Friday, October 28, 2011

حكايات وراء كل باب في مصر

لن نسكت عن الكلام المباح

داليا شمس
لم يحدث كل ذلك في قديم الزمان و لا في سالف العصر و الأوان، و لكن على مدار ثلاث سنوات مضت بسرعة البرق، و أحيانا بتكاسل شديد و كأن اليوم دهر متثاقل و كئيب.. فالموضوعات تفرض نفسها على الصحفي تبعا للأحداث، و نحن منذ البداية اخترنا أن نحكي ليالي و نهارات البلاد، دون أن نسكت أبدا عن الكلام المباح و غير المباح، و انحزنا في الأغلب الأعم لمن لا صوت لهم... لكن الصامتين في المجتمع أي مجتمع، و إن بدوا كذلك لا يبقون صامتين على الدوام... فكما يقول عالم الاجتماع الجليل الراحل- الدكتور سيد عويس- فإن صوتهم يجلجل و يرتفع إلى الآفاق عند الصلاة، و عند الدعاء، و في حلقات الذكر و في رحاب المساجد و الكنائس و المعابد أو في خارجها. و هو يجلجل و يرتفع إلى الآفاق في ملعب الكرة، و في الملاهي و البارات، و في أثناء الاستماع للغناء، و خلال المباريات في النكت ذات المضمون السياسي أو اجتماعي، و أمام الموت، و عن طريق إرسال الرسائل إلى الأموات، و حتى عن طريق الكتابة أو الرسم في داخل دورات المياه!
حاولنا على مدار الألف عدد السابقين متابعة حياة كل هؤلاء بحلوها و مرها، من خلال موضوعات تضمنت أحيانا عناصر ثقافية غير مادية، اجتهدنا في التعبير عنها حتى جاءت اللحظات الحاسمة في يناير الماضي، إذ تعالت الأصوات و خرج هتاف الصامتين إلى العلن و لم يبق مكتوما في الصدور و الحناجر. الإعلام الشعبي و صحافة المواطن طغيا على كل ما هو رسمي، و كان ذلك متماشيا مع نهج "ألوان الحياة" التي انتمى العديد من صحافييها المتتالين إلى عالم المدونين الشباب، فكان من السهل عليهم ثبر أغوار فضاءات الانترنت الرحبة التي تتسع للملايين. ظهر نجوم و قادة رأي جدد، فسلطنا الضوء عليهم مع التعرض لبعض أنماط تفكيرهم، في سعي حثيث لعكس المناخ الاجتماعي و الثقافي، مع مراعاة الدور المركزي للقاهرة- العاصمة ذات الحضور الطاغي و المخيف- مدينة الألف الوجه التي تشي بأسرار سكانها الذين جاءوا من كل حدب و صوب للنهل من خيراتها أو العيش في الملكوت... تشابكت الحكايات و فيما هو آت نروي بعض ما حدث خلال ألف ليلة و عدد، مستلهمين في ذلك كلام شهرزاد عندما توجهت لأبيها قائلة:
قل لمن يحمل هما إن هما لا يدوم
مثل ما يفنى السرور هكذا تفنى الهموم


و لما كان العدد الألف...
ليالي القاهرة و ربوع مصر.. حكايات من واقع المحروسة



عبدالرحمن مصطفى

حكاية الشوارع التي تتحرك


لو حكت شهرزاد عن مارد يحرك الشوارع ويقلبها رأسا على عقب، لتفهم شهريار حكايتها ضمن حكايات ألف ليلة وليلة، لكن شوارعنا كانت تتحرك في الألف ليلة الماضية منذ أن بدأت "الشروق" إصدارها الأول، دون مارد أو جني خفي، وما زالت الأحداث تحرك المسيرات والاحتجاجات كل حين. أصبح اليوم لدى الجميع حكاية عن شوارع تحركت بعد سكون، كثيرون في منطقة وسط القاهرة حيث قلب الأحداث لم يكن لديهم ذاكرة أو ذكرى عن المكان الذي يقيمون فيه. في صفحة "سقط سهوا من ذاكرة الشارع" المنشورة في صيف 2009 كان السؤال محرجا عن إعلان قديم نادر على جدار عمارة في شارع شريف، لـ "كونياك ريمي".. كيف كانت شوارع المدينة أكثر تسامحا مع إعلان كهذا، ولماذا احتفظت به إلى الآن؟ وقتها لم يتذكر أو يهتم الكثيرون بالأمر، وحين واجه بواب إحدى العمارات المطلة على ميدان التحرير في العام 2010 سؤالا آخر عن "مقهى إيزافيتش" الذي كان مطلا على ميدان التحرير.. لم يجد إجابة، لأنه كان وافدا حديثا على المدينة ولم يكن لديه تفاصيل كثيرة عن منطقة "مثلث كنتاكي" في ميدان التحرير. أما بعد الثورة، فأصبح لدى الجميع حكايات عن اعتصامات الميدان ولجان الأمن الشعبية والصدامات مع قوات الجيش والشرطة... كتب هؤلاء الصامتين في عامي 2009 و 2010 تاريخا جديدا لوسط البلد والتحرير، أما بقية شوارع العاصمة فكانت تتحرك في فوضى صامتة أو كما قال لنا أحدهم في تحقيق"بلطجية ويا ليتنا مثلهم" المنشور في نهاية 2009 فإنه "إذا كان سلوك البلطجة يقضي المصلحة لأن القانون لن يحققها.. فأهلا بالبلطجة".
شوارع المدينة التي تحركت في جمعة الغضب، أعطت مساحة لكل من كان يتحرك على الهامش ليصبح سيدا للطريق، أما قبل ذلك فلم يتسيد الموقف سوى القوة. أو حسب تعبير سيد سائق الميكروباص في تحقيق "يوميات المخالفات والكارتة" المنشور في صيف 2010: "محدش عارف الصح من الغلط.. احنا بنعك". بعدها بعام كانت النبرة مختلفة في أعقاب الثورة، إذ انتفض سائقو الميكروباص في موقف عبود ضد تجاوزات جامعي الكارتة في الموقف، وفي كرداسة احتج السائقون على عودة قسم الشرطة المحترق إلى العمل خشية عودة الظلم مرة أخرى، على حد وصفهم. وكأنها محاولات لتأكيد وجودهم في الشارع، لذا لم تكن صدفة أن يضم العدد الأول من جريدة الشروق تحقيقا عن "التوك توك" أكبر المتهمين بإثارة الفوضى في شوارع القاهرة وقتها، ليبرز قوة المهمشين في إثارة الجدل .
وعلى مدار ألف ليلة و ألف عدد من إصدار "الشروق" كانت القاهرة مستمرة في ابتلاع الفرص وحصد الخسائر، واستمر تهميش الأقاليم وهو ما انعكس في صراع بين ثقافات الأقاليم وسطوة العاصمة حتى داخل القاهرة نفسها، ما استدعى ضرورة تتبع هذا الصراع. ففي صفحة "القاهرة الصعيدية" المنشورة في صيف 2009 كانت عزبة الصعايدة في إمبابة هي النموذج، وهناك لم تكن العشوائية نتيجة فقر أو جهل، بل نتيجة تشتت الهوية، دون خضوع لقواعد ريفية أصيلة في البناء والمعيشة، ولا خضوع لنظام المدينة الصارم، وهو ما كان واضحا في تحقيق آخر بعنوان "ملوك العشوائيات" في عزبة الهجانة، حيث تكونت زعامات للمهاجرين حديثا إلى القاهرة، في وضع مختلف تماما عن بيئتهم الأصلية و أكثر اختلافا عن شكل العلاقات التقليدية في المدن الكبرى، في هذا الملف عن ملامح مدينة القاهرة كانت التفاصيل تجعلها أشبه بعدة مدن متشابكة.
أما خارج العاصمة فلم تختلف الملامح كثيرا، ففي مدينة السويس التقينا العام الماضي مع الكابتن غزالي أحد قادة المقاومة، وختم حديثه قائلا: " أنا هنا في مكاني لن أرحل، وأراهن على أن مصر ستكون أفضل في المستقبل". لم يحتاج الكابتن غزالي للانتظار طويلا، إذ كانت السويس هي الأكثر حماسا في أحداث الثورة، والأسباب لم تكن خفية.. مدينة ذات تاريخ نضالي، أدارها الأهالي مع القوات المسلحة في فترة الحرب، وتعاني من تدهور اقتصادي، وحين قامت ثورة 25 يناير صنع الجيل الحالي أسطورته، وأصبحت أسماء شهداء الثورة مجاورة لأسماء شهداء المقاومة في المدينة. رسم أحد المتظاهرين في الأيام الأولى للثورة نجمة داوود على حافلة شرطة محترقة، من أجل أن يدمج أسطورة الثورة مع أسطورة المقاومة القديمة. فهل يكرر هذا الجيل السويسي ما فعله آباؤهم حين انسحبوا واكتفوا بمراقبة الأحداث ؟
كانت الزيارات بعيدا عن القاهرة تكشف عن تعايش مع الإحساس بالظلم، وكانت أسوان إحدى المدن التي توضح هذه الحالة، وفي صيف العام الماضي سجل الشاب محمد الحلفاوي، عضو المجلس المحلي عن قرية "نجع المحطة" النوبية، تعليقا على ذلك في صفحة "أسوان .. مدينة تتحدى الصيف"، وقال: "هناك أشياء بسيطة نبذلها مثل طلب أعمدة إنارة للقرية، لكن هناك مشاكل أكبر مثل عدم تملك سكان القرية لأراضيهم التي عاشوا عليها منذ تهجيرهم نتيجة إنشاء خزان أسوان وتعليته"، كانت الاحتجاجات تتم ويتم إجهاضها سريعا، لكنها لم تصل المدى الذي وصلت إليه بعد الثورة، في احتجاجات هي الأكبر من نوعها ضد محافظ أسوان، طالب فيها أهل النوبة بحقوقهم التاريخية.
هذه الأزمة بين المركز والأطراف، كانت تعيشها القاهرة في الداخل، حتى مع أحيائها القديمة، وفي رحلتنا العام الماضي إلى مدينة "هرم سيتي" ناحية مدينة السادس من أكتوبر كان هناك "عالمين في مدينة واحدة"، إذ وصل الأمر بأبناء الطبقة الوسطي الطامحين أن طالبوا بإقامة سور عازل بينهم وبين من تم تهجيرهم إلى المدينة من متضرري مناطق الدويقة وإسطبل عنتر وعزبة خير الله، كانت وجهة نظر أحدهم أنه لا يرضى أن يدخل ابنه المدرسة الحكومية الموجودة في المدينة كي يزامل أحد أبناء العشوائيات.
و على الجانب الآخر، كان أبناء العشوائيات في حنين إلى مناطقهم الأصلية، ومحاولة للتعايش مع الواقع، دون أن يتخلوا عن حس الفوضى والعنف في معيشتهم، وكانت هذه الحالة صورة مصغرة لما يحدث في مصر. وحين تحركت الجماهير في الشارع أثناء الثورة، كانت هناك محاولات من المهمشين لكسر حاجز العزل المفروض عليهم، حتى في عمليات النهب التي جرت يومي الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من يناير الماضي كانت إشارة وعلامة على رغبة في ملكية الشارع، حتى الموتوسيكلات الصينية التي تسير في الشارع إلى اليوم دون لوحات مرورية تحاول التأكيد على هذا المعنى، وليس أدل على ذلك من مشهد اخترق فيه التوك توك ميدان التحرير يوم 11 فبراير للاحتفال بتنحي مبارك، وكأنه يوصل رسالة أنه يمكنه أن يكون شريكا في تحريك الشارع والإحساس بالأمان مع الجماهير بعيدا عن السلطات.

