Sunday, December 22, 2013

غزة .. سوريا.. أفغانستان.. صور تغزو عقول الإسلاميين وقلوبهم

شباب الإخوان الذين رفعوا لافتة «غزة فى القلب» فى العام الماضى أثناء التصعيد العسكرى الاسرائيلى ضد غزة، اختاروا الآن أن يرفعوا لافتة ذات عنوان شبيه «رابعة فى القلب»، لتنتقل رابعة محل غزة ويتحول شعار «غزة رمز الصمود» إلى «رابعة رمز الصمود»، وعلى هذا المنوال، تتمسك شريحة من شباب التيار الاسلامى بتشبيه تجربتهم بتجربة غزة فى مواجهة القوات الاسرائيلية.
ولا يتوقف الأمر عند حد الاستعارة من غزة فقط، بل يتجه بعضهم أيضا إلى اقتباس مشاهد من تجارب اسلامية أخرى، حتى يتحول الهدف فى النهاية إلى صنع نسخ من صور يقدسها شباب التيار الاسلامى سواء فى غزة أو سوريا أو العراق أو الشيشان أو أفغانستان وغيرها من النماذج الاسلامية.
«هناك عاطفة جارفة بين شباب الإخوان المسلمين تجاه غزة، بسبب طبيعة القضية الفلسطينية نفسها، وبسبب ما كان يحدث من حشد نفسى وعاطفى على مدار سنوات طويلة.. لقد رأيت بعينى كيف كان يتعامل شباب وفتيات الإخوان مع أفراد حماس، وتحديدا مع كتائب القسام.. هناك حالة ولع حقيقية». يتحدث الباحث الشاب عبدالرحمن عياش ــ العضو السابق فى جماعة الإخوان المسلمين ــ عن افتتان شباب الإخوان بتجربة المقاومة المسلحة فى غزة، وهو ما ظهرت أعراضه مؤخرا بشكل واضح، فى استدعاء صور من فلسطين المحتلة ومن غزة ومحاولة ربطها بتجربة اعتصام رابعة العدوية.
ويبرز عالم الانترنت كأحد الخنادق التى عاش فيها بعض شباب التيار الإسلامى متمسكين بنموذج حماس وتشبيه أنفسهم بأهل غزة وفلسطين مؤخرا. على سبيل المثال لم يكن مفاجئا أن تتداول الصفحات الإسلامية على الانترنت صورة، اشتهرت عقب فض اعتصام رابعة، تحمل فى نصفها الأيسر مشهدا لسيدة فلسطينية تقف أمام جرافة يقودها جندى إسرائيلى، وفى النصف الأيمن مشهد شبيه لسيدة مصرية تقف أمام جرافة يقودها جندى مصرى أثناء فض اعتصام رابعة. هكذا كان انغماس كثير من شباب الاخوان المسلمين فى قضية غزة وفلسطين حاضرا بشكل لا إرادى للتعبير عن مشكلتهم مع السلطة الحالية، وعلى مدار الأشهر الماضية استمر هؤلاء الشباب فى طريقهم دون تغيير، إذ تكرر الأمر فى مواقف أخرى، كان آخرها مع الطفل محمد بدوى الذى لقى مصرعه أثناء مسيرة لأنصار جماعة الاخوان المسلمين فى حى العمرانية، فالتقطت الصفحات المناصرة للرئيس السابق صورة الطفل القتيل وهو فى حضن أحد جيرانه، وأدمجوها مع صورة الطفل الفلسطينى محمد الدرة وهو فى حضن والده بعد مقتله على أيدى القوات الاسرائيلية، وهنا تتحول فلسطين إلى رابعة مرة أخرى، والاخوان المسلمون إلى ضحايا فلسطينيين.
وإذا بقينا قليلا فى عالم الانترنت، فقد كان معتادا أن يرفع الشاب الإخوانى صورة قيادى حمساوى على صفحته فى شبكة فيسبوك الاجتماعية، وفى الجانب المقابل يؤكد الشاب السلفى على انتمائه القريب من الفكر الجهادى بأن يرفع صورة مجاهد إسلامى على حسابه فى الفيسبوك، مثل «خطاب»، الشاب السعودى الذى خاض معارك مسلحة فى أفغانستان والشيشان مع المقاتلين الاسلاميين. لكن الواقع تغير قليلا بعد 30 يونيو، إذ أصبح الشباب الإخوانى أكثر تعايشا مع أصحاب الفكر الجهادى، فأصبح الإخوانى لا يجد غضاضة فى رفع صورة المجاهد خطاب أو التسامح مع شعار القاعدة، فعالم الاعتصامات قد جمع الإخوانى والسلفى والجهادى سويا دفاعا عن «الشرعية» على حد تعبيرهم.
«ما حدث بين شباب الإخوان المسلمين، أنهم كانوا طوال الوقت يميزون أنفسهم عن السلفيين والجهاديين الأكثر تشددا، بحجة أن الاخوان أكثر تفتحا ويدركون معنى الديمقراطية، لذا كنا نجد المساجد والدروس الدينية ومواقع الانترنت التى يسيطر عليها الاخوان، أكثر تبجيلا لقادة حماس، فى حين يتغاضون عن سيرة أسامة بن لادن، وغيره من الجهاديين، والعكس تماما كان فى المعسكر السلفى الأقرب إلى سيرة الجهاديين عن قادة حماس، لكن الأمور اختلفت مؤخرا، وأصبح الشاب الإخوانى لا يمانع فى وضع صورة خطاب المجاهد الشهير على حسابه فى الفيسبوك». هذا الرأى ينقله عمار مطاوع أحد شباب جماعة الاخوان المسلمين، الذى خاض تجربة العمل فى منابر إعلامية إخوانية. وهو يضيف: «لقد اقتربت المسافات وبدأ الجميع يبحث عن رمز اسلامى، بعد سقوط مرسى الذى كان يعول عليه الاسلاميون، كما أن الشاب الإخوانى الآن متهم بالإرهاب، مثله فى ذلك مثل الجهاديين والتكفيريين الرافضين للديمقراطية والمدنية».
تلك الحالة من التقارب بين شباب الاخوان والمفتونين بالفكر الجهادى بحكم التجاور فى الاعتصامات، انعكست على مواقف على الأرض، منها ما جرى فى اعتصام رابعة العدوية بعد تغيير اللافتة الرئيسية فى منصة رابعة من «نحمى الثورة.. نحمى الشرعى»، إلى «مع الديمقراطية.. ضد الانقلاب». وهنا ظهرت انتقادات من تيارات سلفية وأخرى قريبة من الفكر الجهادى، ترفض فكرة الدفاع عن «الديمقراطية»، مؤكدين أن وجودهم فى الاعتصام كان دفاعا عن الشريعة بالأساس. «فى تلك اللحظة على سبيل المثال، حدث جدل بين شباب الاخوان وأصحاب الفكر الجهادى من الرافضين للديمقراطية، واطلعنا على حجتهم الشرعية، ووجهة نظرهم»، حسبما يستكمل عمار مطاوع. ومع الوقت تتكرر مواقف أخرى، كأن تظهر أعلام القاعدة وسط مسيرات أنصار الرئيس السابق مرسى، مثلما حدث فى أحداث مسجد الفتح فى أغسطس الماضى.
وكانت أغلب التيارات الاسلامية قد أيدت الثورة السورية، فالأدبيات السلفية التقليدية تتعامل مع المشهد هناك من زاوية الصراع الطائفى بين السنة والشيعة، فى حين يتعامل الجهادى مع الأزمة السورية على أنها أرض الشام وأرض المحشر، بينما تعامل معها شباب الاخوان وأعضاء حركة «حازمون» من منطلق أنها ثورة إسلامية، هذا الاجماع على تأييد الثورة السورية برز بشكل أكبر فى التفاف كافة تلك الاتجاهات حول الرئيس السابق محمد مرسى فى «مؤتمر الأمة المصرية لدعم الثورة السورية» الشهير فى يونيو الماضى بالصالة المغطاة، لذا لم يكن مستغربا أن تستعير هذه التيارات لفظ «الشبيحة» من التجربة السورية، وهو لفظ يطلق فى سوريا على مؤيدى النظام السورى الحالى، وأطلقوه فى فترة سابقة على مؤيدى 30 يونيو، واصفين إياهم بـ«شبيحة السيسى» ليكتب بعضهم هذا التعبير على الجدران، وتستخدمه كيانات سياسية مؤيدة للرئيس السابق مثل (التحالف الوطنى لدعم الشرعية) فى بيانات رسمية. هل يستمر شباب التيار الاسلامى فى مسار العزلة داخل عالم يستعير من تجارب إسلامية بدءا من القاعدة انتهاء بتجربة حماس فى غزة؟ يجيب عبدالرحمن عياش ــ العضو السابق فى تنظيم الإخوان المسلمين ــ بحكم قربه من شباب الجماعة: «أستبعد وقوع عنف جماعى، لكنى أتوقع ازدياد النزعة الانتقامية فى الفترة القادمة». بينما يعلق عمار مطاوع أحد شباب الجماعة قائلا: «أعيد مع بعض الزملاء قراءة الأدبيات الاخوانية من جديد، كى نخرج من حالة اليأس والكفر بالديمقراطية وبالمجتمع التى أصابت كثير من شباب التيار الاسلامى».

Wednesday, November 27, 2013

المناظرة .. أضمن وسائل قبول الآخر

طلاب بعيدا عن العنف و التعصب

كتب – عبد الرحمن مصطفى
في العام 2010 قرأت هبة هنداوي إعلانا عن مسابقة فريدة من نوعها تضم فرقا جامعية من دول مختلفة، بهدف المناظرة .. جذبتها الفكرة، وسافرت إلى الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا التي نظمت المسابقة، و تصف ذلك قائلة : "شاركت وقتها على نفقتي الشخصية، و مثلت مصر هناك ، لكن الاستفادة كانت في التدريبات التي تلقيتها في فن المناظرة، وحين عدت إلى مصر فكرت في إنشاء ناد للمناظرات في جامعة حلوان ، حيث كنت أدرس ، لكن لم تسمح لي الجامعة وقتها بإقامة هذا النادي، وبعدها اشتعلت ثورة 25 يناير". تدير هبة هنداوي الآن نادي " مناظرات مصر" الذي يعمل كمبادرة تحتوي 10 أندية تتوزع على عدد من الجامعات المصرية ، و كلها تعمل لهدف واحد ، التدريب وممارسة المناظرة بين الطلاب .
إحدى المفارقات المرتبطة بنشأة أندية المناظرة، أن التجربة الأولى في تدشين ناد للمناظرة باللغة العربية كانت في ماليزيا، حيث تأسس رسميا نادي الخطابة والمناظرة في الجامعة العالمية الاسلامية هناك في العام 2004، ثم انتقل هذا الاهتمام نفسه إلى قطر التي تبنت تأسيس "مركز مناظرات قطر" في العام 2007 ، أما في مصر فقد بدأ الاهتمام متأخرا حسبما تكمل هبة هنداوي : "منذ العام 2011 وحتى نهاية 2012 ، كنا في محاولات لتأسيس مبادرة نادي مناظرات مصر، و نجحنا في التنسيق بين عدة جامعات، و أصبح لدينا 10 أندية طلابية في جامعات مختلفة، كما حصلنا على دعم فني من مركز جون جيرهارت للأعمال الخيرية والمشاركة المدنية بالجامعة الأمريكية، الذي ساعدنا في إقامة أول مسابقة ومعسكر تدريبي للمناظرات في مصر".
في المسابقة الأخيرة التي أجريت في الجامعة الأمريكية قبل أسابيع، كانت الفكرة أكثر وضوحا، حين تنافست 10 فرق جامعية ، انتهت بالمناظرة النهائية بين جامعتي أسيوط والاسكندرية حول إن كان إلغاء مجانية التعليم العالي ضرورة لضمان جودته. حاول كل فريق إرباك منافسه ودفعه إلى الخوض في السياسة، أو العصبية في الحوار ، وهي أمور تخالف قواعد العمل. وتقوم المناظرة على أن يصعد المنصة شاب من أحد الفريقين شارحا وجهة نظره في زمن محدد، ويتلقى بعدها تعقيبا من الفريق المنافس لدحض وجهة نظره. في مثل هذه المناظرات ، قد يتبنى عضو الفريق وجهة نظر مخالفة لقناعاته الشخصية، وهنا تتلخص مهمته في أن يخوض التجربة بالأدوات التي تدرب عليها من قبل.
"يتدرب الطالب على عدة مهارات ، منها الخطابة ، و العمل الجماعي ، و لغة الجسد، وهو ما تدربت عليه مع فريق مناظرات مصر ، ثم حاولت نقله إلى العديد من الطلاب الذين يتبنون مبادرات جادة في جامعة بنها ، و من هؤلاء الطلاب أسسنا أول نادي للمناظرات في الجامعة " . كان ذلك في العام الدراسي الماضي، حسبما يروى عبد الرحمن أحمد مؤسس نادي المناظرات في جامعة بنها، وطالب كلية الحقوق بنفس الجامعة. هناك يجتمع الطلاب بشكل دوري للتناظر حول قضية يختارونها، أما الهدف فهو "تأسيس طالب لديه القدرة على الانصات لوجهة النظر الأخرى، وعرض وجهة نظره بشكل متحضر"، على حد قول عبد الرحمن أحمد.
يمكن للكثيرين أن يكرروا تجربة أندية المناظرات، إذ تتوافر - مادة أغلبها باللغة الانجليزية- على الانترنت تفيد من يريد خوض التجربة، وهو ما قام به مجموعة من الشباب في العام 2010 بمدينة الاسكندرية، لكن تجربتهم لم تصل إلى نفس انتشار نادي "مناظرات مصر" ، بينما يستخدم كل نادي طلابي من الأندية العشرة التابعة لمبادرة "مناظرات مصر" نفس المنهج والهيكل التنظيمي، الذي يمنع المناظرات السياسية، تاركين هذه المهمة لمؤسسات أخرى سياسية وحقوقية خاضت تجربة المناظرات بعناوين مختلفة.
قبل 30 يونيو الماضي بأيام دعا نادي طلاب بنها إلى مناظرة تحت هذا العنوان : "الدعوة إلى رحيل الرئيس المنتخب بعد عام فيها افتئات على إرادة الشعب المصري وظلم للنظام الجديد" . "كانت المرة الأولى و الأخيرة التي نضع فيها عنوانا سياسيا بهذا الشكل، فالقواعد تحتم علينا البعد عن المناظرات السياسية"، هذا ما ذكره عبد الرحمن أحمد- مؤسس نادي مناظرات جامعة بنها. وكذلك شرحت هبة هنداوي، مدير مبادرة "مناظرات مصر" التي قالت : "البعض لا يعلم عن المناظرات سوى تلك المناظرة التي جرت بين عمرو موسى وعبد المنعم أبو الفتوح قبيل انتخابات الرئاسة، لكن الحقيقة أن المناظرة هي عملية تدريب دائم واكتساب مهارات قد تفيد هؤلاء الطلبة في المستقبل، و ليست نشاط سياسي". هذا ما وضحه أيضا محمد السيد عبد- المجيد طالب الفرقة الثالثة بكلية التجارة بجامعة بنها ، وعضو نادي المناظرات هناك- إذ كان مسؤولا عن مبادرة طلابية في الجامعة، ولخص تجربته مع نادي المناظرة في الجامعة قائلا: "أصبحت أكثر استعدادا للاستماع والانصات ، كما اكتسبت مهارة مواجهة الجمهور ، مهما كان الضغط النفسي الذي أواجهه، وكلها مهارات ستفيدني فيما بعد داخل أي نشاط جامعي".
طرح بعض هؤلاء الطلاب أفكارا عن إمكانية الاستفادة من مناظراتهم الداخلية في عرض وجهات نظر مختلفة أمام بقية الطلاب، وأمام إدارة الجامعات، بهدف تغيير الأجواء المشحونة التي تسيطر على الجامعات الآن، لكن يظل الهدف الأساسي للجميع، هو ذلك الشعار الذي اتفقوا عليه منذ البداية ، وهو "اسمع ، تــُـسمَع".

