Saturday, August 28, 2010

فرسان الخير على الطريق

فرق الامداد السريع بالبلح والتمر الهندي
لن يلاحظهم أحد سوى قبل أذان المغرب بنصف الساعة على الأكثر، يتفرقون فى الطرقات دون خطة مسبقة وبيد كل واحد إفطار سيوزعه على المارة فى الوقت المناسب، كان هذا العام هو التجربة الأولى لسمير عنتر، الذى انضم إلى هذه المجموعة مع بداية رمضان، فى الأعوام السابقة كان يشاهدهم من بعيد وقت الإفطار دون أن يشارك، أما اليوم فأصبحت له طقوس يومية من الصعب أن يتخلى عنها. قبل أذان المغرب بوقت مناسب يغلق باب المحل بإحكام ثم ينطلق فى رحلته مع الصائمين حتى يصل إلى منزله فى منطقة المرج، حيث نهاية خط مترو الأنفاق. يعمل سمير فى محل لخدمات المحمول جوار محطة غمرة، يقف نهارا فى شد وجذب مع الزبائن أثناء الصيام، وإلى جواره حقيبة لا تظهر أهميتها سوى وقت الإفطار يعبئها بالتمر فى كمية تتغير ما بين نصف الكيلو أو الكيلو. يقول: «قبل التوزيع أقوم بغسيل كل تمرة وأغلفها فى كيس صغير بحجمها». يتعامل سمير مع الأمر وكأنه سيضع هذه التمرات فى يد الله.
فى رحلته اليومية يودع غمرة متجها إلى المترو، يعلق قائلا: «فى أول رمضان حين جربت توزيع التمر على الركاب كنت أخشى ردود الأفعال العكسية، وشعرت بخجل شديد أثناء التوزيع، لكن كنت أقول لنفسى إننى وقفت فى يوم من الأيام فى الشارع كبائع حر، هل أخجل اليوم من عمل الخير؟».
أثناء عبوره ناحية المترو يظهر فى شارع رمسيس من اختار توزيع علب العصير على السيارات المارة أسفل كوبرى غمرة، أما داخل محطة المترو يتلقى سمير نفسه كيسا يحوى عصيرا وخبزا للإفطار من أحد المتطوعين داخل المحطة، بمجرد أن يظهر المترو المزدحم يتوقع سمير السيناريو اليومى: «قد أفرغ ما معى من تمر فى عربة مترو واحدة، ومن المهم جدا أن أنهى ما لدى قبل الأذان، وكذلك قبل محطة المطرية، حيث يظهر شباب آخرون فى المحطات التالية يوزعون بدورهم التمر ووجبات أخرى، وهؤلاء لن أدخل معهم فى منافسة، بل على العكس أحيانا ما أتعمد أن أفطر على ما يقدمونه كى أجرب إحساس من أوزع عليهم التمر». داخل عربة المترو تختلف الأجواء قليلا، ففى أوقات الزحام التى يزيد فيها التوتر والعصبية تتلاشى المشاعر السلبية ويخترق سمير صفوف الركاب بسهولة، وما إن ينهى عمله حتى يستقر فى مكانه كأى راكب آخر، وفى طريقه إلى المرج لا يتوقف الشباب عن عطائهم داخل المترو، بعض الشباب يلقون أكياس من خارج العربة خوفا من الدخول وإغلاق أبواب المترو عليهم، وآخرون تركوا بعض التمر فوق ماكينات التذاكر جوار أبواب المحطات. يعلق سمير بعد أن ينهى مهمته قائلا: «العبارة التى توجه إلى دائما بشكل متكرر هى جزاك الله خيرا، أوزع على الجميع.. حتى المسيحيين لا يرفضون التمر ويشاركون الصائمين فرحة الإفطار». أحد الركاب المسنين المداومين على استخدام عربات المترو يذكر أن مشهد توزيع التمر والعصائر على الصائمين لم يكن منتشرا بهذا الكم قبل سنوات، وحتى فى فترات صباه فى الخمسينيات والستينيات لم تكن هذه الفكرة منتشرة ما يجعله يشعر بالأمل قائلا: «الشباب دلوقتى أكثر التزاما من زمان، ومجتهدين أكتر». هذا الاتجاه نحو إفطار الصائمين سبقه فى السنوات السابقة تشجيع من عدد من الدعاة فى محطات التليفزيون الدينية وعلى الإنترنت. فى موقع (الطريق إلى الله) خرجت إحدى المطبوعات تحت عنوان: يوم فى حياة صائم و دعا ناشروها على الإنترنت إلى طبعها ونشرها فى الطرقات، إحدى أهم توصيات هذا الملصق تقول: فى موعد صلاة المغرب لا تنسى توزيع التمر فى الطريق إلى المسجد. أما سمير عنتر فقد اقتصر توزيعه للتمر داخل عربات المترو، وغالبا ما تنتهى الكمية، التى يحملها معه يوميا فى محطة منشية الصدر أو كوبرى القبة.
ينزل الراكب من محطة مترو كوبرى القبة ليفاجأ بمعتز حسن وهو يستقبله حاملا صينية عليها أكواب مشروب التمر هندى، يشاركه فى هذه المهمة أخته، التى تقف بعيدا جوار زوجها رضا سالم يعدان أكواب الشراب، وما إن ينهى العابرون أكوابهم حتى يكتشفوا وجود حبات تمر مقطعة داخل الكوب يفطرون عليها فى طريقهم، كل هذا احتاج إعداده ساعتين قبل الإفطار حسب حديث رضا سالم الذى قال: «الحقيقة أننا لا نأتى إلى هنا يوميا لتوزيع الشراب والتمر، أكثر الأيام المضمونة لنا هى يوم الجمعة أو فى أى يوم آخر نجده مناسبا لهذه المهمة». أثناء عملية التوزيع يدور العمل بين ثلاثتهم بشكل آلى دون حديث إلا من عبارات تحذيرية توجهها الزوجة لزوجها وأخيها من ألا يسقط منهما شىء، وتعلق بدورها قائلة: «جربنا توزيع الإفطار فى الشارع على المارة فى العام قبل الماضى، ثم توقفنا العام الماضى وتركنا المهمة للمسجد المجاور، لكن الحقيقة، التى اكتشفناها أن أمتع لحظة هى أن أقدم الخير بنفسى».
يحتفظ ثلاثتهم بابتسامة ترحيب أثناء حديثهم، وتستغرق المهمة نحو ثلث الساعة بعد أذان المغرب. يشير معتز إلى أن نفس هذه المهمة التى يقوم بها جوار محطة المترو مجموعة أخرى من الشباب والأصدقاء.
ما يقوم به هؤلاء المتطوعون على الطريق أصبح مثار اهتمام البعض، أحدهم وجه سؤالا إلى دار الإفتاء المصرية حول إمكانية تخصيص جزء من زكاة المال لهذا العمل، لكن رد دار الإفتاء كان واضحا، حيث اعتبرت هذا العمل «نوعا من وجوه الخير والتكافل كالصدقات والتبرعات، لا من الزكاة». حيث إن للزكاة المال مصارف محددة أوضحتها الفتوى المحفوظة على الموقع الالكترونى لدار الإفتاء على الانترنت.. ومؤخرا دخلت إلى فكرة توزيع التمور وقت الإفطار تأثيرات أخرى سياسية مثلما حدث مؤخرا فى مدينة الإسكندرية حين تطوعت إحدى الفتيات بتوزيع التمور على الصائمين مع ورقة صغيرة تطلب فيها الدعاء بالرحمة والمغفرة لروح الشاب خالد سعيد، الذى لقى مصرعه قبل عدة أشهر فى حادث أثار الجدل حول دور وزارة الداخلية فى وفاته، كما استغل البعض الفكرة فى الدعاية الانتخابية، أما سمير عنتر ورضا سالم وأسرته فهم بعيدون تماما عن مثل هذه الأهداف. بل إن محاولة الحديث مع هذه المجموعة كادت تفشل بسبب ما أفصح عنه رضا وأسرته قائلين: «من يعمل الخير لا يحب أن يتحدث عنه كثيرا».