حكاية شعب يغلي

في العام 2009 كانت تكفي مطالعة صفحة "كلنا كده عاوزين صورة" حتى يشعر القارئ بضبابية مفهوم الوطنية لدى بعض الشباب، أحدهم قال عن الوطنية: " لا أجد تفسيرا لهذا الأمر سوى أنني ولدت فوجدت نفسي هنا"! وعلى مدار ألف ليلة مضت لم تكن هناك استثناءات كثيرة في الإحساس بالانتماء والأمل في الوطن، أحد من كانت عباراتهم مفعمة بالحماس هو الدكتور خالد فهمي، رئيس قسم التاريخ بالجامعة الأمريكية و العائد من نيويورك، فقد ذكر ذلك قبل 25 يناير الماضي بأسابيع قليلة في تحقيق بعنوان"أمل .. فعودة .. فتعايش": "جيل الشباب الجديد رائع، يسعى للتغيير وقلب ما هو سائد من خلال أفكار جذابة ومبتكرة، بعيدا عن الخطاب الرسمي سواء من خلال الأعمال الأدبية والفنية أو من خلال مجتمع المدونين والفيس بوك أو الصحافة الجديدة المستقلة أو المظاهرات والاعتصام" . هذا ما كان يحدث على مدار الألف ليلة الماضية، وقرأه خالد فهمي بحسه التاريخي.. إذ لم تعد عبارات الوطنية المستهلكة فيصلا في تحقيق أي هدف، كانت هناك معركة حول ملكية الشارع ومحاولات إثبات الحقوق في الدولة، وما زالت المعركة مستمرة إلى الآن رغم التشنيع على المظاهرات والاعتصامات "الفئوية". لكن على أرض الواقع فالأمر أقدم من ذلك.. في العام 2010 وتحديدا في الإسكندرية كانت هناك احتجاجات لعمال الترام، وكانوا وقتها يكررون ما فعلوه من قبل، قمنا برحلة معهم لفهم ما يحدث في عالم الترام السكندري، لكن لم يشعر أحد بهم من المسئولين، وحين دارت أحداث الثورة وقامت الحرب حول ملكية الشارع لفرض مطالب المواطنين انخرط بعضهم في الأحداث، و أثبت التحرك في الشارع أن بإمكانه إسقاط رئيس، ازدادت الاحتجاجات العمالية والمهنية على أمل تحقيق ما لم يتحقق قبل الثورة.
وعلى مدار الأعوام الماضية كانت حالة الغليان تدفع إلى أن يسقط أفراد الشعب غضبهم على بعضهم البعض، وفي صفحة عن "التعذيب الشعبي" نشرت العام ماضي برز كيف كان الشعب يمارس العنف ضد نفسه بعيدا عن الشرطة، على أمل تحقيق العدالة، ولم تكن أحداث الثورة إلا فترة هدنة يواجه فيها الشعب من تسبب في غضبه، وبعد تلك المواجهة أصيب البعض بهزة عنيفة، وكانت الأزمة أعنف مع الشباب ذو الحس المثالي الرومانسي الذي يخشى العودة إلى ما كان، في مقابل آخرين يطالبون بتطرف إلى العودة إلى ما اعتادوا عليه، وبدأ التضارب بين تعبيري "التغيير" و"الاستقرار". أحمد جمال، منسق شباب الاستقرار والمؤيد لفترة مبارك، قال لنا في إبريل الماضي: "إذا أردنا إشاعة مناخ الاستقرار في مصر فليس هناك حل سوى أمرين إما حكم رجال الدين مثل الشيخ محمد حسان أو محمد حسين يعقوب أو الحكم العسكري لأحد رجال القوات المسلحة".
هذه النبرة التي استخدمها أحمد جمال لم تراعي الاهتمام العالمي بثورة 25 يناير أو ترقب ما ستسفر عنه من تغيير. في حين أن صورتنا كانت أسوأ بكثير في الفترة الماضية، وهذا ما عبر عنه "ألبان" الشاب الفرنسي المقيم في القاهرة من خلال تحقيق حول مغامرة "عبور الشارع في مصر" ، ليكشف لنا زاوية لا نراها بحكم الاعتياد، وهي أننا نعيش في سيرك يومي، وأننا لسنا أحرارا في الشارع.
على مدار ألف ليلة و عدد من "الشروق" كنا كمصريين نتعايش مع الوضع القائم، فهل سنعود و نستسلم من جديد أم سيستمر التغيير؟ حتى اليوم ما زالت الجدران تحمل عبارات ثورية بشكل صريح لم نره إلا بعد 25 يناير... وفي العام الماضي كنا نبحث عن "هتاف الصامتين" بين العبارات والملصقات المكتوبة في شوارعنا وعلى خلفيات السيارات، كان الجديد آنذاك هو نبرة العنف واليأس التي زادت حسبما ذكر صناع تلك الملصقات، فليس أدل على الكفر بالإنسان وقيمه العليا من عبارات مثل: "محدش فاهم حاجة"، أو "مفيش حد صالح.. كله بتاع مصالح". وهي عبارات كتبت على خلفيات السيارات النقل والميكروباص والتوك توك. فكانت المفاجأة هذا العام في عبارات أخرى مثل "سلمية .. سلمية"، "مسلم.. مسيحي .. إيد واحدة". لكن هذه العبارات لم تصل بعد إلى سائقي الميكروباص أو إلى جدران الحواري، بل ضاقت الصدور مؤخرا بالكتابة الثورية على الجدران، ووصل الأمر أحيانا إلى حد الاعتقال...

