Saturday, August 14, 2010

عودة الشيخ همام

استدعى هذا الموسم الرمضاني ذكرى شيخ العرب همام بن يوسف من العصر العثماني ناقلا معه صورة الماضي عبر الدراما، أما الواقع فما زال أحفاده الهمامية في جنوب صعيد مصر يحتفظون به داخلهم.
كتب – عبدالرحمن مصطفى
الغائب الحاضر في قلوب الهمامية

لم يكن ظهور سيرة شيخ العرب همام مؤخرا عبر الدراما الرمضانية سوى حدث طارئ في علاقة الهمامية بجدهم الكبير، حسب عبارة أحمد محمد عمر الهمامي فإن "همام يعيش بداخلنا وسيرته متوارثة وكل منا يعرف نسبه وصلته بهذا الجد الكبير.. أفضل شعور يمكن أن يشعره الإنسان هو أن يستند إلى ماضي وشخصية تاريخية يحترمها الجميع"، يعيش أحمد الشاب الثلاثيني الذي يعمل محاسبا في مدينة فرشوط مسقط رأس الشيخ همام بن يوسف الذي نجح قبل أكثر من 250 سنة في صنع تحالفات وتوسيع أراضيه بحيث أسس حكما شبه مستقل من جنوب المنيا حتى أسوان انتهى في العام 1769، هذه المكانة مازالت لها تأثيرها في تشكيل حضور الهمامية وسط القبائل الأخرى، يضيف أحمد : "حتى اليوم ورثنا أحلافا مع قبائل أخرى تكونت في تلك الفترة، وليس لنا عداءات أو ثأر مع أحد". يسكن مركز فرشوط وما يتبعه من قرى قرابة 150 ألف مواطن حسب أرقام الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في عام 2006، ولم يتبقى من بهاء عصر همام ودولته سوى قلعة أثرية وجامع الأمير همام بفرشوط، أما الأهم لدى أفراد العائلة فهو الحفاظ على تماسك العائلة وقوتها، هذه النقطة يعلق عليها عبدالكريم الهمامي الأخ الأكبر ونقيب الأشراف بمركز فرشوط قائلا : "هناك بعض العوامل تحافظ على مكانة العائلة وخلفاء همام، حيث ترتفع نسبة التعليم بين الهمامية إلى حد كبير، ويلتحق الكثير من أبنائها بسلك القضاء والشرطة ما يعطي العائلة ثقلا". يحفظ عبدالكريم الهمامي ما قيل عن جده الكبير همام بن يوسف في تاريخ الجبرتي، ويعتقد أن صفات هذا البطل يتوارثها الهمامية كلما تولوا منصبا، ويؤكد ذلك بقصة عن والده حيث يقول : "أتذكر أثناء طفولتي أن تم ضبط لص سرق سجادة من ديوان الهمامية، بعد أن قضى أياما يأكل ويشرب كعابر سبيل، وأتذكر أن والدي لم يعاقبه، فقط سأله عن أسبابه، وان كان قد طلب شيئا ولم يحصل عليه.. هذه التقاليد الرحيمة والكريمة نحرص عليها منذ عهد همام الكبير".يرجح عبدالكريم الهمامي الذي يجاوز اليوم الثالثة والخمسين ويقيم أغلب وقته في إدارة أعماله التجارية في القاهرة أن عامل الثروة واقتناء الأراضي أحد نقاط القوة في العائلة التي تحرص عليها، هذا الفكر يدفع كثير من العائلات الصعيدية إلى اتخاذ إجراءات مثل عدم توريث المرأة كي لا تذهب الأراضي خارج اسم العائلة، حيث ذكرت دراسة صادرة عن جامعة جنوب الوادي مؤخرا ‬أن‮ ‬4‭.‬5 ٪‮ ‬فقط من نساء ريف الصعيد ‬يأخذن ميراثهن دون مطالبة،‮ ‬و59‭.‬5 ٪‮ ‬محرومات من المطالبة بميراثهن، يعلق عبدالكريم الهمامي أن هذا الأمر مستبعد داخل العائلة الهمامية لسبب بسيط وهو أن الزوجة تتزوج من العائلة، فلا تذهب الأراضي بعيدا يضيف : "المرأة الهمامية يمكنها أن تختار أرضها ومكان ميراثها بنفسها". تلعب قواعد العائلة والثروة دورا هاما في صعيد مصر، ولعل سيرة الأمير همام بن يوسف تجسد قصة تطور استندت إلى قوة ثروته واتساع ما تحت يديه من أراضي في تجربة استقلال لم تدم سوى سنوات انتهت في العام 1769مـ.
قبل أشهر قليلة كان كلا من الأخوين أحمد وعبدالكريم الهمامي في استقبال فريق عمل مسلسل "شيخ العرب همام" بفرشوط، لكن ما أن عرضت إعلانات المسلسل قبل رمضان بأيام حتى اتجه كل منهما لرفع دعوى قضائية ضد المسلسل حفاظا على ذكرى جدهما، صورة العائلة ورمزها أمر لا يحتمل العبث حسبما يؤكد أحمد الهمامي قائلا : "البعض قد لا يتفهم مشاعرنا الغاضبة، كيف يتم تصوير رجل سياسي وشريف من آل البيت في غرفة النوم مع عبارات مبتذلة؟ وكيف نجده في مشهد آخر يجر حمارا؟ هذه مشاهد لا تعبر عن حقيقة هذا الفارس والزعيم، لقد خاب ظني بشدة مع هذا المسلسل". يعلم أحمد الهمامي بحكم كونه مهتما بعلم الانساب وبحكم أنتقال كثير من وثائق العائلة ومكتبة والده إليه حسب وصيته أن تاريخ العائلات وماضيها يتحكم أحيانا في واقعها اليومي، نسبك يشكل صورتك في مجتمعك، هذه الملامح تبدو أكثر وضوحا في المنتديات ذات الطابع العائلي والصعيدي على الانترنت، أحيانا ما يدخل الأعضاء في جدل بسبب خلافات قديمة بين عائلتين تعود إلى مئات السنين، أحيانا يكون التشكيك في نسب الطرف الآخر أو عراقته نوعا من الحروب المحدودة على الانترنت. لكن أحمد يؤكد : "لا ندخل أبدا في هذه المهاترات، فالماضي أوضح من يتم الاختلاف حوله". لكن أخيه الأكبر عبدالكريم الهمامي يعلق قائلا : "بعض المعلومات الموثقة في أوقات سيادة بعض القبائل قد تحرج البعض الآخر والعكس، وهي أمور مسكوت عنها، لأنها لا تفيد". منذ عهد همام مرت الأسرة بكثير من التجارب، إحداها ما ذكره أحمد الهمامي عن عداء قديم مع الأسرة العلوية منذ عهد محمد