Thursday, November 7, 2013

رحلة الطماطم .. من المزرعة إلى المستهلك

- قانون السوق: بين كل موسمين للحصاد هناك موسم غلاء
- أصلحوا حال المزارع ينصلح حال السلعة

تستيقظ "أم رجب" بعد صلاة الفجر مباشرة كي تستعد لرحلتها اليومية إلى سوق العبور، و تعود من هناك ومعها كل ما تحتاجه من خضروات، أما في بقية اليوم ، فتجلس أمام لافتة متجرها الصغير "الصابح" في الحي التاسع في مدينة نصر حيث تنتظر الزبائن . تشير بيدها إلى أقفاص الطماطم قائلة : "كيلو الطماطم اللي بأبيعه بأربعة جنيه انهارده، كان من شهر بس بجنيه واحد و بأقل من كده كمان .. محدش عارف بعد أسبوعين تلاتة هيبقى بكام ".
في رحلتها الصباحية إلى سوق العبور، تستأجر سيارة (ربع نقل)، ثم تقوم بجولة سريعة بين عنابر الخضار لدراسة أسعار السوق. في الأيام الماضية كان سعر قفص الطماطم يتحرك بين 35 جنيها إلى 80 جنيها، حسب جودة الصنف و ظروف البيع ، علما بأن حمولة القفص الواحد تتراوح بين 18 إلى 20 كيلوجرام . في زيارتها الأخيرة إلى سوق العبور اشترت قفص الطماطم (العداية حسب لغة السوق) بحوالي 40 جنيها . و بحسبة بسيطة قد يظن البعض أن ثمن الكيلوجرام من الطماطم حسب هذه الأسعار سيتكلف جنيهان فقط، فلماذا تبيعه "أم رجب" بأربعة جنيهات ؟ تجيب على ذلك قائلة : "هناك مصاريف لا يراها أحد، مثل أجرة سيارة النقل يوميا، وقيمة تأمين القفص بـ 6 جنيهات ، كما أن التاجر يضيف وزن القفص -حوالي 2 كيلوجرام – إلى الحمولة الاجمالية، كذلك فإن هناك نسبة من الطماطم تفسد يوميا لدى كل بائعي الخضروات، والأهم من كل ذلك هو إيجار المحل الذي يتكلف 1200 جنيه شهريا".
في أسواق الجملة الكبرى مثل سوق 6 أكتوبر أو سوق العبور، أحيانا ما تكون العلاقات المباشرة بين تجار هذه الأسواق و صغار البائعين هي الفيصل، حيث يتم الاتفاق على الطلبيات عبر الهاتف على عكس المجهود اليومي الذي تقوم به "أم رجب". و في طريق مصر/الاسماعيلية الصحراوي حيث يقع سوق العبور لتجارة الخضروات والفاكهة، تبرز شاحنات محمّلة بأقفاص الطماطم قادمة رأسا من المزرعة، تتجه إلى عنابر الخضار حيث تجار الجملة، مهمتهم الوساطة بين المزرعة والأسواق الصغيرة أوالمحلات، لذا يقدم بعض التجار أنفسهم بوصفهم "قوموسيونجي". وفي داخل أحد العنابر الكبرى، وقف المعلم أبوعلي فرغلي جوار شاحنة كبيرة تبلغ حمولتها 240 قفص طماطم .. في انتظار البيع. هناك وسيلة شهيرة للبيع وهي المزاد، خاصة في المواسم الشحيحة، حين ينتظر التاجر تجمع المشترين حول شاحنة الطماطم القادمة من المزرعة، ثم يبيع لأعلى سعر. أما في حالة المعلم أبوعلي فرغلي فقد جلس إلى جوار ابنه جلال على دكة خشبية محاولا بيع "حمولة الطماطم" بهدوء ، منتظرا الزبون المناسب .. وهناك بين أغلب التجار كلمتان خفيفتان على لسان كل تاجر منهم، يرددونها كل حين : "السوق عرض وطلب، ماينفعش حد يتحكم في الأسعار، خصوصا مع الطماطم".
تتم زراعة الطماطم على مدار السنة، في مناطق مختلفة من الجمهورية، وفي أثناء الفترات الفارغة بين كل فترة حصاد يقل المعروض تدريجيا في السوق، وبالتالي تزيد الأسعار. هذا بعيدا عن لعبة التجارة نفسها التي قد يحدث فيها تذبذب في الأسعار على مدار اليوم الواحد : "في يوم بعت القفص بسعر 65 جنيه ، وبقية البضاعة بعتها آخر النهار على 45 جنيه". هكذا يحاول كل من جلال ووالده أبوعلي فرغلي تشبيه عملية التجارة في سوق العبور على أنها أشبه بالبورصة أو المقامرة .
وبسبب تقلبات السوق، يعمل كثير من التجار على تأمين أنفسهم مبكرا، بأن يدفعوا أموالا للمزارعين قبل زراعة الطماطم، بل و يضخوا أموالا في شكل أقساط للمزارع الذي يحتاج هذه الأموال للإنفاق على الأرض الزراعية و على أسرته، وبهذه الطريقة يضمن تاجر الجملة أن يحصل على المحصول بسهولة في وقت الحصاد، وكأنه شريك في الأرض. "كل ذلك حتى نضمن أن نحصل على الطماطم، بدلا من أن نجدها في أسواق الشلايش (السوق السوداء) غير الرسمية، لذا فإن من يتحدث عن تثبيت الأسعار يبتعد عن الواقع، وأي محاولة في هذا الاتجاه ستفتح سوقا سوداء للمزارعين تقضي على أسواق الجملة، الوضع السليم أن نترك السوق يحدد الأسعار حسب العرض والطلب" . يختم جلال أبوعلي تاجر الجملة في سوق العبور بتلك العبارة.
من المنتظر في الأيام القادمة أن تطرح أسواق بني سويف والجيزة ومناطق متفرقة في غرب الدلتا كميات من الطماطم مع بدء موسم حصادها، أما في الأسابيع الماضية فكانت هناك مناطق أخرى هي التي تمد الأسواق بحصادها، منها أراضي وادي النطرون المجاورة لطريق مصر/الاسكندرية الصحراوي.
وبصورة عامة ، تبلغ المساحة المزروعة بالطماطم في مصر سنويا حوالي 550-600 ألف فدان ، تنتج حوالي 10 مليون طن سنويا، وذلك حسب أرقام مركز البحوث الزراعية، التابع لوزارة الزراعة . على مسافة نصف ساعة بالسيارة من مدخل مدينة وادي النطرون، تتوزع حقول الموالح والفاكهة، إلى جانب الطماطم، أما محصول الطماطم قد تم بيع أغلبه في الأسابيع الماضية، عدا مساحات ضئيلة مازالت تنتظر الحصاد، ومن المتوقع أن يحصل أصحاب هذه المساحات الضئيلة المتبقية على مقابل جيد، بعد أن قلَّ ضخ الطماطم في الأسواق الكبرى .
"المسألة حظ، و أشبه بالقمار" حسبما يصف السائق الذي يقودنا إلى مزرعة المعلم علاء هاشم ذي الجذور الصعيدية، الذي كان يجلس في غرفة حجرية مع عدد من العمال الزراعيين المقيمين معه في الأرض، وبدأ في الحديث قائلا: "بإمكاننا أن نزرع الأرض في ثلاث تواريخ هي أول يونيو، أو أول يوليو، أو في منتصف يوليو تقريبا، وبالتالي سيختلف موعد حصاد أصحاب المزارع، وأيضا سينعكس ذلك على الكمية المطروحة في سوق الجملة، وهو ما سيؤثر على تجار التجزئة، ثم المستهلك العادي". في هذه الأرض الصحراوية يستأجر كثيرون مثل المعلم علاء أراض هنا ويزرعونها، وهناك من حقق أرباحا خيالية، وهناك من أصابته لوثة بعد أن فسد محصوله ولم يستطع بيعه بعد أن أصيبت الطماطم بداء قضى على أغلبها، وفي مثل هذه الحالات حين يفسد جزء كبير من محصول الطماطم في منطقة، فإن الفرقة الناجية من المزارعين هي التي تحقق أكبر الأرباح.
في وادي النطرون على بعد أكثر من 90 كيلو متر من القاهرة يمر المعلم علاء هاشم بين الحقول المجاورة، لمزرعته، حيث مازال البعض لم يجن ثمار الطماطم بعد، فهل سيحقق هؤلاء أرباحا أكثر من التي حققها هو في الأسابيع الماضية أثناء فترة رواج الطماطم؟ يجيب علاء هاشم سريعا :" من يضمن ذلك !؟ قد يتزامن ذلك مع نضج محصول في منطقة أخرى مثل العامرية، ما سيقلل من فرص هؤلاء.. لا شيء مضمون" . يصمت قليلا ثم يردد مثلا شهيرا يعرفه أغلب المزارعين :"حـُسن السوق ، ولا حــُسن البضاعة".
يخرج المعلم علاء من جيبه فواتير يعود تاريخها إلى أول الشهر الماضي، وتكشف فاتورتان لعمليتي بيع في نفس اليوم، أنه باع لتاجر في سوق الجملة في مدينة 6أكتوبر 40 قفص طماطم بسعر 10 جنيهات للقفص الواحد، وفي اليوم نفسه أيضا باع بقية الكمية لتاجر آخر بسعر 17 جنيه للقفص الواحد، هذا عدا نسبة العمولة التي تصل إلى 10% من المبلغ، في حين كان متوسط التسعيرة المعلنة على موقع سوق العبور على الانترنت هو 25 جنيها، "الأسعار تتبدل في نفس اليوم، وتختلف من تاجر لآخر .. نصيب" هكذا يختم المزارع الصعيدي.
قد تختلف الأسعار بين الأسواق الكبرى مثل السادس من أكتوبر وسوق العبور، كذلك قد يتباين سعر نقل المحصول حسب طول المسافة، أما الأهم فهو ما يتكلفه المزارع من مصاريف أثناء عملية الزراعة، "يتكلف الفدان أثناء الزراعة على الأقل 10 ألاف جنيه في الموسم". حسبما أكد عدد من المزارعين، لكن تتلخص رحلة الطماطم في حظ المزارع أثناء عملية البيع، وذكاء تاجر الجملة كوسيط، و نشاط تاجر التجزئة في البحث عن السعر الأفضل، أما الزبون العادي فليس أمامه سوى الشراء دون مقاومة.