حكاية النجوم الجدد



تسعي شهرزاد في حكاياتها وراء أفراد على الهامش، كان لديهم القدرة على الفعل، وفي الألف ليلة الأخيرة من حياتنا، كان هناك من يعملون على الهامش ولا ينتظرون سوى رضاهم عن أنفسهم واثقين أنهم سينتقلون إلى واجهة المشهد قريبا.. في العام 2009 أثير الجدل حول الألتراس وكانت تلك كلمات أحدهم وقتها: "اتهمونا بصفات وصلت إلى حد الكفر ونسوا أن الشغب موجود في الملاعب المصرية منذ الستينيات عندما كان الجمهور يقذف بعضه واللاعبين بالحجارة، كما توالت أحداث أخرى على مر السنين، فلماذا يحملونا مسئولية الفوضى الآن؟" .
كان الألتراس على الهامش عند نشر الموضوع، يشكل الإعلام صورتهم، حتى أتاحت لهم الثورة فرصة الحركة في الشارع بحرية، وتحول اسم الألتراس إلى مرادف للقوة في الشارع.. الفارق بين صورة الألتراس الآن وصورتهم آنذاك أنهم أصبحوا الآن ضمن واجهة المشهد رغم ما يتعرضون له من ضغط واعتقالات، لكن المحصلة أنهم امتلكوا مساحة أكبر عن ذي قبل.
هذه الفئات التي أرادت الابتعاد عن المؤسسات التقليدية المسيطرة على كل شيء لصالحها أنتجت أيضا فنونا تخصها، إذ ازداد عدد الفرق المستقلة في الموسيقى والتمثيل هروبا من السلطة الخانقة لمؤسسات الدولة، لكن الظاهرة الأطرف في هذا المجال كانت هي "موسيقى المهرجانات الشعبية" التي عشنا بعض تفاصيلها في العام الماضي ضمن ملف "موسيقى الشارع"، وهناك التقينا شبابا يملكون الشارع في مساحات محدودة داخل سرادقات بمناطقهم الشعبية، واستهدفوا شرائح قريبة منهم أبسطها سائق التوك توك الذي كان يتحرك بحذر في مساحته التقليدية. أبناء هذه الموسيقى الهجينة بين الغناء الشعبي وموسيقى الراب الغربية لم يصبهم الارتباك الذي أصاب فنانو الإعلام الرسمي، بل أنتجوا موسيقى مؤيدة للثورة، وأدركوا أن مساحاتهم الضيقة في الشوارع والحارات لم تعد تكفيهم، لأن الشوارع تحركت، فلم يعد غريبا أن نجد على مسرح الجنينة في حديقة الأزهر مؤخرا حفلا لقطبي هذا الفن وهما (فيجو، و عمرو حاحا).
حين كنا نكتب عنهما العام الماضي، كنا نسلط الأضواء على الهامش الذي بدأ ينتقل إلى الواجهة بعد الثورة، إذ صنعت حركة الشوارع أثناء الثورة هزة عنيفة، قذفت بالتوك توك إلى ميدان التحرير وأمام السفارة الإسرائيلية أثناء الاحتجاجات.
والحالة نفسها نجدها في مجال السياسة، فبعد الثورة طرحنا أسئلة حول النخبة الجديدة، هل سيتحول شباب الثورة الذين كانوا على الهامش إلى صورة مكررة من النخبة القديمة؟ و الإجابة: لم يعد الأمر بهذه البساطة، فرغم أن بعضا من شباب الثورة أصبحوا نجوما في الإعلام إلا أنهم سيظلون مدركين أن هناك آخرين ما زالوا على الهامش و يمتلكون أدواتهم نفسها من انترنت وتكنولوجيا رخيصة تسمح لهم بالتواجد والضغط.

Thursday, October 27, 2011

التهمة: تمويل أجنبي


حين لا تجد دعما سوى الخارج

كتب – عبد الرحمن مصطفى
في داخل قاعات الورش التدريبية يقدم باسم سمير محاضرات في مجالات مختلفة مثل تأمين المعلومات على الانترنت وكتابة المشروعات وإدارة الحملات الالكترونية، وهو ما كان قد تدرب عليه في مؤسسات حقوقية و من خلال منح تدريبية داخل وخارج مصر على مدار السنوات الماضية، أما الآن فهو المدير التنفيذي للمعهد المصري الديمقراطي إحدى مؤسسات المجتمع المدني التي تداول اسمها مؤخرا أثناء الأزمة المثارة حول التمويل الأجنبي للمجتمع المدني. يقول باسم سمير: "حين يقوم نشاطك الرئيسي على إقامة الورش التدريبية وإنتاج فيديوهات داعمة للديمقراطية وحقوق الإنسان، فهناك مشكلة رئيسية في أن أحدا لن يدعم مثل تلك الأفكار والمبادرات، خاصة أن أغلب رجال الأعمال ذوي الصلة بالسياسة كانوا مرتبطين بالحزب الوطني والنظام السابق، إذن كيف نمول مثل هذا النشاط بعيدا عن المؤسسات الداعمة الغربية؟"
ينتمي باسم سمير، الذي درس العلاقات الدولية في جامعة حلوان قبل سنوات، إلى شريحة من الشباب انخرطت في مجالي السياسة وحقوق الإنسان، واقتطع العمل في المجالين السياسي والحقوقي جزء من حياتهم، وحسب تعبيره "فإنك في وقت من الأوقات تبحث عن مشروع يتفق مع تجربتك ومهاراتك". و يضرب المثل بإسراء عبد الفتاح- المدير الإعلامي لنفس المؤسسة التي يعمل بها- وهي الفتاة التي ذاع صيتها في العام 2008 بسبب إدارتها صفحة إضراب 6 إبريل، وتحولت حياتها المهنية بسبب تأثير هذا الموقف، بل ووجدت ما يحقق طموحها في مشاركة زملائها العمل بهذه المؤسسة اعتمادا على تمويلات تأتي نتيجة سمعتهم في العمل العام، يضيف باسم سمير معلقا : "عائلتي كانت تقف في كثير من الأوقات ضد استمراري في هذا الطريق، زاعمين أن العمل الحقوقي مجرد تهريج، لكن أنا مقتنع جدا بجدواه وبقدرتنا على التغيير".
مع التقاء أبناء هذه الشريحة الشابة من نشطاء وحقوقيين في ورش تدريبية وفعاليات ازدادت فرص تحويل أفكارهم إلى مشروعات ومؤسسات تدريب، وتبنوا في ذلك طرقا متشابهة حتى أثيرت مؤخرا قضية التمويل الأجنبي للمجتمع المدني. وقد اضطر باسم وزملاؤه قبل عدة أشهر إلى التقدم ببلاغ ضد تصريحات اللواء حسن الرويني- عضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة- حول تلقيهم تمويلا من الخارج بهدف إثارة الاضطرابات والفوضى في البلاد، وذلك في فترة قريبة من اهتمام السلطات المصرية بدخول أموال أمريكية إلى مؤسسات مصرية بشكل غير شرعي.
يرى الدكتور أيمن عبد الوهاب- مدير برنامج المجتمع المدني بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية- أن تنامي الحركة الحقوقية ومنظماتها بدء من المنظمة المصرية لحقوق الإنسان في عام 1985، هو الذي ساهم في ظهور كوادر جديدة من جيل الشباب الحالي، ويعلق قائلا: "هناك شريحة من الشباب جاءت من خلفيات سياسية في حركات احتجاجية وأحزاب ومنظمات حقوقية، لكنهم ظهروا في توقيت مازال فيه المجتمع المدني المصري يعاني من سوء التنظيم، وكان أحد مظاهره هو قضية التمويل الأجنبي لبعض المؤسسات بما له وما عليه".
ويلجأ عدد من العاملين في مجال حقوق الإنسان إلى تأسيس شركة غير هادفة للربح على أن يكون تمويلها من مؤسسات غربية تقدم دعما في قضايا محددة، والهدف من تأسيس (شركة) بعيدا عن تأسيس جمعية أهلية خاضعة للقانون رقم 84 لسنة 2002 الخاص بالجمعيات والمؤسسات الأهلية، هو الابتعاد عن تعقيدات هذا القانون الذي يضخم من سلطة وزارة التضامن الاجتماعي، وبما يضعه من قيود على التمويل الخارجي للمشروعات وما يعطيه من سلطة للدولة للتدخل في أسلوب هذه الجمعيات وتنظيمها. وهو ما دفع الشباب الناشط إلى إدارة مؤسساته بعيدا عن هذا القانون رغم أن هذا لم يبعده كثيرا عن تدخلات جهاز أمن الدولة السابق.
كل تلك الإجراءات لم تمنع الطعن في من يتلقوا تمويلا أجنبيا لمؤسساتهم، إذ تكفي زيارة لبعض الصفحات التي خصصت لهذه القضية على الانترنت كي تظهر اتهامات نمطية تربط بين تلقي مؤسسات حقوق الإنسان للتمويلات الخارجية و التخريب في الداخل. و أصل هذه الصورة لدى البعض هو نتيجة ما يقوم به بعض النشطاء في مؤسساتهم من تقديم مشروعات هشة هدفها جمع أموال التمويل والتعامل مع نشاطهم كأي نشاط تجاري.
ويصف باسم سمير شركات التدريب التي تعمل في المجال الحقوقي بأنها لا تختلف كثيرا عن أي شركة تجارية أخرى، ولا يجد حرجا في أن يصف هذا النشاط بأنه مجال عمل أو Career، لكن بعض الممارسات السيئة استفزت نشطاء آخرين، وتكفي زيارة لهذا العنوان : "التمويل والفرافير في المجتمع المدني المصري"، على مدونة الناشط والمدون وائل عباس حتى نكتشف بعض ملامح الوجه الآخر إذ يقول: " عملية الإفساد بالتمويل عملية عفوية تحدث بحسن نية دون إدراك من المنظمات المانحة وأغلبها أجنبية، لكنها تخلق نشطاء غير حقيقيين كل همهم هو التمويل. وتلك النوعية من النشطاء جل همهم هو كتابة تقارير وهمية عن نجاح وهمي لمشروعات وهمية وتقديمها لجهات أجنبية حصلوا على تمويل منها من أجل تلك المشاريع بينما المحصلة : (صفر تغيير) .. وهنا يحدث الوصم لكل النشطاء، خيارهم وأشرارهم بأنهم دخلوا المجال من أجل المال".
وقد كتب وائل عباس هذه الملاحظات في العام 2010 قبل بدء أحداث الثورة، إلا أن الأزمة التي أثيرت مؤخرا بعد الثورة كانت لها أبعادا أعنف، طالت جزء من العلاقات المصرية الأمريكية.

