحفيين ــ تغطيته لأحداث السفارة الإسرائيلية فى 9/9 الماضى معلقا: «يبدو الأمر كمعضلة.. الأحداث أحيانا ما تجبر المصور على تصوير مدرعات وتحركات عسكرية داخل المدينة، بل قد تقام مظاهرات أمام منشآت عسكرية». هذه المعضلة صنعت ارتباكا فى الأسابيع الماضية، منها احتجاز إعلاميين وناشطين بسبب قيامهم بالتصوير بجوار منشآت عسكرية، منها على سبيل المثال اعتقال طاقم قناة «أون تى فى» أثناء تغطية تليفزيونية، واعتقال الناشطة سحر ماهر وتحويلها للقضاء العسكرى بسبب التصوير بكاميرا الهاتف المحمول أثناء وقفة احتجاجية أمام مبنى المحكمة العسكرية، ورغم إخلاء سبيل أصحاب هاتين الواقعتين فإن هناك من لايزالون قيد الحبس، هذه المواقف الجديدة تحتم على المصور المحترف نوعا من الذكاء حسبما يصف عمرو نبيل: «من الحمق أن يتسلل أحد المصورين لالتقاط صور لمنشأة عسكرية، لكن وسط حادث مثل التظاهر أمام منشأة عسكرية فإن المصور يقوم بدوره بعيدا عن أى أهداف أخرى، فهو موجود لتغطية حدث وتوثيقه، وأغلب المصورين المحترفين يدركون هذا الفارق بين الواجب المهنى وما يهدد الأمن القومى».
أعادت أحداث السفارة الإسرائيلية ثم أحداث ماسبيرو بعدها أهمية الصورة، حين أصبح المصور عينا ترصد الواقعة بكل تفاصيلها وسط اشتباكات بين الشرطة المدنية والشرطة العسكرية من جانب والمتظاهرين من جانب آخر، وهى حالة جديدة فى تعامل العدسات مع الأجواء العسكرية بعيدا عن القواعد التقليدية المعتادة، وفى السياق نفسه تبادل عدد من مستخدمى الإنترنت صورة ضوئية لفاكس منسوب إلى إدارة الشئون المعنوية فى القوات المسلحة تم توجيهه إلى صحيفة مصرية يؤكد ضرورة الحصول على تصريح مسبق قبل النشر فيما يتعلق «بأنشطة القوات المسلحة، أو بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة، وأعضائه، أو نشر موضوعات تتصل بالأمن القومى المصرى»، وهو ما ينطبق على الصور أيضا.
بعيدا عن هذه التفاصيل فإن الخطر الذى يواجه المصور أحيانا ما يقع لمجرد وجوده فى موقع الحدث، وهو ما تعرض له فادى الصاوى طالب معهد السينما، إذ اعتقل من شارع مجاور للسفارة الإسرائيلية فى يوم 9/9 رغم عدم حيازته آلة تصوير فى هذه الأثناء، ولم تنجح محاولات إقناعه ضباط الشرطة العسكرية بأنه يحمل «كارنيه» لممارسة التصوير، وتعرض للحبس بعدة اتهامات ثم تم إخلاء سبيله بعد الضغط الإعلامى ومساندة زملائه الطلبة.
يعلق فادى الصاوى على هذه التجربة قائلا: «المشكلة فى ذلك اليوم أننى لم أعتقل بسبب التصوير، لقد تم القبض على بشكل عشوائى، ولم تكن معى الكاميرا فى تلك اللحظة «. يتذكر فادى أحداث ذلك اليوم جيدا حين كان إلى جواره شاب آخر يدعى ــ ياسر توفيق ــ يهوى التصوير بكاميرا المحمول، اعتقل فى اليوم نفسه ولايزال محتجزا حتى الآن، أما بالنسبة لفادى فهى أول تجربة اعتقال منذ أن احترف التصوير قبل ثلاث سنوات التقط فيها صورا أثناء الاشتباكات مع الأمن فى فترتى ما قبل الثورة وبعدها.
تلك الأجواء القلقة تبدو مختلفة عن تجربة جيل «تونى فارس» المخضرم الذى عمل فى صف الجانب العسكرى من أجل فرصة مناسبة للتصوير، رغم المتاعب التى تعرض لها أبناء جيله، وأشهرها استشهاد المصور حسن عبدالقادر من جريدة الجمهورية على جبهة الحرب فى عام 1970 أثناء تغطية صحفية.
ويروى المصور عمرو نبيل ملمحا آخر فى تغطية الاشتباكات العسكرية خارج مصر، إذ قام بتغطية حروب إريتريا وأثيوبيا وحرب العراق، مؤكدا أن قواعد التعامل مع العسكريين فى تلك المواقف تضع المصور فى موقف شبيه بالعاملين فى هيئة الصليب الأحمر كفئة محايدة لها مهمة وليست فى عداء مع أحد. ويعلق قائلا: «حين تجد نفسك ضمن فريق من المصورين داخل حاملة طائرات عسكرية، فهناك قواعد أخرى، منها ألا تعرف مسار الرحلة أو موعد الوصول، أو أن ترسل المواد أحيانا عبر البريد الإلكترونى بواسطة الجهة التى تقيم على أراضيها». فى مثل هذه المهام تكون احتكاكات المصور مع العسكريين بهدف التنسيق، ومن هنا يدرك عمرو نبيل الصعوبة التى مر بها الجيل السابق من مصورى حروب الاستنزاف وأكتوبر نظرا لسرية العمليات آنذاك.

اليوم يعيش المصور الثمانينى تونى فارس بقلب مرتاح تجاه القواعد المعمول بها فى التصوير مع الجهات العسكرية بحكم المهنية، أما فادى الصاوى الذى لم يتجاوز العشرين فيقول: « تجربة الاعتقال لن تمنعنى من التصوير مرة أخرى فى أحداث ملتهبة أيا كانت ملابساتها، لأننى جربت أن أعتقل دون سبب واضح.. ربما أتفرغ للتصوير السينمائى فى الفترة المقبلة، لكن لن أضع سقفا لرغبتى فى التصوير». بينما يرى عمرو نبيل ــ نائب رئيس شعبة المصورين بنقابة الصحفيين ــ أن هناك أمر آخر بدأ يزيد من خطورة التصوير وهو مواقف الناس التى أصبحت أكثر عنفا وجرأة، فى رأيه أنه لم تعد المدرعة هى علامة الإنذار والحذر، هناك أيضا شريحة من الجماهير قد تكون أخطر، ويختم قائلا: «الفيصل فى القيود على المصور الصحفى هو القواعد المهنية التى تحددها المؤسسات، فهى من يعاقب ويقيّم العمل ويؤكد مصداقيته قبل النشر، واليوم قد يكون لنا زملاء من المدونين أو المصورين الهواة يحملون كاميراتهم ويخاطرون، لكنهم فى النهاية غير محاسبين على ما ينتجونه من صور.. لذا فالخط الأحمر هو المهنية».



سواء كان الفيديو المنشور هو «تصوير لقاءات مع محتجزين داخل مدرعة عسكرية» أو «نشر أحداث جلسة محاكمة مبارك» فكلها تبدو مغامرات لن يجريها الإعلام التقليدى، لكنها أكثر قبولا فى عالم «صحافة المواطن» على الإنترنت. وهو ما نفذه الناشط السياسى والإعلامى عبدالرحمن عز فى تصويره شهادات من داخل مدرعة عسكرية بعد اعتقاله أثناء فض اعتصام التحرير فى أول أغسطس الماضى. يعمل عبدالرحمن عز مقدما لبرنامج فى قناة 25 يناير الفضائية، لكن على الإنترنت فهو يتحرك كمواطن صحفى ينشر تفاصيل المظاهرات والاعتصامات على الانترنت. ويقول عن ذلك: «على الإنترنت أسعى نحو الدقة بأن يكون لدى الدليل على ما أنشر، ومع ذلك أنا لا أخفى مواقفى المنحازة إلى الثورة، حتى إن اعتبرها البعض تحريضية»، هذا الموقف الواضح عبّر عنه على الإنترنت حين كتب: «إن كنت تخشى الكاميرا، فلابد أن لديك ما تخشاه». وهى العبارة التى رأى فيها أن كل شىء قابل للتصوير والتغطية الصحفية دون خطوط حمراء، إذ يرى أن «الشعب هو الحط الأحمر الوحيد».
عبدالرحمن عز، أحد مصابى ثورة 25 يناير، كان ضمن الأماكن التى راسلها كمواطن صحفى هى شبكة رصد الإخبارية، ويعلق مصطفى علاء مسئول فريق المراسلين بالشبكة على طريقة العمل الداخلى: «طموحنا أن نكون وكالة أنباء شعبية، وأكبر القيود التى تواجهنا هى توثيق ما يأتينا من مواد». على حساب الشبكة فى موقعى تويتر وفيسبوك هناك أخبار وصور لأحداث ساخنة أثناء اشتباكات قوات الأمن مع المتظاهرين، وأحيانا لمعارك ومشاجرات داخل أحياء المدن. وحسبما يرى مصطفى علاء ــ الطالب بكلية هندسة المنصورة ومسئول فريق المراسلين ــ فإن الشبكة تقف فى صف مراسليها فى حالة تعرضهم للاعتقال، ويقول معلقا: «نحاول أن نحصل على أخبار غير منحازة، لكن أحيانا ما يتعاون معنا شباب لديهم مواقف سياسية، ومهمتنا هنا الاختيار الصحيح والتوجيه أحيانا».
يشير تعبير صحافة المواطن إلى نقل الأخبار والمشاهد والصور عبر الإنترنت من خلال العمل بعيدا عن المؤسسات الإعلامية والصحفية التقليدية. وتتيح بعض المواقع أدوات التعلم على استخدام الإنترنت فى تحرير الأخبار بشكل شخصى، وكذلك التدريب عبر الفيديو عن التصوير والتغطيات الصحفية. أحد من تعلموا التصوير عبر الانترنت هو المدون مصطفى الششتاوى، أحد من غطوا بالصورة أحداث السفارة الإسرائيلية، وبحكم نشاطه السابق فى العمل الطلابى ما زال يصل إلى بعض الأخبار والتفاصيل وتصويرها قبل الصحافة التقليدية. ويقول: «لا أشعر أن هناك سقفا أو حدا أقصى أفكر فيه أثناء التصوير أو الكتابة..». لم يكن نقل تفاصيل جلسة مبارك أو التصوير أمام مديرية أمن الجيزة هو الخطوط الحمراء التى اقترب منها الششتاوى بل هناك خط آخر تجاوزه فى الجامعة الألمانية حيث كان يدرس الهندسة قبل تخرجه هذا العام، إذ كان ينقل آراءه عن الإدارة على الإنترنت وهو ما تسبب فى التضييق عليه قبل التخرج وهو ما كتب عنه فى مدونته.
الاقتراب من الخطوط الحمراء لا يعنى تجاوز القانون فى نظر الششتاوى، فعلى سبيل المثال كان يفكر فى مشروع لنقل محتوى بعض المدونات إلى صحيفة ورقية يصدرها لكنه تراجع بسبب جهله بالإجراءات القانونية المطلوبة فى مثل هذه الحالة، القلق نفسه من تجاوز القانون يدركه الناشط السياسى عبدالرحمن عز، خاصة أنه يعمل فى قناة فضائية، إذ يقول: «ما يحدث فى الإعلام التقليدى سواء من تجاوزات أو غياب المصداقية سببه عدم وجود مواثيق شرف مكتوبة بين الإعلاميين». عدا ذلك يطمح عبدالرحمن عز أن يرى تدريبا على صحافة المواطن عبر الإنترنت فى المؤسسات التعليمية كسلاح فى يد المواطن ينقل به الحقيقة. أما مصطفى الششتاوى فيعلق قائلا: «كلما ازداد عدد الصحفيين المواطنين، قل القلق من فكرة الخطوط الحمراء وغيرها من القيود، لأنه حين يكون بين أيدينا شهادة حق، فعلينا أن ننقلها أيا كانت تداعيات ذلك، خصوصا أننا مقبلون على مواسم انتخابية، ولا بد أن نكون رقباء عليها فى كل محافظات مصر».




3 أسئلة إلى الكاتب جمال الغيطانى، حول واقع جديد يرصد فيه شباب مستقلون وقنوات فضائية أحداثا يكون الجيش طرفا فيها داخل المدن. يعرض الغيطانى وجهة نظره كمراسل حربى سابق، شارك فى تغطيات أكثر خطورة على أرض المعركة.

● تجرى الآن تغطيات إعلامية من الفضائيات ومن الشباب المستقل على الإنترنت عن أحداث تخص عمليات الجيش داخل العاصمة أثناء المظاهرات والاعتصامات، ولم يعد ذلك حكرا على المحرر العسكرى التقليدى. كيف ترى هذا الموقف خصوصا مع ازدياد العقوبات التى تعرضت لها بعض الفضائيات وبعض الشباب أثناء تغطيتهم المستقلة؟

ـــ حين أقارن فترة عملى كمراسل حربى فى فترة الحرب بين 1969 و1974 أجد الظروف مختلفة تماما، لا توجد كلمة كتبتها لم تمر على المخابرات العسكرية، لكن الواقع الآن أن الجيش متورط فى الحياة المدنية، ولا أرى فى مشهد يطوف فيه أصحاب «الباريهات» الحمراء من رجال الشرطة العسكرية على المقاهى لضبط النظام مشهدا منطقيا، رغم أن ذلك قد جاء نتيجة لتخاذل الشرطة فى بعض مهامها، كذلك فإن إخفاء بعض المعلومات مثل ما حدث فى جلسة شهادة المشير طنطاوى السرية، أدى إلى نشر شهادة على الإنترنت الله أعلم بمدى مصداقيتها. هذا الموقف لا حل له سوى انسحاب القوات المسلحة من الحياة المدنية، لأنه باستمرار وجودها ستظل تحركاتها تحت الأعين، خصوصا مع وقوع مغامرات متهورة غير وطنية مثل محاولة حصار وزارة الدفاع.

● ما دور المحرر العسكرى فى أوقات السلم بعيدا عن زمن الحرب؟

ــ باستمرار هناك حاجة إلى المراسل العسكرى، خصوصا فى زمن الحرب مثلما كان الوضع فى حروب يونيو 67 والاستنزاف وأكتوبر 73، كذلك يظهر دور المراسل الحربى فى تغطية الحروب الخارجية.. لكن ما أتمناه حقا الآن، أن نرى المحرر العسكرى ولديه من المهارات ما يحوله إلى ناقد ومحلل للمعارك التى تحدث، وأن يكون ملما بفنون الاستراتيجية والمعارك، ولا يقتصر الأمر على تغطية أخبار المؤسسة العسكرية فقط.