Wednesday, August 25, 2010

الدعوة بأدوات مختلفة

عبدالرحمن مصطفى
«أيهما أفضل أن أجعل الطرف الآخر يشارك فى معالجة المشكلة أم أن أوجه إليه رسائل من طرف واحد؟» هكذا يرى محمد جاد الله الطريق الأمثل لمعالجة سوء الفهم الذى يتعرض له المسلم داخل المجتمعات الغربية، لم تعد الخطبة من وجهة نظره هى الحل الوحيد، خصوصا أنه لن يسمعها سوى المسلمين فى الغرب، يضرب مثلا بطريق آخر للوصول إلى داخل المجتمع الغربى بآخر ورشة تدريبية أقامها فى النمسا تحت عنوان «تاريخ الضمير»، اعتمد فيها على الربط بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية والحضارة المصرية القديمة وصولا إلى التاريخ الحديث والهدف حسب قوله: «استعراض منظومة القيم الإنسانية، وتعريف الغربى سواء كان طالبا فى المدرسة أو محاضرا أكاديميا بأن ما يعتنقه من مبادئ موجود لدى غيره، مما يخفف التوتر بين الشرق والغرب». يرأس محمد جاد الله مؤسسة «الجسر» للتسامح والسلام وأكاديمية التراث الحضارى المشترك والحوار. يلخص فلسفتها فى أهمية التركيز على تباين الثقافات وتأثير ذلك فى مشاكل الجالية المسلمة فى أوروبا، موضحا أن المشكلة ليست فى الأديان بقدر ما هى فى اختلاف الثقافات، والهدف من الورش التدريبية هو توضيح الوجه الحضارى للإسلام، بحيث يشعر الغربى باتصال مع الإسلام كدين وحضارة بعيدا عن أزمات الواقع الحالى الذى على الجميع تفهمه ووضع حلول له. وكى يتم الإعداد لمثل هذه الورش التدريبية لا بد من إعداد الشخص الذى يدير الورشة التدريبية كى يكون العمل احترافيا، فإلى جانب استخدام النصوص الدينية والآراء الفقهية المختلفة فى محاولة التعريف بوجهة نظر الإسلام، لابد من مهارات لإدارة هذا العمل، يعلق على ذلك قائلا: «أهم دراسة يفتقدها العاملون فى مجال الدعوة فى الغرب هى دراسة فض النزاعات والوساطة، أعترف أننى حين حصلت على دبلومة فى هذا المجال من معهد سالزبورج بالنمسا، تفتحت لى مجالات جديدة ورؤية أوسع وطرق مختلفة فى الوصول إلى الحاضرين، لم أعد أدير محاضرة، بل أتعامل مع جلسة نقاش واشتباكات فى الآراء وإدارة مفاوضات وإقناع أطراف مختلفة، فى هذا الموقف أكون الطرف المحايد، لا أتحدث من موقف المدافع عن الإسلام بل أبحث مع الجميع عن نتيجة واحدة ترضيهم، وهو ما لا يفعله كثيرون يعملون على تناول المشاكل بين الغرب والمسلمين». فى الورشة الأخيرة مارس محمد جادالله هذه المهارة بوضوح حين وقف فى القاعة وسط مجموعة من طلبة المدارس معتمدا على التفاعل بين الحضور وطرح الأسئلة والإجابة بواسطة تدريبات ذهنية تعمق الحوار وتشجع على التعرف على الطرف الآخر. كان العنوان الكبير هو «مفهوم التنوع» الذى نشط لدى الطلبة إحساسهم بتقبل اختلافات الآخرين وخصوصية كل دين مع التركيز على القيم المشتركة لدى جميع الأطراف. وسط هذا السعى يفاجأ أثناء عمله بأطراف أخرى قد لا تهدف حتى إلى الدعوة للإسلام بقدر ما تهدف إلى المناظرة والتحدى، ويعلق على ذلك: «هناك كارثة يعيشها المسلمون فى الغرب وهى أن المجتمعات الغربية أمامها صورة مشوشة تمزج ثقافة المهاجرين بالدين، خصوصا أن المراكز الإسلامية فى الغرب تتلقى تمويلها فى بعض الأوقات من دول إسلامية، وتروج كتبا ناتجة عن ثقافات الشعوب العربية والإسلامية، وكأننا نكرس للاختلاف، ولا نبحث فى المشترك بيننا وبين القيم والثقافة الغربية».
إرشاد دعوى
لم تأت تلك التجربة من فراغ حسب قوله بل بعد العمل على مدى 16 سنة فى مجال الإرشاد السياحى فى مصر، حين لاحظ محمد جادالله أن كثيرا من السائحين الأجانب يفتقدون إلى المعلومات الأساسية عن مصر والعالم الإسلامى، ما يجعلهم أسرى بعض الصور المضللة عن هذه المجتمعات. يقول: «فى مهنة الإرشاد السياحى أنت مقيد بأمر مهم وهو ألا تتجادل مع السائحين فى الدين أو فى السياسة، فليس هذا هو الزمان أو المكان المناسب لذلك». هكذا يصف قيود المهنة، وكأغلب زملائه احتفظ بهذه الملاحظات لنفسه واكتفى بالردود التى يجيدها المرشد السياحى المحترف، لكن الوضع اختلف بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 بعد أن تأثرت حركة السياحة العالمية وبرزت صورة المسلم والعربى «كإرهابى». يعمل اليوم محمد جادالله إلى جانب عمله الرئيسى كمرشد سياحى فى مجال تطوعى اختار أن يقدم فيه ورشا تدريبية تهدف إلى إزالة اللبس لدى المجتمعات الغربية عن المسلمين، يشرح ذلك: «قبل خمس سنوات دعيت إلى أول ورشة أحضرها من هذا النوع بالتعاون مع هيئة الصليب الأحمر، وهى نفس الفترة التى كنت ألاحظ فيها الأزمة التى يتسبب فيها بعض الشيوخ الذين يجيدون اللغات الأجنبية حين يتعاملون مع الأوروبيين بنفس منطق التعامل مع العرب». كانت الورشة موجهة إلى الفئات التى تتعامل مع «المريض المسلم» فى المجتمع النمساوى، وهناك رأى على أرض الواقع عالما مختلفا وقضايا أخرى يشرحها : «ذهبت وأنا أعلم جيدا أبعاد مشاكل المهاجرين المسلمين سواء كانوا عربا أو أتراكا وكذلك انغلاق بعضهم على نفسه.. فى هذه الورشة كنت أهدف إلى التعريف بالجانب الدينى لدى المسلمين خصوصا فى أوقات المرض وفى إجراءات الوفاة وكيف يتعامل الطبيب والممرض مع هذا الجانب الغامض بالنسبة إليه، دون تبرير المشكلات الثقافية التى تعوق الاندماج». بعد عدة ورش على نفس النمط تهدف إلى صنع جسر بين الشرق والغرب اكتشف محمد جادالله أن ما يحكم العلاقة بين الطرفين هو الخوف، ولاحظ ذلك فى مثال واضح يذكره: «أثناء أزمة الرسوم المسيئة بين العالم الإسلامى والدنمارك وجدت أن صورة المسلمين الذين أحرقوا السفارات فى مظاهراتهم الغاضبة قد غطت تماما على المجهودات التى بذلها المسلمون للتواصل أو التعريف بخصوصية احترام الأنبياء لديهم، بل استدعى هذا الحادث صورا أخرى مضللة من أرشيف الذاكرة مثل صور بن لادن وغيره من الشخصيات المخيفة للمجتمعات الغربية». بالتوازى مع هذه الورش المختلفة عمل على تعميق دراساته الإسلامية حيث يدرس الآن فى مرحلة الدراسات التمهيدية للماجستير، لكن تظل مهارات تنظيم الورش التدريبية والتدريبات الذهنية هى أساس المناقشة داخل هذه الورش التدريبية، ويقول: «أراهن على أن مستقبل الدعوة سيتغير باستخدام هذه المهارات التى لا تعتمد على شكل الداعية التقليدى الذى اعتدنا عليه فى المنطقة العربية». يطمح محمد جادالله الذى يفضل استخدام لقب (وسيط فى فض النزاعات) إلى تأسيس أكاديمية لتدريب الدعاة على آليات ومهارات فض النزاع والوساطة التى تمكن الداعية من أن يعرض قضيته بشكل ناضج يجتذب المجتمع الغربى، ويعلق على ذلك: «أراهن شخصيا على وجود نماذج مثل الدكتور أحمد الطيب فى مشيخة الأزهر فى تنمية هذا الاتجاه لدى الدعاة وتوسيع آفاقهم». يلقى عبارته مبديا عدم القلق من أن يكون ضيفا طارئا على مجال الدعوة موضحا: «يكفينى أن يرى الأوروبيون مجهوداتنا التى تعلى من شأن القيم الإنسانية الراقية الموجودة فى جميع الحضارات والأديان، وأن يربطوا ذلك بأننا مسلمين، فعلينا ألا ننسى الإسلام انتشر فى أرجاء كثير نتيجة إعجاب غير المسلمين بسلوكيات المسلمين وقيمهم الإنسانية العالية».

