Wednesday, September 26, 2012

القاهرة.. مدينة مستباحة

من الصعب على مواطن أن يلقى تحية الصباح على من يمر بهم، وهو يشعر أن هناك من يستبيح حقه. حين يطوف كالبهلوان فى شوارع المدينة تفاديا الصدام مع الباعة الجائلين الذى استقروا فى مساحات حيوية من الشارع، أو حين يرى فى طريقه شجارا تؤدب فيه مجموعة من المواطنين مواطنا آخر تسبب لهم فى مشكلة، وبعد تلك الرحلة اليومية قد يعود إلى منزله فيجد جار سوء انتهك حقه فى الخصوصية أو السكن أو الأمان بمخالفة فى البناء.
كلها أسباب وجيهة لفقدان ابتسامة الصباح، أما الأهم من ذلك فهو أن البطل فى كل تلك المواقف وغيرها هو الجسد، مدى حريته فى الحركة، أو ما يتعرض له من انتهاك، وهو ما يمثل انعكاسا لحالة مؤسسات الدولة ومدى فاعليتها بشكل عام. كتاب «المراقبة والمعاقبة» للمفكر الفرنسى ميشيل فوكو يطرح فرضية تقول إن العقوبات البدنية مثل التعذيب أو الحرق كانت ابنة العصور الوسطى، وأن العصر الحديث قد صنع شكلا جديدا للعقوبات يعتمد على التحكم فى جسد المذنب، إما من خلال السجن أو الأشغال العامة. وطوال السنوات الماضية كانت بعض مؤسسات الدولة تخرج عن هذا الإطار، إذ تكررت الاتهامات لمؤسسة مثل وزارة الداخلية أنها مازالت تمارس الطريقة القديمة نفسها فى التعامل مع المواطنين بالتعذيب والانتهاك الجسدى، لماذا؟ لا إجابة عن السؤال سوى أن هناك مؤسسات فى الدولة لم تدرك بعد أنها مؤسسة حديثة، وليست إقطاعيا أو سيدا على قرية يجلد من يخالفه.
ومؤخرا تكررت حوادث فى أعقاب الضعف الأمنى الذى ساد فى أثناء الفترة الانتقالية الماضية بعد الثورة، كأن نجد عقوبات بدنية متعسفة ضد بلطجية، يخرج فيها أهالى القرية ليمارسوا الحرق والتعذيب والتمثيل بجثث هؤلاء البلطجية، وكأن لسان حال هؤلاء الأهالى يقول: إن كان الأمن قد لجأ فى فترة سابقة إلى العقوبة البدنية داخل مقراته، فنحن قادرون على المهمة نفسها، وفى العلن. وهنا يشرح ميشيل فوكو من خلال الكتاب السابق أسباب ممارسة انتهاك الجسد فى التعذيب، مختصرا ذلك فى عبارة واحدة: «التعذيب لا يعيد العدالة إلى نصابها، بل يقوى السلطة». وهنا يصبح الخيار إما مؤسسة حديثة وعقوبات عادلة على الجميع، أو عقوبات بدنية قديمة على رأسها التعذيب والحرق، ووقتها لن تستطيع المؤسسات الأمنية أن تنافس قدرات الأهالى فى تطبيق العقوبات البدنية.
هذا المواطن البائس الذى يفتقد ابتسامة الصباح، أحيانا ما يضطر إلى المرور بإشغالات على الطريق تنتهك حقه فى السير بحــُرية، وفى هذه الجزئية تحديدا تتضح أكثر العلاقة بين المساحة المتاحة لأجساد المواطنين داخل المدينة، ومدى اتساعها أو تقلصها، بحالة مؤسسات الدولة ورؤيتها للمواطنين وحقوقهم فى الحركة والعمل.