Thursday, October 17, 2013

ذاكرة الثورة تقاوم التآكل

التاريخ "غير الرسمي" يستكمل مشواره في تدوين الأحداث:
صورة وفيديو و موقع على الانترنت ..
.
كتب – عبد الرحمن مصطفى
"بعد فض اعتصامي رابعة العدوية ونهضة مصر اضطررنا إلى التأكد بأنفسنا من أرقام القتلى ، زرنا المشرحة و أحصينا الجثث ، بعد أن توقفت وزارة الصحة عن إعلان بياناتها، لكن في الحقيقة مهمتنا القادمة هي توثيق الثورة المصرية"، الحديث هنا لتامر موافي، الباحث في  المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، عن تجربة موقع "ويكي ثورة". كانت الأسابيع الماضية قد تكرر فيها اسم الموقع، بعد أن تحول إلى مصدر هام لحصر أعداد القتلى والضحايا مؤخرا، و لم يدرك بعض الزوار أن هذا الموقع ما زال في مرحلته الأولية وأن توثيقه للأحداث الأخيرة بعد عزل الرئيس السابق مرسي ، هو مجرد جزء من مشروع  أكبر لتوثيق أحداث الثورة وبيانات المصابين والقتلى بدءً من 25 يناير 2011.
دار الحديث مع تامر موافي في شارع متفرع من شارع طلعت حرب الشهير بوسط المدينة، حيث يقع  المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الذي يرعى هذا المشروع، و بدأ قائلا: "الهدف الأبعد للمشروع هو توثيق أحداث الثورة من كل المصادر الممكنة و الموثوق فيها. نستقبل شهادات من المواطنين عن كافة تلك المرحلة من تاريخنا ، إلى جانب توثيق ما تمت كتابته بالفعل في الفترة الماضية". ما الذي يدفع إلى العودة إلى ثورة 25 يناير مرة أخرى و مابعدها من أحداث ؟ السبب الرئيسي هو محاولة إشراك المواطنين في عملية التوثيق، إذ لاحظ العاملون على المشروع وجود كم من الشهادات المتناثرة على الانترنت بحاجة إلى التوثيق، كما اختار العاملون بالمشروع نموذج (Wiki ويكي ) إشارة إلى ذلك النمط من المواقع الذي يسمح للجمهور العادي أن يضيف معلومات ، تحت أعين مراقبين وهم سيكونون من المركز في هذه الحالة. يعمل في المشروع ثلاثة أفراد أساسيين، يجهزون لتدشين موقع أكثر تطورا يضم المواد و الشهادات التي جمعوها خلال الفترة الماضية.
و عند زيارة النسخة الحالية من الموقع يبرز أحد أسباب ظهور فكرة المشروع في فترة الرئيس السابق محمد مرسي ، إذ سجل الموقع أرقام ضحايا تلك الفترة ، ونسبة كبيرة منهم هم من أبناء الشريحة نفسها التي خرجت ضد السلطة في 25 يناير 2011 .
"سيكون محتوى الموقع مفيد أيضا في أعمال بحثية تحلل هذا الكم من المعلومات"، حسبما يصف تامر موافي من المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. أما المتاح حاليا من بيانات فهو توثيق للمرحلة الأخيرة في فترة حكم محمد مرسي، وما أعقبها من أحداث.
منذ تاريخ تنحي الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، خرجت مبادرات تهدف إلى توثيق الثورة المصرية، بعضها اختار العمل على شبكات التواصل الاجتماعية، وهناك من اختار توثيق الثورة بالصورة ، وهناك من دمج الأسلوبين. وتفيد عملية التوثيق الدائم في كشف التزييف الذي قد يلجأ إليه البعض لأسباب سياسية، لذا تكون عملية التوثيق بمثابة مادة متاحة، تفيد من يريد التأكد من معلومات بعينها. هذا هو أحد الأسباب التي جعلت مشروعا مثل (صفحة توثيق الثورة المصرية) يستمر حتى الآن على شبكة فيسبوك الاجتماعية، إذ جمع المتطوعون في هذه الصفحة حوالي 15000 صورة تغطي حوالي ثلاث سنوات، بدء من الحركة الاحتجاجية التي ازدادت في العام 2010 ، حتى الآن . بدأت الفكرة فى ديسيمبر 2011 لتوثيق الثورة المصرية بالصور، سواء في مليونيات أو اشتباكات أو وقفات داخل وخارج مصر، أمام السفارات المصرية ،وبدأ "المشروع" على حد وصفهم بسبب ما رأوه تزييفا للصور وللحقائق.
لكن كافة تلك المحاولات ما زالت تجرى بأدوات بسيطة ، دون إمكانيات تحقق جماهيرية لمثل هذه النوعية من المشروعات ، كما أن هذه الأفكار تكشف غياب الدولة في المساهمة بتوثيق ما جرى من أحداث.
تجاوزت بعض الدول التي عاشت فترات قمعية حساسية التعامل مع ماضيها ، و من أشهر تلك التجارب ما حدث في ألمانيا بعد سقوط جدار برلين ، إذ تحولت قصة تعامل الألمان مع تلك الفترة بعد العام 1990 إلى فخر ينقلوه إلى بقية دول العالم ، وحتى اليوم يمكن للمواطنين الاطلاع على ملفات جهاز أمن الدولة لديهم (الشتازي). و أظهر الاستطلاع، الذي أجراه معهد "يوغوف" لقياس الرأي العام في 2011 أن 58 % من الألمان يؤيدون استمرار الإطلاع على وثائق جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا حتى الآن، إذ أتاحت الوثائق للبعض تحريك دعاوى قضائية ضد انتهاكات تعرض لها قبل توحيد ألمانيا. كما أفادت الباحثين في فهم آليات القمع في تلك المرحلة من تاريخ ألمانيا.
.
مهمة لم تتم بعد
لم تقتصر محاولات التوثيق المصرية على عالم الانترنت، فهناك مشروعات أخرى ذات طابع أكاديمي حاولت العمل على فكرة توثيق الثورة، ومن أشهر تلك التجارب كانت لجنة لتوثيق الثورة التابعة لدار الوثائق القومية، التي تأسست من عدد من المتطوعين و الأكاديميين بهدف جمع أكبر كم من المعلومات والشهادات عن الثورة. تشكلت هذه اللجنة في مارس 2011 ، عقب تنحي الرئيس الأسبق حسني مبارك بأسابيع ، لكن استمرارية هذا المشروع كانت متوقفة على عدة عوامل، منها تسهيل العمل بعيدا عن البيروقراطية، وتخفيف القبضة الأمنية على الوثائق المطلوبة في عملية التوثيق... ومع ازدياد حدة المعوقات ، تم حل اللجنة وانتهى دورها عمليا في العام الماضي.
يرى الباحث تامر موافي أن عمليات التوثيق إذا ما تبنتها مبادرات المجتمع المدني، قد لا تختلف كثيرا عن جهود الدولة في التوثيق، "لكن تظل لدى الدولة وثائق تفيد جدا في توثيق الحدث، وقد تكون غير متاحة للاطلاع مثل تقارير لجنة تقصى الحقائق"، على حد قوله.
ما زال عدد من مؤسسات المجتمع المدني يعمل على فكرة توثيق الثورة المصرية، إذ يعتبر البعض أن توثيق الثورة "مهمة لم تتم بعد"، خاصة بعد أن امتدت الأحداث وتشابكت على مدار أكثر من عامين ونصف .
بعد تجربة التعاون مع المؤسسات الحكومية- مثل دار الكتب والوثائق المصرية- في محاولة توثيق الثورة، عادت مؤسسات المجتمع المدنى لترعى الفكرة مرة أخرى بعيدا عن الدور الحكومي. على سبيل المثال كان أحمد غربية- الخبير التقني وعضو مؤسسة التعبير الرقمي العربي- متطوعا في لجنة لتوثيق الثورة التابعة لدار الوثائق القومية، و واجه البيروقراطية الحكومية و غياب الرغبة لدى الحكومة في عملية التوثيق ، لكنه عاد ليشارك في ورش تدريبية  ما زالت تعمل على فكرة توثيق الثورة من جديد.
كذلك أقامت مؤسسة التعبير الرقمي ورش تدريبية تستهدف "توثيق الثورة"، سواء على موقع ويكيبيديا الشهير "الموسوعي"، أو على شبكات تضم فيديوهات. الجانب الايجابي الذي يراه أحمد غربية أن هناك تقاربا يحدث بين مجموعات لديها الاهتمام بفكرة التوثيق، وبعضهم كان يقوم بالتصوير فعليا، لكن ينتظر المزيد من تطوير مهاراته. و يعلق غربية :"المشكلة أحيانا تكون مع المؤسسات التقليدية في تقدير قيمة ما لديها من وثائق أو فيديوهات. على سبيل المثال هناك برامج تقنية تساعد في الاستفادة من الصور والفيديوهات وتنظيمها وتوثيقها داخل مؤسسات مثل الصحف والمؤسسات الاعلامية، وهنا أنا هدفي أن تتاح المادة غير المستخدمة من تلك الفيديوهات للجماهير لأنها تفيد ".
مع غياب الرغبة الحكومية في التوثيق الجاد لأحداث ثورة 25 يناير و ما تبعها من أحداث متتالية، يتبقى هامش بسيط للتوثيق، يتحرك فيه  أفراد مستقلون وبعض مؤسسات المجتمع المدني، على أمل تقديم رواية بديلة للثورة المصرية .
.
"المَزج" رحلة داخل المزاج الثوري
.
- مقاطع و أصوات تمس الواقع البائس
- أيمن بدر : "العفن" الذي يحيط بنا هو قديم ، يسبق الثورة بفترة.
.
في العام 2011 أصيب أيمن بدر- المهندس المعماري الشاب- أثناء تصويره تفاصيل ما جرى في شارع محمد محمود من اشتباكات ضد قوات الأمن، وسجلت كاميرا الهاتف المحمول صوته حين تلقى الاصابة. ظل محتفظا بهذا الفيديو حتى العام 2013، و عاد إليه مؤخرا كي يستعير الأصوات المسجلة عليه لهدف آخر، إذ قرر صنع عمل فني يمزج فيه أصواتا و موسيقى بشكل يعبر به عن الثورة ، تجربة فنيا قام بإخراجها بنفسه.
"نشرت أول ملف صوتي بهذه الطريقة تحت اسم المزيج العميق (عفن) ، دربت نفسي قبلها على برامج الصوتيات المتاحة على الانترنت لأنفذ تصورا في رأسي ، كنت أطرح أسئلة عن مصير الثورة، وأرى أن (العفن) الذي يحيط بنا هو قديم ، يسبق الثورة بفترة". اتجه أيمن في تلك الفترة، قبل ستة أشهر، إلى موقع ساوند كلاود soundcloud.com الملائم لمثل هذه التجارب ، و رفع عليه تجربته الأولى ، ونجحت التجربة وسمعها الآلاف حسب احصائيات الموقع .
الهدف من هذه التجربة ليس تقديم عرض إذاعي، لكن ما يحدث هنا هو مزج لأصوات مثل أم كلثوم وصيحات الثوار في التحرير، متقاطعا مع مقتطفات من أفلام شهيرة، و كل ذلك يتعايش معه المستمع ليس لمتابعة تسلسل موسيقي، بل للاستسلام لحالة يستعيد فيها المستمع أصوات الثورة ، مع جمل و مقاطع تمس الواقع البائس. ويبدأ في التأرجح بين الحنين و التفكير في المستقبل.  وفي تجربة "المزج" الأولى التي تحمل اسم "عفن"، يقرأ عماد حمدي بصوته جزءً من فيلم "ثرثرة فوق النيل"، وفي خلفيته صوت الثوار.
بعد أن انتشرت التجربة الأولى في مواقع التواصل الاجتماعي على الانترنت، انطلق أيمن بدر ليبدأ سلسلة "المزيج العميق" ، وانطلق إلى المزيج الثاني بعنوان "دم"... استعان فيه بصوت الفيديو الذي أصيب فيه أثناء اشتباكات شارع محمد محمود، وذلك جنبا إلى جنب مع أصوات أهالي شهداء و هم يتحدثون ، مع جزء من خطاب مبارك الثاني، وصوت بكاء وائل غنيم في برنامج "العاشرة مساءً"، فور إطلاق سراحه من الاعتقال، مع مقتطفات أخرى متنوعة، أما الهدف فاستمر كما هو .. استعادة ذكرى الثورة و التفكير في جدواها و مصيرها، دون توجيه مباشر، فالهدف هو توثيق أفكار ومشاهد وأحاسيس، حسبما يصف أيمن بدر.
و مع نجاح الفكرة في جذب جمهور لها، بدأ شباب آخرون في تقليدها، على سبيل المثال صنع أحدهم "مزجا" يجمع صوت الدكتور مصطفى محمود من برنامج "العلم و الإيمان" وهو يصف الأمم المتخلفة، ثم ينتقل إلى أصوات شخصيات إسلامية كانت قد أثارت جدلا في الفترة الماضية، وفي خلفيته موسيقى تعبر عن الحالة المراد توصيلها. شاب آخر صنع "مزجا" تحت اسم "جيكا" جمع فيه أقوال مسجلة لصديقه الشهيد جيكا وأحاديث لأهله، مع خلفية موسيقية وأصوات اشتباكات وتعليق من الاعلامي يسري فودة. و كتب مؤلف هذه التجربة قائلا: "إليكم مزج لتراكم أصوات جيكا بداخلنا جميعا".
أغلب تلك التجارب تم تحميلها على موقع "ساوند كلاود" قبل تاريخ 30 يونيو، لذا لم تخلو من المرارة، واستخدم أحد أعمال أيمن بدر ضمن فقرات برنامج تلفزيوني شهير. وبدأت الفكرة تنطلق رويدا رويدا خارج الانترنت ، ويعلق أيمن بدر على ذلك قائلا: "جاءني عرض من مخرج مسرحي لاستخدام أحد أعمالي في عرض مسرحي معاصر، كما أن أستأذنتني إذاعات على الانترنت في بث أعمالي عدة مرات ، والآن أجهز لورشة عمل من أجل صنع مزج صوتي خاص مصاحب لعرض مسرحي عن قضية التحرش". كان آخر عمل نشره أيمن على الانترنت بعنوان "قدوس"، و هو يطرح سؤال: هل نحن في مشكلة مع الله أوصلتنا إلى هذا الطريق المسدود؟ وتصادف أن نشره ليلة فض اعتصامي نهضة مصر ورابعة العدوية، فجاءته تعليقات على الانترنت من نوعية "لماذا كل هذا الألم ؟ ألا يكفيك ما حدث من مذابح؟" مثل هذه التعليقات انفعلت بالعمل نفسه الذي ذكرها بالواقع البائس.
يستغرق صنع "مزج" واحد حوالي ثلاثة أسابيع لإعداد ملف صوتي قد يمتد من 5 إلى 25 دقيقة ، لكن تظل مثل تلك التجربة فريدة من نوعها لتوثيق مزاج الثوار بين القلق و الحنين والترقب ، هي مساحة للخيال عن طريق الاستماع، بحسب تعبير أيمن بدر ... تجربة متوائمة مع عالم مركب و متشابك، يلائم مزاج رواد الانترنت، وخاصة أصحاب التوجه الثوري.
.
الأفلام الوثائقية في هدنة إجبارية
.
انطلقت مع ثورة 25 يناير شريحة من الشباب، حملوا كاميراتهم ، وعملوا على توثيق الأحداث المتتالية في فيديوهات و أفلام وثائقية، بعضهم يعمل بشكل مستقل و بتكلفة قليلة ، بينما اعتمد فريق آخر على شركات لإنتاج أفلامه ، و استهدف الفريق الثاني بشكل كبير أن يعرض أعماله في قناة الجزيرة للأفلام الوثائقية، التي تكاد تكون المتنفس الوحيد في عالم الأفلام الوثائقية .. يواجه الفريقان الآن أزمة التوقف عن العمل بشكل مؤقت لأسباب مختلفة. على سبيل المثال أوقف البراء أشرف العمل في شركته الانتاجية خلال الأسابيع الماضية، وذلك في الوقت نفسه الذي تعمدت فيه قناة الجزيرة تكرار عرض فيلم "صناعة الكذب" طيلة الفترة الماضية ، في رسالة ضمنية إلى أن الاعلام المصري ما زال على مساوئه القديمة التي رصدها الفيلم في توثيقه للفترة الأولى من الثورة.
يقول البراء: "أتذكر في لقاء تلفزيوني جمعني مع إبراهيم الصياد، رئيس قطاع الأخبار باتحاد الإذاعة والتليفزيون، أنه أثنى على الفيلم و طرح فكرة عرضه على التلفزيون الرسمي ". و هو يوضح جانبا من الضغوط التي أصابت أبناء هذه الشريحة من العاملين في انتاج الأفلام الوثائقية والفيديوهات حين يؤكد أن أغلب العاملين في هذا المجال كانوا يستهدفون "الجزيرة" لأنها القناة الوحيدة المتخصصة في المنطقة، لكن الواقع السياسي حاليا الذي يظهر العداء ضد القناة أربك الموقف قليلا. و يستكمل البراء أشرف كلامه قائلا: "قبل أسابيع تعرض أحد أصدقاءنا في شركته لتفتيش أمني بعد توارد معلومات حول تعامله السابق مع قناة الجزيرة، مثل تلك المواقف جعلتنا ننسحب قليلا، ونحن قلقون على مستقبل هذا المجال. هناك آلاف الشباب الذين شاركوا في هذه الصناعة النامية، يتساءلون اليوم عن المستقبل".
يختلف الوضع هنا كثيرا عن شريحة أخرى من الفنانين المستقلين الذين يعملون دون اهتمام كبير بتسويق منتجاتهم بشكل دوري لدى قناة الجزيرة، غير أنهم لم يبتعدوا كثيرا عن نفس الأزمة مع الإعلام التقليدي، فبينما تستغل الجزيرة الأعمال التي بيعت لها حسب وجهة نظرها و في التوقيتات التي تحددها، نجد بعض الفنانين المستقلين والنشطاء يتعرضون لاستغلال فيديوهاتهم من فضائيات ومحطات تلفزيونية لخدمة هدف آخر، هو دعم السلطة الحالية. يكاد يكون ذلك واضحا لدى مجموعة مثل "مُصرين" التي قضى أفرادها الأعوام الماضية في تصوير وتوثيق الحركة الاحتجاجية ضد السلطة ، إذ فوجئوا في الفترة الأخيرة بأن المواد الفيلمية التي كانت تستخدم في الماضي لمعارضة حكم المجلس العسكري قد استخدمها الاسلاميون في دعايتهم ضد القوات المسلحة. وعلى الجانب الآخر استغلت بعض الفضائيات المؤيدة للسلطة الحالية بعض المواد الفيلمية من مجموعة "مُصرين"  التي سجلت معارضة لجماعة الإخوان المسلمين. تعلق سلمى سعيد، من مؤسسي "مُصرين" : "وسط هذه الصورة الضبابية، وجدنا أنفسنا وقد توقفنا لا إراديا عن تصوير المزيد من الفيديوهات، فقد اعتدنا طوال الوقت دعم الثورة والتغيير، أما الآن فالصورة ملتبسة ".
تعمل مجموعة "مصرين" بشكل غير هادف للربح، وتضم نشطاء و صناع سينما مستقلين، وأغلبهم كان قريبا من الأحداث المتتالية منذ 25 يناير حين كانت الأحداث جزء من حياتهم كنشطاء أو مهتمين بالشأن العام. أما في الوقت الحالي فبحسب تعبير سلمى سعيد "طوال الوقت كنا ندعم المسار الثوري بالتوثيق بالصورة، أما الآن فأنت بين طرفين لكل منهما آلة إعلامية قوية تعتمد على الدعاية ، فأين سنكون في هذه المرحلة ؟ و رغم ذلك زرنا و صورنا داخل المشارح ، كمحاولة لتوثيق الضحايا هناك ..".
لم يختلف الأمر مع كثير من الشباب المستقلين بالنسبة لإنتاج فيديوهات أو أفلام من ناحية الامكانيات بقدر ما أصبحت الأزمة في كيفية إيصال قناعاتهم الشخصية في ظل تلك الفترة الضبابية ، أما من يعملون بشكل تجاري، فلم يبتعدوا هم أيضا عن مشاكل المرحلة، يعود البراء أشرف ليقول : "حالة الاستقطاب التي نعيشها لن تؤثر فقط على طريقة توزيع الأفلام الوثائقية ، و لكن أيضا على مدى قابلية الضيوف في هذه الأفلام أو الفيديوهات".
أما الناشطة سلمى سعيد فتتحدث عن ضرورة الاجتماع والنقاش بين المجموعات المستقلة التي اعتمدت على توثيق الأحداث طوال الوقت، حتى تكون هناك رؤية موحدة في التعامل مع الموقف.
قد تجمع الأحداث فنان مستقل يستخدم كاميرته لخدمة فكرة يعتنقها، وفنان آخر يعمل لحساب شركة إنتاج وثائقية ، لكن في النهاية .. اتفق الجميع على هدنة الآن و إلى حين.

