Friday, September 30, 2011

المدينة الشبح.. معرض يصف أصوات القاهرة


ما بعد الحداثة مرت من هنا
المدينة الشبح.. معرض يصف أصوات القاهرة
كتب - عبدالرحمن مصطفى
كل ما عليك هو أن تستسلم لخطواتك وأنت تبحث عن القاهرة داخل معرض "المدينة الشبح" الذي اختتم الأسبوع الماضي. وفي القاعة الرئيسية بمركز سعد زغلول الثقافي لم يكن هناك بديل آخر أمام الزائر الذي يرغب في متعة التجربة، إذ يعتمد التجهيز على تحفيز حالة الترقب، بدء من التجهيز الصوتي الذي أعده أربعة فنانين هم : ألفريد تسيمرلين وفرنسيسكا باومان من سويسراً ، و نهلة مطر ومروان فوزي من مصر. مرورا بالصور الفوتوغرافية التي التقطتها الفنانة الشابة: دعاء قاسم، و الإعداد البصري للفنان طارق مأمون. بدعم بروهلفتسيا، المؤسسة الثقافية السويسرية بالقاهرة.
بمجرد أن يصل الزائر إلى قاعة العرض الرئيسية، يخطو بقدميه إلى قاهرة أخرى، أختار الفنانون أن يقدموها بأسلوب لا يحاكي الواقع أو يعيد إنتاجه، بل بأسلوب يعيش فيه الزائر وسط أصداء المدينة، سامعا أصواتا يعرفها وصورا رآها من قبل، لكن بإعداد غير تقليدي، اعتمادا على فن التجهيز Installation الذي يجيده فنانون العرض. "ستختلف الرحلة من زائر إلى آخر، والتجهيز الصوتي الموجود في المعرض لن يقوم بأي دور إرشادي، إنها مهمة الزائر حسب حركته في المكان". هكذا عبرت الدكتور نهلة مطر الأستاذ المساعد بقسم النظريات والتأليف في كلية التربية الموسيقية بجامعة حلوان والمشاركة في التجهيز الصوتي للعرض. وينتمي فن التجهيز إلى فنون ما بعد الحداثة التي لمعت منذ الستينات تعبيرا عن عصر جديد يتمرد على حقبة "العصر الحديث" بكل فنونها وآدابها، حيث يتحول عرض من نوعية "المدينة الشبح" إلى تجهيز صوتي وبصري في فضاء يعتمد على حركة المشاهد، ولا يعبر عن الواقع بقدر ما يهتم بالمجاز، حيث يعيش الزائر مع أصوات مألوفة تم معالجتها الكترونيا حتى يصل إلى المعنى الذي يختاره. وكأنها لعبة يلعبها الزائر مع أصوات ومشاهد وصور.
عند المرور من باب القاعة الرئيسية يتضح ما كانت تصفه الدكتورة نهلة، إذ يقابل الزائر ممرا تحلق فيه أصواتا مختلفة في توقيتات متتالية، فمن يمر في العشر دقائق الأولى من افتتاح العرض سيستمع إلى تجهيز صوتي مختلف عن الذي سيسمعه زائر آخر جاء متأخرا، وقد يختلف أو يتطابق مع ما سيسمعه كلاهما في أثناء مغادرتهما المعرض. بل وتأتي الأصوات من مواقع مختلفة في هذا الممر من سماعات وضعت في مواضع متفرقة، يتجاور صوت الأذان و أجراس الكنيسة وأصوات عمال البناء، وكأنها مرحلة تحضيرية لما سيقابله الزائر في المراحل التالية من العرض. تلك الأصوات هي في الأساس جزء بسيط من حصيلة أصوات جمعها الفنانون أثناء عملهم في مشروع توثيق ذاكرة القاهرة الصوتية، وحين قامت ثورة 25 يناير تم تسجيل أصوات أخرى من ميدان التحرير.
هل يمكن لزائر لا يتذوق فنون ما بعد الحداثة أن يتفهم المعرض؟ لا يخفي المؤلف الموسيقي مروان فوزي المشارك في التجهيز الصوتي غربة هذا النوع من الفن عن الحالة الفنية اليوم، ورغم ذلك يقول: "المسألة أصبحت أكثر قربا بعد انتشار الانترنت، ودخول بعض المهتمين إلى فيديوهات وتسجيلات صوتية ونماذج من هذا الفن، هذا ما ألاحظه على طلبتي في كلية الفنون الجميلة على سبيل المثال.. لكن لا يمكن مقارنة الإقبال عليه بأي شكل من الأشكال بحفاوة الغرب بفن التجهيز.". حسب تعبير مروان فإن معدل إقامة معرض كهذا في مصر مثل إقامة عرض أوبرا فاجنر في الأوبرا المصرية – وهو أمر نادر- على عكس شيوع ذلك بمجرد عبور البحر المتوسط إلى أوروبا. وتشير نهلة مطر إلى أن الظروف السياسية وقيام العرض في شهر رمضان حتى بعد العيد بأيام كلها أمور لم تصب في صالحه.