فى فترة ما قبل الثورة كانت حملات رجال (البلدية) خلف الباعة الجائلين أشبه بإجراءات «رمزية» تفرض هيبة مؤسسات الدولة، حين يفر الباعة ببدنهم لساعات قليلة ثم يعودون كما كانوا قبلها تماما، أما (الحكومة) فتحمل غنائمها وأسلاب تلك المعركة الوهمية... والواقع الآن بعد ضعف الأداء الحكومى، أثناء الفترة الانتقالية الماضية، كان قرارا واضحا أعلنه الباعة عمليا، بعد أن غزوا مساحات واسعة من الشوارع فى مصر، رافعين شعار: نريد استباحة دائمة للشارع، وليست استباحة مؤقتة. هذا هو الصراع الدائر الآن، ولا تختلف الأوضاع كثيرا فى حالة البناء المخالف الذى يقدره مسئولون حكوميون بمئات الآلاف من المخالفات. قبل الثورة كان ذلك الحضور الرمزى لأجهزة الدولة يخفى حالة من التراخى والفساد الإدارى أوجدت مدنا كاملة قامت على المخالفة للقانون واستباحة أراضى الدولة والأراضى الخاصة. وهنا يتجلى نفس المنطق مرة أخرى من وجهة نظر المخالفين الذين لم يعودوا يطيقون ذلك الحضور الرمزى لمؤسسات الدولة، فيتكرر الموقف، باحثين عن استباحة دائمة وتقنين للأوضاع بدلا من التعامل القديم مع جهاز إدارى هش، والبذل من أجل موظف مرتش يصمت بالمال أو متخاذل لا يتحرك من مكتبه.
تلك الحالة من السعى لفرض قواعد الاستباحة، لم تعد تتجلى فقط فى الخروج على فكرة المؤسسة واستخدام أساليب قديمة مثل: التعذيب والعنف الجسدى، أو البيع والشراء فى الشارع والتضييق على حركة المواطنين فى الطريق العام، بل هو نمط تفكير امتد لأن يستبيح فى مرة أجساد الفتيات، وفى مرة مبنى حكومى وفى مرة ثالثة سفارة دولة أجنبية.

Sunday, September 23, 2012

الصراع على الأرض .. حقنا في المدينة

الدويقة ترفع شعار : احذروا غضب مــن ضاع حقه

عبدالرحمن مصطفى:
الأجواء هادئة داخل مكتب التسكين الرئيسى فى مدينة النهضة، مواطن يدفع المبلغ الشهرى لمحافظة القاهرة، وموظفون محاطون بالملفات والدفاتر، «اذهب إلى مكتب تسكين 3، هو الذى كان يتعامل مع متضررى المناطق المهددة بالإنهيار..» العبارة لأحد الموظفين، أما فى مكتب تسكين 3 على بعد 200 متر تقريبا، يشير على سيد ـ مدير المكتب ـ إلى ملفات على أرفف مجاورة قائلا: «هناك قائمة انتظار طويلة، لكننا لم نعد نقوم بتسكين مناطق الدويقة أو غيرها هنا فى النهضة». لم يكن الحال كذلك قبل عامين، بل كانت قوافل السكان تأتى فى حماية الأمن المركزى بعد الإخلاء حتى يستلموا شققهم هنا فى النهضة، وفى منطقة مجاورة لمكتب التسكين تقع مساكن معروفة باسم «المحتلة» أقام فيها مجموعة من المواطنين بعيدا عن المحافظة، طامحين فى تقنين أوضاعهم. يعلق مدير التسكين بمدينة النهضة قائلا: «لو أخرجتهم السلطات من تلك المساكن المحتلة، ربما يكون هناك فرصة لأصحاب قوائم الانتظار».
تبعد المسافة بين مدينة النهضة ومنطقة الشهبة قرب مساكن الحرفيين فى الدويقة حوالى 20 كم، وعلى مشارف الدويقة، تنتقل العربات المتهالكة من طريق الأتوستراد حتى نهاية مساكن الحرفيين بسرعة بطيئة، وفى أعلى تبة جبلية تقع الشهبة، وهى مصنفة لدى الدولة على أنها ضمن المناطق غير الآمنة وتنتظر الإزالة بأكملها.