PDF

Wednesday, October 9, 2013

عام جامعى ساخـن..الزمالة أفسدتها السياسة


يعلم أحمد إبراهيم، طالب الفرقة الثانية فى كلية التجارة وعضو حركة 6 إبريل، أنه سيواجه عاما دراسيا مشحونا، بدا ذلك واضحا من حديثه أمام قصر الزعفران، حيث المقر الإدارى لجامعة عين شمس، فعلى بعد أمتار من هذا المكان تكررت المناوشات بين طلاب مؤيدين للرئيس السابق محمد مرسى وآخرين يعلنون تأييدهم للفريق أول عبدالفتاح السيسى. وكانت أعنف تلك المواجهات هى التى جرت فى بداية الأسبوع الثانى من الدراسة، بما أسفرت عنه من خسائر مادية.
«بالطبع سيستغل الأمن هذه الأجواء فى التضييق على النشاط الطلابى، أنا عن نفسى واجهت تضييقا حين حاولت التحرك من كلية لأخرى للتنسيق بين أبناء أسرتنا المركزية، على عكس العام الماضى حين كنا نقيم فعالياتنا بمجرد الإخطار، لقد امتدت تلك الحالة إلى بعض زملائنا فى الاتحادات الطلابية، فهم أيضا يقفون ضدنا ويخشون من أى مسيرة أو فاعلية نقيمها حتى إن كانت لهدف طلابى بحت، خوفا من الاشتباكات».
يتحدث أحمد إبراهيم طالب التجارة ومنسق العمل الجماهيرى فى أسرة «عيون الحرية» بقلق عن أجواء العام الجامعى الجديد، رغم أنه كان محاطا بزملائه أثناء تنظيمهم وقفة احتجاجية فى ذلك اليوم، رفعوا فيها لافتات من نوعية «أول محاضرة هنا فى الجامعة، أنا مش ههتف سيسى ورابعة» و«هاتوا اخواتنا من الزنازين». ومع الوقت ازداد قلقهم بشكل واضح، خشية أن تتسبب وقفتهم فى اشتباكات جديدة، إذ أصبح الصوت الأعلى داخل الجامعة لطلاب آخرين.. فى تلك اللحظة، تبادلوا عبارات مثل «الاخوان هيعملوا مسيرة دلوقت، كفاية كده يا شباب، بلاش نكلم حد تانى من زمايلنا»، وتنتهى الوقفة سريعا، ومن بعيد يظهر صوت هتاف آخر «يسقط حكم العسكر»، قادم من وقفة احتجاجية نظمها «طلاب ضد الانقلاب» الموالين للرئيس السابق محمد مرسى.
ينتمى أحمد إبراهيم وزملاؤه إلى كيان رمزى تحت اسم «طلاب تنسيقية يناير»، يضم فى داخله طلابا من حركات «6 إبريل» التى ينتمى إليها أحمد، إلى جانب حركتى «مصر القوية» و«مقاومة». ويعترف أغلب أبناء هذه الشريحة المحسوبة على الحركات السياسية والثورية أنهم فى مأزق، إذ أن الاحتجاجات قد ازدادت كثافتها من طلبة الإخوان المسلمين وزملائهم الرافضين لـ 30 يونيو، وكثيرا ما يختلط الأمر على بقية الطلاب.. يشرح أحمد قائلا: «على سبيل المثال نحن نرفع شعارات ضد اعتقال الطلاب لأى سبب سياسى، ونطالب الافراج عن المعتقلين، وقد يتشابه ذلك مع بعض مطالب مؤيدى مرسى الذين يدافعون عن معتقليهم، والمأزق أننا لا نريد أن نحسب على أحد، ولا نريد أن نواجه بمن يتشاجر معنا ظنا أننا تابعون للإخوان».
من يمكنه أن يعتدى على مسيرة «لطلاب ضد الانقلاب»؟ ولماذا يخشى بعض طلبة القوى السياسية من اتساع دائرة العنف داخل الجامعة؟ الاجابة كما يرويها عدد من طلاب القوى السياسية ينتمون إلى 6 إبريل وحزب الدستور والاشتراكيين الثوريين، أن هناك مجموعات من الطلبة، وخاصة فى الكليات النظرية مثل تجارة وآداب وحقوق، ورثوا أسرا طلابية كانت تخدم النظام القديم فى عهد مبارك وذات صلة بالأجهزة الأمنية. هؤلاء الطلاب ما زالوا يديرونها بنفس الفكر الذى يخدم سلطة إدارة الجامعة، فهم اعتادوا تأييد مبارك فى الماضى ضد المعارضين، واليوم يطمحون أن يكون الفريق عبدالفتاح السيسى محل مبارك وتعود الأجواء إلى العام 2010 مرة أخرى. يصف الاعلام هؤلاء الطلاب «بمؤيدى السيسى»، لكن هذه الكتلة الطلابية الموالية لإدارة الجامعة، والتى اعتادت إسكات المعارضة داخل الجامعة أحيانا ما تجذب إليها طلبة عاديين فتتسع دائرة القتال.
صور السيسى ومرسى ممنوعة
فى الطريق من قصر الزعفران إلى كلية الحقوق فى جامعة عين شمس، أعلنت بعض الأسر الطلابية عن نفسها عبر مكبرات الصوت، وعبر الغناء والصخب، وأحيانا ما تتحول مكبرات الصوت إلى وسيلة أخرى للاشتباك، كأن تذيع إحدى الأسر الطلابية أغنية «تسلم الأيادي» فى مواجهة مسيرة إخوانية، لذا أصدرت إدارة الجامعة مؤخرا تعليمات بمنع استخدام مكبرات الصوت ومنع دخول صور كل من الفريق أول عبدالفتاح السيسى، والرئيس السابق محمد مرسى إلى الحرم الجامعى.
فى العام الجامعى الماضى تم حل أسرة «نيو فيجن» فى كلية حقوق عين شمس، إحدى أقدم الأسر التى تعبر عن النظام الجامعى القديم، حين كانت هناك تدخلات أمنية شديدة فى الجامعة أثناء حكم مبارك. وجاء قرار الحل بعد معركة شرسة بين طلبة القوى السياسية ومشاغبين من هذه الأسرة، واختفت بعض هذه الوجوه من المشهد، لكن مع بدء العام الدراسى الحالى ووقوع اشتباكات فى الأسبوع الثانى من الدراسة داخل جامعة عين شمس، عاد الحديث عن طلبة «نيو فيجن» التى انقسمت بعد حلها إلى أسرتين إحداهما تحت اسم أسرة «فيسبوك».
«نعم، كانت هناك عناصر مشاغبة فى أسرة «نيو فيجن» القديمة ذات السمعة السيئة، لكن بعد حل الأسرة فى إبريل الماضى أسسنا أسرة جديدة بعض أعضائها من «نيو فيجن» القديمة وآخرون اتجهوا إلى أسرة أخرى باسم «تحدي». الحديث هنا لأسامة مصطفى، طالب الفرقة الرابعة ونائب الأخ الأكبر داخل الأسرة، عاش الحياة الجامعية داخل جامعة عين شمس منذ العام 2009، وحين يتم سؤاله عن فترة قبل ثورة 25 يناير، يجيب بوضوح: «هذه أيام لن تعود، كان الأمن متدخلا فى كل حركة داخل الجامعة، وكان المقربون من الحزب الوطنى هم الأفضل فى الوصول إلى كراسى الاتحاد، والحصول على خدمات للطلبة». يتحدث أسامة وحوله طلبة ما زالوا فى السنة الأولى فى الجامعة، لم يروا تلك المرحلة، لذا هو يرفض بشدة أن يتهم هو أو أسرته الجديدة أنهم امتداد للفلول والنظام القديم فى الجامعة، لكن لماذا دار الصدام العنيف بين طلاب وصفوا بأنهم «مؤيدو السيسي»، ضد طلبة موالين للرئيس السابق محمد مرسى؟ يجيب أسامة «الصراع القديم بين الأسرة المنحلة والإخوان ليس هو السبب. هناك طلبة مشاغبون فى الجامعة سواء كانوا معنا فى أسرة (نيو فيجن) القديمة أو لا».
على أرض الواقع فإن لجوء الطلبة المعادين للإخوان المسلمين بالزجاجات الفارغة وملصقات «السيسي»، يكشف عن استعداد سابق، كما أن تكرار هذه الحوادث يكشف عن نية لممارسة شريحة من الطلاب ذلك الدور القديم فى قمع المعارضة السياسية داخل الجامعة.
ويكشف تقرير «مؤشر الديمقراطية»، الصادر عن المركز التنموى الدولى، أن الأسبوع الأول من الدراسة فى الجامعات شهد 146 احتجاجا، وتصدرت جامعتا القاهرة وعين شمس عدد الاحتجاجات، وأشار التقرير إلى أن 60% من أسباب الاحتجاج كانت سياسية.