● هل ما زالت هناك قيود على ما تنشره من مشاهداتك عن زمن الحرب من الجهات العسكرية المختصة؟

ــ ليس علىّ قيود فى نشر ما رأيت، خصوصا أن هناك واجبا وطنيا مهما فى نشر معلومات عن رجال كان لهم دور بارز فى الحرب ولا يعرفهم أحد حتى الآن، وفى الوقت نفسه لدى من الوعى ما يجعلنى أمتنع عن نشر معلومات قد تضر المؤسسة العسكرية، لذا أدعو الجهات المختصة إلى نشر ما يخص ملف حربى يونيو 1967 وأكتوبر كى ندير نقاشا مفيدا حولهما، إذ كنا فى الماضى نلتزم بقواعد النشر حين نقدم المواد الصحفية مكتوبة ويتم شطب ما يضر بالعمليات العسكرية مع إخفاء هوية المصادر المشاركة فى المعركة. وهنا أريد أن أقول إن ذلك لا يقلل من جهد المحرر العسكرى، أتذكر أننى كنت أول من نشر عن إسقاط أول طائرة (فانتوم) فى 30 يونيو عام 1970، وأتيحت لى فرصة النشر حسب القواعد المعمول بها، نتيجة اجتهادى. خصوصا أننى كنت أحرص دائما فى تغطيتى على ذكر التفاصيل الإنسانية على أرض المعركة.
PDF

Friday, October 28, 2011

حكايات وراء كل باب في مصر

لن نسكت عن الكلام المباح

داليا شمس
لم يحدث كل ذلك في قديم الزمان و لا في سالف العصر و الأوان، و لكن على مدار ثلاث سنوات مضت بسرعة البرق، و أحيانا بتكاسل شديد و كأن اليوم دهر متثاقل و كئيب.. فالموضوعات تفرض نفسها على الصحفي تبعا للأحداث، و نحن منذ البداية اخترنا أن نحكي ليالي و نهارات البلاد، دون أن نسكت أبدا عن الكلام المباح و غير المباح، و انحزنا في الأغلب الأعم لمن لا صوت لهم... لكن الصامتين في المجتمع أي مجتمع، و إن بدوا كذلك لا يبقون صامتين على الدوام... فكما يقول عالم الاجتماع الجليل الراحل- الدكتور سيد عويس- فإن صوتهم يجلجل و يرتفع إلى الآفاق عند الصلاة، و عند الدعاء، و في حلقات الذكر و في رحاب المساجد و الكنائس و المعابد أو في خارجها. و هو يجلجل و يرتفع إلى الآفاق في ملعب الكرة، و في الملاهي و البارات، و في أثناء الاستماع للغناء، و خلال المباريات في النكت ذات المضمون السياسي أو اجتماعي، و أمام الموت، و عن طريق إرسال الرسائل إلى الأموات، و حتى عن طريق الكتابة أو الرسم في داخل دورات المياه!
حاولنا على مدار الألف عدد السابقين متابعة حياة كل هؤلاء بحلوها و مرها، من خلال موضوعات تضمنت أحيانا عناصر ثقافية غير مادية، اجتهدنا في التعبير عنها حتى جاءت اللحظات الحاسمة في يناير الماضي، إذ تعالت الأصوات و خرج هتاف الصامتين إلى العلن و لم يبق مكتوما في الصدور و الحناجر. الإعلام الشعبي و صحافة المواطن طغيا على كل ما هو رسمي، و كان ذلك متماشيا مع نهج "ألوان الحياة" التي انتمى العديد من صحافييها المتتالين إلى عالم المدونين الشباب، فكان من السهل عليهم ثبر أغوار فضاءات الانترنت الرحبة التي تتسع للملايين. ظهر نجوم و قادة رأي جدد، فسلطنا الضوء عليهم مع التعرض لبعض أنماط تفكيرهم، في سعي حثيث لعكس المناخ الاجتماعي و الثقافي، مع مراعاة الدور المركزي للقاهرة- العاصمة ذات الحضور الطاغي و المخيف- مدينة الألف الوجه التي تشي بأسرار سكانها الذين جاءوا من كل حدب و صوب للنهل من خيراتها أو العيش في الملكوت... تشابكت الحكايات و فيما هو آت نروي بعض ما حدث خلال ألف ليلة و عدد، مستلهمين في ذلك كلام شهرزاد عندما توجهت لأبيها قائلة:
قل لمن يحمل هما إن هما لا يدوم
مثل ما يفنى السرور هكذا تفنى الهموم


و لما كان العدد الألف...
ليالي القاهرة و ربوع مصر.. حكايات من واقع المحروسة



عبدالرحمن مصطفى

حكاية الشوارع التي تتحرك


لو حكت شهرزاد عن مارد يحرك الشوارع ويقلبها رأسا على عقب، لتفهم شهريار حكايتها ضمن حكايات ألف ليلة وليلة، لكن شوارعنا كانت تتحرك في الألف ليلة الماضية منذ أن بدأت "الشروق" إصدارها الأول، دون مارد أو جني خفي، وما زالت الأحداث تحرك المسيرات والاحتجاجات كل حين. أصبح اليوم لدى الجميع حكاية عن شوارع تحركت بعد سكون، كثيرون في منطقة وسط القاهرة حيث قلب الأحداث لم يكن لديهم ذاكرة أو ذكرى عن المكان الذي يقيمون فيه. في صفحة "سقط سهوا من ذاكرة الشارع" المنشورة في صيف 2009 كان السؤال محرجا عن إعلان قديم نادر على جدار عمارة في شارع شريف، لـ "كونياك ريمي".. كيف كانت شوارع المدينة أكثر تسامحا مع إعلان كهذا، ولماذا احتفظت به إلى الآن؟ وقتها لم يتذكر أو يهتم الكثيرون بالأمر، وحين واجه بواب إحدى العمارات المطلة على ميدان التحرير في العام 2010 سؤالا آخر عن "مقهى إيزافيتش" الذي كان مطلا على ميدان التحرير.. لم يجد إجابة، لأنه كان وافدا حديثا على المدينة ولم يكن لديه تفاصيل كثيرة عن منطقة "مثلث كنتاكي" في ميدان التحرير. أما بعد الثورة، فأصبح لدى الجميع حكايات عن اعتصامات الميدان ولجان الأمن الشعبية والصدامات مع قوات الجيش والشرطة... كتب هؤلاء الصامتين في عامي 2009 و 2010 تاريخا جديدا لوسط البلد والتحرير، أما بقية شوارع العاصمة فكانت تتحرك في فوضى صامتة أو كما قال لنا أحدهم في تحقيق"بلطجية ويا ليتنا مثلهم" المنشور في نهاية 2009 فإنه "إذا كان سلوك البلطجة يقضي المصلحة لأن القانون لن يحققها.. فأهلا بالبلطجة".
شوارع المدينة التي تحركت في جمعة الغضب، أعطت مساحة لكل من كان يتحرك على الهامش ليصبح سيدا للطريق، أما قبل ذلك فلم يتسيد الموقف سوى القوة. أو حسب تعبير سيد سائق الميكروباص في تحقيق "يوميات المخالفات والكارتة" المنشور في صيف 2010: "محدش عارف الصح من الغلط.. احنا بنعك". بعدها بعام كانت النبرة مختلفة في أعقاب الثورة، إذ انتفض سائقو الميكروباص في موقف عبود ضد تجاوزات جامعي الكارتة في الموقف، وفي كرداسة احتج السائقون على عودة قسم الشرطة المحترق إلى العمل خشية عودة الظلم مرة أخرى، على حد وصفهم. وكأنها محاولات لتأكيد وجودهم في الشارع، لذا لم تكن صدفة أن يضم العدد الأول من جريدة الشروق تحقيقا عن "التوك توك" أكبر المتهمين بإثارة الفوضى في شوارع القاهرة وقتها، ليبرز قوة المهمشين في إثارة الجدل .
وعلى مدار ألف ليلة و ألف عدد من إصدار "الشروق" كانت القاهرة مستمرة في ابتلاع الفرص وحصد الخسائر، واستمر تهميش الأقاليم وهو ما انعكس في صراع بين ثقافات الأقاليم وسطوة العاصمة حتى داخل القاهرة نفسها، ما استدعى ضرورة تتبع هذا الصراع. ففي صفحة "القاهرة الصعيدية" المنشورة في صيف 2009 كانت عزبة الصعايدة في إمبابة هي النموذج، وهناك لم تكن العشوائية نتيجة فقر أو جهل، بل نتيجة تشتت الهوية، دون خضوع لقواعد ريفية أصيلة في البناء والمعيشة، ولا خضوع لنظام المدينة الصارم، وهو ما كان واضحا في تحقيق آخر بعنوان "ملوك العشوائيات" في عزبة الهجانة، حيث تكونت زعامات للمهاجرين حديثا إلى القاهرة، في وضع مختلف تماما عن بيئتهم الأصلية و أكثر اختلافا عن شكل العلاقات التقليدية في المدن الكبرى، في هذا الملف عن ملامح مدينة القاهرة كانت التفاصيل تجعلها أشبه بعدة مدن متشابكة.
أما خارج العاصمة فلم تختلف الملامح كثيرا، ففي مدينة السويس التقينا العام الماضي مع الكابتن غزالي أحد قادة المقاومة، وختم حديثه قائلا: " أنا هنا في مكاني لن أرحل، وأراهن على أن مصر ستكون أفضل في المستقبل". لم يحتاج الكابتن غزالي للانتظار طويلا، إذ كانت السويس هي الأكثر حماسا في أحداث الثورة، والأسباب لم تكن خفية.. مدينة ذات تاريخ نضالي، أدارها الأهالي مع القوات المسلحة في فترة الحرب، وتعاني من تدهور اقتصادي، وحين قامت ثورة 25 يناير صنع الجيل الحالي أسطورته، وأصبحت أسماء شهداء الثورة مجاورة لأسماء شهداء المقاومة في المدينة. رسم أحد المتظاهرين في الأيام الأولى للثورة نجمة داوود على حافلة شرطة محترقة، من أجل أن يدمج أسطورة الثورة مع أسطورة المقاومة القديمة. فهل يكرر هذا الجيل السويسي ما فعله آباؤهم حين انسحبوا واكتفوا بمراقبة الأحداث ؟
كانت الزيارات بعيدا عن القاهرة تكشف عن تعايش مع الإحساس بالظلم، وكانت أسوان إحدى المدن التي توضح هذه الحالة، وفي صيف العام الماضي سجل الشاب محمد الحلفاوي، عضو المجلس المحلي عن قرية "نجع المحطة" النوبية، تعليقا على ذلك في صفحة "أسوان .. مدينة تتحدى الصيف"، وقال: "هناك أشياء بسيطة نبذلها مثل طلب أعمدة إنارة للقرية، لكن هناك مشاكل أكبر مثل عدم تملك سكان القرية لأراضيهم التي عاشوا عليها منذ تهجيرهم نتيجة إنشاء خزان أسوان وتعليته"، كانت الاحتجاجات تتم ويتم إجهاضها سريعا، لكنها لم تصل المدى الذي وصلت إليه بعد الثورة، في احتجاجات هي الأكبر من نوعها ضد محافظ أسوان، طالب فيها أهل النوبة بحقوقهم التاريخية.
هذه الأزمة بين المركز والأطراف، كانت تعيشها القاهرة في الداخل، حتى مع أحيائها القديمة، وفي رحلتنا العام الماضي إلى مدينة "هرم سيتي" ناحية مدينة السادس من أكتوبر كان هناك "عالمين في مدينة واحدة"، إذ وصل الأمر بأبناء الطبقة الوسطي الطامحين أن طالبوا بإقامة سور عازل بينهم وبين من تم تهجيرهم إلى المدينة من متضرري مناطق الدويقة وإسطبل عنتر وعزبة خير الله، كانت وجهة نظر أحدهم أنه لا يرضى أن يدخل ابنه المدرسة الحكومية الموجودة في المدينة كي يزامل أحد أبناء العشوائيات.
و على الجانب الآخر، كان أبناء العشوائيات في حنين إلى مناطقهم الأصلية، ومحاولة للتعايش مع الواقع، دون أن يتخلوا عن حس الفوضى والعنف في معيشتهم، وكانت هذه الحالة صورة مصغرة لما يحدث في مصر. وحين تحركت الجماهير في الشارع أثناء الثورة، كانت هناك محاولات من المهمشين لكسر حاجز العزل المفروض عليهم، حتى في عمليات النهب التي جرت يومي الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من يناير الماضي كانت إشارة وعلامة على رغبة في ملكية الشارع، حتى الموتوسيكلات الصينية التي تسير في الشارع إلى اليوم دون لوحات مرورية تحاول التأكيد على هذا المعنى، وليس أدل على ذلك من مشهد اخترق فيه التوك توك ميدان التحرير يوم 11 فبراير للاحتفال بتنحي مبارك، وكأنه يوصل رسالة أنه يمكنه أن يكون شريكا في تحريك الشارع والإحساس بالأمان مع الجماهير بعيدا عن السلطات.