علي، لكن ما يتذكره كبار الأسرة بشكل واضح هو ذلك الصراع الذي دخلته الأسرة مع الأمير يوسف كمال الذي كان له حضور قوي في نجع حمادي وحاول تقليل نفوذ الهوارة والهمامية تحديدا عبر الاستيلاء على أراضيهم، يعلق عبدالكريم الهمامي : "لذا فرحنا بالثورة فور قيامها، والمفارقة الأهم أن من ساهم في إذاعة بيان الثورة كان الإذاعي فهمي عمر ذو الأصل الهمامي". حتى الآن تحتفظ العائلة بتسمية أبنائها بأسماء همام وداوود وبكار وهم من أجداد الهمامية الذي أداروا شؤونها قبل شيخ العرب همام ومن بعده، يقول عبد الكريم الهمامي : "عن نفسي أنا في مرحلة تغيير نشاطي التجاري، أفكر في إنشاء شركة جديدة، ولكن تكون مفاجأة إذا قلت لك أنها ستحمل اسم همام.. جدنا الكبير".
الملتزم الذي صارع المماليك
ولد الأمير همام بن يوسف في فرشوط – تقع في محافظة قنا حاليا – وقد كان لديه من الثروة ما أعطاه ولأسرته الوجاهة والحضور الاجتماعي، ومن خلال مهمته كملتزم يقوم بتسديد ضريبة الأراضي الزراعية إلى الدولة بعد جمعها اتسعت سلطاته تدريجيا، لكن الأمير همام الذي نجح في صنع تحالفات بين القبائل العربية والهوارية بدأ مع اتساع نفوذه و إقصاء الملتزمين المماليك وغيرهم من العرب وبعض أقربائه، ليكون الملتزم الأول في ولاية جرجا التي تمثل الآن إقليم جنوب الصعيد، واستغرقت هذه الرحلة بين العامين 1721 حتى 1769، وفي أثنائها كان قد كون جيشا صغيرا لحماية الأرض وترسيخ نفوذه على طرق ومسالك الإقليم، لكن مشروعه السياسي الحقيقي لهمام بن يوسف قد ظهر في فترة متأخرة حين بدأ في المراهنة على صراعات المماليك واجتذاب بعضهم في صفه، ومع تطور هذا النفوذ نجح همام في الاستئثار بإدارة جنوب الصعيد، وكان لا بد من مواجهة حقيقية بين علي بك الكبير حاكم مصر وقتها والأمير همام، وبعد هزيمة جيش همام وخيانة أحد أقاربه له، انتهى همام وحيدا في إحدى قرى مدينة إسنا ومات حزنا بعدها مباشرة نتيجة انهيار ما بناه في سنوات. وينتسب أحفاده الهمامية اليوم إلى آل البيت على عكس الصورة التقليدية عن قبائل الهوارة تاريخيا بأنهم ينتسبون إلى البربر، ويذكر المهتمون بعلم الأنساب أن الهمامية الحاليين لا ينتسبون فقط للأمير همام بن يوسف بل إلى جد أقدم منه هو همام سبيك الذي وفد من المغرب إلى مصر، وأن لقب الهوارة حصلوا عليه نتيجة تحالف جدهم مع الهوارة، إلى جانب أنه لقب مكتسب ولا يعبر طوال الوقت عن النسب، مستندين في ذلك إلى تعبيرات المؤرخ الجبرتي الذي اعتبر في بعض المواضع أن "الهواري" هو لقب يكتسبه بعض الناس نتيجة إجادتهم الفروسية.
مشروع جمهورية صعيدية
* في عام 1769 وفد إلى مصر الرحالة الاسكتلندي جيمس بروس وسجل في كتابه (رحلات لاكتشاف منابع النيل) تفاصيل لقائه بشيخ العرب همام بن يوسف في مدينة فرشوط، حيث ذكر عنه أنه كان طويلا وضخما و وسيما وفي الستين من عمره، وأنه استقبله بأدب شديد وسأله عن ما يحدث في القاهرة أكثر من سؤاله عن أي مكان آخر. حيث كان هذا اللقاء في فترة صراع همام مع علي بك الكبير وهو نفس العام الذي توفي فيه همام.
* بعد تأثر الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي رائد التنوير بزيارته إلى فرنسا واطلاعه على نظام الحكم هناك وتفاصيل انتقال السلطة والحكم، عقد الشيخ مقارنة بسيطة بين النظام الجمهوري والمشروع السياسي للشيخ همام حين وصفه في كتاب تخليص الابريز في تلخيص باريز قائلا: "ولما كانت الرعية لا تصلح أن تكون حاكمة ومحكومة وجب أن توكل عنها من تختاره منها للحكم، وهذا هو مثل مصر في زمن حكم الهمامية، فكانت إمارة الصعيد جمهورية التزامية".
* نقل المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي عددا من ألقاب الشيخ همام بن يوسف وبعض مظاهر سلطته وثراؤه في كتابه الأشهر "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، حيث يقول في مساحة خاصة عن شيخ العرب واصفا إياه : "ملجأ الفقراء والأمراء، ومحط رحال الفضلاء والكبراء، عظيم بلاد الصعيد، ومن كان خيره يعم القريب والبعيد، وقد جُمع فيه من الكمال ما ليس فيه لغيره".
* تعاطف بعض المفكرين مع حركة التمرد التي قادها الأمير همام بن يوسف في الصعيد ومحاولته الاستقلال بحكم الصعيد، وعلى رأس هؤلاء المفكر لويس عوض الذي ذكر في كتابه "تاريخ الفكر المصري الحديث" واصفا ما قام به همام بأنه كان "ثورة كانت لها أهداف وطنية واجتماعية، أما الهدف الوطني الأول فكان استخلاص مصر من أيدي المماليك، وأما الهدف الاجتماعي الأول فكان تمليك الأرض للمصريين وتوزيعها على الفلاحين.
* من أولى الدراسات البحثية التي تناولت حياة شيخ العرب همام دراسة أجرتها الأستاذة الدكتورة ليلى عبد اللطيف في الستينات، وتذكر في نتائجها الآتي عن همام بن يوسف : لقد أحال الشيخ همام الصعيد من منبت للفتن ومسرح للصراع بين الأمراء المماليك المهزومين أمام زملائهم في القاهرة ومطاريدهم المنتصرين إلى منطقة استقرار ورخاء وأمن وازدهار وبهذا وضع أساس مجده وخلد ذكراه".