عنف كرة الثلج
توضح الأرقام ازدياد نسبة الاحتجاجات داخل جامعتى القاهرة وعين شمس حيث تتشابه الملامح قليلا، فى تكرار المناوشات بين «طلاب ضد الانقلاب» والطلبة المؤيدين للفريق السيسى، مثلما حدث فى كلية التجارة بجامعة القاهرة، عندئذ تطور الأمر إلى تحد بين اتحاد الطلبة بكلية التجارة الذى يسعى لإقالة عميد الكلية، وفى الطرف الآخر يدافع طلاب الاخوان المسلمون عن العميد بضراوة. يقول أحمد عبدالعال، رئيس اتحاد الطلبة فى كلية التجارة بجامعة القاهرة: «يشيع الطلاب الإخوان أن من يخرجون بصور السيسى هم من الطلبة الفلول وعملاء أمن الدولة أو إدارة الجامعة، وهذا غير حقيقى، هؤلاء طلبة مدرجات، وليسوا دخلاء على الجامعة.. وهذا حقهم فى التعبير عن رأيهم، المشكلة التى نواجهها هى تحول الأمر إلى العنف، لذا يعمل الاتحاد على الابتعاد عن فعاليات الإخوان قدر الإمكان». وحتى الآن ينحصر الصراع ــ حسبما تشير الحوادث المتكررة ــ بين طلبة الإخوان المسلمين أو حركة «طلاب ضد الانقلاب» المؤيدة للرئيس السابق، وفى الطرف الآخر من المواجهة «مؤيدو السيسي»، وهؤلاء هم خليط من طلاب مستقلين وطلاب ينتمون إلى «أسر طلابية قديمة تعيش بعقلية النظام الجامعى أيام مبارك، يمجدون الحاكم تقربا من مكتب رعاية الشباب التى اعتادت على هذه الشريحة من الطلبة»، على حد وصف سيد عبدالرحمن ــ عضو حزب الدستور والعضو السابق فى أسرة «الميدان» بكلية التجارة فى جامعة القاهرة.
أما الوضع، كما يصفه رئيس اتحاد كلية التجارة بجامعة القاهرة، فهو شبيه بكرة الثلج التى تتدحرج فيتسع قطرها، قد تبدأ مسيرة بثلاثة أفراد، ثم تنتهى إلى اشتباكات واسعة، وهو ما يؤكد أن طلبة هذا العام مقبلون على عام دراسى ساخن.
.
معتقلون فى انتظار المساندة
.
أنس سلام وفاطمة رجب يخدمان القضية نفسها، وهى مناصرة الطلبة المعتقلين بهدف تسهيل خروجهم ومتابعة دراستهم الجامعية، وبينما كان أنس سلام ــ نائب رئيس اتحاد طلاب جامعة قناة السويس ــ أحد أولئك الشباب الذين قضوا أسابيع فى اعتصام رابعة العدوية، فإن فاطمة رجب ــ أمين اللجنة السياسية والثقافية باتحاد طلاب جامعة القاهرة ــ قد اختارت دعم قضية المعتقلين رغم اختلافها فكريا معهم، إذ ينتمى أغلبهم إلى أنصار الرئيس السابق محمد مرسى.
يعمل أنس بشكل فردى تماما، وقد خصص مساحات دائمة من وقته لتوثيق أسماء المعتقلين والمتوفين منذ فض اعتصامى رابعة العدوية ونهضة مصر، وهو مستمر فى مهمته حتى الآن، رغم ازدياد أعداد المعتقلين والقتلى بعد كل اشتباك.
«الحقيقة أنا أعتمد على علاقاتى مع القواعد والأسر الطلابية، وهناك من يتعاون معى من طلبة الاتحادات فى مختلف جامعات مصر، ولا أعتمد بشكل مباشر على دعم المراكز الحقوقية». يستطيع أنس أن يوثق تلك الأرقام منفردا بمساعدة أصدقائه، مستغلا قدرته على الوصول السريع إلى الطرف الأكثر تضررا من أبناء جماعة الإخوان والمتضامنين معهم، رغم تأكيده على حياده وأنه ليس جزءا من حركة «طلاب ضد الانقلاب».
تشير آخر التقديرات أن عدد الطلاب المعتقلين يتجاوز المائة طالب، ويزداد الرقم مع تجدد أحداث العنف، وتكمن صعوبة حقيقية فى رصد من تم الافراج عنهم، بسبب تعنت الأجهزة الأمنية أحيانا، على حد قوله.
يرى أنس سلام أن من حق حركة مثل «طلاب ضد الانقلاب» المعادية لكافة إجراءات ما بعد 30 يونيو أن تعبر عن رأيها، ما أن من حقهم الدفاع عن زملائهم دون تضييق. وعلى الجانب الآخر ترى فاطمة رجب، بحكم تواجدها فى جامعة القاهرة الأنشط فى العمل على ملف المعتقلين، أن كثافة الاحتجاجات التى تتبناها حركة مثل «طلاب ضد الانقلاب» تمثل عبئا ثقيلا على أزمة الطلاب، إذ تكتفى تلك المسيرات بالصخب دون الاحتكاك المباشر مع المسئولين والتفاوض معهم. وتعلق على ذلك قائلة: «تحدثت مع بعضهم فى الجامعة، وحاولت توضيح وجهة نظرى فى أن هذا العمل الاحتجاجى الذى يتسبب أحيانا فى اشتباكات مع بقية الطلاب لن يخدم القضية، ويمثل تشويشا عليها، فى حين أننا داخل اتحاد طلاب مصر واتحاد جامعة القاهرة نمارس ضغطا على الادارة الجامعية، والمسئولين خارجها مثل وزير الداخلية أو النائب العام».
تلك المحاولات التى تشرحها فاطمة، لا يصاحبها مبادرات واضحة المعالم بين الطلاب أنفسهم من أجل خدمة هذه القضية، أو على حد قولها: «الأزمة أن هذه القضية مسيسة تماما، فالطلاب الإخوان ومؤيدوهم قد اعتنقوا فكرة التظاهر، أما القيادات الطلابية من الطرف الآخر فأحيانا ما نسمع منهم عبارات مثل: ليأخذ القانون مجراه، دون أن يدافع عن زملائه، ويظهر هذا واضحا حين يجتمع الطرفان فى أى مبادرة، فنجد اتهامات متبادلة وأجواء مشحونة دون فائدة».
فى خلفية كل هذه المحاولات التى تبدو فردية أحيانا، وفى حالات أخرى ترعاها إدارة الجامعة، يبدو واضحا تأثير الانشقاق الذى أصاب المكتب التنفيذى لاتحاد طلاب مصر، حين صدر قرار بفصل خمسة أعضاء مؤيدين للرئيس السابق محمد مرسى، ظهروا فى وقت سابق على منصة رابعة العدوية، وتحدثوا باسم الاتحاد ودعم الرئيس المعزول.
على سبيل المثال تلقى أنس سلام إخطارا بتحويله للتحقيق، وإسقاط عضويته فى اتحاد طلاب مصر، لكنه يرفض هذا القرار، فهل تؤثر هذه الأجواء بشكل مباشر على خدمة قضية المعتقلين؟ إجابة أنس: «هناك تقصير فى مثل هذا النوع من التنسيق، لكن السبب الرئيسى أن الطلبة يرون أن الرافضين لـ 30 يونيو هم فقط من الإخوان، وأنا أرى أن هناك شريحة أكبر ترى هذا التاريخ بداية لانقلاب عسكرى».
الصورة ليست تعيسة كما تبدو، إذ تبنت إدارة جامعة القاهرة فى وقت سابق هذه القضية، وكذلك فعلت جامعة الأزهر، إذ أعلن الدكتور أسامة العبد ــ رئيس جامعة الأزهر ــ عن تشكيل لجنة للدفاع عن طلابها المعتقلين فى أحداث سياسية، رغم أن الدراسة لم تبدأ بعد فى جامعة الأزهر.
وتختم فاطمة رجب حديثها: «بإمكانك أن تنجح فى تحسين وضع زملائك داخل السجون بعد زيارة إلى وزير الداخلية، أو أن تنجح فى متابعة حالاتهم وتوفير فرصة لطالب ينتظر الامتحان، لماذا نخسر مثل هذه الفرصة؟». حتى الآن ليس هناك جهد موحد لنفس القضية، بل ما زال كل يعمل بطريقته.
.
 خريطة المستقبل للانتخابات الطلابية
.
تكشف نتائج انتخابات الاتحادات الطلابية بالجامعات فى العام الماضى عن ثلاث كتل رئيسية هى التى تتصدر المشهد، وتنقسم بين «مستقلين»، و«إخوان مسلمين وأنصارهم»، و«تيارات سياسية وقوى ثورية». وحتى هذه اللحظة لم تطرأ تغييرات على هذه الاتحادات، عدا ما تعرض له بعض طلبة الإخوان المسلمين من فصل وتحقيقات إدارية. وفى الوقت الذى يجرى فيه العمل على تعديل اللائحة الطلابية تمهيدا لإقامة انتخابات طلابية قريبا، فإن موقف طلبة الإخوان المسلمين يبدو فى وضع أسوأ من العام الماضى. على سبيل المثال صدر العام الماضى تقرير من «مؤسسة حرية الفكر والتعبير» تحت عنوان «تراجع الإخوان وصعود قوى طلابية جديدة حول الانتخابات الطلابية 2013»، أشار التقرير إلى تراجع كبير وغير متوقع لطلاب الإخوان المسلمين فى نتائج الانتخابات النهائية، وتقدم الطلاب المستقلون وطلاب القوى السياسية عليهم، أما الآن فإن عددا من القيادات الطلابية الإخوانية قد تعرض للاعتقال وآخرون اندمجوا فى حركة «طلاب ضد الانقلاب»، ما قد يجعل كتلة الإخوان وأنصارهم خارج المنافسة تماما.
«لو أجريت الانتخابات الجامعية الآن سيواجه طلبة الإخوان المسلمين وأنصارهم أزمة حقيقية، ومن الواضح أن المنافسة القادمة ستكون بين المستقلين وتيار القوى السياسية». التحليل هنا لمحمد ناجى محمد ناجى، الباحـــــــــث ببرنامـــــــــج الحــــــــرية الأكاديمية بمؤسسة الحرية الفكر والتعبير». ويصف ناجى مصطلح «الطلاب المستقلين» بأنه غير دقيق، فهذه الشريحة ليست مستقلة تماما، إذ أنها أحيانا ما تدخل فى تحالفات سواء مع التيار الإسلامى أو مع الحركات السياسية. كذلك فإن هناك شريحة تنتمى إلى أسر طلابية ذات سمعة سيئة معروفة بصلاتها الأمنية خلال فترة حكم مبارك، وهى نفسها الشريحة التى تصف نفسها بأنها مستقلة، لكن لها حسابات مع إدارة الجامعة وشديدة الصدام مع الطلبة المسيسين. ويستكمل محمد ناجى قائلا: «نتوقع استبعادا سيحدث لطلبة الإخوان المسلمين تحت دعوى الخروج على السلوك القويم، أو بسبب تعرض قياداتهم الطلابية للتحقيق أو الاعتقال، وربما يكون ذلك أيضا حسب اللائحة الطلابية».
ووفقا للخطة المعلنة فإن اللائحة الطلابية سيتم الانتهاء منها فى شهر أكتوبر الحالى، على أن تجرى الانتخابات الطلابية فى شهر نوفمبر المقبل، غير أن عددا من القيادات الطلابية قد توقع أن يتم تأجيل الانتخابات حتى تهدأ الجامعات من الاشتباكات.
وسط هذا المشهد فإن الطلبة المحسوبين على الحركات السياسية والثورية، سيواجهون معركة صعبة فى الانتخابات المقبلة أيا كان موعدها، إذ يعيش بعضهم حالة من العجز عن المشاركة الكاملة فى الجامعة بسبب التوترات المتتالية، وحتى إذا ما تبنوا قضايا مثل مساندة الطلبة المعتقلين، ورفض التدخلات الأمنية فى الحياة الجامعية فإنهم قد يواجهون باتهامات بأنهم موالون لطلبة الإخوان المسلمين، ويتم تصنيفهم فى معسكر واحد مع طلبة الإخوان.
يختم الباحث محمد ناجى قائلا: «المهرب الوحيد أمام القوى السياسية فى الجامعات أن يركزوا على القضايا الطلابية البحتة، مثل دعم طلبة المدن الجامعية فى مشاكلهم المتكررة، أو مواجهة ازدياد مصروفات بعض الكليات وغيرها من المطالب، وهذا ما يعمل عليه بعضهم الآن».