تبدأ رحلة الوصول إلى منزل الحاج أبومصطفى بطريق صاعد إلى التبة ثم المرور فى ممرات تتسع لفرد واحد، أقرب إلى سلالم حجرية صنعها السكان، وفى حجرة ضيقة هى منزله الذى لا تصله المياه، يُخرج من جيبه قرار نيابة منشأة ناصر المحرر فى نوفمبر الماضى بشأن شكوى تقدم بها أهالى «الشهبة»، وينص القرار على: «تكليف رئيس الحى باستكمال الإجراءات اللازمة، والحصر المطلوب للسكان وتحديد إذا ما كانت المنطقة تمثل تهديدا للأرواح». على جدار الغرفة رقم مدون بالطباشير وضعه مسئول حصر السكان قبل مدة طويلة، «أخذوا أوراقنا وبياناتنا ولم نحصل على شقق، وليس هناك وعود حقيقية بأى شىء..». طوال الوقت يكرر الجالسون حول أبومصطفى عبارات تحمل الغضب والاستياء: «محدش حاسس بينا»، «فى ست أسر فى بيت واحد.. يرضى ربنا ده ؟!»، «إحنا لو معانا فلوس نقعد هنا ليه؟ المستفيد الوحيد هنا البلطجية!». يتدخل حنفى محمود أكثرهم صخبا وحماسا كى يوضح: «هناك فساد تسبب فى ضياع حقوقنا». يعمل حنفى بشكل متقطع فى مجال العمارة، وتوافرت له مؤخرا فرصة التواصل مع لجنة حقوق الإنسان بمجلس الشورى لنقل معاناة أبناء تلك المنطقة، من نماذج المعاناة التى يستعرضها أن تقوم السلطات بإخلاء إحدى العشش أو البيوت المتهالكة، وتقوم بالهدم دون تعويض. ويروى قصة أخته التى تعرض بيتها المتواضع إلى تشققات بسبب تنقيب عشوائى عن آثار من قبل أحد سكان المناطق المجاورة. جاء فى دراسة بعنوان «الحماية الجنائية للحيازة» للدكتور عماد الفقى ـ المحاضر فى القانون الجنائى ـ بعض التوصيات بشأن تغليظ العقوبات المقررة لجرائم الاعتداء على الحيازة، سواء كانت الاعتداءات من الأفراد العاديين أو الموظفين العموميين، وهو هنا يجرم أيضا عملية الإخلاء القسرى على يد الأمن التى تتم فى أغلب المناطق العشوائية، وصدرت تلك الدراسة عن مركز «شفافية» للدراسات المجتمعية والتدريب الإنمائى، الذى يتابع حالة سكان الشهبة. يعلق حسين متولى، مدير المركز: «فى البداية علينا أن نشير إلى مخطط القاهرة 2050، الذى يقوم على رؤية تعتمد على الاستثمارات المستقبلية، فى المناطق العشوائية مثل مناطق ماسبيرو ورملة بولاق، وفى هذه المواقف يتحول المواطن إلى جزء من خطة لا دور له فيها، خاصة فى حالة الإخلاء، ولدينا نموذج أرض حكر أبودومة فى روض الفرج التى أزيلت للمنفعة العامة، وحتى الآن لم ننتفع كمواطنين بهذه المنطقة، إنه منطق السلطة فى التعامل مع الأهالى».
السير بحذر بين الدروب الصاعدة فى منطقة الشهبة، تكشف عن بيوت وعشش أقرب إلى مكعبات حجرية، ضربت التشققات بعض جدرانها، والجميع هنا يدبر أمره فى توفير الكهرباء أو المياه أيا كانت الوسيلة. يشير حنفى محمود من أعلى التبة الجبلية إلى مساكن سوزان مبارك بالأسفل، ويعلق حسام على الشاب الثلاثينى قائلا: «طوال السنوات الماضية كانت أمامنا هذه المساكن، ولم نفكر فى احتلالها مع من خاضوا هذه التجربة بعد الثورة، لكن أن نكتشف أنه قد سكنها من ليس لهم حق، ونحن هنا نطل عليها دون أن نسكن.. هذا ظلم». يشكك عدد من السكان فى إجراءات التسكين التى تجريها المحافظة، وفى وجود فساد حكومى يسمح لغير المستحقين أن يسجلوا أسماءهم محل سكان الشهبة، ويضربون الأمثال بحالات أخلت السلطات منازلهم، وتركتهم فى العراء، ووصل غيرهم إلى المساكن المجاورة بواسطة الحكومة.
تمثل المناطق غير الآمنة للسكن حوالى 25% من المناطق العشوائية فى القاهرة، ورغم هذه النسبة إلا أن المسئولين يصرون على ردهم المعتاد بعد كل شكوى: «ليس هناك مساكن متوافرة !».
العالم فى الشهبة صغير ومحدود، فى مناطق مجاورة هناك من هم أيسر حالا من سكان هذه التبة، وإن كانوا فى بيوت شبيهة، وفى عالم صغير كهذا تتلاقى الوجوه فى مقاهى مساكن الحرفيين المجاورة، بين العاملين فى الحى والسكان، وبين المستضعف والبلطجى، وتظل النار تحت الرماد. «لو قامت ثورة تانية، هنبقى إحنا اللى وراها، عشان ناخد حقنا من البلد». يلقى حنفى محمود عبارته، وفى الخلفية من بعيد أبراج على بعد كيلومترات لأحياء أرقى وأوفر حظا. قد تتعرض هذه المنطقة إلى انهيارات فى أى وقت وقد تتعرض بعض المساكن المتشققة إلى انهيارات قد تردم أسفلها حضانة للأطفال ومساكن أخرى، ويحتمى بعض السكان هنا بالحكومة كدرع لوجوده فى المنطقة... يقول حنفى محمود: «عرضوا علىّ أكثر من مرة أن أحصل على سكن فى أكتوبر، أو أى مكان آخر، لكن رفضت أن أترك أهلى وأهرب وحدى». المصير المحتوم هنا إما انهيار صخرى نتيجة بناء جديد أو تنقيب عشوائى، أو الانتقال إلى سكن آخر لا يعلم محله أحد حتى الآن.