حكاية شعب يغلي

في العام 2009 كانت تكفي مطالعة صفحة "كلنا كده عاوزين صورة" حتى يشعر القارئ بضبابية مفهوم الوطنية لدى بعض الشباب، أحدهم قال عن الوطنية: " لا أجد تفسيرا لهذا الأمر سوى أنني ولدت فوجدت نفسي هنا"! وعلى مدار ألف ليلة مضت لم تكن هناك استثناءات كثيرة في الإحساس بالانتماء والأمل في الوطن، أحد من كانت عباراتهم مفعمة بالحماس هو الدكتور خالد فهمي، رئيس قسم التاريخ بالجامعة الأمريكية و العائد من نيويورك، فقد ذكر ذلك قبل 25 يناير الماضي بأسابيع قليلة في تحقيق بعنوان"أمل .. فعودة .. فتعايش": "جيل الشباب الجديد رائع، يسعى للتغيير وقلب ما هو سائد من خلال أفكار جذابة ومبتكرة، بعيدا عن الخطاب الرسمي سواء من خلال الأعمال الأدبية والفنية أو من خلال مجتمع المدونين والفيس بوك أو الصحافة الجديدة المستقلة أو المظاهرات والاعتصام" . هذا ما كان يحدث على مدار الألف ليلة الماضية، وقرأه خالد فهمي بحسه التاريخي.. إذ لم تعد عبارات الوطنية المستهلكة فيصلا في تحقيق أي هدف، كانت هناك معركة حول ملكية الشارع ومحاولات إثبات الحقوق في الدولة، وما زالت المعركة مستمرة إلى الآن رغم التشنيع على المظاهرات والاعتصامات "الفئوية". لكن على أرض الواقع فالأمر أقدم من ذلك.. في العام 2010 وتحديدا في الإسكندرية كانت هناك احتجاجات لعمال الترام، وكانوا وقتها يكررون ما فعلوه من قبل، قمنا برحلة معهم لفهم ما يحدث في عالم الترام السكندري، لكن لم يشعر أحد بهم من المسئولين، وحين دارت أحداث الثورة وقامت الحرب حول ملكية الشارع لفرض مطالب المواطنين انخرط بعضهم في الأحداث، و أثبت التحرك في الشارع أن بإمكانه إسقاط رئيس، ازدادت الاحتجاجات العمالية والمهنية على أمل تحقيق ما لم يتحقق قبل الثورة.
وعلى مدار الأعوام الماضية كانت حالة الغليان تدفع إلى أن يسقط أفراد الشعب غضبهم على بعضهم البعض، وفي صفحة عن "التعذيب الشعبي" نشرت العام ماضي برز كيف كان الشعب يمارس العنف ضد نفسه بعيدا عن الشرطة، على أمل تحقيق العدالة، ولم تكن أحداث الثورة إلا فترة هدنة يواجه فيها الشعب من تسبب في غضبه، وبعد تلك المواجهة أصيب البعض بهزة عنيفة، وكانت الأزمة أعنف مع الشباب ذو الحس المثالي الرومانسي الذي يخشى العودة إلى ما كان، في مقابل آخرين يطالبون بتطرف إلى العودة إلى ما اعتادوا عليه، وبدأ التضارب بين تعبيري "التغيير" و"الاستقرار". أحمد جمال، منسق شباب الاستقرار والمؤيد لفترة مبارك، قال لنا في إبريل الماضي: "إذا أردنا إشاعة مناخ الاستقرار في مصر فليس هناك حل سوى أمرين إما حكم رجال الدين مثل الشيخ محمد حسان أو محمد حسين يعقوب أو الحكم العسكري لأحد رجال القوات المسلحة".
هذه النبرة التي استخدمها أحمد جمال لم تراعي الاهتمام العالمي بثورة 25 يناير أو ترقب ما ستسفر عنه من تغيير. في حين أن صورتنا كانت أسوأ بكثير في الفترة الماضية، وهذا ما عبر عنه "ألبان" الشاب الفرنسي المقيم في القاهرة من خلال تحقيق حول مغامرة "عبور الشارع في مصر" ، ليكشف لنا زاوية لا نراها بحكم الاعتياد، وهي أننا نعيش في سيرك يومي، وأننا لسنا أحرارا في الشارع.
على مدار ألف ليلة و عدد من "الشروق" كنا كمصريين نتعايش مع الوضع القائم، فهل سنعود و نستسلم من جديد أم سيستمر التغيير؟ حتى اليوم ما زالت الجدران تحمل عبارات ثورية بشكل صريح لم نره إلا بعد 25 يناير... وفي العام الماضي كنا نبحث عن "هتاف الصامتين" بين العبارات والملصقات المكتوبة في شوارعنا وعلى خلفيات السيارات، كان الجديد آنذاك هو نبرة العنف واليأس التي زادت حسبما ذكر صناع تلك الملصقات، فليس أدل على الكفر بالإنسان وقيمه العليا من عبارات مثل: "محدش فاهم حاجة"، أو "مفيش حد صالح.. كله بتاع مصالح". وهي عبارات كتبت على خلفيات السيارات النقل والميكروباص والتوك توك. فكانت المفاجأة هذا العام في عبارات أخرى مثل "سلمية .. سلمية"، "مسلم.. مسيحي .. إيد واحدة". لكن هذه العبارات لم تصل بعد إلى سائقي الميكروباص أو إلى جدران الحواري، بل ضاقت الصدور مؤخرا بالكتابة الثورية على الجدران، ووصل الأمر أحيانا إلى حد الاعتقال...

حكاية النجوم الجدد



تسعي شهرزاد في حكاياتها وراء أفراد على الهامش، كان لديهم القدرة على الفعل، وفي الألف ليلة الأخيرة من حياتنا، كان هناك من يعملون على الهامش ولا ينتظرون سوى رضاهم عن أنفسهم واثقين أنهم سينتقلون إلى واجهة المشهد قريبا.. في العام 2009 أثير الجدل حول الألتراس وكانت تلك كلمات أحدهم وقتها: "اتهمونا بصفات وصلت إلى حد الكفر ونسوا أن الشغب موجود في الملاعب المصرية منذ الستينيات عندما كان الجمهور يقذف بعضه واللاعبين بالحجارة، كما توالت أحداث أخرى على مر السنين، فلماذا يحملونا مسئولية الفوضى الآن؟" .
كان الألتراس على الهامش عند نشر الموضوع، يشكل الإعلام صورتهم، حتى أتاحت لهم الثورة فرصة الحركة في الشارع بحرية، وتحول اسم الألتراس إلى مرادف للقوة في الشارع.. الفارق بين صورة الألتراس الآن وصورتهم آنذاك أنهم أصبحوا الآن ضمن واجهة المشهد رغم ما يتعرضون له من ضغط واعتقالات، لكن المحصلة أنهم امتلكوا مساحة أكبر عن ذي قبل.
هذه الفئات التي أرادت الابتعاد عن المؤسسات التقليدية المسيطرة على كل شيء لصالحها أنتجت أيضا فنونا تخصها، إذ ازداد عدد الفرق المستقلة في الموسيقى والتمثيل هروبا من السلطة الخانقة لمؤسسات الدولة، لكن الظاهرة الأطرف في هذا المجال كانت هي "موسيقى المهرجانات الشعبية" التي عشنا بعض تفاصيلها في العام الماضي ضمن ملف "موسيقى الشارع"، وهناك التقينا شبابا يملكون الشارع في مساحات محدودة داخل سرادقات بمناطقهم الشعبية، واستهدفوا شرائح قريبة منهم أبسطها سائق التوك توك الذي كان يتحرك بحذر في مساحته التقليدية. أبناء هذه الموسيقى الهجينة بين الغناء الشعبي وموسيقى الراب الغربية لم يصبهم الارتباك الذي أصاب فنانو الإعلام الرسمي، بل أنتجوا موسيقى مؤيدة للثورة، وأدركوا أن مساحاتهم الضيقة في الشوارع والحارات لم تعد تكفيهم، لأن الشوارع تحركت، فلم يعد غريبا أن نجد على مسرح الجنينة في حديقة الأزهر مؤخرا حفلا لقطبي هذا الفن وهما (فيجو، و عمرو حاحا).
حين كنا نكتب عنهما العام الماضي، كنا نسلط الأضواء على الهامش الذي بدأ ينتقل إلى الواجهة بعد الثورة، إذ صنعت حركة الشوارع أثناء الثورة هزة عنيفة، قذفت بالتوك توك إلى ميدان التحرير وأمام السفارة الإسرائيلية أثناء الاحتجاجات.
والحالة نفسها نجدها في مجال السياسة، فبعد الثورة طرحنا أسئلة حول النخبة الجديدة، هل سيتحول شباب الثورة الذين كانوا على الهامش إلى صورة مكررة من النخبة القديمة؟ و الإجابة: لم يعد الأمر بهذه البساطة، فرغم أن بعضا من شباب الثورة أصبحوا نجوما في الإعلام إلا أنهم سيظلون مدركين أن هناك آخرين ما زالوا على الهامش و يمتلكون أدواتهم نفسها من انترنت وتكنولوجيا رخيصة تسمح لهم بالتواجد والضغط.

Thursday, October 27, 2011

التهمة: تمويل أجنبي


حين لا تجد دعما سوى الخارج

كتب – عبد الرحمن مصطفى
في داخل قاعات الورش التدريبية يقدم باسم سمير محاضرات في مجالات مختلفة مثل تأمين المعلومات على الانترنت وكتابة المشروعات وإدارة الحملات الالكترونية، وهو ما كان قد تدرب عليه في مؤسسات حقوقية و من خلال منح تدريبية داخل وخارج مصر على مدار السنوات الماضية، أما الآن فهو المدير التنفيذي للمعهد المصري الديمقراطي إحدى مؤسسات المجتمع المدني التي تداول اسمها مؤخرا أثناء الأزمة المثارة حول التمويل الأجنبي للمجتمع المدني. يقول باسم سمير: "حين يقوم نشاطك الرئيسي على إقامة الورش التدريبية وإنتاج فيديوهات داعمة للديمقراطية وحقوق الإنسان، فهناك مشكلة رئيسية في أن أحدا لن يدعم مثل تلك الأفكار والمبادرات، خاصة أن أغلب رجال الأعمال ذوي الصلة بالسياسة كانوا مرتبطين بالحزب الوطني والنظام السابق، إذن كيف نمول مثل هذا النشاط بعيدا عن المؤسسات الداعمة الغربية؟"
ينتمي باسم سمير، الذي درس العلاقات الدولية في جامعة حلوان قبل سنوات، إلى شريحة من الشباب انخرطت في مجالي السياسة وحقوق الإنسان، واقتطع العمل في المجالين السياسي والحقوقي جزء من حياتهم، وحسب تعبيره "فإنك في وقت من الأوقات تبحث عن مشروع يتفق مع تجربتك ومهاراتك". و يضرب المثل بإسراء عبد الفتاح- المدير الإعلامي لنفس المؤسسة التي يعمل بها- وهي الفتاة التي ذاع صيتها في العام 2008 بسبب إدارتها صفحة إضراب 6 إبريل، وتحولت حياتها المهنية بسبب تأثير هذا الموقف، بل ووجدت ما يحقق طموحها في مشاركة زملائها العمل بهذه المؤسسة اعتمادا على تمويلات تأتي نتيجة سمعتهم في العمل العام، يضيف باسم سمير معلقا : "عائلتي كانت تقف في كثير من الأوقات ضد استمراري في هذا الطريق، زاعمين أن العمل الحقوقي مجرد تهريج، لكن أنا مقتنع جدا بجدواه وبقدرتنا على التغيير".
مع التقاء أبناء هذه الشريحة الشابة من نشطاء وحقوقيين في ورش تدريبية وفعاليات ازدادت فرص تحويل أفكارهم إلى مشروعات ومؤسسات تدريب، وتبنوا في ذلك طرقا متشابهة حتى أثيرت مؤخرا قضية التمويل الأجنبي للمجتمع المدني. وقد اضطر باسم وزملاؤه قبل عدة أشهر إلى التقدم ببلاغ ضد تصريحات اللواء حسن الرويني- عضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة- حول تلقيهم تمويلا من الخارج بهدف إثارة الاضطرابات والفوضى في البلاد، وذلك في فترة قريبة من اهتمام السلطات المصرية بدخول أموال أمريكية إلى مؤسسات مصرية بشكل غير شرعي.
يرى الدكتور أيمن عبد الوهاب- مدير برنامج المجتمع المدني بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية- أن تنامي الحركة الحقوقية ومنظماتها بدء من المنظمة المصرية لحقوق الإنسان في عام 1985، هو الذي ساهم في ظهور كوادر جديدة من جيل الشباب الحالي، ويعلق قائلا: "هناك شريحة من الشباب جاءت من خلفيات سياسية في حركات احتجاجية وأحزاب ومنظمات حقوقية، لكنهم ظهروا في توقيت مازال فيه المجتمع المدني المصري يعاني من سوء التنظيم، وكان أحد مظاهره هو قضية التمويل الأجنبي لبعض المؤسسات بما له وما عليه".
ويلجأ عدد من العاملين في مجال حقوق الإنسان إلى تأسيس شركة غير هادفة للربح على أن يكون تمويلها من مؤسسات غربية تقدم دعما في قضايا محددة، والهدف من تأسيس (شركة) بعيدا عن تأسيس جمعية أهلية خاضعة للقانون رقم 84 لسنة 2002 الخاص بالجمعيات والمؤسسات الأهلية، هو الابتعاد عن تعقيدات هذا القانون الذي يضخم من سلطة وزارة التضامن الاجتماعي، وبما يضعه من قيود على التمويل الخارجي للمشروعات وما يعطيه من سلطة للدولة للتدخل في أسلوب هذه الجمعيات وتنظيمها. وهو ما دفع الشباب الناشط إلى إدارة مؤسساته بعيدا عن هذا القانون رغم أن هذا لم يبعده كثيرا عن تدخلات جهاز أمن الدولة السابق.
كل تلك الإجراءات لم تمنع الطعن في من يتلقوا تمويلا أجنبيا لمؤسساتهم، إذ تكفي زيارة لبعض الصفحات التي خصصت لهذه القضية على الانترنت كي تظهر اتهامات نمطية تربط بين تلقي مؤسسات حقوق الإنسان للتمويلات الخارجية و التخريب في الداخل. و أصل هذه الصورة لدى البعض هو نتيجة ما يقوم به بعض النشطاء في مؤسساتهم من تقديم مشروعات هشة هدفها جمع أموال التمويل والتعامل مع نشاطهم كأي نشاط تجاري.
ويصف باسم سمير شركات التدريب التي تعمل في المجال الحقوقي بأنها لا تختلف كثيرا عن أي شركة تجارية أخرى، ولا يجد حرجا في أن يصف هذا النشاط بأنه مجال عمل أو Career، لكن بعض الممارسات السيئة استفزت نشطاء آخرين، وتكفي زيارة لهذا العنوان : "التمويل والفرافير في المجتمع المدني المصري"، على مدونة الناشط والمدون وائل عباس حتى نكتشف بعض ملامح الوجه الآخر إذ يقول: " عملية الإفساد بالتمويل عملية عفوية تحدث بحسن نية دون إدراك من المنظمات المانحة وأغلبها أجنبية، لكنها تخلق نشطاء غير حقيقيين كل همهم هو التمويل. وتلك النوعية من النشطاء جل همهم هو كتابة تقارير وهمية عن نجاح وهمي لمشروعات وهمية وتقديمها لجهات أجنبية حصلوا على تمويل منها من أجل تلك المشاريع بينما المحصلة : (صفر تغيير) .. وهنا يحدث الوصم لكل النشطاء، خيارهم وأشرارهم بأنهم دخلوا المجال من أجل المال".
وقد كتب وائل عباس هذه الملاحظات في العام 2010 قبل بدء أحداث الثورة، إلا أن الأزمة التي أثيرت مؤخرا بعد الثورة كانت لها أبعادا أعنف، طالت جزء من العلاقات المصرية الأمريكية.