Thursday, September 12, 2013

امسح وهكتب تانى .. نزاعات تسجلها جدران الشوارع

لم يعد أحد يتذكر متى كتبت تلك العبارات على جدران مسجد حسان بن ثابت، المجاور لقصر القبة الجمهورى، فقد اعتادوا رؤيتها يوميا منذ 17 رمضان الماضى حين خرجت مظاهرات حاشدة للإسلاميين فى ذلك اليوم، من كتبها تحديدا ؟ «الجماعة السنِّية هما اللى كتبوها» هذا أقصى ما يقدمه الباعة المستندون بظهورهم إلى نفس الجدار، أما الكتابات نفسها فتستهدف الاساءة إلى الفريق عبد الفتاح السيسى، وزير الدفاع، وتمجيد الرئيس المعزول محمد مرسى، لكن كان هناك من له رأى آخر.. إذ قرر أحدهم مؤخرا تغيير المشهد قليلا، وجاء بدهان (رش) وشطب الاساءات الموجهة إلى الفريق السيسى باللون الأسود، ثم كتب تحتها عبارات دعم وتأييد له.
على بعد حوالى 200 متر من هذا المشهد يقع قصر القبة الجمهورى الذى تم طلاء جدرانه مؤخرا لإزالة الكتابات المسيئة من النوعية نفسها، وفى الجهة المقابلة للبوابة الرئيسية يتوزع عدد من عمال هيئة نظافة وتجميل القاهرة، بعضهم اعتاد على هذه المهمة منذ فترة: «أساس عملنا هو الجانب الميدانى، لذا نرصد بسهولة بعض الكتابات المسيئة والبذيئة على جدران منشآت عامة مثل القصر الجمهورى بالقبة، ومهمتنا إزالة تلك الكتابات». يعلق المهندس عمر منير ــ مدير فرع هيئة نظافة وتجميل القاهرة بحدائق القبة ــ على تلك الكتابات، حيث يقع مكتبه على مسافة غير بعيدة من رسومات جرافيتى على سور مترو الأنفاق المواجه لقصر القبة، ما زالت كما هى دون إزالة. ويقول رئيس هيئة نظافة وتجميل القاهرة، المهندس حافظ السعيد: «تعرضنا لانتقادات حين أزيلت رسومات الجرافيتى فى شارع محمد محمود العام الماضى، أما الآن فنحن لا نزيل رسومات الجرافيتى الفنية، إنما نزيل كتابات مهينة او بذيئة من على الجدران، أيا كان من يكتبها».
بعض المشاكل التى تواجه العاملين فى هيئة النظافة تزداد حين تكون تلك الكتابات فوق تمثال أو مبنى ذى طابع أثرى، حيث يتم إشراك أثريين وفنيين متخصصين فى مثل تلك الحالات.
ما زال السؤال مستمرا حول من يكتبون عبارات اعتادتها الأعين مثل : «CC قاتل»، أو «مرسى هو رئيسي». بعض هؤلاء كانوا يستغلون خروج المسيرات المؤيدة للرئيس السابق ويقومون بطلاء الكتابات السابقة على 30 يونيو بطلاء أبيض، ثم يكتبون فوقها كتابات جديدة تستهدف الفريق أول عبدالفتاح السيسى أو تأييد الرئيس السابق محمد مرسى. وبعيدا عن هؤلاء فهناك مجموعات شبابية تكونت فى اعتصامى رابعة العدوية ونهضة مصر، ونشطت مؤخرا بعد فض هذين الاعتصامين. من هذه المجموعات «حركة شباب 18» التى كانت قد اختارت أن تقيم أغلب فعالياتها داخل مترو الأنفاق، ويترك أعضاء الحركة خلفهم أحيانا كتابات على الجدران مثل : «لا للانقلاب»، أو «يسقط حكم العسكر»، وكتابات أخرى ضد الفريق عبدالفتاح السيسى أو رسم لكف رابعة الشهير. مؤسس هذه الحركة شاب فى الثانية والعشرين اسمه عبد الرحمن عاطف، تعرض للاعتقال قبل أيام أثناء وقفة كانت تجهزها الحركة داخل مترو الأنفاق، ثم أخلى سبيله، وذكر وقتها أن كتابات الحركة تستهدف فئات محددة، مثل قادة الجيش الذين يرى أنصار الرئيس السابق أنهم قاموا بانقلاب على الشرعية، كما تستهدف الرموز الوطنية التى شاركت فى دعم 30 يونيو، وقال : «نعم.. بعض الكتابات أو الشعارات تعتبر بالفعل إساءة، ولكن يجب أن نراها من وجهة نظر أخرى، هى وجهة نظر بعض الشباب المتحمس الذى يعبر عن غضبه بهذه الوسيلة». هذه بعض كلمات عبدالرحمن عارف مؤسس «حركة شباب 18» التى عاش أعضاؤها أجواء اعتصام رابعة وصعدوا على منصة اعتصام نهضة مصر قبل فضه بأيام.

سياسة وطائفية
أحيانا ما تتعدى الكتابات حد الاتهامات أو الانتقادات إلى السب أو التحريض، هذا ما تكرر على جدران الكثير من الكنائس التى تلقت نصيبا من كتابات طائفية على جدرانها. على سبيل المثال تعرضت كنيسة سانت فاتيما فى مصر الجديدة لكتابات طائفية، وتداول مستخدمو الانترنت صورا من قاموا بتشويهها على أمل القبض عليهم، وسجلت بعدها بيوم واحد نيرمين نجيب، إحدى رواد هذه الكنيسة شهادة لها تداولها آلاف من مستخدمى الانترنت ذكرت فيها : «دخلت الكنيسة وأنا حزينة على ما وصلنا إليه، وصليت إلى ربى من قلبى لمصر.. وبعد انتهاء الصلاة خرجت لأجد فتاة محجبة تدهن سور كنيستي!».
كان هذا هو الحل الوحيد الذى قدمته إحدى فتيات مصر الجديدة لمواجهة الموقف، بأن تعيد طلاء السور مرة أخرى لإزالة الكتابات الطائفية أو المسيئة.
«لا يمكن أن يدخل ما يحدث من تشويه الجدران الذى يتخذه الاسلاميون فى مقارنة مع رسومات الجرافيتى التى كنا نراها فى شارع محمد محمود، وغيره من الأماكن، فما يحدث الآن هو مجرد كتابات خالية من أى إبداع». هذا الرأى يتبناه الكاتب والفنان شريف عبدالمجيد الذى قضى شهورا من العام 2011 فى دراسة وتوثيق الجرافيتى بمصر، وجمع ذلك فى كتابين، ويستعد لإنتاج الثالث عن الجرافيتى قبل 30 يونيو. وفى رحلته لفتت نظره حالات النزاع التى كانت تنشب على الجدران، واتخذت شكلا تدريجيا بين جرافيتى فنى يبدعه شباب ذوو صلة بالثورة، وبين محاولات الطمس التى تبناها الاسلاميون، إذ يشرح شريف عبدالمجيد أن البدايات الأولى كانت فى مدينة الاسكندرية، حين بدأ بعض الشباب الاسلامى فى الكتابة على المربعات الخرسانية المتواجدة قرب البحر، فى عبارات مثل «أترضاه لأختك» و«جمالك فى عفافك».. وكان بعض المارة يكتبون ردودا ساخرة على هذه العبارات، ومع الوقت ازدادت مساحة الاشتباك حين كان بدأ الاسلاميون ــ حسبما يصف شريف عبدالمجيد ــ فى كتابة عبارات مجاورة للجرافيتى مثل «و ما النصر إلا من عند الله»، بينما كانت المرحلة الأخيرة هى مرحلة الاشتباك الكامل. حين تقدم الاسلاميون إلى شارع محمد محمود وطمسوا بعض الرسومات ووضعوا «شعار القاعدة» على جرافيتى شهير هناك.
«الحرب كانت تدريجية على الجدران»، حسبما يرى شريف عبدالمجيد. وهو يلخص الفرق بين ما يكتبه مؤيدو الرئيس السابق وبين ما يبدعه رسامو الجرافيتى فى قوله: «كان رسامو الجرافيتى يكتبون طوال الوقت، امسح وهارسم تانى، بينما يكتب الاخوان الآن: امسح وهاكتب تانى، فالموضوع بالنسبة لهم مجرد كتابة على الجدران، وليست رسما أو إبداعا».
بعض المجموعات المحسوبة على التيار الاسلامى تركت رسومات للجرافيتى فى عدة أماكن، ولها طابع قريب من جرافيتى مجموعات الألتراس الرياضية، مثل حركة «أحرار» التى ما زالت رسوماتها متاحة فى عدة أماكن حتى يومنا هذا.

من الشعب وإلى الشعب
هل المستقبل فى المرحلة القادمة لجدران تحمل كتابات حادة تتم إزالتها كل فترة، مقابل انسحاب رسومات الجرافيتى الفنية؟ بعض الفنانين تحدثوا فى الفترة الماضية بعد 30 يونيو عن أن الجرافيتى فن مرتبط بالأزمات، وآخرون رأوا أن هناك حالة انسحاب للجرافيتى الفنى بسبب ارتباك الرؤية الحالية.
«لم ننسحب من العمل، لكن ربما نريد الظهور بصورة جديدة كفنانين فى المرحلة القادمة»، هذا ما يقوله رسام الجرافيتى الفنان عمار أبو بكر فى تعليقه عن ضعف حركة الجرافيتى فى الفترة الماضية لصالح جدران داعمة للرئيس السابق محمد مرسى. ويضيف أن ما يراه من عبارات حادة أو عفوية على الجدران من أبناء التيار الاسلامى أو مؤيدى الرئيس السابق هى أيضا «جرافيتي»، ويشرح ذلك قائلا: «كانت هناك كتابات شبيهة قبل 30 يونيو مثل «الإخوان خرفان» وغيرها من العبارات التى يمكن للبعض اعتبارها مسيئة، لكن فى النهاية الجرافيتى هو استخدام الجدران من الشعب وإلى الشعب، بأدوات المواطنين على اختلاف أفكارهم، كما أن الكتابة بهذه الصورة فعل تلقائى يكشف صاحبها أمام الجميع».
من وجهة نظر عمار أبو بكر، الذى اشتهر بالعمل مع مجموعات الشباب على رسم الجرافيتى فى شارع محمد محمود، أن استغلال الجدران بهذا الشكل هو امتداد لمحاولة السطو على الثورة ومحاولات استخدام أدواتها وشعاراتها. وهو ما اتضح بشكل كبير فى استخدام اللونين الأصفر والأسود الذى كان يستخدم فى شعارات حملة «لا للمحاكمات العسكرية»، وإعادة استخدامه فى شعار «كف رابعة».
لا يقلق عمار ورفاقه من شدة القبضة الأمنية فى الفترة الحالية، إذ أنهم يعتنقون فكرة غايتها أن الجرافيتى هو إبداع الناس وبأدواتهم، وحتى إن تمت إزالته ففى النهاية ستكون الرسالة قد وصلت، أما أكثر ما يطمئنهم هو أنهم لم يؤيدوا مرسى فى يوم من الأيام، ولم يدعموا 30 يونيو، ليكونوا أحرارا من أى أعباء أو انحياز.