قبل عدة سنوات اتجهت فتاة ألمانية لمعرفة المزيد عن الدين الإسلامى، كان لقاؤها الأول مع كتيب تحت عنوان «حب الله للعبد» وهو فى الأصل محاضرة مترجمة إلى الألمانية للداعية عمرو خالد، اتصلت الفتاة بالمترجم الذى كان ضمن فريق المتطوعين فى دار الترجمة المكونة حديثا على منتدى عمرو خالد، وتسبب هذا الكتيب فى تحول الفتاة إلى الإسلام، تلك القصة لايزال يرددها أعضاء فريق دار الترجمة ولاتزال الرسالة الصوتية التى أرسلتها الفتاة الألمانية إلى منتدى عمرو خالد محفوظة حتى اليوم على الإنترنت. فى تلك الأجواء الإيمانية تأسست دار الترجمة وانتقلت من الإنترنت إلى الواقع، وحتى اليوم تزداد أعداد الرسائل التى تتلقاها نيرمين حسين رئيس مجلس إدارة دار الترجمة خصوصا فى شهر رمضان، البعض يرسل عبارات الدعم وآخرون يعبرون عن رغبتهم فى التطوع. حسب ملاحظتها فإن رمضان كان دوما موسم الحماس وعلو الهمة، وعلى الرغم من أن المشهد داخل دار الترجمة قد لا يختلف عن الكثير من الشركات الأخرى، لكن نظرة متعمقة تكشف عن أن الأمر بالنسبة إلى العاملين هنا ليس مجرد وظيفة فى شركة متخصصة فى الترجمة، بقدر ما هو مشاركة فى تجربة محورها الدين على الرغم من الطابع الاحترافى الحالى. توضح نيرمين حسين: «بعد أربع سنوات من تأسيس دار الترجمة لم نتخل عن الروح الدعوية التى قام عليها المشروع، منذ البداية عرفنا أن أمامنا طريقين للاستفادة من مهاراتنا فى اللغة، الأول هو نقل معلومة مفيدة عن الإسلام لغير المسلمين وهذا عمل أغلبه تطوعى، إلى جانب تعريب ما هو مفيد عن اللغات الأخرى لتنمية مجتمعنا». الأمر حسبما تصفه نيرمين يفرض على من يعمل هنا أن يكون ذا خلفية خاصة أو حسب عبارتها «العمل هنا نمط حياة، والأفضلية فى الانضمام للفريق لمن لديه حس التطوع وخدمة الدين».
تعود فكرة دار الترجمة إلى العام 2003 بعد شهور قليلة من إنشاء منتدى عمرو خالد على الإنترنت، حيث نشطت الفكرة وقتها على يد نيرمين ومجموعة لا تتعدى الخمسة أفراد على المنتدى، فى تلك المرحلة تكونت روح المشروع الذى دعمه عمرو خالد فى سنوات تالية بعد أن رأى إنتاجه. فى تلك الفترة التى كان فيها أسامة بن لادن هو المسلم الأشهر على الساحة العالمية حين تصاعدت موجات التحريض ضد الإسلام اعتمد العمل على ترجمة مواد مفيدة موجهة إلى الغرب عبر الإنترنت. تقول نيرمين حسين : «بدأنا بترجمة حلقات برنامج عمرو خالد، ثم بعض مقالات الدكتور زغلول النجار عن الإعجاز العلمى فى القرآن». تصمت قليلا ثم تضيف: « قد أتعجب اليوم من قدرة الدكتور عمرو خالد على الوثوق فينا لهذه الدرجة فى ترجمة أعماله على الرغم من أننا لم نكن متفرغين وقتها، لكننا كنا مخلصين فى عملنا». اليوم تقوم الشركة بترجمة حلقات عمرو خالد لهذا الموسم فى عادة سنوية لم تنقطع لكنها اتخذت شكلا أكثر احترافية ووصلت إلى حد دبلجة بعض البرامج.
من الإنترنت إلى أرض الواقع
المجموعة التى تكونت فى البداية من دارسى اللغات والترجمة وجدت فى شعار «وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا» فرصة لتحقيق رغبتهم التى شحنتها كلمات عمرو خالد فى منتداه. تعلق نيرمين على ذلك : «جاءتنا إشارة بأننا على الطريق الصحيح حين تصادف أن تكون أولى حلقات برنامج عمرو خالد بعد ظهورنا عن الترجمة وأهميتها فى المجتمع، كما ازدادت أعداد الراغبين فى التطوع معنا خصوصا فى رمضان وتزايد دعم عمرو خالد لنا عاما تلو عام». على مدى تلك السنوات كان كل أعضاء فرق الترجمة فى منتدى عمرو خالد مستمرون فى أعمالهم الأصلية وفى دراستهم حتى ظهرت إشارات أخرى تدعو إلى مزيد من التقدم فى تطوير فكرة المشروع، تقول نيرمين: «عن نفسى كنت أعمل فى مجال الإدارة لمدة 15 سنة وصلت فيها إلى منصب جيد فى إحدى شركات السياحة، لكن كان الحلم والهدف الذى تعلق به المئات هو مشروع تأسيس شركة مساهمة باسم دار الترجمة، وكان جميع من تبنوا التجربة فى قلق عند بدء الخطوات الجدية. كان الأمر يحتاج منى مغامرة كى أترك عملى وأخوض هذه التجربة، وهو ما تم فى رمضان العام 2006، فلم يكن لهذا المشروع أن يستمر فقط على الإنترنت، كان قد حان وقت نقله إلى الواقع» فى رمضان من كل عام تحتفل الشركة بذكرى تأسيسها، واختار المؤسسون أن يحددوا رؤيتهم فى «أن تقوم دار الترجمة بدور رائد وفعال فى التبليغ الأمين لرسالة الإسلام الحقيقية إلى جميع البشرية بكل اللغات الحية الممكنة. وبالمثل أن تلعب دار الترجمة دورا رائدا فى تعريب العلوم والتقنيات الحديثة لأجل رخاء ورفعة كل الأمة العربية». بعد انطلاق الشركة ودخولها عالم الاحتراف زاد تكريس نمط حياة العاملين على قواعد محددة، ولقب العاملون فى دار الترجمة أنفسهم بلقب «الدارجميين» وكأنها تسمية تخفى ورائها مجموعة من القناعات والتجارب التى نقلت «فكرة» فى منتدى إلى مشروع حقيقى. وما زال الخط الذى اختارته المجموعة فى البداية يحرك المشروع تحت التأثير الدعوى لمنتدى عمرو خالد، فقد نما اتجاه التعريب لخدمة المجتمع فى ترجمة الكثير من الأعمال إلى العربية خصوصا فى مجال التنمية البشرية وغيرها، وآخرها كانت تجربة دخلتها دار الترجمة مع جوجل لترجمة 5،6 مليون كلمة أى نحو 21000 صفحة من موسوعة ويكيبيديا الأشهر على الإنترنت التى يرتادها الملايين، والهدف إتاحة مزيد من المعلومات العامة باللغة العربية لمتصفحى الإنترنت، حسبما تقول رئيس مجلس الإدارة فإن عدد العاملين والمساهمين فى دار الترجمة اليوم حوالى 520 فرد، والفاعلين منهم فى مجال الترجمة حوالى 300 فرد، أما الملاحظة الواضحة فهى أن غالبية أعضاء فرق الترجمة (16 لغة) من النساء، وتقدر بنسبة 80%. لكن الأساس الذى اجتمع عليه أفراد التجربة منذ البداية فرض عليهم ثقافة واحدة تجمع بين الحس الأخلاقى والجانب التنموى، توضح نيرمين حسين هذه النقطة قائلة: «رغم أننا حققنا اسما طيبا فى مجال الترجمة وحققنا تواجدا كبيرا إلا أن الأهم هو الحفاظ على خصوصية هذا المشروع، يحصل الشباب من (الدارجميين) على ورش تدريبية فى الإدارة والتنمية البشرية، إلى جانب الأنشطة الموجهة إلى تدريب أبناء دار الترجمة من الأطفال». على موقع دار الترجمة صور الرحلات والحفلات التى قضاها الدارجميون معا فى فترة مبكرة حتى قبل تأسيس الشركة، لكن الفرق فى هذه الصداقة أنها تحولت إلى مشروع ناجح، تقول نيرمين: «بعض أبناء العاملين فى دار الترجمة أجدهم على نفس خطواتنا الأولى ويحملون نفس الروح، وهو ما يجعلنى شخصيا أتفاءل باستمرارية هذا المشروع بأيدى الأجيال القادمة، التى نتعمد أن نربطها بالمكان قدر الإمكان».
pdf