بي إم دبليو حديثة
هذه الشريحة من المدربين والنشطاء تسبب إزعاجا لمواقفها السياسية المعارضة وسعيها لدور رقابي على العملية السياسية، لكن أنشطة أخرى تدريبية ليس لها صلة بالسياسة، مثل ورش التدريب على صناعة السينما أو في المجال الثقافي لا تواجه بالعنف نفسه، أما هذا الموقف المضاد تجاه فكرة التمويل فقد امتد إلى الشباب الناشط في المظاهرات أو على الانترنت بشكل عام، من أشهر تلك النماذج الناشطة أسماء محفوظ، التي تواجه الاتهامات على الانترنت بشكل دائم، وأحد هذه الاتهامات حول تمويل حركة 6 ابريل التي كانت عضوة سابقة بها، وتقول عن ذلك: "أنا اتهمت بأني أملك سيارة بي إم دبليو حديثة ولدي شقة فاخرة في مصر الجديدة، وكلها إشاعات بلا دليل، وأصبحت مادة متداولة في المقالات وعلى الانترنت، ولم أعد ألتفت إلى تلك الأمور".
على الجانب الآخر فإن نمط حياة أسماء لا يختلف كثيرا عن نشطاء شباب وحقوقيين انتزع العمل العام أوقات كبيرة من حياتهم، أو حسب تعبيرها : "حين تجد نفسك مشغولا بالشارع ومندمجا في أحداثه لمدة 24 ساعة، كل ذلك قد يؤثر على عملك، وتفكر في صنع مشروع يحقق طموحك في العمل العام، وأنا في النهاية مثل أبناء جيلي الذي تفتحت أمامه الحياة ومازال يحاول اكتشاف نفسه، ويحاول تحديد في أي مجال يعمل".
عملت أسماء في شركة للاتصالات وخاضت تجارب في مجال الإعلام، لكنها لم تبدأ بعد في تكرار تجربة زملائها في أن يكون لها مشروع حقوقي أو تنموي تمارس من خلاله ما اعتاده في السنوات الماضية أثناء عملها في الشارع، لكن تجربتها مع اتهامات العمالة والتمويل جعلتها تمتنع عن تأسيس هذا المشروع رغم تلقيها عروض خارجية أثناء أسفارها إلى الخارج كمحاضرة أو داخل ورش تدريبية لقادة الرأي، وتقول: "من يوجه هذه الاتهامات لا يعرف أثرها النفسي على أسرنا، ولا أخفي أن لدي رؤية لمؤسسة حقوقية وتنموية تستهدف الشباب، لكن لا أرغب في تمويلها عن طريق مؤسسات غربية، وذلك ليس رفضا لفكرة التمويل الغربي لأنها حق مشروع، ولكن لأني أريد أن أبتعد عن القلاقل". تأمل أسماء أن تحصل على جائزة "سخاروف" الدولية المرشحة لها كي تبدأ مشروعها بقيمة الجائزة، عدا ذلك فإن هناك من النشطاء والمدونين والحقوقيين من يحصلون في أنشطتهم المعتادة على مقابل مالي سواء عند تدريبهم في مؤسسات أو عند إلقاء محاضرة، وهو ما تعلق عليه أسماء محفوظ: "هذا المقابل من حق المحاضر أو المدرب، ولا أعتقد أنه هدفا حقيقيا لدى كثيرين". تصمت قليلا ثم تضيف قائلة: "رغم كل هذه الاتهامات بأننا نحصل مقابل تواجدنا في العمل العام، لكن يكفي إحساسي الشخصي حين عرضت عليّ إحدى القنوات الفضائية أن أعمل معهم بمرتب خيالي لفتاة في سني، ورفضت لأن من يديرونها مجموعة من الفلول.. أعترف أن من يتصدى للعمل العام في سن الشباب يتعرض لمأزق أن يوازن بين حياته المهنية والعمل العام، لذا علينا ألا ندين من وجد الحل في مشروع شخصي مدعوم خارجيا يوفر له ما يحب".
ما يتعرض له أبناء شريحة النشطاء والحقوقيون من تشنيع في بعض الحالات يستوقف الدكتور أيمن عبد الوهاب- الخبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية- إذ يقول: "هناك مشكلة حقيقية، إذ علينا أن نعمل وفي الوقت نفسه أن نحترم القوانين على عكس ما يفعل بعض العاملين في مجال المجتمع المدني.. وأرى الحل هنا في توسيع الثقافة الحقوقية لدى الشعب، وألا تقتصر على الجانب السياسي فقط، بل تمتد إلى جوانب أخرى مثل البيئة والاقتصاد والتنمية، وهي أمور ستلمس رجل الشارع فيشعر بقيمة العمل الحقوقي، وتزيد مساحة التطوع في هذه المجالات بعيدا عن الاعتماد على التمويل الخارجي فقط، وألا يقتصر التطوع على العمل الخيري، وأعتقد أن غياب فكرة التطوع في العمل السياسي هو ما يجعل كثيرين يفترضون أن المشاركة السياسية وراءها أموال مدفوعة". ويضيف الدكتور أيمن عبد الوهاب أن تغيير الثقافة سيجلب تبرعات وأموال داخلية حين نشعر بأهمية الإنفاق على الديمقراطية والمواطنة.
قبل سنوات لم يكن باسم سمير أو أسماء محفوظ و غيرهما من الشباب الناشط في مجال السياسة وحقوق الإنسان يعتقدون أن ما كانوا يدربون عليه ويعيشون فيه ليل نهار سيتحول إلى ثورة ويغير ملامح الحياة السياسية في مصر، لكن المفارقة الأخرى فإن هذه الشريحة أيضا لم تتوقع أن يكون باب التمويل الأجنبي الذي اعتمد بعضهم عليه في عمله هو نفسه الذي يجلب عليهم التشنيع والوصم.




"المؤسسات الداعمة ابنة ثقافة المواطنة"



3 أسئلة ليسري مصطفى منسق الصندوق العربي لحقوق الإنسان، و الكاتب والباحث في مجال حقوق الإنسان، حول التمويل الخارجي لمؤسسات المجتمع المدني

- هل أسهمت المؤسسات الغربية الداعمة مع توافر فرص التدريب بالخارج في توسيع شريحة الشباب والنشطاء العاملين في مجالي حقوق الإنسان والتوعية السياسية؟

الشريحة التي نقصدها هنا من نشطاء وشباب يعملون في التدريب على حقوق الإنسان والتوعية واستخدام الانترنت في الضغط السياسي هي جزء من ظاهرة عالمية تبنت فكرة العولمة ووجود احتياج حقيقي لما لدى هذه الشريحة من معلومات ومهارات. وفي الوقت نفسه هذه الشريحة وخاصة من الشباب وجدوا فرص تحقيق مشروعاتهم لدى المؤسسات الداعمة، وهذه الظاهرة موجودة عالميا وليست قاصرة على مصروحدها، ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال يستحوذ القطاع الأهلي على حوالي 10% من قوة العمل هناك.

- لماذا يعتمد تمويل المشروعات المستقلة في مجالات حقوق الإنسان والتدريب السياسي على المؤسسات الداعمة الغربية مع غياب التمويل الداخلي ؟

حين ندرس تكوين المؤسسات الداعمة في الغرب نجد أنها ابنة ثقافة المواطنة، إذ لا يخشى رجل أعمال على سبيل المثال من ضغوط جهاز مثل "أمن الدولة" عليه إذا ما أراد تمويل مشروع حقوقي أو نشاط أن يقدم توعية سياسية، فنجد العائلات الثرية تقدم ما يشبه "الوقف" لتمويل قضايا بعينها ومنحا دراسية، لكن حين ننظر إلى دور رجال الأعمال لدينا خلال السنوات الماضية نجده كان مسخرا لخدمة السلطة الفاسدة.. ولم تكشف مرحلة ما بعد الثورة عن وجود داعمين محليين لمثل هذا النوع من الأنشطة، أما عن التمويل القادم من الدول العربية فليس كله على القدر نفسه من النزاهة، وله أغراض سياسية واضحة. ونضيف إلى ذلك أن أغلب الدعم المالي في بلادنا يتجه إلى العمل الخيري، ورغم أن لنا موروثا عظيما في فكرة "الوقف"، إلا أن الواقع لا يقدم لنا من يوقف مبلغا في خدمة فكرة المواطنة أو حقوق الإنسان أو التدريب على أساليب الضغط السياسي، لذا تتجه الأعين نحو المؤسسات الغربية سواء كانت ذات صلة بالحكومات أو لا .

- إلى أي مدى تفرض الجهات الغربية الداعمة أجندتها على المؤسسات والأفراد العاملين في مجالي السياسة وحقوق الإنسان وهل يمكنها أن تهدد السلام الاجتماعي الداخلي؟

علينا أن نعلم أن ما يدير مثل هذه العلاقة بين المؤسسات الداعمة ودول العالم الثالث هو مفهوم "التعاون الدولي" الذي برز منذ الستينات. وكان الدعم المادي يصل إلى الحكومات ومشروعاتها دون أن يثير قلاقل، وهو مستمر إلى الآن، كأن تحصل مصر على 1،3 مليار دولار كمعونة عسكرية، لكن مع اتساع نشاط المجتمع المدني وبروز شريحة النشطاء في المجتمع كشريحة قيادية، بدأت الحكومات في الإحساس بالتضرر من هذا النوع الجديد من الدعم، علما بأن ذلك يتم في أغلب الأحوال عبر مؤسسات الدولة، رغم التضييق الذي تمارسه وزارة التضامن الاجتماعي في هذا المجال. أما ما يحدث من حساسية تجاه بعض التمويلات تحديدا مثل التمويلات الأمريكية، فسببه تركيز التمويل الأمريكي على قضايا متعلقة بالتحول الديمقراطي وحقوق المرأة والطفل، على عكس دول أخرى لا يثار حولها الجدل نفسه بسبب اهتمامها بقضايا أخرى مثل البيئة. ما نطمح إليه الآن أن نجد أجواء تحتوي شريحة الحقوقيين والنشطاء إلى الداخل عبر قوانين تسهل عملهم، وأن نكرس ثقافة حقوقية تشجع على دعم هذا النشاط من داخل مصر وتفهم احتياجهم إلى التمويل الخارجي.


الدعاية المضادة



في مدونته "Dakhakhny's Blog " كتب الناشط الشاب محمد الدخاخني عن موقف تعرض له أثناء فعاليات مؤتمر يناقش الممارسة السياسية للشباب، حين دار حديث بينه وبين أحد نشطاء حركة 6 إبريل الذي قال له: ” أنا رحت هناك (يقصد أمريكا) واتدربت على العصيان المدني، وكنت عارف إن اللي بيدربوني هما نفسهم اللي كانوا بيدربوا ظباط أمن الدولة إزاي يخترقونا”. وكتب الدخاخني عن هذا الموقف مع ناشط 6 إبريل الذي أسس منظمة حقوقية غير هادفة للربح، تحت عنوان كبير هو "هؤلاء يأخذون التمويل !". مثل هذه المواقف، التي يتداولها بعض النشطاء الشباب فيما بينهم، أحيانا ما تتخذ ملمحا أكثر حدة خاصة من المعارضين لفكرة التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني. أحدهم تساءل في مدونة مغمورة تحت اسم "الثائر الحق – معا ضد التمويل الأجنبي" عن سر لقاء نشطاء- تلقوا تدريبا في مؤسسة فريدوم هاوس الأمريكية بوزيرة الخارجية هيلاري كينتون- واضعا صورا لهم على مدونته، ثم كتب تعريفا بمؤسسة فريدوم هاوس واصفا المدونين الذين تلقوا تدريبا بأنهم "جنود الصهيونية". وفي مساحات أخرى على الانترنت يتداول آخرون مواد فيلمية ومكتوبة تتهم بعض المؤسسات الأمريكية الداعمة والتي تدرب الشباب النشطاء بأنها موالية لجهاز المخابرات الأمريكية و وزارة الخارجية الأمريكية، وعلى أرض الواقع فإن بعض تلك المؤسسات الداعمة بالفعل لا تخفي تنفيذها أجندة السياسة الخارجية الأمريكية. وهو ما يدفع البعض إلى تحليلات مثل التي دونها مدير صفحة "المثقفون العرب يرفضون التمويل الأجنبي" من نوعية : عندما سعت المخابرات المركزية لتفكيك يوغوسلافيا السابقة إلى عدة دول ضمن خطتها لإضعاف الكتلة السوفييتية، استخدمت خطة عمل محددة لتمويل بعض هيئات المجتمع المدني هناك، ضمن خطة أُطلق عليها «نشر القيم الأمريكية في دولة صربية ديمقراطية»، .. هذا النموذج تسعى أمريكا لتحقيقه الآن في مصر".
ويربط البعض في مواد منشورة على الانترنت تدريب أعضاء في حركة 6 إبريل على أيدي أفراد في حركة "أوتبور" الصربية بدعاية من نوع آخر، إذ أن حركة "أوتبور" الصربية المثيرة للجدل قد ساهمت في تحريك الجماهير ضد الدكتاتور سلوبودان ميلوسوفيتش حتى إسقاطه، وتم توجيه اتهامات لتلك الحركة الصربية بأنها تحقق أهداف المخابرات الأمريكية، وأنها تسعى لنشر الاحتجاجات الشعبية ضد الحكام حتى تتاح الفرصة للتدخلات الأمريكية. ومثل هذه الدعاية المضادة استخدمت في تصريحات مسئولين مصريين ضد حركة 6 إبريل مؤخرا.
كل تلك الاتهامات كانت في خلفية التحقيقات التي تجريها السلطات المصرية الآن حول التمويل الأجنبي للمجتمع المدني، بعد أن أعلنت السفارة الأمريكية في يوليو الماضي عن منح لمنظمات المجتمع المدني في مصر وتونس وباقي دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، و ذلك بموجب برنامج مبادرة الشراكة في الشرق الأوسط لدعم أهداف السياسة الخارجية الأمريكية. لكن الاشتعال الحقيقي للموقف كان بعد إعلان السفيرة الأمريكية الجديدة في القاهرة خلال شهر يونيو الماضي عن تخصيص الولايات المتحدة أكثر من 40 مليون دولار لدعم الديمقراطية في مصر منذ اندلاع ثورة 25 يناير، وأن 600 منظمة مصرية تقدمت بطلبات للحصول على منح مالية أمريكية لدعم المجتمع المدني.
وحسب دراسة لمعهد الشرق الأوسط الأمريكي فإن أكثر من ألف مصري تقدموا للحصول على مبالغ من مكتب المعونة الأمريكية في القاهرة، وأغلبهم من منظمات المجتمع المدني المستقلة، وذلك في مخالفة لاتفاق تم عام 1978 بين مصر والولايات المتحدة يشترط أن تتم التمويلات عبر القنوات الحكومية المصرية. ورغم ما أذيع عن تلقي مجموعة "أنا آسف يا ريس" الداعمة للرئيس السابق مبارك أموالا من دولة عربية، ونفي المجموعة هذا الاتهام، إلا أن أغلب الجدل المثار مؤخرا هو المتعلق بالتمويل الأمريكي. وقد اتخذت تلك الأزمة أبعادا دولية مثل إصدار منظمة "هيومان رايتس ووتش" بيانا تحض فيه على ضرورة وقف التحقيقات مع منظمات المجتمع المدني حول تمويلها بهذا الشكل، لأن وقف تمويل هذه المنظمات يؤدى إلى حرمانها من العمل، نظراً لضعف التمويل الحكومي.
وفي جانب آخر أرسلت 36 من منظمات المجتمع المدني المصرية رسائل إلى مسئولين في منظمات دولية تشكو الإجراءات المتخذة ضدها . وبعيدا عن التمويل التي تتلقاه المؤسسات باسمها من جهات التمويل، فإن هناك نوعا من التمويل أكثر جدلا حول تلقي أفرادا من ذوي التأثير – من قادة الرأي- تمويلا بصفتهم الشخصية وليس بصفتهم المؤسسية، وهو ما يجعل الصراع الدائر الآن محتدا بين رغبة حكومية في أن يتم التمويل تحت قبضة الحكومة وتبعا لقانون الجمعيات الأهلية، وبين رغبة أخرى لدى بعض منظمات المجتمع المدني في العمل بعيدا عن القيود والتعسف الحكومي.