Sunday, September 1, 2013

موسيقـى تتحدى الـحظـــر

 البعض يعـزف ليــلا هروبًـا مـن الإحبــاط والـملل

قبل الساعة التاسعة مساء بدقائق قليلة يبدأ الجميع فى الدخول إلى القاعة الرئيسية فى مركز «مكان» للثقافة والفنون، تمهيدا لإغلاق البوابة الرئيسية قبل موعد حظر التجول حسب التوقيت المحلى لمدينة القاهرة.
«الهدف من تواجدنا هنا هو كسر حالة الإحباط التى نعيشها بعد تسلسل الأحداث فى الفترة الأخيرة بشكل درامى، نحاول أن نقاوم حالة الجمود التى أصابت كافة الأنشطة الفنية والثقافية». العبارة للدكتور أحمد المغربى مدير مركز «مكان» الذى جلس فى الطابق العلوى لتحضير أنشطة اليوم الذى يستمر حتى الساعة السادسة صباحا. ويجتمع هنا عدد من الموسيقيين ارتبطوا بالمكان منذ سنوات، وآخرون تقدموا بطلب المشاركة فى العزف معهم لأول مرة، وجاءوا اليوم للتعرف على التجربة. بعض العازفين المتواجدين فى القاعة الرئيسية أصابهم ما أصاب المراكز الثقافية والفنية والأماكن الترفيهية والسياحية، إذ تعطلت هذه الشريحة من الموسيقيين تماما، وأغلب المتواجدين هنا جاءوا بحثا عما افتقدوه فى الأسابيع الماضية من تعطل واحساس بالإحباط.
بعد التاسعة بنصف ساعة تقريبا، بدأ صوت آلة الساكسفون يملأ المكان بتقاسيم شرقية خالصة، فى حين كان مهندس الصوت ينسق مع الجميع لضبط الأجهزة، قابعا فى مكانه بالطابق العلوى، الذى يكشف مساحة المسرح بأكملها، ومن هذا الموقع الكاشف تبدو حالة التفاهم التى تجمع الحاضرين سواء فى أثناء العمل الموسيقى أوفى كافة الأحاديث الجانبية، حتى إن انتقلت إلى السياسة أحيانا.
«الفكرة كانت مبادرة فردية منى، لتجميع الموسيقيين والفنانين المرتبطين بالمكان للعمل سويا بدلا من الجلوس فى المنزل». الحديث ما زال للدكتور أحمد المغربى مدير مركز «مكان»، ولأن المركز يفسح المجال الأوسع للموسيقى الشعبية والتراث، فقد كانت تركيبة الموسيقيين أغلبها من هذه الشريحة الفنية.
عدد الحضور قد يتجاوز العشرين فردا بقليل، وبينما تنتقل التقاسيم الشرقية من آلة الساكسفون إلى الترومبيت، كان أمين شاهين عازف الناى والأرغول فى حوار جانبى مع المغنية الشابة هند الراوى عن تصورات لبقية الليلة، ثم ينتقل قائلا: «أعرف الدكتور أحمد المغربى قبل عشر سنوات، كما تربطنا بالمركز هنا عروض دورية، توقفت تماما بعد ازدياد أحداث العنف، ثم فرض حظر التجول». كذلك كان الحال مع هند الراوى الفتاة العشرينية السمراء، التى أفادها انخراطها فى أنشطة المركز لتعلم المزيد من الخبرة فى الغناء الشعبى، ينهيان حديثهما ثم يهبطان أسفل وسط بقية الموسيقيين، ووسط اشتباك أصوات الترومبيت والساكسفون والايقاع، يدور سؤال فى رأس الزائر لهذه التجربة فى أول مرة، ما هو المنتج الذى يمكن أن يخرج من اجتماع هؤلاء الفنانين حتى ينتهى الحظر؟
فى البداية بدأ الأمر خلال جلسة لتبادل العزف والارتجال، لكن الأمر تطور فيما بعد إلى مشروع موسيقى، وتحولت تلك الجلسات إلى ورشة عمل، حتى يظهر منتجا حقيقيا يسجل مزاج هؤلاء الموسيقيين فى وقت الحظر.
«على فكرة أنا انتخبت مرسى!!» بهذه الجملة يبدأ إبراهيم عبدالبارى، عازف الساكسفون الخمسينى، موضحا أنه كلما ارتفع سقف طموحاته، كان الواقع يؤثر بشكل سلبى فى مهنته التى اختارها قبل أكثر من 30 سنة. «ربما أنا هنا بحكم علاقتى القديمة بالمكان وما ينتجه من مشروعات فنية، اختلطنا فيها مع أنواع موسيقية أخرى، لكن فى الحقيقة أنا أعمل أيضا مصاحبا لفنانين شعبيين فى الكازينوهات السياحية بشارع الهرم، وكل هذا توقف تماما الآن». ينهى ابراهيم عبدالبارى حديثه، ليأخذ استراحة من العزف تاركا المجال لآلات أخرى.
بعد الساعة العاشرة مساءً بقليل كان الجميع قد بدأ فى العزف الذى سيستمر حتى السادسة صباحا... يبدأ الترومبيت، ثم الأرغول، وطبول فرقة مزاهر للزار... جملة موسيقية تتكرر، وتعاد بشكل مختلف، وتتسارع الايقاعات، مع الوقت.. كان آخر من جاءوا للمشاركة، طارق الأزهرى مع زميله عبدالله أبوذكرى عازف آلة (الساز) الوترية، الشبيهة بالعود.
«كانت مغامرة أن نأت اليوم بعد ميعاد الحظر، لكن وصلنا فى وقت معقول»، يتحدث طارق الذى يدرس آلة العود فى «بيت العود»، إلى جانب دراسته للحقوق. كان من المفترض أن ينهى دراسته للعود فى هذا الشهر قبل ازدياد أحداث العنف فى الشارع قبل أسابيع، وينتظر العودة فى سبتمبر القادم.
«حاولت مع أصدقاء من العازفين أن نجتمع فى شقة صديق لنا وقت الحظر حتى نتدرب، لكن الأجواء كانت تزداد صعوبة، وحين سمعت بالفكرة هنا تقدمت بطلب وبدأت فى التعاون مع بقية العازفين المشاركين فى الورشة».
لم يقتصر الأمر على مجرد المشاركة مثلما يشرح طارق، فعلى سبيل المثال، صديقه الشاب عبد الله قد أتى بلحن من تأليفه أسمعه لبقية الفرقة حتى يبدأ معهم التنويع عليه والخروج بمقطوعة موسيقية بمزاج الحظر.

 استراحة منتصف الليل
قرب منتصف الليل، يأخذ الجميع استراحة، فى تلك الأثناء كان خميس البابلى قد اختار استراحته أمام شاشات الكمبيوتر بجانب مهندس الصوت فى الطابق العلوى. ينتقل من حديث إلى آخر، من قصة تعارفه على الراحل سامى البابلى عازف الترومبيت الأول، الذى اقتبس اسمه، إلى الأعمال التى شارك فيها مع حسن الأسمر وحكيم وعبد الباسط حمودة : «دى أول حفلة أحضرها من أسابيع وأعزف وسط زمايلي». يستكمل خميس البابلى حديثه موضحا أهمية الاستراحة لعازف الترومبيت بسبب اعتماده على النفس الطويل، والتحكم فى الشفاه. يتدخل الدكتور المغربى بجملة: «عم خميس، عايزين منك جملة نشتغل عليها، وقول لبقية الناس تحت هيتعاملوا معاها ازاي». هنا يحاول مدير المركز القيام بدوره الأصلى فى إدارة هذه الورشة.
بدأت الأغانى تزداد حماسا مع مشاركة الفنان الجنوبى سيد الركابى مع هند الراوى فى الغناء على إيقاعات شعبية، وقرب الساعة الواحدة، تبدأ هدنة أخرى هى استراحة الطعام.. بعض الساندويتشات، ثم تتطوع هند بتقديم الشاى إلى زملائها، بينما يبدو المشهد خارج مركز «مكان»، قرب ضريح سعد زغلول هادئا، وكأن حفلة لم تقم على بُعد عشرات الأمتار.
أحد الشباب الحاضرين يعزف أغنية أجنبية داخل الصالة الفسيحة، ويرتجل معه سيد الركابى تنويعات موسيقية على طريقته الجنوبية. وقرب باب الخروج من المركز، يقف الدكتور أحمد المغربى مازحا لمن حوله: «أنا حدودى خلف هذا الباب، والحظر خارج هذا الباب.. لو تحركت خطوة إلى الخارج فليحاسبنى أحد».
تزداد حالة المرح مع الوقت، سواء للزوار فى أول مرة أو لمن يعرفون بعضهم من قبل، وتختم الليلة بعرض بين فيلم كلاسيكى، والاستمرار فى الحديث والغناء، حتى السادسة صباحا، فى ذلك التوقيت يبدأ الكثيرون يومهم، بينما يتجه من كانوا فى «مكان» لإنهاء ليلة صاخبة وإحساس بأداء عملهم الذى تعودوه لسنوات.

الغناء الثورى فى هدنة

على صفحة الفنان الشاب محمد محسن فى شبكة فيسبوك الاجتماعية اعتذار مكتوب فى نفس اليوم الذى تم فيه فض اعتصامى «رابعة العدوية» و«نهضة مصر»، يقول فيه: «نظرا للأحداث المؤسفة التى تمر بها البلاد تم تأجيل حفل محسن اللى كان مفروض يتعمل الجمعة الجاية للمرة الرابعة على التوالي! بنعتذر لكم للمرة الألف وإن شاء الله تُفرج وتتعوض قريب».
كان محمد محسن أحد الأسماء التى برزت بشكل أكبر فى الأجواء الثورية بسبب اختياراته لكلمات شعراء ثوريين، والتواجد فى كثير من الفعاليات الثورية منذ 25 يناير 2011، ذلك التوضيح لم يعقبه أى تحديث حتى الآن، وعلى عكس الصورة التقليدية التى كان يشارك فيها العديد من المغنين والفرق الشابة داخل الاعتصامات المتتالية على مدار عامين ونصف، اختفى صوت هؤلاء إلى أجل غير مسمى.. البعض يبدى إحساسه بالقلق، مثلما فعل المغنى الشاب رامى عصام الذى كتب بيانا يعبر عن موقفه بشكل واضح، جاء فيه: «نحن كثوار مستقلين لم نشترك فى هذه المعركة بسبب رفضنا للإخوان والعسكر وخيانتهم للثورة.. نحن فقط ننتظر من سينتصر فى هذه المعركة حتى نعلم ضد من سنناضل سواء كان عسكر أو إخوان، ولن نسمح لفلول النظام أن يعودوا إلا فوق جثثنا».
فى هذه الأثناء تختفى المشاركة القوية للفنانين فى الفعاليات السياسية بسبب انحصار الأحداث فى الاشتباكات بين الاسلاميين والأمن، أو بين الاسلاميين والأهالى. وبعد أن كانت الأغانى مندمجة بالكلمات والحضور فى فعاليات خطرة مثل أحداث محمد محمود وخلافه، لم يجد أعضاء فرقة «اسكندريلا» سوى الحنين إلى زمن مشاركاتهم فى تلك الأحداث، إذ تعيد صفحتهم نشر صور حفلة لهم فى اعتصام مجلس الوزراء من العام 2011، وهى الحفلة التى غنوا فيها دون استخدام ميكروفونات أو تجهيزات صوتية تقليدية، فى حين كانت آخر مشاركة غنائية لهم فى معرض «أدنبره» للكتاب بإسكتلندا، حيث ألقى أمين حداد أشعاره عن الثورة، وكذلك فعلت الفرقة الغنائية بتقديم أغانيها الشهيرة. هنا تقل درجة المقاومة لحظر التجول بسبب الأجواء السياسية الضبابية، ولم تبتعد تلك الحالة كثيرا عن دول عربية أخرى من أشهرها لبنان، إذ تعانى هذه الأخيرة من قلاقل سياسية ووقوع تفجيرات، ورغم ذلك أحيا مؤخرا الفنان مارسيل خليفة حفلا غنائيا ببيروت، رغم القلق من تكرار التفجيرات والنداءات بفرض حظر فى بعض الأماكن خشية التصعيد. أحد الأسباب التى دفعت مارسيل خليفة إلى الغناء والدعوة إلى السلام أنه خاض تجارب أعنف مع الحرب الأهلية اللبنانية التى دامت حوالى 16 سنة، وحصدت أرواح عشرات الآلاف.

السمسمية تبحث عن مقاومة جديدة

فى الوقت الذى واجهت فيه بورسعيد حظرا للتجول وأعمال عنف فى شهر يناير الماضى، كانت أغلب محافظات الجمهورية عدا مدن القناة تعيش بصورة طبيعية، وفى تلك الفترة تعمدت مدن القناة وعلى رأسها بورسعيد اختراق حظر التجول، وكانت الموسيقى وأغانى السمسمية إحدى أهم أدوات المقاومة ضد الحظر آنذاك. أما اليوم، فالآية معكوسة، إذ انصاعت 14 محافظة لحظر التجول دون مقاومة، بينما تعيش بورسعيد حرة من حظر التجول، لكن الصورة ليست وردية تماما.
«أوقفنا حفلتنا الأسبوعية فى محافظة بورسعيد لمدة أسبوعين بعد فض اعتصامى رابعة العدوية وميدان النهضة فى القاهرة، هناك حالة من الارتباك أصابتنا جميعا، فالفن يحتاج إلى قدر معقول من الهدوء والأمان». يتحدث هنا زكريا ابراهيم مؤسس فرقة الطنبورة البورسعيدية، ويوضح كذلك صعوبة انتقال الفرقة إلى مسرح الضمة فى حى عابدين بالقاهرة الذى اعتادوا إقامة حفلاتهم عليه، بسبب الحظر.
على مدار 25 سنة من عمل فرقة الطنبورة البورسعيدية وغيرها من فرق السمسمية فى مدن القناة، كانت هناك مناسبات متجددة تشارك فيها السمسمية بشكل وطنى، ارتباطا بموروث ما زال يعتنقه عازفو السمسمية منذ أن كانت رفيقة لرجال المقاومة فى معارك مدن القناة ضد المحتلين، لذا ظهرت السمسمية فى ميدان التحرير، وفى ميادين مدن القنال، لدعم ثورة 25 يناير. وتجدد الأمر قبل 30 يونيو الماضى من مشاركات فى الميادين، بل وتأليف أغان خاصة لهذه المناسبة ومن ذلك ما ألفه زكريا ابراهيم عن «تمرد». أما فى الفترة التى كانت فيها بورسعيد تعانى من العزلة ومن المواجهات العنيفة مع الأمن بعد صدور حكم إعدام لعدد من أهالى المدينة فى قضية قتل ألتراس أهلاوى بإستاد بورسعيد، وهو ما اعتبره الأهالى تضحية بالمدينة إرضاء للألتراس. بدأت أحداث بورسعيد يوم 26 يناير 2013 وفى تلك الأجواء المحمومة بالغضب، لم ينصع أحد لحظر التجول، بل شاركت السمسمية فى مقاومة الحظر، وتبدلت كلمات الكثير من الأغانى التراثية بكلمات ساخطة على حكم الرئيس المعزول محمد مرسى. «فرقة الطنبورة على سبيل المثال ألفت أغنية عن يوم 26 يناير»، حسب عبارة زكريا إبراهيم.
لماذا لم يبرز صوت السمسمية كأداة للمقاومة فى الفترة الماضية؟ يوضح زكريا أن الصورة ليست واضحة، والهدف الذى يمكن أن تقوم ضده السمسمية ما زال ضبابيا، «فكرت أنا وزميلى محسن العشرى أن نكتب عن هذه الفترة، لكن علينا أن نصبر ونفهم»، يصمت قليلا ثم يضيف: «صعب تغنى وجنبك ناس بتموت».