بي إم دبليو حديثة
هذه الشريحة من المدربين والنشطاء تسبب إزعاجا لمواقفها السياسية المعارضة وسعيها لدور رقابي على العملية السياسية، لكن أنشطة أخرى تدريبية ليس لها صلة بالسياسة، مثل ورش التدريب على صناعة السينما أو في المجال الثقافي لا تواجه بالعنف نفسه، أما هذا الموقف المضاد تجاه فكرة التمويل فقد امتد إلى الشباب الناشط في المظاهرات أو على الانترنت بشكل عام، من أشهر تلك النماذج الناشطة أسماء محفوظ، التي تواجه الاتهامات على الانترنت بشكل دائم، وأحد هذه الاتهامات حول تمويل حركة 6 ابريل التي كانت عضوة سابقة بها، وتقول عن ذلك: "أنا اتهمت بأني أملك سيارة بي إم دبليو حديثة ولدي شقة فاخرة في مصر الجديدة، وكلها إشاعات بلا دليل، وأصبحت مادة متداولة في المقالات وعلى الانترنت، ولم أعد ألتفت إلى تلك الأمور".
على الجانب الآخر فإن نمط حياة أسماء لا يختلف كثيرا عن نشطاء شباب وحقوقيين انتزع العمل العام أوقات كبيرة من حياتهم، أو حسب تعبيرها : "حين تجد نفسك مشغولا بالشارع ومندمجا في أحداثه لمدة 24 ساعة، كل ذلك قد يؤثر على عملك، وتفكر في صنع مشروع يحقق طموحك في العمل العام، وأنا في النهاية مثل أبناء جيلي الذي تفتحت أمامه الحياة ومازال يحاول اكتشاف نفسه، ويحاول تحديد في أي مجال يعمل".
عملت أسماء في شركة للاتصالات وخاضت تجارب في مجال الإعلام، لكنها لم تبدأ بعد في تكرار تجربة زملائها في أن يكون لها مشروع حقوقي أو تنموي تمارس من خلاله ما اعتاده في السنوات الماضية أثناء عملها في الشارع، لكن تجربتها مع اتهامات العمالة والتمويل جعلتها تمتنع عن تأسيس هذا المشروع رغم تلقيها عروض خارجية أثناء أسفارها إلى الخارج كمحاضرة أو داخل ورش تدريبية لقادة الرأي، وتقول: "من يوجه هذه الاتهامات لا يعرف أثرها النفسي على أسرنا، ولا أخفي أن لدي رؤية لمؤسسة حقوقية وتنموية تستهدف الشباب، لكن لا أرغب في تمويلها عن طريق مؤسسات غربية، وذلك ليس رفضا لفكرة التمويل الغربي لأنها حق مشروع، ولكن لأني أريد أن أبتعد عن القلاقل". تأمل أسماء أن تحصل على جائزة "سخاروف" الدولية المرشحة لها كي تبدأ مشروعها بقيمة الجائزة، عدا ذلك فإن هناك من النشطاء والمدونين والحقوقيين من يحصلون في أنشطتهم المعتادة على مقابل مالي سواء عند تدريبهم في مؤسسات أو عند إلقاء محاضرة، وهو ما تعلق عليه أسماء محفوظ: "هذا المقابل من حق المحاضر أو المدرب، ولا أعتقد أنه هدفا حقيقيا لدى كثيرين". تصمت قليلا ثم تضيف قائلة: "رغم كل هذه الاتهامات بأننا نحصل مقابل تواجدنا في العمل العام، لكن يكفي إحساسي الشخصي حين عرضت عليّ إحدى القنوات الفضائية أن أعمل معهم بمرتب خيالي لفتاة في سني، ورفضت لأن من يديرونها مجموعة من الفلول.. أعترف أن من يتصدى للعمل العام في سن الشباب يتعرض لمأزق أن يوازن بين حياته المهنية والعمل العام، لذا علينا ألا ندين من وجد الحل في مشروع شخصي مدعوم خارجيا يوفر له ما يحب".
ما يتعرض له أبناء شريحة النشطاء والحقوقيون من تشنيع في بعض الحالات يستوقف الدكتور أيمن عبد الوهاب- الخبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية- إذ يقول: "هناك مشكلة حقيقية، إذ علينا أن نعمل وفي الوقت نفسه أن نحترم القوانين على عكس ما يفعل بعض العاملين في مجال المجتمع المدني.. وأرى الحل هنا في توسيع الثقافة الحقوقية لدى الشعب، وألا تقتصر على الجانب السياسي فقط، بل تمتد إلى جوانب أخرى مثل البيئة والاقتصاد والتنمية، وهي أمور ستلمس رجل الشارع فيشعر بقيمة العمل الحقوقي، وتزيد مساحة التطوع في هذه المجالات بعيدا عن الاعتماد على التمويل الخارجي فقط، وألا يقتصر التطوع على العمل الخيري، وأعتقد أن غياب فكرة التطوع في العمل السياسي هو ما يجعل كثيرين يفترضون أن المشاركة السياسية وراءها أموال مدفوعة". ويضيف الدكتور أيمن عبد الوهاب أن تغيير الثقافة سيجلب تبرعات وأموال داخلية حين نشعر بأهمية الإنفاق على الديمقراطية والمواطنة.
قبل سنوات لم يكن باسم سمير أو أسماء محفوظ و غيرهما من الشباب الناشط في مجال السياسة وحقوق الإنسان يعتقدون أن ما كانوا يدربون عليه ويعيشون فيه ليل نهار سيتحول إلى ثورة ويغير ملامح الحياة السياسية في مصر، لكن المفارقة الأخرى فإن هذه الشريحة أيضا لم تتوقع أن يكون باب التمويل الأجنبي الذي اعتمد بعضهم عليه في عمله هو نفسه الذي يجلب عليهم التشنيع والوصم.