Wednesday, August 18, 2010

موسم الفاكهة المباركة

في رمضان من كل عام تنتعش تجارة البلح المرتبط بالعادات الغذائية للصيام، فتتسارع رحلة البلح من أماكن إنتاجه إلى الأسواق. أولئك الذين تعود أصولهم إلى المحافظات المنتجة للبلح مثل أسوان او الواحات، تمثل لهم هذه الرحلة قصة طموح أو مورد رزق موسمي إضافي.
كتب – عبدالرحمن مصطفى
بلح العام الماضي من أسوان

لو لم يكن "حسن محمد" ذا أصول أسوانية لكان المشهد قد اختلف كثيرا عن الصورة الحالية، فأمام العمارة التي يعمل بها حارسا بمنطقة باب اللوق وضع أجولة متراصة من البلح الأسواني الفاخر في مدخل العمارة، يتكرر هذا المشهد كل عام قبل بداية رمضان بأيام قليلة ويستمر حتى نهاية الشهر الكريم، في تلك الفترة تتحول هذه الأجولة إلى مصدر رزق إضافي يعينه على قضاء حياته في القاهرة إلى جانب ما يدخره لأسرته التي تقيم حاليا في مركز دراو بمحافظة أسوان. يقول حسن: "موسم تجارة البلح يزدهر في فترة محددة بدء من شهر شعبان حتى 25 رمضان، بعدها تركد هذه التجارة تماما". رحلة أجولة البلح المتراصة أمامه ليست بالبساطة التي يعتقدها البعض، حيث تبدأ خطة النقل باتفاق يتم بين عدد من أفراد العائلة والأهل العاملين في تجارة البلح ثم يؤجرون شاحنة كبيرة مقابل مبلغ لا يتجاوز 1200 جنيه، وتنتهي رحلة أجولة البلح قرب سور العبور الشهير في القاهرة حيث يستلم حسن نصيبه على أبواب المدينة كي لا يتحمل قيمة الرسوم المضافة إذا ما دخلت الشاحنة سوق العبور. يحاول حسن قدر الإمكان أن يوازن بين عملية البيع وإدارة شئون العمارة، فنجده في نفس الوقت الذي يعطي فيه أحد السكان مفتاح شقته نراه بعدها يلقي تحية على ساكنة أخرى حفاظا على علاقاته اليومية مع الجميع، ثم يأخذ هدنة يقتنصها في بيع البلح لزبون عابر. لكنه على مدار عشر سنوات من الإقامة في القاهرة أصبح لديه زبائنه الذين يقصدونه في كل عام، يعلق على ذلك قائلا : "لديّ زبائن أطباء ومستشارون وآخرون من مستوى راق وهو ما يفرض عليّ اختيار أجود الأنواع حتى لا أخسرهم مهما كانت الظروف، فأي سقطة أقع فيها ستؤثر علىّ العام القادم". يوضح حسن أن الأمر أكثر تعقيدا من مجرد الحفاظ على زبون، فأحيانا ما تبدأ المشاكل في أسوان، يشير إلى أجولة البلح شارحا ذلك بقوله : "هناك ملاحظة مهمة على الجميع أن يعرفها حدثت العام الماضي وستتكرر هذا العام وهي أننا نأكل بلح عام مضي، بمعنى أن موسم جني البلح يأتي في شهر سبتمبر، أي أن البلح المطروح حاليا في السوق قد تم شراؤه قبل عام بعد انتهاء رمضان الماضي مباشرة وتم تخزينه كي يتم بيعه الآن، وهذا الموقف سيتكرر هذا العام أيضا، فنحن في انتظار جني البلح فوق النخل، ثم شراؤه، وبعدها تخزينه". طوال العام الماضي تعرض البلح لمخاطر الأمطار والسيول التي ضربت جنوب البلاد، وحسب تقديره فإن نسبة كبيرة من كميات البلح التي احتفظ بها التجار قد تعرضت للأمطار والسيول وهو ما اضطرهم إلى التعامل معها بحساسية شديدة طوال العام، ولم تسلم إلا نسبة ضئيلة قدرها حسن بـ 20 %.
حسن الذي لم يجاوز الأربعين عاما بدا أثناء حديثه متورطا بشدة في تجارة البلح كاشفا عن حياة مختلفة تعيشها الكثير من عائلات الجنوب في أسوان التي تنشط في زراعة النخيل وتجارة البلح الأسواني، وتكفي جولة في شوارع مجاورة للعمارة التي يحرسها عم حسن كي تكشف عن وجود عدد آخر من حراس عمارات وسط البلد الذين ينتمون أيضا إلى أصول أسوانية ويعملون في تجارة البلح إلى جانب عملهم التقليدي كحراس عقارات. أما ما يميز بلح الجنوب تحديدا فهو عملية تجفيفه التي تسهل استخدامه في أطباق الخشاف وغير ذلك. يقول حسن معلقا على ذلك : "البيئة التي نشأت فيها ربطتني بتجارة البلح، حتى قبل استقراري في القاهرة، لأن هذا هو المحصول الأهم لدى كثير من العائلات التي تزرع النخيل، فكنت أعمل في بيع ما لدينا من محصول إلى جانب عمليات الشراء والبيع التي كنت أقوم بها مع التجار الآخرين، وكنت آت إلى القاهرة وتحديدا في ساحل روض الفرج لتفريغ شحنة البلح في شونة كبيرة حتى يتم بيعها". قبل عملية البيع هناك مراحل أهم في التخزين أصبح حسن الآن بعيدا عنها لكنه حاول شرحها موضحا أهمية رص البلح على هيئة أبراج بحيث يمر الهواء بين أكوام البلح، أما اليوم فتكفيه مهمة البيع التي أحيانا ما يسانده فيها أخيه الأصغر الذي تخلف عنه هذا العام فاضطر أن يعتمد على نفسه تماما.. على بعد أمتار منه محلات بيع تسالي ومقلة رصت أمامها هي الأخرى ياميش رمضان وأنواعا مختلفة من البلح، وفي الناحية الأخرى محلات فعلت نفس الشيء، لكن قرار حسن كان واضحا منذ البداية : "أنا لا أتعامل مع محلات، أتاجر بنفسي وبشكل مباشر مع زبائني، وكلما فرغت الأجولة أرسل لأهلي كي يرسلوا كمية أخرى أيا كان حجمها سواء كانت 20 كيلوا أو أقل". يراهن حسن على الزبائن الذين ارتبطوا به في كل عام لشراء البلح الأسواني المميز، لكن رهانه الأكبر كان على تأثير جذوره الأسوانية على المشترين إذ يأتيه الزبون وهو يراهن على انه سيشتري البضاعة الأجود من معقل تجارة البلح في أسوان.