Sunday, August 25, 2013

حقوق الإنسان.. مهنة.. وتهمة.. و واجب

  • حملات تهكم وتخوين ضد الحقوقيين والنشطاء
فى أسابيع قليلة تحولت «أسماء محمد» -تم تغيير الاسم بناء على رغبة المصدر- من العمل على قضايا مجتمعية تخص الصحة والسكن والبيئة إلى الاشتباك الكامل مع الأحداث، ضمن فريق من زملائها داخل المؤسسة الحقوقية التى تعمل بها، وذلك بعد تصاعد حدة الاشتباكات بين مؤيدى الرئيس السابق محمد مرسى وقوات الأمن منذ شهر يوليو الماضى.
«تقوم وظيفتى على التنسيق بين العمل الميدانى والباحثين بالمؤسسة من أجل خدمة قضايا بعينها، لكننا انتقلنا سريعا إلى قضية المصابين والجرحى نتيجة الاشتباكات المتتالية، فمن الصعب تماما العمل على قضايا السكن أو الصحة فى الوقت الذى يخشى المواطن العادى على حياته وسلامته الجسدية». قد يتطلب الأمر منها التوجه إلى أماكن الاشتباكات لجمع الشهادات، وهو ما فعلته عقب أحداث الحرس الجمهورى التى أسفرت عن مقتل عشرات المواطنين، وكان الهدف من وجودها هو مساندة المحامين بالمؤسسة فى عملهم، ومساندة أهالى الضحايا.
وفى أثناء الفترة المشحونة بالاستقطاب بين من يرفضون استخدام العنف ضد المعتصمين فى ميدانى رابعة العدوية والنهضة ومن يرى ضرورة الضرب بقبضة حديدية، كانت هناك شريحة من الحقوقيين يرفضون اللجوء إلى العنف، ما عرضهم لانتقادات عنيفة والتشكيك فى وطنيتهم. وكانت تلك الانتقادات الحادة بارزة فى عالم الإنترنت، ثم انتقلت سريعا إلى الإعلام التقليدى.
وهنا بدأت كلمتا «حقوقيين» و«نشطاء»، تتحول سريعا إلى «حكوكيين» و«نوشتاء»، وذلك على سبيل السخرية من موقف تلك الشريحة من الحقوقيين التى أدانت سقوط مئات القتلى فى الأسابيع الماضية، كما اتهمت تلك الشريحة بالجبن والخيانة والانسحاب من الحرب على الإرهاب.. وبمتابعة هذا العالم قد يعتاد زائر الإنترنت على مشهد الشاعر الشاب الذى يبدأ يومه على موقع تويتر بسب أحد النشطاء الحقوقيين بشكل مباشر، أو أن تجد آخر قد طرح قائمة تدين أسماء بعينها من العاملين فى مجال حقوق الانسان، خاصة من أعلنوا آراءهم الشخصية على صفحاتهم من خلال شبكة فيس بوك الاجتماعية وعلى موقع تويتر.
ولم يعد يخفى بعض الحقوقيين ضيقهم من هذه الانتقادات الحادة، مثلما وصف حسام بهجت مدير المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، قائلا فى حسابه على تويتر: «توثيق العنف الطائفى بيجيب شتيمة الإسلاميين، وتوثيق قتل الإسلاميين بيجيب شتيمة التانيين. ولو وثقت وأدنت الجريمتين برضو هتتشتم عشان محايد». ضمن من تعرضوا لهذا العنف اللفظى الدكتورة عايدة سيف الدولة، أحد مؤسسى مركز النديم للعلاج والتأهيل النفسى لضحايا العنف، ورغم ذلك تعلق قائلة: «أعمل منذ أكثر من 20 سنة على الأهداف نفسها ولم يطرأ جديد فى أسلوب عملنا كى نتلقى الشتائم وتهم الخيانة، إذ نعمل على رصد الانتهاكات التى يتعرض لها المواطنون على يد السلطات، ومساعدة أهالى الضحايا فى الوصول إلى ذويهم وغيرها من مهام إعادة التأهيل، لكننا لم نمر بمثل هذه الأزمة من قبل».
من بين الاتهامات المتداولة ضد الفرد الحقوقى أنه يتدخل فى الشأن السياسى، وأن ما تقدمه المراكز من بيانات وشهادات قد تستخدم ضد مصلحة البلاد، كما تشرح عايدة سيف الدولة: «التسييس يأتى من جانب المتحيزين، وفى تفسيراتهم الخاصة، لأننا فى مركز النديم على سبيل المثال لم نقدم بيانات فى أى وقت إلى حكومات خارجية، بل أحيانا ما نقدمها إلى الحكومة المصرية بهدف الإصلاح، ولعل موقف كثير من الحقوقيين فى المطالبة بمحاكمة عادلة للرئيس السابق مبارك، والمطالبة بمساءلة المشير طنطاوى والرئيس السابق مرسى عما ارتكب فى عهدهم من انتهاكات يوضح أن الهدف هو حقوق الضحايا أيا كانوا وهو نفس الموقف من السلطة الحالية». تتوقف سيف الدولة قليلا ثم تستطرد: «هناك مراسلون أجانب كانوا شهودا على الكثير من الأحداث التى أسفرت عن قتلى، فكيف يخشى البعض من الحقوقيين فى زمن تنتقل فيه المعلومات فى نفس اللحظة؟».

مشاكل شخصية
مثل تلك الضغوط أحيانا ما يصاحبها تجارب أشد قسوة حين يفاجئ الحقوقى المستقل أو التابع لإحدى المؤسسات بأنه قد فقد أحد المقربين إليه وسط الاشتباكات. تكرر المشهد نفسه، فى الأسابيع الماضية، على صفحات بعض النشطاء والحقوقيين، حين يفاجئ أصدقاءه بمقتل أحد أقربائه داخل الاشتباكات.. بعضهم يعلن ذلك، وآخرون يخفون، ومن ضمن ذلك الفريق الأخير كانت «أسماء» التى لم تنزل إلى موقع الاشتباكات فى أحداث المنصة للقيام بمهمتها المعتادة لجمع شهادات وغير ذلك، بل اتجهت إلى هناك وقتها للبحث عن أحد أقربائها الذى تعرض لطلق نارى أثناء قيامه بإسعاف المصابين فى أثناء الأحداث، وتوفى هناك.
تلك الضغوط كثيرا ما تنعكس على الحياة الشخصية، اكتئاب، عصبية، إحباط، حسبما تصف أسماء ذلك: «تتدخل الأسرة أحيانا وتطالبنى بترك هذا المجال، لكنها قناعاتى الشخصية التى تجعلنى أكمل، بل بدأت تتسع لدى مساحة القلق من أن تكون المرحلة الراهنة بداية لقتل مساحات المقاومة والمبادرة بشكل عام». كانت أسماء، خريجة الهندسة، مشاركة على مدى الفترة الماضية بعد الثورة فى مبادرات تطوعية كاملة لخدمة وتنمية المناطق العشوائية، واليوم تخشى أن الهجمة الحالية على العمل الحقوقى، قد تتجاوز الأمر ويبدأ المجتمع فى الوقوف ضد المبادرات الفردية والجماعية وتخوينها.


متطوعون من أجل المفقودين
استكمالا لمبادرات شبيهة كانت قد ظهرت فى العامين الماضيين بعد أحداث ثورة 25 يناير، والهدف: تتبع المفقودين فى الأحداث والاشتباكات المتتالية. ربط البعض توقيت ظهور الموقع بأن يكون مؤسسوه على صلة باعتصام رابعة العدوية، إلا أن مصطفى ــ أحد مؤسسى الموقع- ينكر ذلك بقوله: «نحن خمسة شباب قمنا بتأسيس الموقع والصفحة على فيس بوك، وليس لنا أى انتماء سياسى، ومن يراجع قائمة المسجلين من المفقودين أو المصابين فى الموقع سيلاحظ أيضا أنهم لا ينتمون إلى تيار بعينه، هم مصريون فى النهاية، ولا يهمنا أن نعرف إلى أى طرف ينتمون».
يضم الموقع الإلكترونى قائمة لأكثر من 500 مواطن، ويتواجد فى أغلب فترات اليوم من 100 إلى 200 زائر بسبب الحالة الراهنة وازدياد الاشتباكات وفرض حظر التجول. وفى أسفل الصفحة الرئيسة بالموقع يخلى المؤسسون مسئوليتهم بعبارة: «الموقع عمل تطوعى مبنى على المشاركة من المستخدمين ونحن غير مسئولين عن المعلومات التى بداخله»، إذ ليس لديهم من وسيلة للتأكد من البيانات سوى مراجعة التقارير والبيانات الحقوقية، وكذلك بما يقدمه مستخدمو الموقع من بيانات الاتصال.
«فى الحقيقة لا نسجل الحالات التى يصل فيها أحد الأهالى إلى قتيل أو مفقود عن طريق الموقع، بل أضفنا خاصية حذف المفقودين، على سبيل تحديث البيانات»، هذا ما يوضحه مصطفى ــ أحد مؤسسى الموقع ــ خاصة أن البعض لم يختفِ فى أثناء اشتباكات، بل فى مواقف أخرى مثل «العودة من كورس للغة الإنجليزية»، «أو زيارة أحد الأصدقاء»، لذا تطمح هذه المجموعة الشابة التى يدرس أعضاؤها الحاسب الآلى بكلية الهندسة أن يستمر الموقع فى نشاطه حتى بعد هدوء الأحداث.
تزيد فى هذه التجربة مساحة العمل العفوى والتطوعى، وهناك نوع آخر من المبادرات أكثر عفوية، إذ يقوم على الجهد الفردى بشكل كامل، هذا ما يوضحه محمد منصور (29 سنة) الذى تطوع قبل عامين بجمع قوائم للمفقودين فى أحداث ثورة 25 يناير وما بعدها من اشتباكات. ثم كرر الأمر نفسه مؤخرا معتمدا على مصادر متنوعة مثل صفحات فيس بوك والبيانات التى توفرها المراكز الحقوقية على الإنترنت، دون تواصل مباشر معها. وفى ذات الوقت لم يكن على صلة باعتصام رابعة العدوية أو النهضة، بل كان على حد تعبيره له موقف معادى من وجود جماعة الإخوان فى السلطة، «لكن هذا لا يمنع من المساعدة فى هذه الأزمة التى أصابت مصر».
فى عام 2011 أصدر مجلس الوزراء تقريرا وصل فيه عدد المفقودين حتى مارس 2011 إلى 1200 شخص. وفى ظل ضعف الأداء الحكومى فى متابعة هذا الملف ظهرت أشهر مبادرة من نوعها عام 2012 تحت اسم «هنلاقيهم»، على يد مجموعة من المتطوعين. وبعد شهور من العمل توصلت المبادرة إلى أن أغلب المفقودين الذين مازالوا على قيد الحياة كانوا محتجزين بشكل قسرى فى سجون الدولة.
«بعد الأحداث الأخيرة عملنا من جديد على القضية نفسها، نجمع البيانات من المنظمات والمستشفيات والمشرحة، ونتلقى على أرقام الهواتف المعلنة أو عبر الإنترنت بلاغات ونطابق البيانات مع بعضها حتى نصل إلى الحالة المفقودة». تشرح شيماء ياسين ــ أحد مؤسسى المبادرة ــ إنهم أحيانا ما يتعرضون لمواقف تزيد من ضيقهم، مثلما حدث مؤخرا حين توصلوا إلى أحد المواطنين الذين تم الإبلاغ عنهم، وبعد التواصل مع أهله وإبلاغهم أنه محتجز لدى الأمن، تعرض للقتل فى حادث مصرع 38 من أنصار الرئيس السابق داخل سيارة ترحيلات.
«مش كل مفقود توفى»، حسبما تؤكد شيماء، لذا فهم يلاحقون الأمل الذى لا ينفذ لدى الأهالى فى الوصول إلى المفقودين. ومؤخرا حاول أفراد المجموعة إشراك متطوعين جدد معهم بسبب كثافة الأحداث والاشتباكات، لكن تظل الأوضاع الأمنية أكثر تضييقا عليهم، خاصة بعد فرض حظر التجول.
PDF