***
«العشوائيات ليسـت عنوانـا واحـدًا لمشاكلنا»
  • 3 أسئلة إلى الدكتورة رباب الحسينى، أستاذ علم الاجتماع بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية حول المناطق العشوائية وطرق التعامل معها 
•إلى أى مدى يتسبب التجاور بين العشوائيات  والمناطق الأوفر حظا فى مشاكل مجتمعية وأمنية؟
 هؤلاء القاطنون فى المناطق العشوائية حاولوا حل مشكلاتهم فى السكن بطريقتهم الخاصة بعد عجز الدولة عن توفير حلولا لهم ولأسباب أخرى متعلقة بهجرة بعضهم من الريف إلى الحضر، ومن المؤكد أن هناك سؤالا يدور فى أذهانهم هو «لماذا لا أحصل على حقى مثل بقية المناطق الأفضل حالا؟»، هذا السؤال لم تترجم اجابته إلى اعتداءات من مناطق عشوائية على مناطق راقية، وذلك حسب ما تؤكده الدراسات فى السنوات الماضية، وتفسير هذا الأمر هو أن سكان المناطق العشوائية فى موقف ضعيف أمام الدولة والمجتمع، بسبب مخالفتهم القوانين فى البناء والسكن. الأمر الآخر هو أن الدراسات تكشف عن أن شريحة كبيرة من أبناء هذه المناطق هم من أبناء الطبقة الوسطى، فليس كل سكان العشوائيات فى حالة متردية اقتصاديا، ما يجعلهم غير مضطرين إلى التعدى على المناطق الراقية، لكن تبقى الخطورة فى ضعف الحالة الأمنية الحالية، وانتشار السلاح مع المواطنين دون ترخيص، وهو يجعلنا نخشى أن نرى تلك المحاولات فى المستقبل.
 • ما الضوابط المفيد فى عمليات نقل السكان فى حالات المساكن المهددة بالانهيار والعشوائية؟
 فكرة نقل السكان فى حد ذاتها ليست الحل الوحيد لأزمة العشوائيات، لأن ما يحدد هذا الأمر هو الدراسات الهندسية والعمرانية لتلك المناطق، والفيصل هنا هو سلامة السكان، كأن تتوافر ـ على سبيل المثال ـ مساحات تسمح بمرور عربات الإطفاء والأمن فى حالات الطوارئ. ويبقى أمر آخر لا يقل أهمية وهو وجوب استطلاع آراء السكان ومدى ارتباط محل سكنهم بمعيشتهم واقتصادهم، وهل بالإمكان تقنين أوضاعهم أم الأفضل إعادة توطينهم فى مناطقهم داخل مساكن أكثر تطورا.. تلك الأمور كلها يجب أن تخضع للدراسة أولا.
 • هل تبتعد خطط الدولة أحيانا عن واقع سكان المناطق العشوائية وطموحاتهم المستقبلية؟
 للأسف إحدى أكبر الأزمات التى تعانى منها هذه المناطق هو تعامل الدولة معها لفترة طويلة بمنطق أمنى، وقد بدأ هذا التوجه بعد مقتل الرئيس الراحل أنور السادات واكتشاف بؤر إرهابية فى مناطق ذات طابع عشوائى. الأمر الآخر الذى يعانى منه سكان هذه المناطق هو وصمها بأنها أوكار للجريمة، ما يجعلها عرضة للتعسف الحكومى، علما بأن الدراسات الجنائية تكشف عن واقع آخر، فعلى سبيل المثال هناك تواجد لتجارة المخدرات فى مناطق أوفر حظا ولا يتم وصمها مثلما هو الحال مع العشوائيات. ما أراه هنا هو أن الدور الحكومى ضعيف بشكل عام، وليس ذلك عن نقص فى الاموال أو القدرة على توفير بدائل، فهناك جهاز متخصص مثل صندوق تطوير العشوائيات أنشئ خصيصا للتعامل مع هذه القضية، لكن ما هى إنجازاته حتى الآن؟ الأزمة هنا فى الإدارة والإرادة معا.