التمر من الواحات إلى السوبرماركت

في هذه الفترة من كل عام ينشغل علاء الطحان بمتابعة حجم الطلبات وحركة بيع أنواع البلح المختلفة التي تنتجها شركته، دخل في هذا المجال في سن مبكرة بالعمل في أحد مصانع الوادي الجديد قبل سنوات حتى أصبح اليوم شريكا في مصنع كبير ينتج أنواعا مختلفة من منتجات التمور على مدار العام، يقول : "تعرضنا في بداية مشوارنا لكم كبير من الإخفاقات وعمليات النصب من التجار هنا في القاهرة حين كنا ننقل منتجات أصحاب النخيل في الواحات دون أن ندفع لهم ثم نغلف التمر ونبيعه هنا في القاهرة فيما بعد، وأحيانا ما كنا نتعرض للخسارة". هذا العمل الموسمي تخلى عنه علاء الطحان الذي ينتمي إلى واحة الخارجة في محافظة الوادي الجديد - الأولى في إنتاج التمور بمصر - واختار ان يسير مع زملائه في خطة أكثر طموحا مكنته من أن يدير مصنعا خاصا قادرا على المنافسة، تمثل قصة علاء الطحان وزملائه الشباب تطورا في علاقة أهالي الوادي بتجارة التمر وتصنيعه، وهو ما يعلق عليه قائلا : "نحن 13 شابا أغلبنا من حملة المؤهلات العليا، أنا عن نفسي عملت مدرسا بمقابل 210 جنيه شهريا، كان العمل في تعبئة البلح مجرد مورد دخل إضافي، لكنه تحول إلى حياة كاملة أعيشها مثل كثيرين في محافظة الوادي الجديد.". ينتقل علاء بين الوادي الجديد والقاهرة لمتابعة العمل بين المصنع ومقر الشركة بينما يتوزع زملائه بين المحافظتين، وفي هذه الفترة من كل عام في رمضان يزدهر النشاط بقوة ويعمل الجميع على عرض تمور الوادي بأفضل هيئة حيث يسعى كل سوبر ماركت إلى تزيين أركانه بعلب التمر ذات الأشكال المختلفة في هذه الفترة من العام، أما عن هذا المشروع الضخم الذي يرأسه شاب في الثالثة والثلاثين فقد بدأ قبل العام 2005 بوحدة إنتاجية بسيطة ساهمت محافظة الوادي الجديد في تيسيرها لهؤلاء الشباب، كان كل ما يفعلونه وقتها هو تغليف التمر في كراتين جاهزة وإعادة بيعها من جديد، لكن النقطة الفاصلة كانت حين لفتت منتجات هؤلاء الشباب نظر المسئولين في المعرض الذي أقيم عام 2008 لمنتجات الصعيد، وكان تواجدهم المكثف بعشرات الأنواع من التمر و عسل البلح والحلويات بالبلح دافعا للمسئولين كي يدعموا التجربة، يقول علاء : "أستطيع أن أذكر مثالا على دعم المحافظ شخصيا حين ساعد في إجراء بعض صفقات التصدير عبر إرشادنا إلى الزائرين الأجانب الذين يفدون إلى الوادي الجديد للسياحة". اليوم في داخل المصنع بالوادي الجديد عشرات الشباب والشابات من العاملين أمام خطوط الإنتاج قد لا يمثل لديهم رمضان اختلافا كبير سواء في ضغط العمل، أو في حجم الاستعدادات لموسم جني البلح الذي اقترب، لكن في داخل مقر الشركة في مصر يظهر تأثير رمضان بقوة، حين تتوافد بعض الأسر إلى المقر بحثا عن عبوات التمر تماشيا مع أجواء رمضان ومتطلباته. في تلك الأجواء قد تظهر لهجة واثقة على لسان علاء الطحان أو زملائه تخفي ورائها تجارب إخفاق عديدة كان من الممكن أن تحطم مشروعهم في مهده، يقول علاء : "في البداية كنا نمر على كل سوبر ماركت ونسأل عن سمعته، بل ونسأل مندوبي بيع الشركات الكبرى التي تتعامل معه، وذلك خوفا من وقوعنا في عمليات نصب جديدة تحرجنا أمام أصحاب النخيل الذين أمدونا بالتمر الذي نعيد تغليفه". حسب رأيه فإن ارتفاع مستواهم التعليمي أفاد أيضا في فترة إنشاء المصنع أثناء التواصل مع تجارب أخرى في تونس وسوريا لمعرفة تخطيط المصانع من الداخل والآلات المختلفة التي يحتاجها كي لا يكرر تجارب من سبقوه. اليوم لا يقلق علاء وشركائه الشباب من أن يكون ضمن العاملين معهم في المصنع أو من جيرانهم من يطمح إلى تكرار تجربتهم، وذلك لأن الجميع يعلم أن التمر في النهاية هو المنتج الأهم لدي سكان الوادي الجديد ومصدر رزق الكثير من العائلات هناك.
طري وجاف ونصف جاف
تتعدد مصادر إنتاج البلح باتساع جمهورية مصر العربية، من رشيد شمالا حتى أسوان جنوبا، وتنقسم أنواع البلح إلى ثلاثة فئات هي كالآتي : الأنواع ذات الثمار الطرية، والأنواع النصف جافة، وأخيرا الأنواع الجافة، وتظهر الاختلافات بين التمور المنتجة في محافظة الوادي الجديد ومحافظة أسوان حسب أنواع البلح التي يكثر انتاجها في كل محافظة، فبينما تشتهر الأنواع التي تنتجها محافظة الوادي الجديد بأنها من الأنواع ذات الثمار الطرية والنصف جافة، تشتهر محافظة أسوان بإنتاج الأنواع الجافة. ولا يقتصر إنتاج التمور في مصر على هاتين المحافظتين فقط، بل في محافظات أخرى منها دمياط والشرقية والجيزة والفيوم.

PDF

Saturday, August 14, 2010

عودة الشيخ همام

استدعى هذا الموسم الرمضاني ذكرى شيخ العرب همام بن يوسف من العصر العثماني ناقلا معه صورة الماضي عبر الدراما، أما الواقع فما زال أحفاده الهمامية في جنوب صعيد مصر يحتفظون به داخلهم.
كتب – عبدالرحمن مصطفى
الغائب الحاضر في قلوب الهمامية