"المؤسسات الداعمة ابنة ثقافة المواطنة"



3 أسئلة ليسري مصطفى منسق الصندوق العربي لحقوق الإنسان، و الكاتب والباحث في مجال حقوق الإنسان، حول التمويل الخارجي لمؤسسات المجتمع المدني

- هل أسهمت المؤسسات الغربية الداعمة مع توافر فرص التدريب بالخارج في توسيع شريحة الشباب والنشطاء العاملين في مجالي حقوق الإنسان والتوعية السياسية؟

الشريحة التي نقصدها هنا من نشطاء وشباب يعملون في التدريب على حقوق الإنسان والتوعية واستخدام الانترنت في الضغط السياسي هي جزء من ظاهرة عالمية تبنت فكرة العولمة ووجود احتياج حقيقي لما لدى هذه الشريحة من معلومات ومهارات. وفي الوقت نفسه هذه الشريحة وخاصة من الشباب وجدوا فرص تحقيق مشروعاتهم لدى المؤسسات الداعمة، وهذه الظاهرة موجودة عالميا وليست قاصرة على مصروحدها، ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال يستحوذ القطاع الأهلي على حوالي 10% من قوة العمل هناك.

- لماذا يعتمد تمويل المشروعات المستقلة في مجالات حقوق الإنسان والتدريب السياسي على المؤسسات الداعمة الغربية مع غياب التمويل الداخلي ؟

حين ندرس تكوين المؤسسات الداعمة في الغرب نجد أنها ابنة ثقافة المواطنة، إذ لا يخشى رجل أعمال على سبيل المثال من ضغوط جهاز مثل "أمن الدولة" عليه إذا ما أراد تمويل مشروع حقوقي أو نشاط أن يقدم توعية سياسية، فنجد العائلات الثرية تقدم ما يشبه "الوقف" لتمويل قضايا بعينها ومنحا دراسية، لكن حين ننظر إلى دور رجال الأعمال لدينا خلال السنوات الماضية نجده كان مسخرا لخدمة السلطة الفاسدة.. ولم تكشف مرحلة ما بعد الثورة عن وجود داعمين محليين لمثل هذا النوع من الأنشطة، أما عن التمويل القادم من الدول العربية فليس كله على القدر نفسه من النزاهة، وله أغراض سياسية واضحة. ونضيف إلى ذلك أن أغلب الدعم المالي في بلادنا يتجه إلى العمل الخيري، ورغم أن لنا موروثا عظيما في فكرة "الوقف"، إلا أن الواقع لا يقدم لنا من يوقف مبلغا في خدمة فكرة المواطنة أو حقوق الإنسان أو التدريب على أساليب الضغط السياسي، لذا تتجه الأعين نحو المؤسسات الغربية سواء كانت ذات صلة بالحكومات أو لا .

- إلى أي مدى تفرض الجهات الغربية الداعمة أجندتها على المؤسسات والأفراد العاملين في مجالي السياسة وحقوق الإنسان وهل يمكنها أن تهدد السلام الاجتماعي الداخلي؟

علينا أن نعلم أن ما يدير مثل هذه العلاقة بين المؤسسات الداعمة ودول العالم الثالث هو مفهوم "التعاون الدولي" الذي برز منذ الستينات. وكان الدعم المادي يصل إلى الحكومات ومشروعاتها دون أن يثير قلاقل، وهو مستمر إلى الآن، كأن تحصل مصر على 1،3 مليار دولار كمعونة عسكرية، لكن مع اتساع نشاط المجتمع المدني وبروز شريحة النشطاء في المجتمع كشريحة قيادية، بدأت الحكومات في الإحساس بالتضرر من هذا النوع الجديد من الدعم، علما بأن ذلك يتم في أغلب الأحوال عبر مؤسسات الدولة، رغم التضييق الذي تمارسه وزارة التضامن الاجتماعي في هذا المجال. أما ما يحدث من حساسية تجاه بعض التمويلات تحديدا مثل التمويلات الأمريكية، فسببه تركيز التمويل الأمريكي على قضايا متعلقة بالتحول الديمقراطي وحقوق المرأة والطفل، على عكس دول أخرى لا يثار حولها الجدل نفسه بسبب اهتمامها بقضايا أخرى مثل البيئة. ما نطمح إليه الآن أن نجد أجواء تحتوي شريحة الحقوقيين والنشطاء إلى الداخل عبر قوانين تسهل عملهم، وأن نكرس ثقافة حقوقية تشجع على دعم هذا النشاط من داخل مصر وتفهم احتياجهم إلى التمويل الخارجي.


الدعاية المضادة



في مدونته "Dakhakhny's Blog " كتب الناشط الشاب محمد الدخاخني عن موقف تعرض له أثناء فعاليات مؤتمر يناقش الممارسة السياسية للشباب، حين دار حديث بينه وبين أحد نشطاء حركة 6 إبريل الذي قال له: ” أنا رحت هناك (يقصد أمريكا) واتدربت على العصيان المدني، وكنت عارف إن اللي بيدربوني هما نفسهم اللي كانوا بيدربوا ظباط أمن الدولة إزاي يخترقونا”. وكتب الدخاخني عن هذا الموقف مع ناشط 6 إبريل الذي أسس منظمة حقوقية غير هادفة للربح، تحت عنوان كبير هو "هؤلاء يأخذون التمويل !". مثل هذه المواقف، التي يتداولها بعض النشطاء الشباب فيما بينهم، أحيانا ما تتخذ ملمحا أكثر حدة خاصة من المعارضين لفكرة التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني. أحدهم تساءل في مدونة مغمورة تحت اسم "الثائر الحق – معا ضد التمويل الأجنبي" عن سر لقاء نشطاء- تلقوا تدريبا في مؤسسة فريدوم هاوس الأمريكية بوزيرة الخارجية هيلاري كينتون- واضعا صورا لهم على مدونته، ثم كتب تعريفا بمؤسسة فريدوم هاوس واصفا المدونين الذين تلقوا تدريبا بأنهم "جنود الصهيونية". وفي مساحات أخرى على الانترنت يتداول آخرون مواد فيلمية ومكتوبة تتهم بعض المؤسسات الأمريكية الداعمة والتي تدرب الشباب النشطاء بأنها موالية لجهاز المخابرات الأمريكية و وزارة الخارجية الأمريكية، وعلى أرض الواقع فإن بعض تلك المؤسسات الداعمة بالفعل لا تخفي تنفيذها أجندة السياسة الخارجية الأمريكية. وهو ما يدفع البعض إلى تحليلات مثل التي دونها مدير صفحة "المثقفون العرب يرفضون التمويل الأجنبي" من نوعية : عندما سعت المخابرات المركزية لتفكيك يوغوسلافيا السابقة إلى عدة دول ضمن خطتها لإضعاف الكتلة السوفييتية، استخدمت خطة عمل محددة لتمويل بعض هيئات المجتمع المدني هناك، ضمن خطة أُطلق عليها «نشر القيم الأمريكية في دولة صربية ديمقراطية»، .. هذا النموذج تسعى أمريكا لتحقيقه الآن في مصر".
ويربط البعض في مواد منشورة على الانترنت تدريب أعضاء في حركة 6 إبريل على أيدي أفراد في حركة "أوتبور" الصربية بدعاية من نوع آخر، إذ أن حركة "أوتبور" الصربية المثيرة للجدل قد ساهمت في تحريك الجماهير ضد الدكتاتور سلوبودان ميلوسوفيتش حتى إسقاطه، وتم توجيه اتهامات لتلك الحركة الصربية بأنها تحقق أهداف المخابرات الأمريكية، وأنها تسعى لنشر الاحتجاجات الشعبية ضد الحكام حتى تتاح الفرصة للتدخلات الأمريكية. ومثل هذه الدعاية المضادة استخدمت في تصريحات مسئولين مصريين ضد حركة 6 إبريل مؤخرا.
كل تلك الاتهامات كانت في خلفية التحقيقات التي تجريها السلطات المصرية الآن حول التمويل الأجنبي للمجتمع المدني، بعد أن أعلنت السفارة الأمريكية في يوليو الماضي عن منح لمنظمات المجتمع المدني في مصر وتونس وباقي دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، و ذلك بموجب برنامج مبادرة الشراكة في الشرق الأوسط لدعم أهداف السياسة الخارجية الأمريكية. لكن الاشتعال الحقيقي للموقف كان بعد إعلان السفيرة الأمريكية الجديدة في القاهرة خلال شهر يونيو الماضي عن تخصيص الولايات المتحدة أكثر من 40 مليون دولار لدعم الديمقراطية في مصر منذ اندلاع ثورة 25 يناير، وأن 600 منظمة مصرية تقدمت بطلبات للحصول على منح مالية أمريكية لدعم المجتمع المدني.
وحسب دراسة لمعهد الشرق الأوسط الأمريكي فإن أكثر من ألف مصري تقدموا للحصول على مبالغ من مكتب المعونة الأمريكية في القاهرة، وأغلبهم من منظمات المجتمع المدني المستقلة، وذلك في مخالفة لاتفاق تم عام 1978 بين مصر والولايات المتحدة يشترط أن تتم التمويلات عبر القنوات الحكومية المصرية. ورغم ما أذيع عن تلقي مجموعة "أنا آسف يا ريس" الداعمة للرئيس السابق مبارك أموالا من دولة عربية، ونفي المجموعة هذا الاتهام، إلا أن أغلب الجدل المثار مؤخرا هو المتعلق بالتمويل الأمريكي. وقد اتخذت تلك الأزمة أبعادا دولية مثل إصدار منظمة "هيومان رايتس ووتش" بيانا تحض فيه على ضرورة وقف التحقيقات مع منظمات المجتمع المدني حول تمويلها بهذا الشكل، لأن وقف تمويل هذه المنظمات يؤدى إلى حرمانها من العمل، نظراً لضعف التمويل الحكومي.
وفي جانب آخر أرسلت 36 من منظمات المجتمع المدني المصرية رسائل إلى مسئولين في منظمات دولية تشكو الإجراءات المتخذة ضدها . وبعيدا عن التمويل التي تتلقاه المؤسسات باسمها من جهات التمويل، فإن هناك نوعا من التمويل أكثر جدلا حول تلقي أفرادا من ذوي التأثير – من قادة الرأي- تمويلا بصفتهم الشخصية وليس بصفتهم المؤسسية، وهو ما يجعل الصراع الدائر الآن محتدا بين رغبة حكومية في أن يتم التمويل تحت قبضة الحكومة وتبعا لقانون الجمعيات الأهلية، وبين رغبة أخرى لدى بعض منظمات المجتمع المدني في العمل بعيدا عن القيود والتعسف الحكومي.