Tuesday, October 11, 2011

المعاقون يطمحون إلى عهد جديد.. لا شىء يخصنا بدوننا


عبدالرحمن مصطفى
«فكرة وجود جبهة تحقق مطالب المعاقين كانت بمثابة حلم.. نسعى الآن إلى تحقيقه»، يتحدث محمد الحسينى المنسق العام للجبهة الوطنية لمتحدى الإعاقة ومصابى الثورة عن نشأتها وآخر ما توصلوا إليه بعد أن أنهوا اجتماعا سريعا فى مقرهم واختاروا استكمال الحديث فى مقهى قريب بمنطقة وسط المدينة.
أغلب الحاضرين كانت لهم تجارب سابقة فى وقفات احتجاجية ومبادرات من أجل حقوق المعاقين حتى قبل تكوين الجبهة، ونشأت العلاقة بينهم إما بسبب لقاءاتهم فى تلك الأحداث أو عبر الإنترنت، فى بداية الحديث أوضح يوسف مسعد مؤسس قناة «صوتنا» الإلكترونية للمعاقين والممثل الإعلامى للجبهة، وزميلته جهاد إبراهيم المدرس المساعد بقسم علم الاجتماع فى كلية الآداب جامعة عين شمس، سبب أن يكون اللقاء فى المقهى، إذ إن كليهما يجلس على كرسى متحرك ولم يرغبا فى المرور بمعاناة صعود سلالم العمارة. ثم يعود محمد الحسينى إلى حديثه قائلا: «تجمعنا قناعة أن العمل عبر الانترنت تجربة زائفة وتكريس لحالة العجز حين يظل الأشخاص يتحاورون دون تعاون مشترك على أرض الواقع». يلقى الحسينى الخيط إلى زملائه مذكرا إياهم بقصة خاضوها سويا مع صفحة على الانترنت لكيان يدعم قضية المعاقين عدد أعضائه على الانترنت يتجاوز الألفى عضو، لكن لا ينشط فيه حقيقة سوى ثلاثة أفراد فقط. كان أعضاء الجبهة والمتضامنون معهم يعملون فى الأسابيع الماضية على وضع مسودة المجلس الأعلى للمعاقين على خلفية لقاء رئيس الوزراء الدكتور عصام شرف فى أغسطس الماضى. هل اختلف الحال بعد ثورة 25 يناير؟ فى تلك الجلسة عقد أعضاء الجبهة مقارنة بين نشاط المعاقين لنيل حقوقهم فى العام 2010 حين نزل المعاقون إلى الشارع فى موجات احتجاجية، وبين ما حدث من أنشطة بعد الثورة. يشرح سامى أحمد ــ مسئول ملف الجمعيات فى الجبهة ــ والذى شهد الموجة الأولى قبل الثورة فى العام 2010 قائلا: «فى العام الماضى أعد المجلس القومى للأمومة والطفولة مشروع الأشخاص ذوى الإعاقة الذى لم يكن لنا صوت حقيقى فى صكه، ولولا الثورة لكان هذا القانون أمام الدورة البرلمانية التى ألغيت». ما أحدثته الثورة أنها أعطت فرصة أكبر لهم. إذ إن فكرة إنشاء «مجلس قومى لحقوق الأشخاص ذوى الإعاقة» كانت فكرة مطروحة ووافقت عليها حكومة أحمد نظيف العام الماضى، أما اليوم فالمعاقون هم من يتصدى إلى صنع مسودة إنشاء هذا المجلس بأنفسهم». فى أثناء الحديث تنقل جهاد إبراهيم الحديث إلى زميلها رامز عباس المصاب بالصمم تاركة له مهمة قراءة حركة الشفاه. فيستجيب رامز طالبا التعليق متحدثا بلغة عربية سليمة قائلا: «فى احتجاجات العام الماضى كانت الحكومة تتعامل بمنطق شتت العدو تحقق الانتصار، هكذا كان يتم التعامل معنا بإلهاء البعض بوعود بشقق سكنية وآخرين بأكشاك، وللأسف هناك من انساق وراء هذا وانسحب من العمل على دعم حقوق المعاقين بشكل عام بسبب قلة الوعى». ما حدث فى العام الماضى تجربة يخشى الجميع أن تتكرر خاصة بعد أن تركت رئاسة الوزراء الفرصة بأيدى المعاقين لتحقيق مطالبهم عبر مسودة لإنشاء مجلس قومى للمعاقين. وهو اختبار عليهم استغلاله جيدا والنضال من أجل تحقيقه حسب عبارة محمد الحسينى.

جماعة ضغط
تكونت الجبهة الوطنية لمتحدى الإعاقة ومصابى الثورة نتيجة اتحاد مجموعة من الأفراد كان لهم نشاط سابق والبعض الآخر لم يكن له هذا النشاط، وتضم عشرات المتعاونين معها داخل وخارج القاهرة، لكن يدرك أعضاء الجبهة أنهم فى النهاية شريحة ضيقة من المعاقين فحسب وصف أسامة طايع الذى حضر الاجتماع مبكرا: «هناك شرائح مختلفة من المعاقين، هناك من لا يشعرون بمعاناة الشارع ويعيشون فى ترف، وهناك الناشطون ومن لديهم وعى بقضيتهم، وهناك شريحة كبيرة معزولة مع المرض والجهل والفقر، ولا يصل إليها أحد». لا يخفى أسامة فى حديثه مرارة عند الحديث عن حقوق غير المبصرين وهى الشريحة التى ينتمى إليها، وأن كل الظروف فى الشارع وفى التعليم تدفع إلى العزلة، إلا من أراد المقاومة.
وأحد الدلائل على ذلك فى رأى كثير من المهتمين بالقضية هو عدم الاهتمام بعمل حصر دقيق لأعداد المعاقين، وهو ما يجعل هناك تضاربًا فى أعداد المعاقين المصريين ما بين 7 ملايين إلى 10 ملايين. وترجع قلة عدد المبادرين من المعاقين فى مصر فى رأى محمد الحسينى المنسق العام للجبهة إلى دور الإعلام الذى «كرس صورة المعاق فى متسول أو شخص مثير للشفقة، وهو ما ينعكس على أداء المجتمع تجاه المعاق، بل وعلى صورة المعاق تجاه نفسه». هذه الجملة الأخيرة هى التى جعلت كثيرًا من المعاقين لا يدركون أبسط حقوقهم، وآخرون اختاروا حل مشاكلهم بأنفسهم والابتعاد عن دهاليز المؤسسات الحكومية مثل وزارة التضامن الاجتماعى التى ظل اسمها يثير غضب الحاضرين من أعضاء الجبهة بسبب ما يتعرض له المعاقون فى التعامل معها من تعطيل فى الحصول على حقوقهم. وهو أمر لا يقتصر فقط على وزارة التضامن، إذ يلزم القانون على سبيل المثال أصحاب الأعمال الذين يزيد عدد العاملين لديهم على 50 عاملا فأكثر بتشغيل نسبة 5% من ذوى الإعاقة وكذلك نفس النسبة فى الجهاز الإدارى فى الدولة. وهى أمور لا تطبق فى كثير من الأماكن، بل وتطبق بشكل مهين فى أماكن عمل تهمش المعاق داخلها حسب كثير من القصص التى رواها أعضاء الجبهة.
مثل هذا التضييق دفع شابا مثل سامى أحمد عضو الجبهة أن يعلن لزملائه فى جلسته عن نيته الترشح فى الانتخابات البرلمانية المقبلة على قائمة أحد أحزاب التى تأسست بعد الثورة، يعلق زميله يوسف مسعد على ذلك قائلا: «فكرت أنا وزميلى رامز فى تدشين حزب، لكن وجدنا هناك معوقات كبيرة، وكان الهدف ألا يكون حزبا للمعاقين لكن كان طموحنا أن نرى معاقين فى هيئة تأسيسية لحزب سياسى، وأن تظهر قيادات من هذه الفئة.. لذا خطوة زميلنا سامى مهمة جدا».
على أجندة الرئاسة
هذه الروح الجديدة دفعت عددا من مرشحى الرئاسة إلى طرح قضية المعاقين على أجندتهم وهو ما اتضح فى حفل الإفطار الرمضانى الذى نظمه المعاقون وحضره الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح، والسيد عمرو موسى، ومندوب عن مكتب الدكتور أيمن نور، وكلهم من مرشحى الرئاسة، هذا إلى جانب تعاون مكتب الدكتور محمد البرادعى مع معاقين والتنسيق معهم بخصوص قضيتهم. يعلق محمد الحسينى المنسق العام للجبهة على ذلك قائلا: «نحن من دفعنا السياسيين إلى التعاون معنا، لأننا إذا ما كان نشاطنا خامدا لم يكن أحد ليلتفت إلينا أبدا». إحدى وسائل تنشيط القضية هو صنع منابر إعلامية خاصة مثل قناة «صوتنا» الالكترونية للمعاقين التى ينشط فيها يوسف مسعد ورامز عباس، وتجربة مواقع خدمية مثل: شبكة معلومات ذوى الاحتياجات الخاصة، التى تضم فى داخلها شكاوى دار الحديث عن إحداها فى أثناء الجلسة عن الشيخ أحمد الإمام بوزارة الأوقاف الذى تخرج فى كلية اللغات والترجمة فى قسم الدراسات الإسلامية، وهو ما يؤهله إلى العمل كإمام فى البلاد الناطقة بغير اللغة العربية، لكن جاء رفض الأوقاف بناء على أنه كفيف. هذه المشكلة نقلت حديث أعضاء الجبهة إلى مساحة أخرى شخصية لديهم، إذ فرض على أغلبهم دخول القسم الأدبى فى المرحلة الثانوية، وهو ما يمارسه بعض المعلمين والنظار فى المدارس حتى اليوم فى توجيه الطلبة المعاقين وإرهابهم من دخول القسم العلمى. وحتى محمد الحسينى الذى التحق بالقسم العلمى فى الثانوية العامة، أقنعه كل من حوله بدخول كلية الآداب، واضطر إلى دراسة نظم المعلومات فيما بعد على نفقته فى معهد خاص والحصول على بكالوريوس. وحسب قواعد القبول التى أعلنتها وزارة التعليم العالى فإنه يتم قبول المكفوفين بكليات الآداب ودار العلوم والحقوق والإعلام والألسن والبنات، وقبول المعاقين حركيا بسائر الكليات التى لا تتعارض طبيعة الدراسة فيها مع إعاقتهم، لكن موقع جامعة عين شمس يحصر قبول المعاقين على كليات (الآداب ــ الحقوق ــ التجارة)، بناء على قرار المجلس الأعلى للجامعات الذى يصدر كل عام بشرط الحصول على الثانوية العامة هذا العام بمجموع درجات 50%.
وتكشف قصة التحاق جهاد إبراهيم المدرس المساعد فى كلية البنات بالجامعة عن أن الأمر نسبى إذ تم رفض قبولها فى كلية التربية بدعوى أن الدراسة بها جانب عملى وميدانى، والمفارقة أنها التحقت بقسم الاجتماع فى كلية البنات وأنجزت رسالة الماجستير فى موضوع تطلب منها جهدًا ميدانيًا شاقًا إلى جانب عملها الأكاديمى. وتعلق قائلة: «كل ما أطمح إليه ألا يتكرر ما يحدث معنا مع الأجيال القادمة، وأن يكون المعاق جزءا طبيعيا من المجتمع سواء كانت لديه إعاقة حركية أو حسية». هذه العبارة أعادت إلى أذهان الحاضرين طه حسين وزير المعارف فى مصر الملكية، ودفعت إلى استدعاء سيرة وزير داخلية بريطانيا السابق ديفيد بلانكيت الذى كان كفيفا ويدير وزارة بهذه الأهمية.
يشرح محمد الحسينى ــ منسق الجبهة ــ التكتيك القادم الذى ينوون تنفيذه فى المرحلة المقبلة عبر تكوين جمعيات داخل القاهرة وخارجها تستوعب من لديهم الرغبة فى العمل من أجل القضية، وأن تحصل الجبهة من ائتلاف هذه الجمعيات على شرعية أمام كل من يريد تعطيل عملهم، ويضيف قائلا: «فى النهاية الجبهة هى جماعة ضغط من أجل هذه القضية». يكرر هو وزميله رامز عباس وسامى أحمد جملة «لا شىء يخصنا بدوننا» التى كانت شعار الحركة العالمية للمعاقين. إذ يرون أنه لن يحقق انجازا حقيقيا للمعاقين إلا شخص منهم خاض معاركهم اليومية، وهذا هو التحدى الذى يعيشونه، وما أن تنتهى الجلسة بعبارات ضاحكة من رامز عباس الذى نجح أحيانا وأخفق أحيانا فى قراءة شفاه الحضور، وانشغل تارة بتصوير الجلسة.
ينطلق الجميع فى طريقه ليواجهوا طرقا غير معدة للكراسى المتحركة، وشوارع لا تحترم حركة الكفيف، ومجتمع لا يهتم بتعلم لغة الإشارة، على أمل أن يكون التغيير بأيديهم وكسب شرائح جديدة من المعاقين ترغب فعلا فى العمل من أجل قضيتها.
pdf