***
       الخصوص وأبوحشيش: الاسم عشوائيات والقصة مختلفة
  • حكاية قرية زراعية تحولت إلى مدينة غير مخططة..وسيرة عزبة فى قلب العاصمة
  تبعد المسافة بين مدينة «الخصوص» شمال شرق القاهرة وعزبة أبوحشيش فى وسط العاصمة حوالى 11 كم، وكلاهما مصنف ضمن المناطق ذات التخطيط العشوائى، لكن ما يعيشه محمد شحاتة المحاسب الشاب فى مدينة الخصوص مختلف تماما عما يعيشه الشيخ محمد سيد أحد قدامى سكان عزبة أبوحشيش.
 قبل أكثر من 15 سنة كان بإمكان المحاسب الشاب محمد شحاتة أن يرى من شرفة منزله فى قرية «الخصوص» القديمة مساحات واسعة من المزارع الخضراء تنتهى بعيدا، قرب ترعة الإسماعيلية على بعد مئات الأمتار. هذا الواقع تغير اليوم إلى مساحات مزروعة بمبان سكنية تتراوح ارتفاعاتها بين 6 إلى 12 طابق، «يمكن للساكن فى شقته أن يسمع تفاصيل حياة جاره فى العمارة المقابلة بسبب ضيق الشوارع، عمارات سكنية مقبولة المظهر، لكنها بنيت فى فوضى وعلى غفلة أحيانا من الدولة أو بتواطؤ من موظفيها فى أحيان أخرى»، يصف محمد شحاتة الذى يعمل فى مجلس مدينة الخصوص ذلك المشهد أثناء عبوره إلى منزله فى شارع البنزينة (داير الناحية سابقا) حيث مازالت هناك بعض ملامح القرية البائدة فى بعض المساكن القديمة. ذلك التطور النهائى لمدينة الخصوص يشبه قصة أكثر من 70% من العشوائيات فى مصر المقامة على أراض زراعية، حسب أرقام المركز الوطنى لتخطيط استخدامات أراضى الدولة. أما فى عزبة أبوحشيش بحى حدائق القبة فالواقع يحمل تطورا آخر أكثر اختلافا، حيث يلاحظ المارة هناك أزمة فى المرور من أمام مدخل العزبة الرئيسى ناحية شارع بورسعيد فى غمرة بسبب تضخم تجارة الروبابيكيا والخردة على أطرافها، وأغلب العاملين فيها من المهاجرين حديثا خاصة من محافظة الفيوم، وهو ما يصيب شخصا مثل الشيخ محمد، الذى عاش فى العزبة منذ ميلاده قبل 57 سنة، بحالة من الغضب. «كان أهلنا فى الماضى من سكان العزبة يعملون فى المصانع المجاورة التى أغلق معظمها الآن، ومنذ سنوات طويلة هناك حديث لا ينتهى عن إزالة المنطقة، لكن لم يحدث شيئا».
 قد تتشابه بعض المشكلات بين منطقة قديمة مثل أبوحشيش ومنطقة أخرى مثل الخصوص فى مشهد برك المجارى والتكدس السكانى، لكن الصورة لا تتطابق أبدا، إذ تظل الأحداث أكثر كثافة فى أبوحشيش لصغر مساحتها (حوالى 20 فدان) فى مقابل (1200 فدان) هى مساحة الخصوص منها (1000 فدان) من البناء العشوائى، وبينما ظلت أبوحشيش منسية من محاولات التغيير الجذرى، تضخمت الخصوص حتى تحولت من قرية إلى مدينة فى العام 2006. «تنتمى جذور عائلتى إلى العتامنة فى مركز طما بمحافظة سوهاج، وهذه الناحية من عزبة أبوحشيش كانت معروفة بهم، وفى مدينة الخصوص هناك مساحات أيضا قطنها العتامنة أبناء عمومتى حين بدأ العمران هناك». تلك المفارقة يذكرها الشيخ محمد صاحب الحضور فى عزبة أبوحشيش حين يطرح اسم مدينة الخصوص أمامه كبديل سكنى، كثير من سكان عزبة أبوحشيش الذين يقدرون بـ120ألف نسمة ـ حسب آخر إحصاء حكومى ـ ليس لديهم القدرة المالية للانتفال إلى شقة أخرى فى مناطق من نوعية الخصوص أو غيرها، إذ تتكرر عبارات على ألسنة الشباب الجالس فى المنطقة مثل: «إن كان