Tuesday, October 11, 2011

المعاقون يطمحون إلى عهد جديد.. لا شىء يخصنا بدوننا


عبدالرحمن مصطفى
«فكرة وجود جبهة تحقق مطالب المعاقين كانت بمثابة حلم.. نسعى الآن إلى تحقيقه»، يتحدث محمد الحسينى المنسق العام للجبهة الوطنية لمتحدى الإعاقة ومصابى الثورة عن نشأتها وآخر ما توصلوا إليه بعد أن أنهوا اجتماعا سريعا فى مقرهم واختاروا استكمال الحديث فى مقهى قريب بمنطقة وسط المدينة.
أغلب الحاضرين كانت لهم تجارب سابقة فى وقفات احتجاجية ومبادرات من أجل حقوق المعاقين حتى قبل تكوين الجبهة، ونشأت العلاقة بينهم إما بسبب لقاءاتهم فى تلك الأحداث أو عبر الإنترنت، فى بداية الحديث أوضح يوسف مسعد مؤسس قناة «صوتنا» الإلكترونية للمعاقين والممثل الإعلامى للجبهة، وزميلته جهاد إبراهيم المدرس المساعد بقسم علم الاجتماع فى كلية الآداب جامعة عين شمس، سبب أن يكون اللقاء فى المقهى، إذ إن كليهما يجلس على كرسى متحرك ولم يرغبا فى المرور بمعاناة صعود سلالم العمارة. ثم يعود محمد الحسينى إلى حديثه قائلا: «تجمعنا قناعة أن العمل عبر الانترنت تجربة زائفة وتكريس لحالة العجز حين يظل الأشخاص يتحاورون دون تعاون مشترك على أرض الواقع». يلقى الحسينى الخيط إلى زملائه مذكرا إياهم بقصة خاضوها سويا مع صفحة على الانترنت لكيان يدعم قضية المعاقين عدد أعضائه على الانترنت يتجاوز الألفى عضو، لكن لا ينشط فيه حقيقة سوى ثلاثة أفراد فقط. كان أعضاء الجبهة والمتضامنون معهم يعملون فى الأسابيع الماضية على وضع مسودة المجلس الأعلى للمعاقين على خلفية لقاء رئيس الوزراء الدكتور عصام شرف فى أغسطس الماضى. هل اختلف الحال بعد ثورة 25 يناير؟ فى تلك الجلسة عقد أعضاء الجبهة مقارنة بين نشاط المعاقين لنيل حقوقهم فى العام 2010 حين نزل المعاقون إلى الشارع فى موجات احتجاجية، وبين ما حدث من أنشطة بعد الثورة. يشرح سامى أحمد ــ مسئول ملف الجمعيات فى الجبهة ــ والذى شهد الموجة الأولى قبل الثورة فى العام 2010 قائلا: «فى العام الماضى أعد المجلس القومى للأمومة والطفولة مشروع الأشخاص ذوى الإعاقة الذى لم يكن لنا صوت حقيقى فى صكه، ولولا الثورة لكان هذا القانون أمام الدورة البرلمانية التى ألغيت». ما أحدثته الثورة أنها أعطت فرصة أكبر لهم. إذ إن فكرة إنشاء «مجلس قومى لحقوق الأشخاص ذوى الإعاقة» كانت فكرة مطروحة ووافقت عليها حكومة أحمد نظيف العام الماضى، أما اليوم فالمعاقون هم من يتصدى إلى صنع مسودة إنشاء هذا المجلس بأنفسهم». فى أثناء الحديث تنقل جهاد إبراهيم الحديث إلى زميلها رامز عباس المصاب بالصمم تاركة له مهمة قراءة حركة الشفاه. فيستجيب رامز طالبا التعليق متحدثا بلغة عربية سليمة قائلا: «فى احتجاجات العام الماضى كانت الحكومة تتعامل بمنطق شتت العدو تحقق الانتصار، هكذا كان يتم التعامل معنا بإلهاء البعض بوعود بشقق سكنية وآخرين بأكشاك، وللأسف هناك من انساق وراء هذا وانسحب من العمل على دعم حقوق المعاقين بشكل عام بسبب قلة الوعى». ما حدث فى العام الماضى تجربة يخشى الجميع أن تتكرر خاصة بعد أن تركت رئاسة الوزراء الفرصة بأيدى المعاقين لتحقيق مطالبهم عبر مسودة لإنشاء مجلس قومى للمعاقين. وهو اختبار عليهم استغلاله جيدا والنضال من أجل تحقيقه حسب عبارة محمد الحسينى.