لم يكن ظهور سيرة شيخ العرب همام مؤخرا عبر الدراما الرمضانية سوى حدث طارئ في علاقة الهمامية بجدهم الكبير، حسب عبارة أحمد محمد عمر الهمامي فإن "همام يعيش بداخلنا وسيرته متوارثة وكل منا يعرف نسبه وصلته بهذا الجد الكبير.. أفضل شعور يمكن أن يشعره الإنسان هو أن يستند إلى ماضي وشخصية تاريخية يحترمها الجميع"، يعيش أحمد الشاب الثلاثيني الذي يعمل محاسبا في مدينة فرشوط مسقط رأس الشيخ همام بن يوسف الذي نجح قبل أكثر من 250 سنة في صنع تحالفات وتوسيع أراضيه بحيث أسس حكما شبه مستقل من جنوب المنيا حتى أسوان انتهى في العام 1769، هذه المكانة مازالت لها تأثيرها في تشكيل حضور الهمامية وسط القبائل الأخرى، يضيف أحمد : "حتى اليوم ورثنا أحلافا مع قبائل أخرى تكونت في تلك الفترة، وليس لنا عداءات أو ثأر مع أحد". يسكن مركز فرشوط وما يتبعه من قرى قرابة 150 ألف مواطن حسب أرقام الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في عام 2006، ولم يتبقى من بهاء عصر همام ودولته سوى قلعة أثرية وجامع الأمير همام بفرشوط، أما الأهم لدى أفراد العائلة فهو الحفاظ على تماسك العائلة وقوتها، هذه النقطة يعلق عليها عبدالكريم الهمامي الأخ الأكبر ونقيب الأشراف بمركز فرشوط قائلا : "هناك بعض العوامل تحافظ على مكانة العائلة وخلفاء همام، حيث ترتفع نسبة التعليم بين الهمامية إلى حد كبير، ويلتحق الكثير من أبنائها بسلك القضاء والشرطة ما يعطي العائلة ثقلا". يحفظ عبدالكريم الهمامي ما قيل عن جده الكبير همام بن يوسف في تاريخ الجبرتي، ويعتقد أن صفات هذا البطل يتوارثها الهمامية كلما تولوا منصبا، ويؤكد ذلك بقصة عن والده حيث يقول : "أتذكر أثناء طفولتي أن تم ضبط لص سرق سجادة من ديوان الهمامية، بعد أن قضى أياما يأكل ويشرب كعابر سبيل، وأتذكر أن والدي لم يعاقبه، فقط سأله عن أسبابه، وان كان قد طلب شيئا ولم يحصل عليه.. هذه التقاليد الرحيمة والكريمة نحرص عليها منذ عهد همام الكبير".يرجح عبدالكريم الهمامي الذي يجاوز اليوم الثالثة والخمسين ويقيم أغلب وقته في إدارة أعماله التجارية في القاهرة أن عامل الثروة واقتناء الأراضي أحد نقاط القوة في العائلة التي تحرص عليها، هذا الفكر يدفع كثير من العائلات الصعيدية إلى اتخاذ إجراءات مثل عدم توريث المرأة كي لا تذهب الأراضي خارج اسم العائلة، حيث ذكرت دراسة صادرة عن جامعة جنوب الوادي مؤخرا ‬أن‮ ‬4‭.‬5 ٪‮ ‬فقط من نساء ريف الصعيد ‬يأخذن ميراثهن دون مطالبة،‮ ‬و59‭.‬5 ٪‮ ‬محرومات من المطالبة بميراثهن، يعلق عبدالكريم الهمامي أن هذا الأمر مستبعد داخل العائلة الهمامية لسبب بسيط وهو أن الزوجة تتزوج من العائلة، فلا تذهب الأراضي بعيدا يضيف : "المرأة الهمامية يمكنها أن تختار أرضها ومكان ميراثها بنفسها". تلعب قواعد العائلة والثروة دورا هاما في صعيد مصر، ولعل سيرة الأمير همام بن يوسف تجسد قصة تطور استندت إلى قوة ثروته واتساع ما تحت يديه من أراضي في تجربة استقلال لم تدم سوى سنوات انتهت في العام 1769مـ.
قبل أشهر قليلة كان كلا من الأخوين أحمد وعبدالكريم الهمامي في استقبال فريق عمل مسلسل "شيخ العرب همام" بفرشوط، لكن ما أن عرضت إعلانات المسلسل قبل رمضان بأيام حتى اتجه كل منهما لرفع دعوى قضائية ضد المسلسل حفاظا على ذكرى جدهما، صورة العائلة ورمزها أمر لا يحتمل العبث حسبما يؤكد أحمد الهمامي قائلا : "البعض قد لا يتفهم مشاعرنا الغاضبة، كيف يتم تصوير رجل سياسي وشريف من آل البيت في غرفة النوم مع عبارات مبتذلة؟ وكيف نجده في مشهد آخر يجر حمارا؟ هذه مشاهد لا تعبر عن حقيقة هذا الفارس والزعيم، لقد خاب ظني بشدة مع هذا المسلسل". يعلم أحمد الهمامي بحكم كونه مهتما بعلم الانساب وبحكم أنتقال كثير من وثائق العائلة ومكتبة والده إليه حسب وصيته أن تاريخ العائلات وماضيها يتحكم أحيانا في واقعها اليومي، نسبك يشكل صورتك في مجتمعك، هذه الملامح تبدو أكثر وضوحا في المنتديات ذات الطابع العائلي والصعيدي على الانترنت، أحيانا ما يدخل الأعضاء في جدل بسبب خلافات قديمة بين عائلتين تعود إلى مئات السنين، أحيانا يكون التشكيك في نسب الطرف الآخر أو عراقته نوعا من الحروب المحدودة على الانترنت. لكن أحمد يؤكد : "لا ندخل أبدا في هذه المهاترات، فالماضي أوضح من يتم الاختلاف حوله". لكن أخيه الأكبر عبدالكريم الهمامي يعلق قائلا : "بعض المعلومات الموثقة في أوقات سيادة بعض القبائل قد تحرج البعض الآخر والعكس، وهي أمور مسكوت عنها، لأنها لا تفيد". منذ عهد همام مرت الأسرة بكثير من التجارب، إحداها ما ذكره أحمد الهمامي عن عداء قديم مع الأسرة العلوية منذ عهد محمد علي، لكن ما يتذكره كبار الأسرة بشكل واضح هو ذلك الصراع الذي دخلته الأسرة مع الأمير يوسف كمال الذي كان له حضور قوي في نجع حمادي وحاول تقليل نفوذ الهوارة والهمامية تحديدا عبر الاستيلاء على أراضيهم، يعلق عبدالكريم الهمامي : "لذا فرحنا بالثورة فور قيامها، والمفارقة الأهم أن من ساهم في إذاعة بيان الثورة كان الإذاعي فهمي عمر ذو الأصل الهمامي". حتى الآن تحتفظ العائلة بتسمية أبنائها بأسماء همام وداوود وبكار وهم من أجداد الهمامية الذي أداروا شؤونها قبل شيخ العرب همام ومن بعده، يقول عبد الكريم الهمامي : "عن نفسي أنا في مرحلة تغيير نشاطي التجاري، أفكر في إنشاء شركة جديدة، ولكن تكون مفاجأة إذا قلت لك أنها ستحمل اسم همام.. جدنا الكبير".
الملتزم الذي صارع المماليك
ولد الأمير همام بن يوسف في فرشوط – تقع في محافظة قنا حاليا – وقد كان لديه من الثروة ما أعطاه ولأسرته الوجاهة والحضور الاجتماعي، ومن خلال مهمته كملتزم يقوم بتسديد ضريبة الأراضي الزراعية إلى الدولة بعد جمعها اتسعت سلطاته تدريجيا، لكن الأمير همام الذي نجح في صنع تحالفات بين القبائل العربية والهوارية بدأ مع اتساع نفوذه و إقصاء الملتزمين المماليك وغيرهم من العرب وبعض أقربائه، ليكون الملتزم الأول في ولاية جرجا التي تمثل الآن إقليم جنوب الصعيد، واستغرقت هذه الرحلة بين العامين 1721 حتى 1769، وفي أثنائها كان قد كون جيشا صغيرا لحماية الأرض وترسيخ نفوذه على طرق ومسالك الإقليم، لكن مشروعه السياسي الحقيقي لهمام بن يوسف قد ظهر في فترة متأخرة حين بدأ في المراهنة على صراعات المماليك واجتذاب بعضهم في صفه، ومع تطور هذا النفوذ نجح همام في الاستئثار بإدارة جنوب الصعيد، وكان لا بد من مواجهة حقيقية بين علي بك الكبير حاكم مصر وقتها والأمير همام، وبعد هزيمة جيش همام وخيانة أحد أقاربه له، انتهى همام وحيدا في إحدى قرى مدينة إسنا ومات حزنا بعدها مباشرة نتيجة انهيار ما بناه في سنوات. وينتسب أحفاده الهمامية اليوم إلى آل البيت على عكس الصورة التقليدية عن قبائل الهوارة تاريخيا بأنهم ينتسبون إلى البربر، ويذكر المهتمون بعلم الأنساب أن الهمامية الحاليين لا ينتسبون فقط للأمير همام بن يوسف بل إلى جد أقدم منه هو همام سبيك الذي وفد من المغرب إلى مصر، وأن لقب الهوارة حصلوا عليه نتيجة تحالف جدهم مع الهوارة، إلى جانب أنه لقب مكتسب ولا يعبر طوال الوقت عن النسب، مستندين في ذلك إلى تعبيرات المؤرخ الجبرتي الذي اعتبر في بعض المواضع أن "الهواري" هو لقب يكتسبه بعض الناس نتيجة إجادتهم الفروسية.
مشروع جمهورية صعيدية
* في عام 1769 وفد إلى مصر الرحالة الاسكتلندي جيمس بروس وسجل في كتابه (رحلات لاكتشاف منابع النيل) تفاصيل لقائه بشيخ العرب همام بن يوسف في مدينة فرشوط، حيث ذكر عنه أنه كان طويلا وضخما و وسيما وفي الستين من عمره، وأنه استقبله بأدب شديد وسأله عن ما يحدث في القاهرة أكثر من سؤاله عن أي مكان آخر. حيث كان هذا اللقاء في فترة صراع همام مع علي بك الكبير وهو نفس العام الذي توفي فيه همام.
* بعد تأثر الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي رائد التنوير بزيارته إلى فرنسا واطلاعه على نظام الحكم هناك وتفاصيل انتقال السلطة والحكم، عقد الشيخ مقارنة بسيطة بين النظام الجمهوري والمشروع السياسي للشيخ همام حين وصفه في كتاب تخليص الابريز في تلخيص باريز قائلا: "ولما كانت الرعية لا تصلح أن تكون حاكمة ومحكومة وجب أن توكل عنها من تختاره منها للحكم، وهذا هو مثل مصر في زمن حكم الهمامية، فكانت إمارة الصعيد جمهورية التزامية".
* نقل المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي عددا من ألقاب الشيخ همام بن يوسف وبعض مظاهر سلطته وثراؤه في كتابه الأشهر "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، حيث يقول في مساحة خاصة عن شيخ العرب واصفا إياه : "ملجأ الفقراء والأمراء، ومحط رحال الفضلاء والكبراء، عظيم بلاد الصعيد، ومن كان خيره يعم القريب والبعيد، وقد جُمع فيه من الكمال ما ليس فيه لغيره".
* تعاطف بعض المفكرين مع حركة التمرد التي قادها الأمير همام بن يوسف في الصعيد ومحاولته الاستقلال بحكم الصعيد، وعلى رأس هؤلاء المفكر لويس عوض الذي ذكر في كتابه "تاريخ الفكر المصري الحديث" واصفا ما قام به همام بأنه كان "ثورة كانت لها أهداف وطنية واجتماعية، أما الهدف الوطني الأول فكان استخلاص مصر من أيدي المماليك، وأما الهدف الاجتماعي الأول فكان تمليك الأرض للمصريين وتوزيعها على الفلاحين.
* من أولى الدراسات البحثية التي تناولت حياة شيخ العرب همام دراسة أجرتها الأستاذة الدكتورة ليلى عبد اللطيف في الستينات، وتذكر في نتائجها الآتي عن همام بن يوسف : لقد أحال الشيخ همام الصعيد من منبت للفتن ومسرح للصراع بين الأمراء المماليك المهزومين أمام زملائهم في القاهرة ومطاريدهم المنتصرين إلى منطقة استقرار ورخاء وأمن وازدهار وبهذا وضع أساس مجده وخلد ذكراه".