هناك من يستطيع مساندة المنطقة فى تطويرها أو دعم سكانها فعليه ألا يتأخر». تقع عزبة أبوحشيش على خطة الدولة فى مشروع القاهرة 2050 ومصنفة ضمن المناطق غير الآمنة، وقبل سنوات أجرى حصر للسكان، وكانت هناك وعود بأن يتم تطوير المنطقة وتسليم شقق جديدة للمتضررين أو تعويض مالى. «قمنا بمبادرة أن نقيم أكشاكا وسوقا بديلا ناحية السكة الحديد لتجار البيكيا والخردة، لكن لم يتجاوب معنا أحد من الحكومة، ولم يتحمس كثير من السكان». الجملة للشيخ محمد الذى وصل إلى قناعة مفادها أن المنطقة بأسرها فى حاجة إلى قرار حكومى واضح، يشرح ذلك: «قد لا يتفق أغلب المالكين هنا فى العزبة مع وجهة نظرى فى التعاون مع أى محاولة تطوير أو إزالة، لأنهم يريدون الاستفادة من مساكنهم وإعادة بناءها، أما حل الإزالة والنقل هو الأنسب للمستأجرين أو السكان الأكثر بؤسا.. أنا عن نفسى ورغم أننى مالك سأحشد للقرار الصائب للعزبة حتى إن كان فيه قرار بإزالة منزلى القديم.. المهم الصالح العام». يتم هذا الحديث الآن فى خلفية واقع جديد فى عزبة أبوحشيش بعد الثورة، وهو ازدياد موجة بناء العمارات الجديدة بعد هدم المساكن القديمة المتهالكة. ورغم ضعف هذه الموجة لكنها قد تعيق أى تطوير مستقبلى، إذ بنيت عمارات يتجاوز بعضها العشرة طوابق، كذلك فإن بعض رجال الحزب الوطنى السابق كانوا يتعاملون مع المنطقة على أنها كتلة تصويتية يمكن الضغط عليها فى المواسم الانتخابية، لذا تم تكريس الوضع على ما هو عليه.
هذا الواقع مختلف تماما عن منطقة مثل الخصوص، فمشاكلها أضخم وفى حاجة إلى تطوير يتناسب مع عدد سكانها الذى تجاوز المليون مواطن. يصف الوضع محمد شحاتة، الذى كان ممثلا لحملة أبوالفتوح فى الخصوص قبل أشهر، قائلا: «حركة بيع وتقسيم الأراضى أوجدت مجالا جديدا للعمل، وكذلك اعتمدت على حالة الفساد فى الفترة الماضية، وبعد الثورة أصبح هناك نوعا من التمادى فى تعلية الطوابق السكنية.. الجميع يتعامل بسياسة الأمر الواقع، وهو أمر مخيف إذا ما أردنا إزالة مخالفة أو تطوير للمنطقة».
موقف الوافدين حديثا على المنطقتين سواء عزبة أبوحشيش أو القرية العملاقة «الخصوص» هو ضعف المشاركة المجتمعية. فى أبوحشيش يعمل أغلبهم فى تجارة الخردة، تاركين المسؤولية الاجتماعية لأهالى العزبة الأصليين، وفى الخصوص رغم اتساع مساحات السكن، إلا أن الأجواء العائلية ما زالت ذات حضور هناك. ورغم ما تعانى منه الخصوص من وصم بسبب أزمة التعامل مع القمامة والصرف الصحى ومشكلة المياه، لكنها لم تتعرض للوصم الذى تعرضت له عزبة أبوحشيش فى حملات إعلامية تناولت العشوائيات من موقف يعتبر سكان عزبة أبوحشيش بؤرة إجرامية. هناك قد تجد شابا مصابا بقنبلة «المونة» فى يده أثناء شجار، أو آخر مصاب بخرطوش عرضا بسبب نزاعات بين التجار ناحية الشارع الرئيسى، ويدافع أحد الشباب عن ذلك قائلا: «أى منطقة شعبية كده.. احنا ماختلفناش كتير». يعلق الشيخ محمد موضحا: «تجار المخدرات هنا معروفين لدى الأمن، وليسوا شريحة واسعة كما يدعى الإعلام، اسم المنطقة ليس له صلة بالمخدرات، لكن اسم إحدى العائلات القديمة هنا.. كل ما نطلبه هو أن تنصت الحكومة لمبادراتنا، فنحن أدرى بشئون عزبتنا».