جماعة ضغط
تكونت الجبهة الوطنية لمتحدى الإعاقة ومصابى الثورة نتيجة اتحاد مجموعة من الأفراد كان لهم نشاط سابق والبعض الآخر لم يكن له هذا النشاط، وتضم عشرات المتعاونين معها داخل وخارج القاهرة، لكن يدرك أعضاء الجبهة أنهم فى النهاية شريحة ضيقة من المعاقين فحسب وصف أسامة طايع الذى حضر الاجتماع مبكرا: «هناك شرائح مختلفة من المعاقين، هناك من لا يشعرون بمعاناة الشارع ويعيشون فى ترف، وهناك الناشطون ومن لديهم وعى بقضيتهم، وهناك شريحة كبيرة معزولة مع المرض والجهل والفقر، ولا يصل إليها أحد». لا يخفى أسامة فى حديثه مرارة عند الحديث عن حقوق غير المبصرين وهى الشريحة التى ينتمى إليها، وأن كل الظروف فى الشارع وفى التعليم تدفع إلى العزلة، إلا من أراد المقاومة.
وأحد الدلائل على ذلك فى رأى كثير من المهتمين بالقضية هو عدم الاهتمام بعمل حصر دقيق لأعداد المعاقين، وهو ما يجعل هناك تضاربًا فى أعداد المعاقين المصريين ما بين 7 ملايين إلى 10 ملايين. وترجع قلة عدد المبادرين من المعاقين فى مصر فى رأى محمد الحسينى المنسق العام للجبهة إلى دور الإعلام الذى «كرس صورة المعاق فى متسول أو شخص مثير للشفقة، وهو ما ينعكس على أداء المجتمع تجاه المعاق، بل وعلى صورة المعاق تجاه نفسه». هذه الجملة الأخيرة هى التى جعلت كثيرًا من المعاقين لا يدركون أبسط حقوقهم، وآخرون اختاروا حل مشاكلهم بأنفسهم والابتعاد عن دهاليز المؤسسات الحكومية مثل وزارة التضامن الاجتماعى التى ظل اسمها يثير غضب الحاضرين من أعضاء الجبهة بسبب ما يتعرض له المعاقون فى التعامل معها من تعطيل فى الحصول على حقوقهم. وهو أمر لا يقتصر فقط على وزارة التضامن، إذ يلزم القانون على سبيل المثال أصحاب الأعمال الذين يزيد عدد العاملين لديهم على 50 عاملا فأكثر بتشغيل نسبة 5% من ذوى الإعاقة وكذلك نفس النسبة فى الجهاز الإدارى فى الدولة. وهى أمور لا تطبق فى كثير من الأماكن، بل وتطبق بشكل مهين فى أماكن عمل تهمش المعاق داخلها حسب كثير من القصص التى رواها أعضاء الجبهة.
مثل هذا التضييق دفع شابا مثل سامى أحمد عضو الجبهة أن يعلن لزملائه فى جلسته عن نيته الترشح فى الانتخابات البرلمانية المقبلة على قائمة أحد أحزاب التى تأسست بعد الثورة، يعلق زميله يوسف مسعد على ذلك قائلا: «فكرت أنا وزميلى رامز فى تدشين حزب، لكن وجدنا هناك معوقات كبيرة، وكان الهدف ألا يكون حزبا للمعاقين لكن كان طموحنا أن نرى معاقين فى هيئة تأسيسية لحزب سياسى، وأن تظهر قيادات من هذه الفئة.. لذا خطوة زميلنا سامى مهمة جدا».
على أجندة الرئاسة
هذه الروح الجديدة دفعت عددا من مرشحى الرئاسة إلى طرح قضية المعاقين على أجندتهم وهو ما اتضح فى حفل الإفطار الرمضانى الذى نظمه المعاقون وحضره الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح، والسيد عمرو موسى، ومندوب عن مكتب الدكتور أيمن نور، وكلهم من مرشحى الرئاسة، هذا إلى جانب تعاون مكتب الدكتور محمد البرادعى مع معاقين والتنسيق معهم بخصوص قضيتهم. يعلق محمد الحسينى المنسق العام للجبهة على ذلك قائلا: «نحن من دفعنا السياسيين إلى التعاون معنا، لأننا إذا ما كان نشاطنا خامدا لم يكن أحد ليلتفت إلينا أبدا». إحدى وسائل تنشيط القضية هو صنع منابر إعلامية خاصة مثل قناة «صوتنا» الالكترونية للمعاقين التى ينشط فيها يوسف مسعد ورامز عباس، وتجربة مواقع خدمية مثل: شبكة معلومات ذوى الاحتياجات الخاصة، التى تضم فى داخلها شكاوى دار الحديث عن إحداها فى أثناء الجلسة عن الشيخ أحمد الإمام بوزارة الأوقاف الذى تخرج فى كلية اللغات والترجمة فى قسم الدراسات الإسلامية، وهو ما يؤهله إلى العمل كإمام فى البلاد الناطقة بغير اللغة العربية، لكن جاء رفض الأوقاف بناء على أنه كفيف. هذه المشكلة نقلت حديث أعضاء الجبهة إلى مساحة أخرى شخصية لديهم، إذ فرض على أغلبهم دخول القسم الأدبى فى المرحلة الثانوية، وهو ما يمارسه بعض المعلمين والنظار فى المدارس حتى اليوم فى توجيه الطلبة المعاقين وإرهابهم من دخول القسم العلمى. وحتى محمد الحسينى الذى التحق بالقسم العلمى فى الثانوية العامة، أقنعه كل من حوله بدخول كلية الآداب، واضطر إلى دراسة نظم المعلومات فيما بعد على نفقته فى معهد خاص والحصول على بكالوريوس. وحسب قواعد القبول التى أعلنتها وزارة التعليم العالى فإنه يتم قبول المكفوفين بكليات الآداب ودار العلوم والحقوق والإعلام والألسن والبنات، وقبول المعاقين حركيا بسائر الكليات التى لا تتعارض طبيعة الدراسة فيها مع إعاقتهم، لكن موقع جامعة عين شمس يحصر قبول المعاقين على كليات (الآداب ــ الحقوق ــ التجارة)، بناء على قرار المجلس الأعلى للجامعات الذى يصدر كل عام بشرط الحصول على الثانوية العامة هذا العام بمجموع درجات 50%.
وتكشف قصة التحاق جهاد إبراهيم المدرس المساعد فى كلية البنات بالجامعة عن أن الأمر نسبى إذ تم رفض قبولها فى كلية التربية بدعوى أن الدراسة بها جانب عملى وميدانى، والمفارقة أنها التحقت بقسم الاجتماع فى كلية البنات وأنجزت رسالة الماجستير فى موضوع تطلب منها جهدًا ميدانيًا شاقًا إلى جانب عملها الأكاديمى. وتعلق قائلة: «كل ما أطمح إليه ألا يتكرر ما يحدث معنا مع الأجيال القادمة، وأن يكون المعاق جزءا طبيعيا من المجتمع سواء كانت لديه إعاقة حركية أو حسية». هذه العبارة أعادت إلى أذهان الحاضرين طه حسين وزير المعارف فى مصر الملكية، ودفعت إلى استدعاء سيرة وزير داخلية بريطانيا السابق ديفيد بلانكيت الذى كان كفيفا ويدير وزارة بهذه الأهمية.
يشرح محمد الحسينى ــ منسق الجبهة ــ التكتيك القادم الذى ينوون تنفيذه فى المرحلة المقبلة عبر تكوين جمعيات داخل القاهرة وخارجها تستوعب من لديهم الرغبة فى العمل من أجل القضية، وأن تحصل الجبهة من ائتلاف هذه الجمعيات على شرعية أمام كل من يريد تعطيل عملهم، ويضيف قائلا: «فى النهاية الجبهة هى جماعة ضغط من أجل هذه القضية». يكرر هو وزميله رامز عباس وسامى أحمد جملة «لا شىء يخصنا بدوننا» التى كانت شعار الحركة العالمية للمعاقين. إذ يرون أنه لن يحقق انجازا حقيقيا للمعاقين إلا شخص منهم خاض معاركهم اليومية، وهذا هو التحدى الذى يعيشونه، وما أن تنتهى الجلسة بعبارات ضاحكة من رامز عباس الذى نجح أحيانا وأخفق أحيانا فى قراءة شفاه الحضور، وانشغل تارة بتصوير الجلسة.
ينطلق الجميع فى طريقه ليواجهوا طرقا غير معدة للكراسى المتحركة، وشوارع لا تحترم حركة الكفيف، ومجتمع لا يهتم بتعلم لغة الإشارة، على أمل أن يكون التغيير بأيديهم وكسب شرائح جديدة من المعاقين ترغب فعلا فى العمل من أجل قضيتها.
pdf