Tuesday, October 4, 2011

تغيير الفكر أولا.. ملامح الثورة تتسلل إلى الورش التدريبية



ترى سارة الشريف ــ صحفية وناشطة مصرية ــ أن ازدياد نشاط ورش ومحاضرات التوعية السياسية والحقوقية فى السنوات الأخيرة قد أثر فى وعى الشباب وربما مثل جزءا من عملية التغيير التى شهدتها مصر والدول العربية مؤخرا، وتوضح ذلك بقولها: «نظام مبارك المخلوع، كان يترك مساحة للعاملين فى مجال الحريات وللنشطاء كى يظهر أمام العالم وكأنه مع الديمقراطية، لكن هذه المساحة ساهمت بشكل ما فى نشر مبادئ الحرية والتغيير والثورة». هذا الرأى يتبناه أيضا عدد من المعلقين على تأثير الوعى السياسى وحركة المجتمع المدنى فى ازدهار الربيع العربى وتغيير النظم فى المنطقة.
وفى داخل الورش التدريبية ومحاضرات التوعية تتكون علاقات جديدة بين الناشطين والإعلاميين، وهذا من أحد الأسباب التى دفعت سارة للمشاركة للمرة الأولى فى فعاليات «الجامعة الصيفية لمنبر الحرية» التى أقيمت مؤخرا فى القاهرة. تم اختيار سارة بناء على سيرتها الذاتية وأنشطتها السابقة فى مجال الحريات، ووسط قاعة المحاضرة كان النقاش ساخنا حول تصورات «ما بعد الثورات العربية» بين شباب من جنسيات عربية مختلفة، وكان المحاضر هو الدكتور شفيق الغبرا أستاذ العلوم السياسية بجامعة الكويت، الذى لم يخف ملاحظته عن اختلاف أجواء قاعة المحاضرة هذا العام بالقاهرة تماما عن أجواء أول نشاط للجامعة الصيفية فى العام 2009.
ويقول معلقا: «اختلفت حالة المشاركين عن ذى قبل، خاصة مع المشاركين من مصر، إذ أصبحوا يتحدثون بحماس أكبر لبلدهم وفى تفاصيل لم تكن مطروحة من قبل. «تقوم فكرة الجامعة الصيفية التى تنظمها منظمة المنبر الحر على اختيار بلدين فى كل صيف يستضيفان موسمين دراسيين، أحدهما يكون فى المشرق العربى والآخر فى المغرب العربى، ويقام النشاط على هيئة ورش ومحاضرات مكثفة، وتهدف المحاضرات فى مجملها إلى تكريس قيمة الحرية لدى الشباب من خلال مناقشات فكرية وسياسية.
وتكفى نظرة على قاعة المحاضرة كى تكشف عن تنوع جنسيات الحاضرين من الدول العربية المختلفة رغم ما يجمعهم من تشابه فى أن أغلبهم ناشطون حقوقيون أو إعلاميون ولهم ماض فى حضور مثل هذه الأنشطة. محمد البلاّوى إعلامى مغربى شاب، كان ضمن طلبة دفعة العام 2009 ببيروت، وجاء للحضور مرة أخرى فى دفعة هذا العام 2011 فى القاهرة، يقول: «من المؤكد أن الاختلافات الثقافية أحيانا ما تظهر داخل نقاشات المحاضرة، لكنها تكون فى إطار مقبول، لأن الجميع تم اختياره بعناية، وفق سيرته الذاتية».
وفى رأى بلاوى أن حضور الفعاليات والأنشطة المتعددة يزيد من فرص الفوز فى عند التقديم للحصول على منح أو تدريب، ويضرب بنفسه مثلا إذ يشارك فى أنشطة الجمعيات الأهلية منذ سن السابعة عشرة، مما جعله يصنع تراكما فى سيرته الذاتية، رشحه للحصول على منحة تدريبية فى الولايات المتحدة قبل مشاركته مباشرة فى الجامعة الصيفية هذا العام. ويضيف قائلا: «الأجواء هذا العام أصبحت مختلفة قليلا.. فألاحظ على المصريين أنهم أصبحوا أكثر حماسة عن ذى قبل، ومنهم من يتحدث بقلق عن تجربة الثورة فى بلده».
أحد أهم الملامح التى طرأت على هذه الأنشطة التى تجمع شبابا من دول عربية مختلفة هو تأثير الثورات العربية فى نقاشاتهم، إذ كانت القاعة تضم دولا ملكية وجمهورية ودولا ما زالت تشهد معارك ضد نظامها السياسى، وأحيانا ما كانت تثار أسئلة أكثر حماسا فى القاعة من نوعية: «متى نرى الملكيات العربية وقد تحولت إلى جمهوريات؟». فى هذه الحالة على الجميع ــ خاصة من الدول الملكية ــ أن يتسم بالمرونة وقبول الرأى الآخر.
وفى أثناء محاضرة الدكتور شفيق الغبرا عن الثورات العربية كانت تدور اشتباكات حوارية حول هل تؤدى الثورات إلى فوضى؟ وهل واجب علينا احترام رؤسائنا وعدم عزلهم حتى إن كانوا مستبدين؟ سارة الشريف من مصر تصدت للدفاع عن الثورة وعن فكرة عزل مبارك، فى مواجهة زميلة يمنية رفضت التحريض على الرؤساء. لكن هذا النقاش الساخن لم يخرج فكرة الجامعة من مضمونها الأساسى المهتم بالفكر الديمقراطى الليبرالى والعمل التنويرى، بل كانت المحاضرة السابقة على تلك المحاضرة على سبيل المثال عن: «مسألة الحرية فى الفكر القومى العربى» وعن أدوار الطهطاوى وجمال الدين الأفغانى ومن تبعهما من المفكرين.
لا يخفى منظمو فعالية الجامعة الصيفية الطابع الليبرالى الذى يغلف النقاش وموضوعات المحاضرات، هذا الطابع الليبرالى الذى يغلف المشروع قد يجعل وجود شاب ملتحى مثل محمد عبده سالم ــ مصرى الجنسية ــ غريبا للوهلة الأولى على قاعة المحاضرة، وهو ما يوضحه قائلا: «هذه ليست المرة الأولى التى أحضر فيها الجامعة الصيفية، بل حضرت فى العام 2009 ببيروت وكان مظهرى المتدين مربكا للكثيرين ومثيرا لشكوك الأمن لمجرد أنى ملتح». فى داخل القاعة لا يخفى محمد عبده سالم هويته أو انتماءه إلى حزب النور السلفى، ويعلن بوضوح أنه مع تطبيق الشريعة فى المستقبل، لكنه يعلن تلك الآراء دون أن يحدث صداما مع أحد، حسب القواعد الليبرالية للمكان، ويعلق قائلا: «المشكلة أن بعض الجهات التى تنظم ورشا تدريبية تستبعد السلفيين والإسلاميين أحيانا، وأقول بصراحة إن هناك ليبراليين يدّعون وقوفهم إلى جانب الحريات لكنهم يتخذون مواقف متشددة ضد من يخالفهم.. أما هنا فأجد مناخا يتيح لى أن أسأل وأن أرفض وأن أتعرف على الفكر الليبرالى بحرية، وأؤمن بأفكار وأتحفظ على أخرى، وهذا ما وفره الدكتور نوح الهرموزى مدير برنامج منبر الحرية كنموذج لشخص يعى معنى الحرية والليبرالية فعلا وقولا».
رغم ذلك فإن الجامعة الصيفية أحيانا ما تواجه صعوبات مع بعض الدول العربية، إذ تعرض اثنان من المشاركين السعوديين فى الجامعة الصيفية عام 2009 لمضايقات أمنية عند عودتهم من بيروت إلى السعودية، كما رفضت السلطات السورية استقبال الجامعة الصيفية دون إبداء أسباب. ويقول الأكاديمى المغربى الدكتور نوح الهرموزى ومدير برنامج منبر الحرية: «وجدنا هذا العام صعوبة فى استضافة الشباب السورى رغم موافقتنا على طلبات التحاقهم، ولم يحضر إلا واحدا بعد عمليات تمويه.. وهذه هى مشكلات الدول التى تتخوف من فكر الحرية والليبرالية».
ويذكر الدكتور الهرموزى أن هناك مشاكل تواجه لفظ الحرية والليبرالية فى مجتمعاتنا إذ يجرى ربطهما بمعان سيئة مثل التفسخ الأخلاقى أو سيادة الشركات العملاقة والرأسماليين، وهذه أمور لها علاقة بمشكلات مجتمعية وليست مشكلة الحرية. وحسب عبارته: «التغيير القادم عليه أن يكون عبر الفكر لبناء المجتمعات وتكوين شبكات من الباحثين وأصحاب الفكر من الشباب.. وهذا ما نطمح إليه».



جامعة صيفية بدون قاعات دراسة


تقوم فكرة الجامعة الصيفية على استغلال فترة الصيف فى تكوين برامج تدريبية وتعليمية للشباب، وهو ما تقوم به أيضا بعض مؤسسات ومنظمات المجتمع المدنى، وقد بدأت فكرة الجامعة الصيفية ضمن مشروع منبر الحرية فى العام 2009، إذ تقام الجامعة مرتين، الأولى فى بداية الصيف والمرة الثانية فى نهاية الصيف، على أن يستضيف فعاليات الجامعة فى المرتين بلد مشرقى، وآخر مغاربى.
ويقول نوح الهرموزى مدير منبر الحرية «نشأت فكرة مشروع منبر الحرية قبل سنوات، حين بدأنا بموقع الكترونى ينشر ويترجم مقالات وأمهات الأعمال عن الحرية والديمقراطية والأدبيات الإنسانية، ثم تطورت الفكرة بمجموعة من الباحثين العرب، حتى انتهينا بالجامعة الصيفية قبل عامين». ونشأت الفكرة فى البداية كمشروع تثقيفى يتبنى أن العقل هو محك الفكر والعمل، وفى خلفية تقف ضد الهيمنة الأمريكية ونزعتها العنيفة فى المنطقة، إذ كان الهدف من هذا المشروع هو استهداف الشباب ذوى الثقافة الجيدة والمهتمين بقضايا الحرية فى الوطن العربى لتطويرهم وفتح مجالات فكرية جديدة أمامهم واستكتابهم فى موقع المنبر على الانترنت، وتأتى فكرة الجامعة الصيفية بهدف تكوين علاقات بين الشباب الناشط فى مجتمعه وتعريفه بالمزيد عن قضايا الحريات والليبرالية وجذورها فى المجتمعات العربية. ولا تنتمى الجامعة الصيفية ولا منظمة منبر الحرية إلى أى انتماء سياسى سوى قضية دعم الحريات، وموقعها على الانترنت:

minbaralhurriyya.org

Friday, September 30, 2011

المدينة الشبح.. معرض يصف أصوات القاهرة


ما بعد الحداثة مرت من هنا
المدينة الشبح.. معرض يصف أصوات القاهرة
كتب - عبدالرحمن مصطفى
كل ما عليك هو أن تستسلم لخطواتك وأنت تبحث عن القاهرة داخل معرض "المدينة الشبح" الذي اختتم الأسبوع الماضي. وفي القاعة الرئيسية بمركز سعد زغلول الثقافي لم يكن هناك بديل آخر أمام الزائر الذي يرغب في متعة التجربة، إذ يعتمد التجهيز على تحفيز حالة الترقب، بدء من التجهيز الصوتي الذي أعده أربعة فنانين هم : ألفريد تسيمرلين وفرنسيسكا باومان من سويسراً ، و نهلة مطر ومروان فوزي من مصر. مرورا بالصور الفوتوغرافية التي التقطتها الفنانة الشابة: دعاء قاسم، و الإعداد البصري للفنان طارق مأمون. بدعم بروهلفتسيا، المؤسسة الثقافية السويسرية بالقاهرة.
بمجرد أن يصل الزائر إلى قاعة العرض الرئيسية، يخطو بقدميه إلى قاهرة أخرى، أختار الفنانون أن يقدموها بأسلوب لا يحاكي الواقع أو يعيد إنتاجه، بل بأسلوب يعيش فيه الزائر وسط أصداء المدينة، سامعا أصواتا يعرفها وصورا رآها من قبل، لكن بإعداد غير تقليدي، اعتمادا على فن التجهيز Installation الذي يجيده فنانون العرض. "ستختلف الرحلة من زائر إلى آخر، والتجهيز الصوتي الموجود في المعرض لن يقوم بأي دور إرشادي، إنها مهمة الزائر حسب حركته في المكان". هكذا عبرت الدكتور نهلة مطر الأستاذ المساعد بقسم النظريات والتأليف في كلية التربية الموسيقية بجامعة حلوان والمشاركة في التجهيز الصوتي للعرض. وينتمي فن التجهيز إلى فنون ما بعد الحداثة التي لمعت منذ الستينات تعبيرا عن عصر جديد يتمرد على حقبة "العصر الحديث" بكل فنونها وآدابها، حيث يتحول عرض من نوعية "المدينة الشبح" إلى تجهيز صوتي وبصري في فضاء يعتمد على حركة المشاهد، ولا يعبر عن الواقع بقدر ما يهتم بالمجاز، حيث يعيش الزائر مع أصوات مألوفة تم معالجتها الكترونيا حتى يصل إلى المعنى الذي يختاره. وكأنها لعبة يلعبها الزائر مع أصوات ومشاهد وصور.
عند المرور من باب القاعة الرئيسية يتضح ما كانت تصفه الدكتورة نهلة، إذ يقابل الزائر ممرا تحلق فيه أصواتا مختلفة في توقيتات متتالية، فمن يمر في العشر دقائق الأولى من افتتاح العرض سيستمع إلى تجهيز صوتي مختلف عن الذي سيسمعه زائر آخر جاء متأخرا، وقد يختلف أو يتطابق مع ما سيسمعه كلاهما في أثناء مغادرتهما المعرض. بل وتأتي الأصوات من مواقع مختلفة في هذا الممر من سماعات وضعت في مواضع متفرقة، يتجاور صوت الأذان و أجراس الكنيسة وأصوات عمال البناء، وكأنها مرحلة تحضيرية لما سيقابله الزائر في المراحل التالية من العرض. تلك الأصوات هي في الأساس جزء بسيط من حصيلة أصوات جمعها الفنانون أثناء عملهم في مشروع توثيق ذاكرة القاهرة الصوتية، وحين قامت ثورة 25 يناير تم تسجيل أصوات أخرى من ميدان التحرير.
هل يمكن لزائر لا يتذوق فنون ما بعد الحداثة أن يتفهم المعرض؟ لا يخفي المؤلف الموسيقي مروان فوزي المشارك في التجهيز الصوتي غربة هذا النوع من الفن عن الحالة الفنية اليوم، ورغم ذلك يقول: "المسألة أصبحت أكثر قربا بعد انتشار الانترنت، ودخول بعض المهتمين إلى فيديوهات وتسجيلات صوتية ونماذج من هذا الفن، هذا ما ألاحظه على طلبتي في كلية الفنون الجميلة على سبيل المثال.. لكن لا يمكن مقارنة الإقبال عليه بأي شكل من الأشكال بحفاوة الغرب بفن التجهيز.". حسب تعبير مروان فإن معدل إقامة معرض كهذا في مصر مثل إقامة عرض أوبرا فاجنر في الأوبرا المصرية – وهو أمر نادر- على عكس شيوع ذلك بمجرد عبور البحر المتوسط إلى أوروبا. وتشير نهلة مطر إلى أن الظروف السياسية وقيام العرض في شهر رمضان حتى بعد العيد بأيام كلها أمور لم تصب في صالحه.
بعد أن يتجاوز المار المرحلة الأولى في الممر ينتقل إلى صالة يتدلى من سقفها شرائط ورقية طولية متجاورة تحمل صورا لا تكمل بعضها من شوارع القاهرة. وهو ما يعبر عن ما بعد الحداثة حيث تتجاور المكونات المختلفة، في الموسيقى وفي الصورة، بل وفي ملامح الحياة العادية التي يتناول فيها احدهم طعاما يمنيا أو أمريكيا في حي مصري تقليدي (!). وما أن يترك الزائر تلك القاعة (المتاهة) إلى الممر الجديد حتى يشعر بتكثيف ما قابله في المرحلتين السابقتين، واستخدم الفنانون وصف "النفق" لهذا الممر الطويل المنحني، وفي تلك المرحلة تظهر مفارقة بين ما كان يطمح إليه الفنانين السويسريين من تصور يستدعي روح مصر القديمة، وتصميم المعرض وكأنه مقبرة، تؤدي إلى غرفة نهائية أقرب إلى قدس الأقداس، في مقابل انشغالا نلمسه لدى الفنانين المصريين ببث الحياة في العرض، مثل وجود صور تعبر عن الشارع المصري، أو أصوات بائعي المياه في ميدان التحرير، أو هتاف "الشعب يريد" وأصوات أوراق الأشجار وأصوات المياه عند مقياس النيل التي تم تسجيلها قبل شهور مضت. لكن يتقبل الزائر هذه المفارقة حين يدرك محاولات الفنانين للفت نظره وسمعه إلى هذه المدينة الشبح الفرعونية القبطية الإسلامية و.. الثورية. يكشف كلا من الفنان مروان فوزي والفنانة نهلة مطر عن جانب آخر لا يراه الزائر، ولن يراه حتى لا يكسر تلك الحالة التي يعيشها الزائر بالداخل، وهو عن الأجهزة المستخدمة في عملهم وخفايا صناعة هذا التجهيز. إذ تستقر السماعات في مواضع معينة، ويستقر جهاز كمبيوتر (لابتوب) يستخدمه مروان في بث الأصوات التي تمت معالجتها موسيقيا وصوتيا. "ليس الهدف صناعة مقطوعة موسيقية لكنه عرض متكامل" حسب عبارة نهلة مطر. ولا تكتمل الجولة إلى بالوصول في آخر النفق إلى غرفة هي "قدس الأقداس" حسب التعبير المصري القديم أو أخطر غرف المعابد المصرية. يجلس الزوار أمام شاشة وسماعات للإنصات إلى التجهيز الصوتي الذي أعده كل فنان من المشاركين بشكل أفضل. وفي النهاية حسب تعبير طارق مأمون الذي عمل على صنع التصميم أو الفضاء البصري لهذه الأصوات المعالجة تقنيا فإن "الهدف نقل انطباعات فنانين مصريين وسويسريين عن القاهرة في عمل واحد". لكن رغم ذلك تبقى وجهة نظر أخرى لزائر شارك في العرض بحركته واندماجه مع ما حوله من تجهيز.