 PDF

Thursday, September 13, 2012

هنا القاهرة.. سوريون من أجل الثورة

 
ناشطة، ورجل أعمال، وفنانة، لم تجمعهم المهنة، وجمعتهم هوية واحدة: الجنسية السورية، ومقر واحد: القاهرة. «لم أكن أتصور أن تتبدل حياتى بهذا الشكل، ولا أن يزداد فخرى بأنى سورية هكذا بعد بدء الثورة فى بلادى». توضح سلمى جزايرلى الناشطة المقيمة فى القاهرة قبل 12 سنة أنها لم تكن جزءا من الجالية السورية طوال هذه السنوات وتحولت إلى أخت كبرى لكثيرين بعد بدء الربيع العربى. «اليوم أعمل فى عدة مجالات متعددة دعما للقضية، بعد أن كنت مكتفية بالعمل فى هندسة الديكور فقط..». تعطى أمثلة على ذلك، منها خدمة اللاجئين الوافدين على مصر وتوفير محل إقامة لمن ليس له قدرة على ذلك، إضافة إلى التواصل مع ناشطين سوريين فى عواصم عربية أخرى بهدف التنسيق، بعض تلك الأنشطة تتعلق بمتابعة نساء اغتصبوا وتعرضوا للعنف على يد النظام السورى، ومن خلال تواجدها فى القاهرة أصبحت أكثر اهتماما بالتواصل الكثيف مع الناشطين الداعمين من رجال أعمال لتوفير إعاشة مناسبة للمتضررين. فجأة تجد نفسها فى قلب المعمعة، حين تركض ناحية الرئيس المصرى الدكتور محمد مرسى قبيل كلمته فى جامعة الدول العربية مؤخرا، وتشير له من بعيد طلبا للدعم، هذه الروح كانت مخفية طوال سنوات عمرها بحكم انتمائها إلى أسرة مغضوب عليها من النظام السورى، إذ اضطر والدها الضابط السابق أن يبتعد عن البلاد لعقود فى دولة الكويت، ولم يكن هناك أى مجال للممارسة المعارضة، بسبب القبضة الأمنية العتيدة لهذا النظام.
فى كتاب «ملفات المعارضة السورية، مكتبة مدبولى، 1994» يوجز الكاتب تمام البرازى الحالة العامة للمعارضة السورية بعد وصول الرئيس السابق حافظ الأسد إلى السلطة فى عام 1970، إذ لم تكن المعارضة السورية واحدة فى رأيه، بل كانت «معارضات متباينة، وأحيانا مختلفة مع بعضها بعضا، وإن كانت تشترك بهدف واحد هو إسقاط النظام القائم وإقامة نظام بديل». أما النقطة الأهم التى يتعرض لها أيضا فهى أن بعض من هاجروا من المعارضين لنظام الأسد، «دفعوا ثمنا غاليا لتعلقهم بالمبادئ والحرية، هو حياتهم..». هذه الحالة هى التى دفعت كثيرين من رموز المجتمع السورى حاليا فى الداخل أن يصمتوا حتى حين، أو أن يلحقوا بقطار المعارضة متأخرين على عكس من اتخذوا تلك المغامرة مبكرا، ومنهم فنانون لم تشغلهم حسابات المستقبل كثيرا. «أنا شخصية متطرفة فى دعم الثورة، ليس لدى استعداد أن أتعامل مع فنان أو رجل أعمال لم يعلن دعمه للثورة السورية.. فالواقع تحول إلى قتل ودماء، ولم يعد هناك مجال للصمت».