Tuesday, October 4, 2011

تغيير الفكر أولا.. ملامح الثورة تتسلل إلى الورش التدريبية



ترى سارة الشريف ــ صحفية وناشطة مصرية ــ أن ازدياد نشاط ورش ومحاضرات التوعية السياسية والحقوقية فى السنوات الأخيرة قد أثر فى وعى الشباب وربما مثل جزءا من عملية التغيير التى شهدتها مصر والدول العربية مؤخرا، وتوضح ذلك بقولها: «نظام مبارك المخلوع، كان يترك مساحة للعاملين فى مجال الحريات وللنشطاء كى يظهر أمام العالم وكأنه مع الديمقراطية، لكن هذه المساحة ساهمت بشكل ما فى نشر مبادئ الحرية والتغيير والثورة». هذا الرأى يتبناه أيضا عدد من المعلقين على تأثير الوعى السياسى وحركة المجتمع المدنى فى ازدهار الربيع العربى وتغيير النظم فى المنطقة.
وفى داخل الورش التدريبية ومحاضرات التوعية تتكون علاقات جديدة بين الناشطين والإعلاميين، وهذا من أحد الأسباب التى دفعت سارة للمشاركة للمرة الأولى فى فعاليات «الجامعة الصيفية لمنبر الحرية» التى أقيمت مؤخرا فى القاهرة. تم اختيار سارة بناء على سيرتها الذاتية وأنشطتها السابقة فى مجال الحريات، ووسط قاعة المحاضرة كان النقاش ساخنا حول تصورات «ما بعد الثورات العربية» بين شباب من جنسيات عربية مختلفة، وكان المحاضر هو الدكتور شفيق الغبرا أستاذ العلوم السياسية بجامعة الكويت، الذى لم يخف ملاحظته عن اختلاف أجواء قاعة المحاضرة هذا العام بالقاهرة تماما عن أجواء أول نشاط للجامعة الصيفية فى العام 2009.
ويقول معلقا: «اختلفت حالة المشاركين عن ذى قبل، خاصة مع المشاركين من مصر، إذ أصبحوا يتحدثون بحماس أكبر لبلدهم وفى تفاصيل لم تكن مطروحة من قبل. «تقوم فكرة الجامعة الصيفية التى تنظمها منظمة المنبر الحر على اختيار بلدين فى كل صيف يستضيفان موسمين دراسيين، أحدهما يكون فى المشرق العربى والآخر فى المغرب العربى، ويقام النشاط على هيئة ورش ومحاضرات مكثفة، وتهدف المحاضرات فى مجملها إلى تكريس قيمة الحرية لدى الشباب من خلال مناقشات فكرية وسياسية.
وتكفى نظرة على قاعة المحاضرة كى تكشف عن تنوع جنسيات الحاضرين من الدول العربية المختلفة رغم ما يجمعهم من تشابه فى أن أغلبهم ناشطون حقوقيون أو إعلاميون ولهم ماض فى حضور مثل هذه الأنشطة. محمد البلاّوى إعلامى مغربى شاب، كان ضمن طلبة دفعة العام 2009 ببيروت، وجاء للحضور مرة أخرى فى دفعة هذا العام 2011 فى القاهرة، يقول: «من المؤكد أن الاختلافات الثقافية أحيانا ما تظهر داخل نقاشات المحاضرة، لكنها تكون فى إطار مقبول، لأن الجميع تم اختياره بعناية، وفق سيرته الذاتية».
وفى رأى بلاوى أن حضور الفعاليات والأنشطة المتعددة يزيد من فرص الفوز فى عند التقديم للحصول على منح أو تدريب، ويضرب بنفسه مثلا إذ يشارك فى أنشطة الجمعيات الأهلية منذ سن السابعة عشرة، مما جعله يصنع تراكما فى سيرته الذاتية، رشحه للحصول على منحة تدريبية فى الولايات المتحدة قبل مشاركته مباشرة فى الجامعة الصيفية هذا العام. ويضيف قائلا: «الأجواء هذا العام أصبحت مختلفة قليلا.. فألاحظ على المصريين أنهم أصبحوا أكثر حماسة عن ذى قبل، ومنهم من يتحدث بقلق عن تجربة الثورة فى بلده».
أحد أهم الملامح التى طرأت على هذه الأنشطة التى تجمع شبابا من دول عربية مختلفة هو تأثير الثورات العربية فى نقاشاتهم، إذ كانت القاعة تضم دولا ملكية وجمهورية ودولا ما زالت تشهد معارك ضد نظامها السياسى، وأحيانا ما كانت تثار أسئلة أكثر حماسا فى القاعة من نوعية: «متى نرى الملكيات العربية وقد تحولت إلى جمهوريات؟». فى هذه الحالة على الجميع ــ خاصة من الدول الملكية ــ أن يتسم بالمرونة وقبول الرأى الآخر.
وفى أثناء محاضرة الدكتور شفيق الغبرا عن الثورات العربية كانت تدور اشتباكات حوارية حول هل تؤدى الثورات إلى فوضى؟ وهل واجب علينا احترام رؤسائنا وعدم عزلهم حتى إن كانوا مستبدين؟ سارة الشريف من مصر تصدت للدفاع عن الثورة وعن فكرة عزل مبارك، فى مواجهة زميلة يمنية رفضت التحريض على الرؤساء. لكن هذا النقاش الساخن لم يخرج فكرة الجامعة من مضمونها الأساسى المهتم بالفكر الديمقراطى الليبرالى والعمل التنويرى، بل كانت المحاضرة السابقة على تلك المحاضرة على سبيل المثال عن: «مسألة الحرية فى الفكر القومى العربى» وعن أدوار الطهطاوى وجمال الدين الأفغانى ومن تبعهما من المفكرين.
لا يخفى منظمو فعالية الجامعة الصيفية الطابع الليبرالى الذى يغلف النقاش وموضوعات المحاضرات، هذا الطابع الليبرالى الذى يغلف المشروع قد يجعل وجود شاب ملتحى مثل محمد عبده سالم ــ مصرى الجنسية ــ غريبا للوهلة الأولى على قاعة المحاضرة، وهو ما يوضحه قائلا: «هذه ليست المرة الأولى التى أحضر فيها الجامعة الصيفية، بل حضرت فى العام 2009 ببيروت وكان مظهرى المتدين مربكا للكثيرين ومثيرا لشكوك الأمن لمجرد أنى ملتح». فى داخل القاعة لا يخفى محمد عبده سالم هويته أو انتماءه إلى حزب النور السلفى، ويعلن بوضوح أنه مع تطبيق الشريعة فى المستقبل، لكنه يعلن تلك الآراء دون أن يحدث صداما مع أحد، حسب القواعد الليبرالية للمكان، ويعلق قائلا: «المشكلة أن بعض الجهات التى تنظم ورشا تدريبية تستبعد السلفيين والإسلاميين أحيانا، وأقول بصراحة إن هناك ليبراليين يدّعون وقوفهم إلى جانب الحريات لكنهم يتخذون مواقف متشددة ضد من يخالفهم.. أما هنا فأجد مناخا يتيح لى أن أسأل وأن أرفض وأن أتعرف على الفكر الليبرالى بحرية، وأؤمن بأفكار وأتحفظ على أخرى، وهذا ما وفره الدكتور نوح الهرموزى مدير برنامج منبر الحرية كنموذج لشخص يعى معنى الحرية والليبرالية فعلا وقولا».
رغم ذلك فإن الجامعة الصيفية أحيانا ما تواجه صعوبات مع بعض الدول العربية، إذ تعرض اثنان من المشاركين السعوديين فى الجامعة الصيفية عام 2009 لمضايقات أمنية عند عودتهم من بيروت إلى السعودية، كما رفضت السلطات السورية استقبال الجامعة الصيفية دون إبداء أسباب. ويقول الأكاديمى المغربى الدكتور نوح الهرموزى ومدير برنامج منبر الحرية: «وجدنا هذا العام صعوبة فى استضافة الشباب السورى رغم موافقتنا على طلبات التحاقهم، ولم يحضر إلا واحدا بعد عمليات تمويه.. وهذه هى مشكلات الدول التى تتخوف من فكر الحرية والليبرالية».
ويذكر الدكتور الهرموزى أن هناك مشاكل تواجه لفظ الحرية والليبرالية فى مجتمعاتنا إذ يجرى ربطهما بمعان سيئة مثل التفسخ الأخلاقى أو سيادة الشركات العملاقة والرأسماليين، وهذه أمور لها علاقة بمشكلات مجتمعية وليست مشكلة الحرية. وحسب عبارته: «التغيير القادم عليه أن يكون عبر الفكر لبناء المجتمعات وتكوين شبكات من الباحثين وأصحاب الفكر من الشباب.. وهذا ما نطمح إليه».



جامعة صيفية بدون قاعات دراسة


تقوم فكرة الجامعة الصيفية على استغلال فترة الصيف فى تكوين برامج تدريبية وتعليمية للشباب، وهو ما تقوم به أيضا بعض مؤسسات ومنظمات المجتمع المدنى، وقد بدأت فكرة الجامعة الصيفية ضمن مشروع منبر الحرية فى العام 2009، إذ تقام الجامعة مرتين، الأولى فى بداية الصيف والمرة الثانية فى نهاية الصيف، على أن يستضيف فعاليات الجامعة فى المرتين بلد مشرقى، وآخر مغاربى.
ويقول نوح الهرموزى مدير منبر الحرية «نشأت فكرة مشروع منبر الحرية قبل سنوات، حين بدأنا بموقع الكترونى ينشر ويترجم مقالات وأمهات الأعمال عن الحرية والديمقراطية والأدبيات الإنسانية، ثم تطورت الفكرة بمجموعة من الباحثين العرب، حتى انتهينا بالجامعة الصيفية قبل عامين». ونشأت الفكرة فى البداية كمشروع تثقيفى يتبنى أن العقل هو محك الفكر والعمل، وفى خلفية تقف ضد الهيمنة الأمريكية ونزعتها العنيفة فى المنطقة، إذ كان الهدف من هذا المشروع هو استهداف الشباب ذوى الثقافة الجيدة والمهتمين بقضايا الحرية فى الوطن العربى لتطويرهم وفتح مجالات فكرية جديدة أمامهم واستكتابهم فى موقع المنبر على الانترنت، وتأتى فكرة الجامعة الصيفية بهدف تكوين علاقات بين الشباب الناشط فى مجتمعه وتعريفه بالمزيد عن قضايا الحريات والليبرالية وجذورها فى المجتمعات العربية. ولا تنتمى الجامعة الصيفية ولا منظمة منبر الحرية إلى أى انتماء سياسى سوى قضية دعم الحريات، وموقعها على الانترنت:

minbaralhurriyya.org