فوق السرج هواري
ظلت ذكرى شيخ العرب همام محفوظة على ألسنة كثيرين في أشعار ومواويل تأثر أصحابها بانهيار حلم الفارس الهواري، يقول الشاعر في موال
قم يا همام وروح سنار ** وازرع وقوت عيالك
فرشوط قادت عليك نار ** والبيه عندي وجالك
في الأبيات السابقة ينادي الشاعر على همام متمنيا لو كان قد اتجه إلى مملكة سنار في السودان بعيدا عن فرشوط وغضب (البيه) محمد بك ابو الدهب وهي الحسرة التي استخدمها الشاعر في موال آخر ينعي ذكرى قصر الأمير همام الذي قيل انه ضم 90 غرفة، وتخرب على يد محمد بك أبو الدهب رجل السلطة المملوكية
هياك يا باب هياك ** بس ضبتك غيروها
تسعين أوضة وشباك ** في تلا يلك كسروها
منذ تلك الفترة ظلت صورة الفارس الهوارى تمثل نموذجا للفارس المحارب، وهو ما دفع مسرحيا مثل جورج أبيض لتقديم مسرحية تحت عنوان الفارس الهواري من الحان الموسيقار سيد درويش، عدا ذلك قد تنتشر أبياتا مجهول حفظتها الذاكرة الشعبية تمدح في فروسية الهوارة من أشهرها الأبيات التالية
انظر الي خيل هوارة تري عجبا
فيسيرها عندما يسري بها الساري
لم تفخر الخيل قط براكبها
ما لم يكن فوق السرج هواري

No comments:

Post a Comment