Friday, September 23, 2011

خالد فهمى: نحن من يصنع التاريخ ولن نعود رجالاً للباشا


فى حفل توقيع الطبعة الثانية من (كل رجال الباشا)..ـ
كتب - عبدالرحمن مصطفى
«من حق الشعب والمؤرخ أن يكتب التاريخ من أسفل، عبر التأريخ لفئات فى قاع المجتمع.. وهذا هو مضمون الكتاب الذى بين أيدينا الآن» ــ بهذه العبارة وصف الكاتب جميل مطر عضو مجلس التحرير بجريدة «الشروق» كتاب «كل رجال الباشا» للدكتور خالد فهمى رئيس قسم التاريخ بالجامعة الأمريكية فى أول حفل توقيع للطبعة الثانية من الكتاب الذى أقيم فى مكتبة الشروق بالزمالك يوم الاثنين الماضى، وقد صدرت الطبعة الثانية هذا العام عن دار الشروق فى حوالى 450 صفحة تناول فيها الكاتب تاريخ مؤسسة الجيش فى عهد محمد على وكيف أثرت على المجتمع المصرى فى ذلك الوقت، هادما بين طيات كتابه بعض الصور التقليدية عن عصر محمد على.
وفى تقديمه للكتاب فى بداية الحفل استعار الكاتب الصحفى جميل مطر بعض المقتطفات التى استوقفته فى مثل وصف الرحالة لمحمد على عن «بريق عينيه اللامعة» وملامحه المهيبة، معلقا على ذلك بقوله: «مثل تلك الصفات كنت أسمعها وأقرأها عن جمال عبدالناصر، وصدام حسين، وكأنها نصوص مكررة تستخدم فى صناعة الزعماء».
فى الطبعة الثانية من الكتاب أضاف خالد فهمى مقدمة جديدة كتبها فى 2010 بنيويورك حين كان يعمل كأستاذ بجامعة نيويورك قبل انتقاله للعمل بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وحسب عبارته يقول: «كتبت تلك المقدمة قبل سقوط مبارك، وكان داخلى قناعة أعلنها الآن بصراحة أننى كنت أعد هذه الدراسة وعيناى على الواقع المصرى، إذ إننى أؤمن بأننا نحن أفراد الشعب المصرى من يصنع التاريخ، وليس محمد على أو مبارك أو غيره، وحتى ما حدث مؤخرا من موقف المؤسسة العسكرية من تأييد الثورة فإن ذلك ليس منحة من أحد، لأن هذا الجيش ما زال جيش المصريين والبسطاء وليس جيش الباشا».
فى داخل كتاب «كل رجال الباشا» يرصد الكاتب علاقة محمد على بالدولة العثمانية وذكر فى تعليقه على سؤال من القاعة حول ما راج عن «سر دهاء محمد على ومكره السياسى»، قائلا: «محمد على كان يدرك منذ البداية أنه جزء من الدولة العثمانية ولديه بُعد عثمانى واضح، فلنا أن نتخيل أن هذا الرجل قد بنى مقبرته فى مصر عام 1809 بعد أعوام قليلة على صدور فرمان توليه مصر عام 1805، وذلك قبل مذبحة القلعة عام 1811 التى قضى فيها على أعتى خصومه المماليك، وهو ما يكشف عن إصرار هذا الرجل وإرادته الصلبة، وأنه كان يدرك مشروعه مبكرا فى أن تتحول مصر إلى ولاية يحكمها هو وعائلته».
يأتى حفل التوقيع بعد أسبوع من زيارة الرئيس التركى رجب طيب أردوغان بما أثارته من جدل بعدها، وهو ما دفع الكاتب جميل مطر فى تقديمه للحفل أن يعلق على ذلك قائلا: «كشفت زيارة أردوغان الأخيرة عن أننا ما زلنا مرتبطين بالموروث العثمانى على مستوى الشعب والنخبة حتى الآن».
لم يخل مشروع خالد فهمى الذى يستعد الآن لإنهاء كتاب عن محمد على وسيرته من عراقيل بدأت حسب وصفه من غياب وثائق ديوان الفابريقات «المصانع» لتلك الفترة، ثم حين اتجه إلى المتحف الحربى التابع لوزارة الدفاع واضطراره إلى المرور على جهات أمنية كى يوضح موقفه وغرضه من دراسة المؤسسة العسكرية، رغم أنه كان يدرس فترة حكم محمد علي. يقول على ذلك معلقا: «أشكر دار الشروق والمهندس إبراهيم المعلم على عدم تخوفهما من نشر دراسة تاريخية عن الجنود المصريين، وهو ما كان يثير ريبة البعض طوال مشوار جمعى للمادة الوثائقية».
وفى عرضه لقصة كتاب «كل رجال الباشا» الذى كان فى الأصل دراسة للدكتوراه حصل عليها من جامعة أكسفورد عام 1993. لم يخف خالد فهمى حساسية الموضوع لكونه متصلا بدراسة نشأة المؤسسة العسكرية، وشرح كيفية تطور مشروعه البحثى حتى استقر على تلك الفكرة، وذكر موضحا: «الحقيقة أن هذا الموضوع لم يكن هدفى الأول، لكن فى أكسفورد هناك مرونة تختلف تماما عن الجامعات المصرية وكان هدفى هو الإجابة عن سؤال لماذا يتقدم الغرب ونحن نتأخر؟ وهل كان هناك مشروع نهضة حقيقى لمحمد على أجهضته مؤامرة غربية؟ وكان أمامى بدائل متعددة لدراسة مؤسسات الدولة، وقادنى البحث إلى أرشيفات الحروب المصرية فى السودان والحجاز والمورة والشام، والعقوبات التى كانت توقع على الجنود المصريين، وقررت بعد مناقشات دامت سنة مع مشرف الرسالة أن يكون مشروع الدراسة عن الجندى المصرى وأن أدع للجندى المصرى فرصة لأن يذكر روايته للأحداث وألا أقع أسيرا لرواية محمد على عن نفسه من خلال وثائق الدولة».
وجمع حفل التوقيع بعض من شاركوا خالد فهمى فى مشواره البحثى والمتعاونين معه حاليا فى لجنة توثيق الثورة التابعة لدار الوثائق القومية التى يرأسها، ودفع إعلانه عن تأثره بالواقع المصرى الحالى طوال فترة إعداده الكتاب إلى أسئلة من القاعة حول استعداد المصريين للثورة على حاكمهم، وهو ما دفعه إلى دعوة الباحثين إلى إعادة قراءة «هبّات» المصريين ضد الحاكم ذاكرا بعض الأمثلة التى أورد بعضها فى كتابه قائلا: «يجب قراءة حالات مقاومة المصريين فى الصعيد ضد محمد على ونظام التجنيد، وكيف تعرضوا للضرب بالمدافع فى المنوفية نتيجة مقاومتهم وهى مواقف احتجاجية قتل فيها الآلاف». كانت فكرة العقوبات البدنية أحد المقتطفات التى توقف عندها الكاتب جميل مطر فى بداية حفل التوقيع رابطا فكرة علانية العقوبة المطروحة فى الكتاب كأداة للضبط، وبين ما كان يحدث فى عهد مبارك من تسريب فيديوهات للعقوبات البدنية لإشاعة الذعر لدى المواطنين. مستعينا بفقرات تؤكد أن العقوبة البدنية «لم يكن هدفها فقط السيطرة على جسد الفرد فى ذلك الوقت، بل أيضا السيطرة على العقل».
وفى أثناء حفل التوقيع لم يخف خالد فهمى خطته فى التأريخ لمؤسسة الجيش حسب رواية الجندى المصرى دون أن ينكر حضور محمد على فى خلفية الأحداث، إذ يبدأ الكتاب بنقد صورة محمد على التقليدية وكيف تم رسمها فى الكتابات التاريخية ثم رحلة الجندى داخل المؤسسة العسكرية النامية بدءا من مولد الجيش وضم الفلاحين المصريين إليه، ثم كيف تتم السيطرة على الجندى الذى كان يخوض هذه التجربة لأول مرة فى حياته، وبعض تفاصيل حياته العسكرية، خاتما بحالة المقاومة والانسحاب، ثم يختم كتابه بالعودة إلى محمد على مرة أخرى فى ختام الكتاب.
وفى سؤال من «الشروق» حول هل كانت نشأة المؤسسة العسكرية فى تلك الفترة وسطوتها على بقية المؤسسات عنصرا مؤثرا على مسار التاريخ المصرى الحديث؟ خاصة أن هذا الرأى ما زال يروجه البعض الآن عن ضرورة إبقاء المؤسسة العسكرية فى مكانة سيادية فوق بقية المؤسسات. وأجاب خالد فهمى قائلا: «دول العالم الثالث هى التى تروج لفكرة سيادة المؤسسة العسكرية على بقية المؤسسات، ولا أنكر أن حالة الزهو بالمؤسسة العسكرية لمسته فى الولايات المتحدة نفسها، لكن على أرض الواقع فقد كانت هناك العديد من المؤسسات مثل الصحافة والقضاء والتعليم تعمل بقوة طوال التاريخ الحديث رغم تدهور بعضها مؤخرا، الأمر الأهم أن هو أن تجربة الجيش فى عهد محمد على مختلفة تماما عن الجيش اليوم، إذ كانت التركيبة العرقية مختلفة عن تطور الجيش فيما بعد، فقد كان جيش عرابى مختلفا عن الجيش فى ظل الاحتلال البريطانى، وعن جيش ثورة يوليو الذى استمرت ملامحه حتى اليوم». وأنهى خالد فهمى حفل التوقيع مختتما بقوله: «إن هناك تعاقدا بين الشعب و المؤسسات التى لها حق حمل السلاح، ومن حق أفراد الشعب أن يمارسوا نوعا من الرقابة على تلك المؤسسات وأن يتأكدوا من قوتها وحجم إمكانياتها، وهذا ما يزعزع فكرة أن المؤسسة العسكرية هى المؤسسة الوحيدة المستقرة وعليها أن تتسيد على بقية المؤسسات.. لأن هذا الجيش فى النهاية هو جيش الشعب، وليس جيش القادة».
PDF

Sunday, August 28, 2011

عقل قديم فى شكل جديد ... أسطورة الشرطى التى لم تتحطم


الجميع ينتظر التغيير
من يطلق النار على ماضي الداخلية؟


كتب - عبدالرحمن مصطفى
«إن الصورة المزعجة التى ارتسمت فى وعى المواطنين عن رجل الشرطة جعلت هناك ميلا تلقائيا إلى وصف من يرتكب سلوكا عنيفا وغير لائق بأنه مثل ضابط الشرطة، بل إن رجل الشرطة نفسه إذا ارتكب سلوكا مذموما أو مخالفا للقانون لا يرجعه الآخرون إلى أخلاقياته أو إلى البيئة التى تربى فيها، بل إلى كونه فردا من أفراد الشرطة». هذه الصورة التى سجلتها الدكتورة بسمة عبدالعزيز فى كتابها (إغراء السلطة المطلقة، دار صفصافة، 2010)، قبل قيام ثورة 25 يناير، ما زالت مستمرة حتى الآن، إذ ما زال الإعلام التقليدى والانترنت معا يعرضان كمًا كبيرا من الغضب تجاه الشرطة سواء باتهامها بالتقاعس عن أداء مهامها أو بسبب استمرار تعسف بعض أفرادها حتى اليوم. من بين مئات الصفحات على الانترنت التى تتناول أداء الشرطة وتطور صورتها كتب مؤسسو صفحة وزارة الداخلية المصرية هذا العنوان: «يا ريت نفترض حسن النية فى الحديث بيننا».
لكن هذه العبارة المؤثرة لم تجد صدى لدى بعض المعلقين فتباينت التعليقات بين متعاطفة مع العنوان وأخرى من نوعية «طهر الجهاز أولا عشان نحس إنكم بالفعل تحبون هذا البلد ولا تحبون البدلة التى تستغل فى الإرهاب». ومنذ أن أنشئت الصفحة التى أسسها مجموعة من الضباط قبل تنحى الرئيس السابق مبارك بأيام ما زالت صورة الشرطى قبل 25 يناير مسيطرة على المشهد. يرى العميد السابق ــ محمود قطرى ــ بحكم خلفيته الشرطية أن الحل قادم من داخل جهاز الشرطة نفسه، إذ يقول: «الضابط لا يستطيع التخلص من ولائه للوزارة ولزملائه، أما الأهم فهو ولاء الشرطى للتعليمات، وهذا ما يجب الاعتماد عليه فى التعامل مع العاملين بالجهاز، كى يتغير أداء الشرطى بناء على هذه التعليمات الجديدة».
ما يذكره محمود قطرى يختلف عن وجهة نظر أخرى يقدمها الدكتور أحمد عبدالله ــ مدرس الطب النفسى بكلية طب جامعة الزقازيق- الذى يقول: «إذا لم تقبل وزارة الداخلية التعامل مع متخصصين من خارجها ستظل العقلية نفسها هى المسيطرة على جهاز الشرطة وأفراده». يذكر أحمد عبدالله هذا الرأى فى تعليقه على مصير مبادرة الصحة النفسية للشرطة والشعب التى تصدى لها مجموعة من الأطباء النفسيين أطلقوا على أنفسهم «نفسانيون من أجل الثورة»، ودعت المبادرة إلى عدد من التوصيات على رأسها: معالجة عقيدة وعقلية الاستعلاء الشرطى. ويضيف أحمد عبدالله: «ما حدث فى الفترة الماضية أنه كان هناك اختلال فى التعاقد القائم بين الشرطة والشعب أدى إلى تعسف من الجهاز الأمنى، أما ما يجب أن يحدث الآن هو أن تقبل الوزارة مشاركة المبادرات المدنية أو حتى جهة مثل المجلس القومى لحقوق الإنسان من أجل إعادة تشكيل ذلك التعاقد بين الشرطة والشعب، وألا يعتمد الأمر على الارتجال والضغط المتبادل بين الشعب والشرطة».. وتأتى فكرة التعاقد بين مؤسسة ترعى الأمن وأفراد الدولة كإحدى العلامات المهمة فى تطور الدولة الحديثة منذ نشأتها، إذ كانت الحالة المصرية قديما تعتمد على مجموعات بعينها فى المجتمع هى من تحتكر حمل السلاح على رأسها المماليك، وكانت حيازة السلاح آنذاك فى البيوت الكبيرة تصنع نوعا من التوازن فيما بينهم، بينما لا يشارك الشعب فى الرقابة على من يحمل السلاح. يرى الدكتور خالد فهمى ــ أستاذ ورئيس قسم التاريخ بالجامعة الأمريكية فى القاهرة ــ أن جهاز الشرطة فى النصف الأول من القرن الماضى كان فعالا فى مقاومة الجريمة، وكانت نبرة الفخر المؤسسى واضحة فى تلك الحقبة، ويعلق: «ما حدث فى ثورة 25 يناير هو محاولة لضبط المعايير للفئة التى تحتكر استخدام السلاح داخل الدولة وهى جهاز الشرطة». ويؤكد خالد فهمى فى كتاباته على أن عهد الرئيس السابق مبارك كان نقطة مهمة فى تغير أداء الشرطة وهو ما انعكس بالتالى على صورتها، إذ كان إعلان حالة الطوارئ فى العام 1981 سببا فى تغير أداء عمل الشرطة فى القبض والاحتجاز والتحقيق، وفى تجاوزات تمت تحت ادعاء مكافحة الإرهاب وامتدت إلى مظاهر أخرى مثل الاستعانة بمجرمين فى التحرى الجنائى.
فى مساحة أخرى داخل أكاديمية الشرطة تتشكل صورة الضابط مبكرا تحت ظروف وإجراءات خاصة، ذكر العميد السابق محمود قطرى بعضها فى كتابه الشهير «اعترافات ضابط شرطة فى مدينة الذئاب»، إذ يذكر أن بعض المواقف التى كانت تحدث داخل كلية الشرطة هدفها حسب عبارته: «تحويل الضباط إلى عبيد يهدفون إلى إرضاء سادتهم». ورغم ما دونه فى كتابه الصادر فى العام 2004 إلا أنه يجد اليوم أن بذرة الأمل فى جهاز الشرطة تتمثل فى أفراده وفى خلفياتهم الاجتماعية، ويقول: «ما أؤكده أن عملية اختيار أفراد جهاز الشرطة تتم على مستوى عال من الدقة، وهو ما يعد ميزة يجب استغلالها، إذ إن طلبة أكاديمية الشرطة ينتمون إلى أسر ذات مستوى طيب.. لكن المشكلة الآن فى التخلص من القيادات الفاسدة ذات العقليات القديمة». كانت إحدى أهم التوصيات التى تبنتها مبادرة الصحة النفسية للشرطة والشعب «تكوين لجنة متعددة التخصصات من خبراء الأمن وعلماء النفس وعلماء الاجتماع وقانونيين وناشطين فى حقوق الإنسان وذلك لمراجعة المناهج وطرق التدريس والتدريب بكلية الشرطة وتقديم مقترحاتها لإدارة الكلية»، لكن مسئولين بوزارة الداخلية اكتفوا بوعود فقط أن تكون الدراسة فى المرحلة القادمة أكثر تطورا، وهو ما يجعل الوضع باقيا على ما هو عليه حتى حين.