تعلن الممثلة السورية الشابة لويز عبدالكريم موقفها بوضوح غير نادمة على اختياراتها، بل تزيد على ذلك: «أسعى بكل وسيلة ممكنة للوصول إلى الإعلام.. فهو نجدتنا الآن!». توضح عبارتها شارحة أن هناك حالة من الضبابية لدى الكثيرين حول الثورة السورية، تكمل: «بعض المثقفين المصريين يقارن بين الـ18 يوما الأولى من الثورة المصرية، وما يحدث الآن فى سوريا، وهذه مشكلة سببها أن صوتنا لا يصل إلى الجميع، وبالتالى تغيب الصورة الصحيحة عن الواقع السورى..». حسب حديثها، ليس لديها من وسائل الدعم سوى الحشد الاعلامى، إلى جانب الاستمرار فيما كانت تنشط فيه من مجموعات ثورية على الانترنت، وعلى رأسها (أمارجى ــ حملة الدولة المدنية السلمية) التى بثت ضمنها فيديوهات تضامنية على الإنترنت، ومرة تتصدر لويز عرضا مسرحيا «مونودرامى» تمثل فيه وحدها تحت عنوان: المندسة، أقامته فى قطر وتنتظر عرضه فى مصر الشهر المقبل. «المسئوليات أكبر منى ومن إمكانياتى، أنا ممثلة من الصف الثانى، لست مغنية فأقيم حفلا غنائيا لدعم القضية، ولست فى شهرة النجوم الذين ما زالوا صامتين عن دعم القضية، فى النهاية كل مبادراتى لها حدود». وفدت لويز عبدالكريم إلى القاهرة قبل 8 أشهر فقط، إلا أنها تتفق مع الناشطة سلمى جزايرلى فى أن أجواء الثورة المصرية وما تبعها من مسيرات وفاعليات أكسبتها روحا ثورية جديدة، كما اتفقتا على أن حضورهما فى الإعلام على رأس أولوياتهما إذا ما توافرت الفرصة من أجل دعم القضية، وذلك لهدف لا يخفيانه هو «إظهار الوجه المدنى للثورة»، ونفى ما يروجه النظام السورى عن الثورة من أنها انشقاقات لمتطرفين دينيين.
وسط الشرائح المتباينة من المجتمع السورى تبقى شريحة يراهن عليها كثيرون وهى الطبقة التجارية السورية العريقة، ودورها وسط الجالية السورية فى القاهرة. «هناك رجال أعمال اندمجوا فى النظام واستفادوا من فساده، هؤلاء هم من يدافعون عنه باستماتة، ويدعمون الشبيحة (البلطجية) ضد أى احتجاج، أما الباقون وهم الأكثرية فمنهم من يخشى الصدام مع نظام غاشم». يصف باسل كويفى رجال الأعمال السورى أوضاع الطبقة التجارية السورية، ورغم إقامته فى مصر قبل 10 سنوات، إلا أن دوره أصبح أكثر بروزا فى دعم اللاجئين السوريين بمصر، كغيره من رجال الأعمال المقيمين هنا فى مصر. وقبل أشهر خرج آلاف المتظاهرين فى عدة مناطق سورية تحت اسم «جمعة تجار وثوار يدا بيد حتى الانتصار» وذلك فى محاولة لحث الطبقة التجارية ورجال الاعمال فى سوريا على الانضمام للانتفاضة ضد النظام، وما زال البعض يراهن على دور هذه الطبقة فى حسم الصراع.
فى دراسة صدرت مؤخرا عن المركز العربى للأبحاث ودراسة السياسات، تحت عنوان «أعيان الشام واستعصاء العلمانية فى سورية»، يشرح الباحث صقر أبوفخر ذلك العقم الذى أصاب ثلاث شرائح مهمة فى المجتمع السورى منذ بدايات القرن الماضى، وهم ملاك الأراضى الزراعية، ورجال الدين، والتجار، لذا كانت مهمة حزب البعث الحاكم فى سوريا هى السيطرة على شرائح المجتمع من خلال المؤسسة التى جاءت به إلى السلطة، وهى المؤسسة العسكرية. هذه الملامح تفسر المشهد الحالى لدبابات ومدفعية تواجه الثوار فى سوريا. كان المهندس باسل كويفى فى منصب أمين سر الغرفة التجارية السابق بريف دمشق، لكنه يرفض أن يعتبره البعض جزءا من النظام، إذ لا يخلو الأمر فى أوساط الناشطين السياسيين والمعارضين من اتهامات متبادلة فى بعض الأحيان يصفها قائلا: «الغرفة التجارية ليست جزءا من الحكومة، وقد تعرضت للتهديد أنا وعائلتى فى سوريا كأغلب من يبرز فى المشهد المعارض خارج الوطن.. مشكلة المعارضة الآن أن البعض يوجه اتهامات للطرف الآخر دون تقدير اللحظة الحالية، ورغم ذلك فإن الأزمة توحدنا فى النهاية». يرى باسل كويفى بحكم كونه رجل أعمال أن أهم طريق للمساندة الآن هو توفير المعيشة لشريحة من اللاجئين السوريين الذين لا يستطيعون مواجهة الحياة هنا، وقد نجح فى هذا الدعم بمساندة جمعيات خيرية ورجال أعمال من مصر. وفى جانب آخر يتحدث كعضو فى المجلس الوطنى السورى، قائلا: «كنا قبل الثورة السورية نخطط كمعارضة فى الخارج لتصورات من أجل نشر الديمقراطية فى الوطن، إلا أن الصحوة التى دبت فى البلدان العربية غيرت خططنا تماما».