فوق السرج هواري
ظلت ذكرى شيخ العرب همام محفوظة على ألسنة كثيرين في أشعار ومواويل تأثر أصحابها بانهيار حلم الفارس الهواري، يقول الشاعر في موال
قم يا همام وروح سنار ** وازرع وقوت عيالك
فرشوط قادت عليك نار ** والبيه عندي وجالك
في الأبيات السابقة ينادي الشاعر على همام متمنيا لو كان قد اتجه إلى مملكة سنار في السودان بعيدا عن فرشوط وغضب (البيه) محمد بك ابو الدهب وهي الحسرة التي استخدمها الشاعر في موال آخر ينعي ذكرى قصر الأمير همام الذي قيل انه ضم 90 غرفة، وتخرب على يد محمد بك أبو الدهب رجل السلطة المملوكية
هياك يا باب هياك ** بس ضبتك غيروها
تسعين أوضة وشباك ** في تلا يلك كسروها
منذ تلك الفترة ظلت صورة الفارس الهوارى تمثل نموذجا للفارس المحارب، وهو ما دفع مسرحيا مثل جورج أبيض لتقديم مسرحية تحت عنوان الفارس الهواري من الحان الموسيقار سيد درويش، عدا ذلك قد تنتشر أبياتا مجهول حفظتها الذاكرة الشعبية تمدح في فروسية الهوارة من أشهرها الأبيات التالية
انظر الي خيل هوارة تري عجبا
فيسيرها عندما يسري بها الساري
لم تفخر الخيل قط براكبها
ما لم يكن فوق السرج هواري

Friday, August 13, 2010

مغلق في رمضان

مع بداية شهر رمضان يقل الإقبال على محال بعينها، البعض ينسحب حفاظا على الأجواء الإيمانية للشهر الكريم، وآخرون ينسحبون انصياعا لتعير المزاج العام
كتب عبدالرحمن مصطفى
تصوير : فيليب شباليك، محمد حسن