داخل إحدى أكاديميات التأهيل للكليات العسكرية كان محمد إبراهيم المتخرج حديثا من المرحلة الثانوية يبحث عن فرصة لدخول كلية الشرطة، ويعلق على ذلك قائلا: «أنا هعتمد على شخصيتى بعد ما أبقى ضابط، رغم المشكلات اللى بيواجهها ضباط الشرطة حاليا فى تعاملهم مع الناس».
ترك محمد إبراهيم بلدته فى محافظة المنيا وجاء خصيصا كى يقيم مع عمه فى القاهرة بحثا عن وسيلة للالتحاق بأكاديمية الشرطة بعد أيام من فتح باب التسجيل على موقع الأكاديمية على الانترنت، وبدا متفائلا على عكس آخرين أظهروا قلقهم على مواقع الإنترنت، إذ كتب أحدهم على صفحة ائتلاف ضباط الشرطة الحر قائلا: «أنا دلوقتى فى ثالثة جامعة كلية الآداب وعاوز أقدم فى كلية الشرطة السنة دى.. هل ينفع أم لا..؟ لأننى حابب ادخل كلية الشرطة وأكون واحدا من أبنائها». تلقى صاحب هذه العبارة تعليقات استهجان إحداها: «ليه يابنى تعمل فى نفسك كدة، دى الناس بتدعى عليهم ربنا ينتقم منهم». مثل هذه التعليقات لا يهتم بها محمد إبراهيم. فحسبما يقول عمه المرافق له فى فترة التدريب فإن: «الصعيد له حسابات أخرى، إذ إن مهنة الشرطة ما زالت مثار فخر وما زال لصاحبها حضور قوى، رغم حالة الاستهانة التى قد يواجهون بها الآن». حسبما يؤكد مسئول التدريب فى أكاديمية التأهيل فإن إقبال الشباب لم يقل هذا العام عن الأعوام السابقة، لكن شابا آخر «بلديات محمد إبراهيم» من محافظة المنيا، يعرض وجهة نظر أخرى، قائلا: «أنا اخترت دخول الحربية لأن الأيام أثبتت أن المستقبل للجيش».
هذا الشاب نفسه لم يخف قلقه من الروايات التى يسمعها فى بلدته عن شباب المجندين الذين التحقوا بالخدمة العسكرية ونقلوا له خبرات صعبة أثناء فترة تجنيدهم. ويعلق قائلا: «أخشى من التعرض لضغوط أو تعسف إذا تم قبولى فى الكلية الحربية».وحسب تصريحات اللواء أحمد البدرى ــ مدير أكاديمية الشرطة ــ فإن أكثر من 30 ألف طالب تقدموا هذا العام للالتحاق بالأكاديمية، وهو ما يمثل ضعفى عدد المتقدمين العام الماضى، إذ تقدم وقتها أكثر من 16ألف طالب. ولم يقتصر الأمر على خريجى الثانوية العامة بل ظهرت شريحة من خريجى كليات الحقوق أعربوا عن رغبتهم فى استعادة حلمهم القديم للالتحاق بأكاديمية الشرطة. وذلك بعد أن وعدت الحكومة المصرية قبل شهور بدراسة قبول خريجى كليات الحقوق داخل سلك الشرطة، وتكرار التوصيات بتفعيل هذه المبادرة.
مصطفى زكى خريج دفعة 2007 من كلية الحقوق بجامعة الإسكندرية كان أحد هؤلاء المطالبين، إذ تقدمت مجموعة من أصدقائه بفكرتهم إلى الدكتور عصام شرف، ويعلق على ذلك قائلا: «لم أنجح فى الالتحاق بكلية الشرطة أو سلك النيابة.. وأعمل الآن فى إحدى الشركات السياحية بمدينة شرم الشيخ». ترك مصطفى زكى رقم هاتفه فى إحدى المجموعات الإلكترونية على شبكة فيس بوك على أمل أن يتلقى مكالمة تبشره بميعاد تقديم أوراقه إلى أكاديمية الشرطة، وهو ما جعله يظن فى بداية المكالمة الهاتفية معه أنها البشرى التى ينتظرها، ويقول معلقا: «إذ ما فتح الباب أمام خريجى الحقوق سيتقدم الآلاف، لأن خريج الحقوق يتعرض لكثير من المشاق حتى يجد عملا مستقرا، لكن قطاع الشرطة يوفر العديد من المزايا على رأسها العمل المستقر».
وجهة نظر مصطفى زكى خريج الحقوق تتفق مع محمد إبراهيم الشاب فى مركز التأهيل للكليات العسكرية، إذ يرى كلاهما أن الشرطة عائدة لا محالة، لكن إبراهيم تحركه أبعاد أخرى عائلية، إذ إن له أقرباء من القيادات الشرطية الحالية استمروا فى خدمتهم بعد الثورة، أما عن جذوره الصعيدية فيقول: «تأكد أن القواعد فى الصعيد مختلفة، إذ لم تحدث مواجهات مع الشرطة بنفس القوى التى جرت فى مدن مثل الإسكندرية والقاهرة والسويس.. وما زالت العلاقات العائلية تدير الموقف مع الشرطة، وهو ما لا يشعرنى بالقلق».




يستعيد العميد كمال سعيد (تم تغيير الاسم بناء على رغبة المصدر) العديد من المواقف التى واجهها أثناء عمله بجهاز الشرطة، ولا ينكر أن ما كان يعيشه من مواقف مع المجندين وأفراد الشرطة أصبح يقرؤها الآن بشكل آخر. خاصة أنه بالمعاش منذ سنوات ولديه القدرة على أن يراقب الموقف من بعيد، ويعلق: «عقلية الشرطة لا تختلف كثيرا عن أى عقلية عسكرية تقدس الأوامر واحترام المسافات فى التعامل، لكن المشكلة الحقيقية تكمن فى اختلاف ثقافة العاملين بالداخلية من العسكرى إلى الضابط».
من بين الفيديوهات الشهيرة على الانترنت فيديو عسكرى الأمن المركزى الذى يسأله بعض الضباط «حرب أكتوبر 1973 كانت سنة كام؟»، فيجيب عليهم بهلع: «والله ما أعرف يا باشا» هذا الفيديو شاهده العميد كمال سعيد ضمن أكثر من 100 ألف مشاهد اطلعوا على هذا الكليب، حسب موقع يوتيوب لتحميل لقطات الفيديو، ولم يشغل باله وقتها على عكس كثيرين من الشباب والمعلقين والحقوقيين الذين رأوا فيه امتهانا لمجند الشرطة، ويقول: «هذا الكليب مفتعل.. لكن الواقع أصعب من هذا وأحيانا ما كنت أضطر إلى اتخاذ سلوكيات ليست من طبعى ضد أفراد يعملون تحت يدى».
يضرب مثلا بقصة أراد بها توضيح الحالة الذهنية لبعض أفراد الداخلية ذوى الثقافة البسيطة، إذ طلب من أحد أفراد الأمن التابعين له بعض الطعام الخاص حين أصيب باضطراب معوى، كانت الطلبات ببساطة هى نصف كيلو بقسماط، وجبن رومى، وزيتون أخضر، وبعد أن غاب فرد الأمن مدة طويلة كى يصل إلى محل بقالة قريب عاد بخبز «فينو» وجبن مطبوخ ومخلل، وهو ما لا يناسب مريضا فى حالته.. اليوم يروى هذه القصة وهو يضحك، لكن رد فعله وقتها كان مليئا بالعصبية دون التماس عذر الخلفية الريفية التى أدت إلى عدم فهم الفروق بين المعروض أمامه. ويعلق على ذلك قائلا: «كان يعمل معنا فعلا شباب لا يدركون الكثير من مظاهر المدنية حولهم»، لكن فى بعض الحالات كانت مثل تلك المواقف متعمدة من أفراد الأمن كنوع من المقاومة السلبية لأوامر الباشا... ويروى إحدى تلك القصص عن موقف حدث مع ضابط زميل له، حين قرر السائق أن يبتعد عن مهمته اليومية فى شراء الخضراوات لزوجة الضابط، وفعل ذلك بأن تعمد شراء أسوأ ما هو موجود فى السوق من منتجات حتى اكتشفت ذلك زوجة الضابط من البائع نفسه الذى كان يفاجأ يوميا بالسائق يمر عليه لشراء ما لا يصلح للطهى. يعلم كل الضباط أن مثل هذه المهام ليست من واجبات أفراد الشرطة أو العاملين فى الداخلية، وبحسب تعليقه: «من المؤكد أنها ليست من مهام عمله... لكن مافيهاش حاجة إذا عمل ده»... محاولات المقاومة السلبية التى يمارسها أفراد الأمن قد تأتى بتأثير عكسى من جانب الضباط الذين يعتبر كثير منهم ذلك نوعا من العصيان.
يضرب العميد كمال سعيد مثلا آخر كان يحدث فى إدارته قائلا: «كان رئيسى المباشر لديه كاميرات ترصد الممرات المؤدية إلى مكتبه، وكان يفاجأ بأننى الضابط الوحيد الذى يقف له العساكر ويؤدون له التحية دونا عن بقية زملائى».
حسبما يصف فإن السر ببساطة هو أنه كان يلكز سيقان العساكر بشكل موجع كلما مر وهو ما لم تظهره زاوية التصوير فى الكاميرات، وهو ما لم يدركه مديره إلا متأخرا، أما عن تبريره ذلك فيقول: «لم أهدف سوى تأكيد المسافات بينى وبينهم، فمثلما أحترم الرتبة الأكبر منى، على العساكر أيضا أن يقدموا لى الاحترام نفسه». أما هؤلاء العساكر المذعورون وأفراد الشرطة فأحيانا ما يقعون فى مواقف تعسة وقت تنفيذ الأوامر خشية غضب رؤسائهم، يعلق العميد السابق قائلا: «فى مرة اقتحم أحدهم مكتبى وأخبرنى أن مدير إدارتنا يريدنى فى مكتبه، ثم كررها بإلحاح فى مرة ثانية، وفى الثالثة ضرب بقبضته على مكتبى وقال: لو سمحت تيجى معايا دلوقت، الباشا قاللى مجيش من غيرك.. وبالطبع شعرت بإهانة، فأنا لست مقبوضا علىّ». فما كان من العميد السابق إلا وأن أصاب فرد الأمن بعدة لكمات متتالية حتى أسقطه على الأرض، ودخل فى جدل مع مدير الإدارة الذى جرأ فرد الأمن على ضابط، ودفعه إلى الحديث بهذه الطريقة. وحسب عبارته: «الضباط بيشيلوا بعض.. وطبعا المدير جاء فى صفى لأن اللى عملوه غلط». ويأتى هذا التكريس لحس الطاعة لدى أفراد الأمن أحيانا بنتائج مبالغ فيها مثل موقف حدث مع العميد كمال فى التسعينيات حين قرر سائقه أن يسير على قضبان المترو القديم ويدخل بالسيارة فى أحد الأنفاق لمجرد إرضائه والابتعاد به عن الزحام فى ذلك اليوم. يرى العميد السابق أن الحل لن يكون سوى فى دخول أفراد شرطة على درجة من الوعى والثقافة لضبط تلك العلاقة بين الضابط وبين من هم أدنى فى الدرجة، لأن تلك الفجوة الثقافية بين أفراد ذوى ثقافة ضعيفة وضباط الشرطة تصنع مشكلات وقد تدفع بالضابط إلى استخدم إجراءات وسلوكيات متعسفة، ويختم قائلا: «كفاية تعامل الضباط مع مشاكل المواطنين ومعتادى الإجرام، مش المفروض يكون عليهم عبء زائد من جوا الداخلية نفسها».