من الصعب على مواطن أن يلقى تحية الصباح على من يمر بهم، وهو يشعر أن هناك من يستبيح حقه. حين يطوف كالبهلوان فى شوارع المدينة تفاديا الصدام مع الباعة الجائلين الذى استقروا فى مساحات حيوية من الشارع، أو حين يرى فى طريقه شجارا تؤدب فيه مجموعة من المواطنين مواطنا آخر تسبب لهم فى مشكلة، وبعد تلك الرحلة اليومية قد يعود إلى منزله فيجد جار سوء انتهك حقه فى الخصوصية أو السكن أو الأمان بمخالفة فى البناء.
كلها أسباب وجيهة لفقدان ابتسامة الصباح، أما الأهم من ذلك فهو أن البطل فى كل تلك المواقف وغيرها هو الجسد، مدى حريته فى الحركة، أو ما يتعرض له من انتهاك، وهو ما يمثل انعكاسا لحالة مؤسسات الدولة ومدى فاعليتها بشكل عام. كتاب «المراقبة والمعاقبة» للمفكر الفرنسى ميشيل فوكو يطرح فرضية تقول إن العقوبات البدنية مثل التعذيب أو الحرق كانت ابنة العصور الوسطى، وأن العصر الحديث قد صنع شكلا جديدا للعقوبات يعتمد على التحكم فى جسد المذنب، إما من خلال السجن أو الأشغال العامة. وطوال السنوات الماضية كانت بعض مؤسسات الدولة تخرج عن هذا الإطار، إذ تكررت الاتهامات لمؤسسة مثل وزارة الداخلية أنها مازالت تمارس الطريقة القديمة نفسها فى التعامل مع المواطنين بالتعذيب والانتهاك الجسدى، لماذا؟ لا إجابة عن السؤال سوى أن هناك مؤسسات فى الدولة لم تدرك بعد أنها مؤسسة حديثة، وليست إقطاعيا أو سيدا على قرية يجلد من يخالفه.
ومؤخرا تكررت حوادث فى أعقاب الضعف الأمنى الذى ساد فى أثناء الفترة الانتقالية الماضية بعد الثورة، كأن نجد عقوبات بدنية متعسفة ضد بلطجية، يخرج فيها أهالى القرية ليمارسوا الحرق والتعذيب والتمثيل بجثث هؤلاء البلطجية، وكأن لسان حال هؤلاء الأهالى يقول: إن كان الأمن قد لجأ فى فترة سابقة إلى العقوبة البدنية داخل مقراته، فنحن قادرون على المهمة نفسها، وفى العلن. وهنا يشرح ميشيل فوكو من خلال الكتاب السابق أسباب ممارسة انتهاك الجسد فى التعذيب، مختصرا ذلك فى عبارة واحدة: «التعذيب لا يعيد العدالة إلى نصابها، بل يقوى السلطة». وهنا يصبح الخيار إما مؤسسة حديثة وعقوبات عادلة على الجميع، أو عقوبات بدنية قديمة على رأسها التعذيب والحرق، ووقتها لن تستطيع المؤسسات الأمنية أن تنافس قدرات الأهالى فى تطبيق العقوبات البدنية.
هذا المواطن البائس الذى يفتقد ابتسامة الصباح، أحيانا ما يضطر إلى المرور بإشغالات على الطريق تنتهك حقه فى السير بحــُرية، وفى هذه الجزئية تحديدا تتضح أكثر العلاقة بين المساحة المتاحة لأجساد المواطنين داخل المدينة، ومدى اتساعها أو تقلصها، بحالة مؤسسات الدولة ورؤيتها للمواطنين وحقوقهم فى الحركة والعمل.
فى فترة ما قبل الثورة كانت حملات رجال (البلدية) خلف الباعة الجائلين أشبه بإجراءات «رمزية» تفرض هيبة مؤسسات الدولة، حين يفر الباعة ببدنهم لساعات قليلة ثم يعودون كما كانوا قبلها تماما، أما (الحكومة) فتحمل غنائمها وأسلاب تلك المعركة الوهمية... والواقع الآن بعد ضعف الأداء الحكومى، أثناء الفترة الانتقالية الماضية، كان قرارا واضحا أعلنه الباعة عمليا، بعد أن غزوا مساحات واسعة من الشوارع فى مصر، رافعين شعار: نريد استباحة دائمة للشارع، وليست استباحة مؤقتة. هذا هو الصراع الدائر الآن، ولا تختلف الأوضاع كثيرا فى حالة البناء المخالف الذى يقدره مسئولون حكوميون بمئات الآلاف من المخالفات. قبل الثورة كان ذلك الحضور الرمزى لأجهزة الدولة يخفى حالة من التراخى والفساد الإدارى أوجدت مدنا كاملة قامت على المخالفة للقانون واستباحة أراضى الدولة والأراضى الخاصة. وهنا يتجلى نفس المنطق مرة أخرى من وجهة نظر المخالفين الذين لم يعودوا يطيقون ذلك الحضور الرمزى لمؤسسات الدولة، فيتكرر الموقف، باحثين عن استباحة دائمة وتقنين للأوضاع بدلا من التعامل القديم مع جهاز إدارى هش، والبذل من أجل موظف مرتش يصمت بالمال أو متخاذل لا يتحرك من مكتبه.
تلك الحالة من السعى لفرض قواعد الاستباحة، لم تعد تتجلى فقط فى الخروج على فكرة المؤسسة واستخدام أساليب قديمة مثل: التعذيب والعنف الجسدى، أو البيع والشراء فى الشارع والتضييق على حركة المواطنين فى الطريق العام، بل هو نمط تفكير امتد لأن يستبيح فى مرة أجساد الفتيات، وفى مرة مبنى حكومى وفى مرة ثالثة سفارة دولة أجنبية.
No comments:
Post a Comment