موسم انسحاب الكشرى

قبل ساعات من الإفطار تتجه العيون إلى أطعمة ومشروبات تتوزع على جانبى الطريق، بدءا من التمر هندى والعرقسوس حتى أكياس المخلل، فى تلك اللحظات لن يبحث كثيرون عن محال الكشرى المغلقة التى يطلى بعضها واجهته الزجاجية باللون الأبيض إعلانا عن توقف نشاطه، لماذا لا يصمد هذا النشاط بالذات فى رمضان؟ يجيب محمد جابر مدير أحد مطاعم الكشرى فى حى الدقى بأن الأمر ببساطة يتلخص فى أن «فتح المطعم فى رمضان أمر غير مربح بالقدر الكافى»، بعد تجارب سابقة تأكد مالكو المحل أن العمل فى رمضان يكاد يغطى أجور العاملين لكنه لا يكفى لسداد مصاريف استهلاك الكهرباء والغاز، لذا يعيش العاملون فى تلك الفترة فى إجازة مقابل حصولهم على جزء من الراتب، أحمد وهبى الطباخ الرئيسى فى المطعم الذى يعمل فى نفس المكان منذ العام 97 كان قبل بدء شهر رمضان بأيام قليلة يستعد لإجازته السنوية التى يقضيها فى بلدته بمحافظة المنوفية، وذكر أنها عادة سنوية اعتادها للراحة والاستجمام، أما موعد العودة فسيكون قبل انتهاء رمضان بأيام قليلة، يعلق محمد جابر مدير المطعم قائلا: «فى هذه الفترة أجرى عمليات الصيانة والتجديدات، التى أؤجلها سنويا، فى العادة لا يلاحظ المارة ما يتم داخل محال الكشرى، لأن المحل مغلق».
فكرة استمرار العمل فى رمضان غير مطروحة تماما، يؤكد مدير المحل: «هذا الأمر مستبعد تماما خاصة فى حالة مطاعم الكشرى الكبيرة أو التى تقع فى مناطق راقية أو حتى في المناطق ذات الدخل المتوسط، فإلى جانب أن مزاج الطعام فى رمضان يختلف حين يبحث الجميع عن وجبة دسمة على الإفطار، فهناك سبب أهم وهو اعتماد محل مثل محلنا على فئة الموظفين والمارة، وهؤلاء ينهون عملهم مبكرا فى رمضان ويتجهون إلى منازلهم لتناول طعام الإفطار، كما أن خدمة توصيل الطلبات لن تجد من يستخدمها، لكن هذا الوضع يختلف أحيانا مع مطاعم أخرى فى مناطق أكثر ازدحاما».
بعيدا عما يذكره محمد جابر فإن بعض مطاعم الكشرى تفتح أبوابها وتعمل بكامل طاقتها ليلا ونهارا فى رمضان دون حرج، خاصة فى المناطق الشعبية المزدحمة والتجارية مثل العتبة ورمسيس ومنطقة وسط البلد، على أبواب هذه المطاعم ينتظر العاملون الضيف الشارد الذى خرج عن القطيع وقرر تناول وجبة كشرى، سواء كانت الوجبة لمغامر أتى يأكل فى نهار رمضان أو لمن لم يكتف بوجبة الإفطار وجاء ليلا بحثا عن المزيد. ما يحدث لأغلب مطاعم الكشرى من توقف يضرب أنشطة أخرى مثل السينما والمسرح ويؤثر فى مطاعم أخرى مثل مطاعم السمك والفطائر، لكن ذلك كله يأتى فى إطار تبدل مزاج الصائم وتغير عاداته الغذائية فى رمضان، حيث تذكر دراسة نشرت نتائجها العام الماضى عن مركز البحوث الاجتماعية والجنائية والجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء أن المصريين ينفقون ما يوازى 15% من إنفاقهم السنوى على الغذاء فى شهر رمضان، وهو ما يتجسد فى أن يرتفع استهلاكهم من الحلوى بنسبة 66.5% وأن يتزايد استهلاكهم من اللحوم والطيور بنحو 63% والمكسرات بنسبة 25%. كل هذه التطورات فى رمضان تجعل وجبة الكشرى غريبة على المزاج الرمضانى. أما بالنسبة لذوى الدخل البسيط ومن يبحثون عن الوجبات الرخيصة فيجدون ضالتهم فى موائد الرحمن، وهو ما يضرب نشاط محال الكشرى فى مقتل، لكن رغم هذه الأجواء تتجه نسبة ضئيلة من محال الكشرى إلى معاندة هذا المزاج المختلف، يقول أحمد عبدالعزيز مدير فرع سلسلة من محال الكشرى الشهيرة بمنطقة وسط البلد إن هذا الفرع اختار العمل فى رمضان، ربما قد لا يوازى نشاط محال أخرى فى منطقة العتبة الأكثر كثافة، لكنه اعتاد على إجراء سنوى يشرحه قائلا: «فى الأيام الأولى من شهر رمضان أغلق المحل وأقلل نشاطى لكننى أعود فى النصف الثانى من رمضان ونستمر حتى فترة العيد، ويأخذ العاملون مكافأة فى فترة التوقف القصيرة، أما عن سبب الاستمرار فى رمضان فهو الخوف من أن ينتقل العمال إلى عمل آخر خاصة القاهريين منهم، أما الزبائن الذين أنتظرهم فإما عابر سبيل أو سائحون أجانب فى منطقة وسط البلد». حسب حديثه فإن سبب الاستمرارية ليس البحث عن المكسب بقدر ما هو الحفاظ على إيقاع العمل وارتباط العاملين بالمكان، ويؤكد فى حديثه أن العمل فى شهر رمضان يفرض تعاملا حذرا مع مخزون الأرز والمكرونة وغيرهما من مكونات الكشرى، حيث تتجه المطاعم القليلة، التى تصر على فتح أبوابها فى رمضان إلى تقليل الخسائر قدر الإمكان حتى الوصول إلى أيام العيد، التى تتحول إلى فرحة من نوع خاص لمحال الكشرى حيث يعود نشاطها بقوة فى تلك الفترة.

البار فى إجازة إجبارية

لم يعد هناك مجال الآن لأن يمر أحدهم من أمام البارات الموجودة فى وسط البلد ويلقى عبارة من نوعية «حسبى الله ونعم الوكيل»، تلك العبارات يتلقاها أحيانا بعض العاملين فى مجال تقديم الخمور على مدى العام من الرافضين لفكرة تقديم الخمور فى كافتيريات أو بارات مخصصة، في شهر رمضان يتوقف تقديم الخمور وتغلق فيه أغلب البارات أبوابها تماما. بالنسبة لموريس مكارى مدير كافتيريا عرابى السياحى فالأمر بمثابة إجازة سنوية يبتعد فيها عن الضغوط اليومية التى كان يتعرض لها فى غير شهر رمضان، يقول موريس: «لا يوجد قرار رسمى بإيقاف خدمة تقديم الخمور، لكنه أصبح عرفا أن أغلق فى الأعياد الدينية مثل المولد النبوى ورأس السنة الهجرية وفى شهر رمضان». يستطيع موريس أن يتقبل فكرة إغلاق الكافتيريا التى تعتمد على تقديم الخمور منعا لأى حساسية قد تصيب البعض فى هذه الفترة، فقد شهد المحل الذى افتتح فى عام 60 تطورات عديدة حتى ظل باقيا إلى الآن، لكن ما لا يقتنع به موريس هو مشكلة أخرى يذكرها قائلا: «الضرائب تحاسبنى على أساس أنى أعمل طوال أيام السنة بما فيها شهر رمضان الذى أتوقف فيه عن العمل، وأدفع أجور العاملين، وهذه المشكلة ليست إلا جزءا بسيطا مما نتعرض له على مدى العام من زيارات لرجال شرطة الآداب بحثا عن ضبطية إلى جانب غيرها من زيارات موظفى الحى واعتراضاتهم على رفع أى إعلان عن الخمور.. كلها مشاكل نعيشها طوال العام، ونرتاح منها فى شهر رمضان». يعتقد موريس أن جميع مقدمى الخمور يمتنعون تماما فى رمضان سواء فى البارات أو الكافتيريات أو المطاعم، لكن على أرض الواقع فالوضع يبدو مختلفا، حيث يعرض موقع على الانترنت تحت عنوان (baladibar.com البار البلدى) حصرا وخريطة لجميع البارات والأماكن التى تقدم الخمور على مدى العام، لكن لم يفت مؤسسو الموقع أن يضعوا علامة مميزة على الأماكن، التى تقدم الخمور فى رمضان دون مشاكل، وحددت أربعة أماكن، اثنان منها أندية لجاليات أجنبية والمكانان الآخران يقعان داخل مطاعم ملحقة بفنادق، وتعتمد إمكانية تقديم الخمور للزائر المصرى أثناء رمضان على مدى علاقته بالمكان فى الأساس، خاصة الأماكن التى يرتادها الأجانب، بالعودة إلى موريس وغيره من البارات فلديهم مشكلة، وهى انحصار نشاطهم فى فكرة «البار» وتقديم الخمور، على عكس أماكن أخرى مثل مقهى الحرية ذى الطابع التاريخى فى منطقة وسط البلد، حيث يقدم المقهى الخمور بتصريح رسمى، لكنه يتوقف تماما عن تقديمها فى رمضان، وحتى فى ساعات النهار يحرص على نفس الإجراء التى تحرص عليه بعض المقاهى فى مداراة زبائنها من أعين الصائمين، يقول محب نيقولا مدير مقهى الحرية: «أحاول فى بداية رمضان أن أغلق أبوابى على سبيل الراحة وتقليل النشاط، والعمل كمقهى تقليدى بقية الشهر». يذكر عدد من العاملين فى البارات أن نسبة الخسارة ليست بالحجم الضخم، لكن الجميع يتعامل معها على أنها إجازة سنوية، يقول وجدى الكردانى رئيس غرفة المنشآت السياحية إنه لا توجد توصيات أو قرارات مصاحبة لعمل البارات تفرض حجب نشاطها فى رمضان، ويضيف: «هذا الإجراء تتخذه المحال من نفسها تماشيا مع الروح العامة لرمضان، فحتى الملاهى الليلية تغلق أبوابها، وبعض المطاعم السياحية تغير فقراتها كى تقدم رقصات فلكلورية، لكن على جانب آخر، فالأمر غير محظور لمراعاة احتمالية وجود مجموعات سياحية فى هذه المطاعم أو الفنادق». أحد العاملين فى بار وسط البلد الشهيرة ذكر قبل بدء شهر رمضان بأيام أنها فرصة سنوية للهدوء والتأمل بعيدا عن الصخب، خاصة أن زبائن بارات وسط البلد لا يتغيرون كثيرا، هم نفس الزبائن يتنقلون بين عدد من البارات، لكن فى شهر رمضان ينقطعون غالبا.

PDF