بعد أن يتجاوز المار المرحلة الأولى في الممر ينتقل إلى صالة يتدلى من سقفها شرائط ورقية طولية متجاورة تحمل صورا لا تكمل بعضها من شوارع القاهرة. وهو ما يعبر عن ما بعد الحداثة حيث تتجاور المكونات المختلفة، في الموسيقى وفي الصورة، بل وفي ملامح الحياة العادية التي يتناول فيها احدهم طعاما يمنيا أو أمريكيا في حي مصري تقليدي (!). وما أن يترك الزائر تلك القاعة (المتاهة) إلى الممر الجديد حتى يشعر بتكثيف ما قابله في المرحلتين السابقتين، واستخدم الفنانون وصف "النفق" لهذا الممر الطويل المنحني، وفي تلك المرحلة تظهر مفارقة بين ما كان يطمح إليه الفنانين السويسريين من تصور يستدعي روح مصر القديمة، وتصميم المعرض وكأنه مقبرة، تؤدي إلى غرفة نهائية أقرب إلى قدس الأقداس، في مقابل انشغالا نلمسه لدى الفنانين المصريين ببث الحياة في العرض، مثل وجود صور تعبر عن الشارع المصري، أو أصوات بائعي المياه في ميدان التحرير، أو هتاف "الشعب يريد" وأصوات أوراق الأشجار وأصوات المياه عند مقياس النيل التي تم تسجيلها قبل شهور مضت. لكن يتقبل الزائر هذه المفارقة حين يدرك محاولات الفنانين للفت نظره وسمعه إلى هذه المدينة الشبح الفرعونية القبطية الإسلامية و.. الثورية. يكشف كلا من الفنان مروان فوزي والفنانة نهلة مطر عن جانب آخر لا يراه الزائر، ولن يراه حتى لا يكسر تلك الحالة التي يعيشها الزائر بالداخل، وهو عن الأجهزة المستخدمة في عملهم وخفايا صناعة هذا التجهيز. إذ تستقر السماعات في مواضع معينة، ويستقر جهاز كمبيوتر (لابتوب) يستخدمه مروان في بث الأصوات التي تمت معالجتها موسيقيا وصوتيا. "ليس الهدف صناعة مقطوعة موسيقية لكنه عرض متكامل" حسب عبارة نهلة مطر. ولا تكتمل الجولة إلى بالوصول في آخر النفق إلى غرفة هي "قدس الأقداس" حسب التعبير المصري القديم أو أخطر غرف المعابد المصرية. يجلس الزوار أمام شاشة وسماعات للإنصات إلى التجهيز الصوتي الذي أعده كل فنان من المشاركين بشكل أفضل. وفي النهاية حسب تعبير طارق مأمون الذي عمل على صنع التصميم أو الفضاء البصري لهذه الأصوات المعالجة تقنيا فإن "الهدف نقل انطباعات فنانين مصريين وسويسريين عن القاهرة في عمل واحد". لكن رغم ذلك تبقى وجهة نظر أخرى لزائر شارك في العرض بحركته واندماجه مع ما حوله من تجهيز.

Friday, September 23, 2011

خالد فهمى: نحن من يصنع التاريخ ولن نعود رجالاً للباشا


فى حفل توقيع الطبعة الثانية من (كل رجال الباشا)..ـ
كتب - عبدالرحمن مصطفى
«من حق الشعب والمؤرخ أن يكتب التاريخ من أسفل، عبر التأريخ لفئات فى قاع المجتمع.. وهذا هو مضمون الكتاب الذى بين أيدينا الآن» ــ بهذه العبارة وصف الكاتب جميل مطر عضو مجلس التحرير بجريدة «الشروق» كتاب «كل رجال الباشا» للدكتور خالد فهمى رئيس قسم التاريخ بالجامعة الأمريكية فى أول حفل توقيع للطبعة الثانية من الكتاب الذى أقيم فى مكتبة الشروق بالزمالك يوم الاثنين الماضى، وقد صدرت الطبعة الثانية هذا العام عن دار الشروق فى حوالى 450 صفحة تناول فيها الكاتب تاريخ مؤسسة الجيش فى عهد محمد على وكيف أثرت على المجتمع المصرى فى ذلك الوقت، هادما بين طيات كتابه بعض الصور التقليدية عن عصر محمد على.
وفى تقديمه للكتاب فى بداية الحفل استعار الكاتب الصحفى جميل مطر بعض المقتطفات التى استوقفته فى مثل وصف الرحالة لمحمد على عن «بريق عينيه اللامعة» وملامحه المهيبة، معلقا على ذلك بقوله: «مثل تلك الصفات كنت أسمعها وأقرأها عن جمال عبدالناصر، وصدام حسين، وكأنها نصوص مكررة تستخدم فى صناعة الزعماء».
فى الطبعة الثانية من الكتاب أضاف خالد فهمى مقدمة جديدة كتبها فى 2010 بنيويورك حين كان يعمل كأستاذ بجامعة نيويورك قبل انتقاله للعمل بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وحسب عبارته يقول: «كتبت تلك المقدمة قبل سقوط مبارك، وكان داخلى قناعة أعلنها الآن بصراحة أننى كنت أعد هذه الدراسة وعيناى على الواقع المصرى، إذ إننى أؤمن بأننا نحن أفراد الشعب المصرى من يصنع التاريخ، وليس محمد على أو مبارك أو غيره، وحتى ما حدث مؤخرا من موقف المؤسسة العسكرية من تأييد الثورة فإن ذلك ليس منحة من أحد، لأن هذا الجيش ما زال جيش المصريين والبسطاء وليس جيش الباشا».
فى داخل كتاب «كل رجال الباشا» يرصد الكاتب علاقة محمد على بالدولة العثمانية وذكر فى تعليقه على سؤال من القاعة حول ما راج عن «سر دهاء محمد على ومكره السياسى»، قائلا: «محمد على كان يدرك منذ البداية أنه جزء من الدولة العثمانية ولديه بُعد عثمانى واضح، فلنا أن نتخيل أن هذا الرجل قد بنى مقبرته فى مصر عام 1809 بعد أعوام قليلة على صدور فرمان توليه مصر عام 1805، وذلك قبل مذبحة القلعة عام 1811 التى قضى فيها على أعتى خصومه المماليك، وهو ما يكشف عن إصرار هذا الرجل وإرادته الصلبة، وأنه كان يدرك مشروعه مبكرا فى أن تتحول مصر إلى ولاية يحكمها هو وعائلته».
يأتى حفل التوقيع بعد أسبوع من زيارة الرئيس التركى رجب طيب أردوغان بما أثارته من جدل بعدها، وهو ما دفع الكاتب جميل مطر فى تقديمه للحفل أن يعلق على ذلك قائلا: «كشفت زيارة أردوغان الأخيرة عن أننا ما زلنا مرتبطين بالموروث العثمانى على مستوى الشعب والنخبة حتى الآن».
لم يخل مشروع خالد فهمى الذى يستعد الآن لإنهاء كتاب عن محمد على وسيرته من عراقيل بدأت حسب وصفه من غياب وثائق ديوان الفابريقات «المصانع» لتلك الفترة، ثم حين اتجه إلى المتحف الحربى التابع لوزارة الدفاع واضطراره إلى المرور على جهات أمنية كى يوضح موقفه وغرضه من دراسة المؤسسة العسكرية، رغم أنه كان يدرس فترة حكم محمد علي. يقول على ذلك معلقا: «أشكر دار الشروق والمهندس إبراهيم المعلم على عدم تخوفهما من نشر دراسة تاريخية عن الجنود المصريين، وهو ما كان يثير ريبة البعض طوال مشوار جمعى للمادة الوثائقية».
وفى عرضه لقصة كتاب «كل رجال الباشا» الذى كان فى الأصل دراسة للدكتوراه حصل عليها من جامعة أكسفورد عام 1993. لم يخف خالد فهمى حساسية الموضوع لكونه متصلا بدراسة نشأة المؤسسة العسكرية، وشرح كيفية تطور مشروعه البحثى حتى استقر على تلك الفكرة، وذكر موضحا: «الحقيقة أن هذا الموضوع لم يكن هدفى الأول، لكن فى أكسفورد هناك مرونة تختلف تماما عن الجامعات المصرية وكان هدفى هو الإجابة عن سؤال لماذا يتقدم الغرب ونحن نتأخر؟ وهل كان هناك مشروع نهضة حقيقى لمحمد على أجهضته مؤامرة غربية؟ وكان أمامى بدائل متعددة لدراسة مؤسسات الدولة، وقادنى البحث إلى أرشيفات الحروب المصرية فى السودان والحجاز والمورة والشام، والعقوبات التى كانت توقع على الجنود المصريين، وقررت بعد مناقشات دامت سنة مع مشرف الرسالة أن يكون مشروع الدراسة عن الجندى المصرى وأن أدع للجندى المصرى فرصة لأن يذكر روايته للأحداث وألا أقع أسيرا لرواية محمد على عن نفسه من خلال وثائق الدولة».
وجمع حفل التوقيع بعض من شاركوا خالد فهمى فى مشواره البحثى والمتعاونين معه حاليا فى لجنة توثيق الثورة التابعة لدار الوثائق القومية التى يرأسها، ودفع إعلانه عن تأثره بالواقع المصرى الحالى طوال فترة إعداده الكتاب إلى أسئلة من القاعة حول استعداد المصريين للثورة على حاكمهم، وهو ما دفعه إلى دعوة الباحثين إلى إعادة قراءة «هبّات» المصريين ضد الحاكم ذاكرا بعض الأمثلة التى أورد بعضها فى كتابه قائلا: «يجب قراءة حالات مقاومة المصريين فى الصعيد ضد محمد على ونظام التجنيد، وكيف تعرضوا للضرب بالمدافع فى المنوفية نتيجة مقاومتهم وهى مواقف احتجاجية قتل فيها الآلاف». كانت فكرة العقوبات البدنية أحد المقتطفات التى توقف عندها الكاتب جميل مطر فى بداية حفل التوقيع رابطا فكرة علانية العقوبة المطروحة فى الكتاب كأداة للضبط، وبين ما كان يحدث فى عهد مبارك من تسريب فيديوهات للعقوبات البدنية لإشاعة الذعر لدى المواطنين. مستعينا بفقرات تؤكد أن العقوبة البدنية «لم يكن هدفها فقط السيطرة على جسد الفرد فى ذلك الوقت، بل أيضا السيطرة على العقل».
وفى أثناء حفل التوقيع لم يخف خالد فهمى خطته فى التأريخ لمؤسسة الجيش حسب رواية الجندى المصرى دون أن ينكر حضور محمد على فى خلفية الأحداث، إذ يبدأ الكتاب بنقد صورة محمد على التقليدية وكيف تم رسمها فى الكتابات التاريخية ثم رحلة الجندى داخل المؤسسة العسكرية النامية بدءا من مولد الجيش وضم الفلاحين المصريين إليه، ثم كيف تتم السيطرة على الجندى الذى كان يخوض هذه التجربة لأول مرة فى حياته، وبعض تفاصيل حياته العسكرية، خاتما بحالة المقاومة والانسحاب، ثم يختم كتابه بالعودة إلى محمد على مرة أخرى فى ختام الكتاب.
وفى سؤال من «الشروق» حول هل كانت نشأة المؤسسة العسكرية فى تلك الفترة وسطوتها على بقية المؤسسات عنصرا مؤثرا على مسار التاريخ المصرى الحديث؟ خاصة أن هذا الرأى ما زال يروجه البعض الآن عن ضرورة إبقاء المؤسسة العسكرية فى مكانة سيادية فوق بقية المؤسسات. وأجاب خالد فهمى قائلا: «دول العالم الثالث هى التى تروج لفكرة سيادة المؤسسة العسكرية على بقية المؤسسات، ولا أنكر أن حالة الزهو بالمؤسسة العسكرية لمسته فى الولايات المتحدة نفسها، لكن على أرض الواقع فقد كانت هناك العديد من المؤسسات مثل الصحافة والقضاء والتعليم تعمل بقوة طوال التاريخ الحديث رغم تدهور بعضها مؤخرا، الأمر الأهم أن هو أن تجربة الجيش فى عهد محمد على مختلفة تماما عن الجيش اليوم، إذ كانت التركيبة العرقية مختلفة عن تطور الجيش فيما بعد، فقد كان جيش عرابى مختلفا عن الجيش فى ظل الاحتلال البريطانى، وعن جيش ثورة يوليو الذى استمرت ملامحه حتى اليوم». وأنهى خالد فهمى حفل التوقيع مختتما بقوله: «إن هناك تعاقدا بين الشعب و المؤسسات التى لها حق حمل السلاح، ومن حق أفراد الشعب أن يمارسوا نوعا من الرقابة على تلك المؤسسات وأن يتأكدوا من قوتها وحجم إمكانياتها، وهذا ما يزعزع فكرة أن المؤسسة العسكرية هى المؤسسة الوحيدة المستقرة وعليها أن تتسيد على بقية المؤسسات.. لأن هذا الجيش فى النهاية هو جيش الشعب، وليس جيش القادة».
PDF