Wednesday, June 23, 2010

الانترنت.. رقيب جديد على السلطة


كانت غاية من يضبط مخالفة أن يتوجه بها إلى صحفي "شريف" يفجر بها قضية رأي عام، اليوم حلت الانترنت بديلا سريعا لطرح كافة المخالفات أمام المجتمع، وعلى رأسها مخالفات التعذيب والاعتداءات البدنية على المواطنين، بعض المدونين تحولوا إلى منفذ عبور لهذه الكليبات، لكن ما زالت هذه القناة مليئة بالعوائق وما زال الإبحار فيها يمثل نوعا من المغامرة

كتب – عبدالرحمن مصطفى
داخل صفحة أنا اسمي خالد محمد سعيد في شبكة فيس بوك الاجتماعية لقطات فيديو متنوعة من مظاهرات وبرامج إخبارية تناولت قصة الشاب السكندري الذي ما زالت التحقيقات تبحث عن ملابسات مصرعه والاتهامات الموجهة إلى مخبرين ينتميان إلى جهاز الشرطة بأنهما كانا وراء الحادث، إلا أن إسهامات أكثر من 200 ألف مشترك في الصفحة لم تسفر عن ظهور "الكليب البطل" الذي يقطع الشك باليقين، كان أقصى ما توصل إليه البعض هو نشر لقطة تحت عنوان "الفيديو الذي قتل بسببه خالد"، حيث ذكر ناقلوه أنه تم تصويره داخل أحد أقسام الشرطة لضابط يوزع كمية من الحشيش على بعض معاونيه، لكن اللقطة التي يشوبها كثير من الغموض لم تكن مقنعة للبعض، أحدهم علّق قائلا: " ازاى يكون الفيديو ده هو اللى قتل خالد الله يرحمه وازاى الناس دى عارفة إنها بتتصور وعادى يعنى ومبسوطين"، ناشر الكليب دافع عن وجهة نظره قائلا أن "لكل جواد كبوة"، في تلك الأثناء كان وائل عباس أحد أهم ناشري كليبات التعذيب في السنوات الماضية يطرح القضية بمنظور آخر في موقع تويتر لتدوين الرسائل القصيرة قائلا: " فيه ناس صوروا حادثة ضرب خالد ومش عايزين يدوني الفيديو بيقولوا لما يشوفوا التحقيقات ها تعمل ايه! "، الجملة أكدتها أسرة خالد التي ذكرت أن بعض شهود الواقعة قد صوروها لكنهم لم ينشروا تسجيلاتها بعد، وهو ما يعيد إلى الأذهان بقوة صورة كليبات مخالفات الشرطة والتعذيب التي أتاحت لها الانترنت الظهور على الساحة في السنوات الأخيرة. يقول جمال عيد مدير الشبكة العربية لحقوق الإنسان: "بعض المعلومات الأولية التي انتشرت بعد حادثة خالد سعيد وجدت فيها بعض التشابه مع قصة نشر كليب عماد الكبير، إلا أن ظروف نشر الكليب وقتها بواسطة المدون محمد خالد كانت أفضل بكثير". قضية عماد الكبير التي يشير إليها جمال عيد الذي دافع عن بعض المدونين الذين تعرضوا لمضايقات أمنية دارت أحداثها في بداية العام 2006 حين تعرض أحد سائقي الميكروباص للتعذيب في قسم شرطة بولاق وأسفرت القضية عن حبس رجلي شرطة أحدهما برتبة نقيب، يتابع جمال عيد : "لم يكن المدون محمد خالد الذي نشر الكليب أول مرة على درجة كبيرة من الشهرة، لذا استعان بزملائه المدونين وخاصة المدون وائل عباس لينشروا بالتزامن ويفجروا القضية التي تابعتها الصحافة فيما بعد وأسفرت عن نتائج طيبة". منذ تلك الفترة حتى اليوم يتوالى نشر كليبات التعذيب والتجاوزات المختلفة، ولم تسجل خلال هذه الفترة حوادث اعتقال أو اعتداء مباشر بسبب نشر كليب بعينه على عكس ما شاع مؤخرا على الانترنت مع حادث خالد سعيد الذي يتناقل رواد الفيس بوك أن مصرعه كان بسبب اللقطة التي نشرها من داخل قسم الشرطة، يختلف وائل عباس صاحب مدونة الوعي المصري مع هذه الصورة التي تروج أن نشر كليبات التعذيب يتم في أمان، قائلا : "من قال أن نشر مثل هذه الكليبات لا يعرض صاحبه للمضايقات؟ أنا عن نفسي أتعرض للتضييق في كل مرة أعبر منها بوابات المطار". تحوي مدونة وائل عباس أرشيفا كاملا من كليبات التعذيب وتسجيل المخالفات المتنوعة التي حصل عليها من زوار مدونته أو بالبحث المباشر عنها. يتابع قائلا : "كنت شاهدا على ضغوط تعرض لها البعض، وكتبت في مدونتي عن أحد المدونين الذي أضطر إلى ترك مصر والهرب بزوجته إلى ليبيا من جراء التهديدات والملاحقات التي طالته، الأجواء العامة في مصر ليست بهذه السلاسة، حتى في قضية خالد سعيد كل شيء بدأ بالتعتيم، وربما تكشف الأيام القادمة عن كليبات جديدة توضح حقيقة الموقف أو إذا ما كان تعرض للقتل بالفعل بسبب حيازته على كليبات تدين رجال شرطة".
تلك الأجواء الشائكة التي تحيط بمن قرر التعامل مع الكليبات التي تظهر مخالفات السلطات هي التي دفعت محمد خالد ناشر كليب "عماد الكبير" في 2006 إلى اللجوء إلى زملائه حسبما يروي : "اتفقنا على نشر الكليب بشكل متزامن لينتشر بعدها على الانترنت، وبعدها أصبح الأمر يتكرر بشكل تلقائي دون اتفاق كنوع من التضامن بين رواد الانترنت.. الحقيقة أنني اليوم أقدر المشكلة التي يتعرض لها من يملك لقطة لمخالفة ما ولا يعرف كيفية نشرها، وأؤكد أنني شاهدت لقطات كثيرة على موقع يوتيوب - لتحميل لقطات الفيديو- لمواطنين نقلوا ما يحدث في الشارع من مخالفات إلى الانترنت، لكنها لم تحقق أي نجاح، بل إن بعضهم حذفها فيما بعد".
ما يذكره محمد خالد قد تؤكده جولة مخلصة بين ربوع موقع يوتيوب الذي يكشف عن وجود مستخدمين مغمورين يحملون أسماء مستعارة سجلوا لقطات لما اعتبروه تجاوزات في الشارع المصري، لكن لقطاتهم ظلت خبيئة في الانترنت، أحدهم نشر لقطة تحت عنوان "الي من يهمه الامر في قسم الحدائق في مصر" هذا العنوان قد يظهر أثناء البحث على الانترنت لكن بمجرد الدخول إلى اللقطة يكتشف الزائر أنه قد تم حذفها دون سبب واضح، شاب آخر يحمل حسابا تحت اسم dode706 نشر كليبات وقعت في حي عين شمس القاهري تحت عنوان "بلطجة الحكومة المصرية في عين شمس"، تاركا تعليقا يشرح فيه الفيديوهات التي تصور اشتباكات بين رجال الشرطة والأهالي بسبب تنفيذ قرار إزالة أحد المنازل موجها شكواه إلى السيد حبيب العادلي وزير الداخلية. التواصل مع صاحب هذا الكليب لم يسفر عن استجابة، كما لم يحقق نشر الكليب أي تأثير تذكر.
يرى المحامي الحقوقي جمال عيد أن نشر الكليبات التي تكشف عن عنف بدني أو وقائع تعذيب من الأفضل أن تتم عبر مؤسسات متخصصة، كذلك فهناك حل أفضل يشرحه : "هناك مجموعة من المدونين نجحوا في تحقيق اسم ومصداقية عبر نشر لقطات التعذيب وغيرها، بإمكان من لديه مثل هذه المواد أن يتضامن مع هؤلاء المدونين، سواء اختار أن يعلن هويته أو أن يكتفي بإرسالها فقط تاركا المهمة لآخرين في المجال الحقوقي". هذا الثقل الذي اكتسبه بعض المدونين في السنوات الماضية يعتقد البعض أنه يمثل نوعا من الحماية لهم، لكن محمد خالد "صاحب مدونة دماغ ماك" يقول : "لا أحد يضمن حمايته من أحد، حتى إن كنت عاملا في المجال الحقوقي، كل ما هناك هو أن سمعة بعض المدونات في كشف بعض التجاوزات الجسيمة وتسليطها الأضواء على قضايا جديدة من نوعها، قد رسخ مصداقيتها سواء في مصر أو في الخارج حين نتحدث عن تجربة المدونات المصرية". لا يخفي محمد خالد أن هناك من حاولوا ركوب هذه الموجة بحثا عن مكاسب، حسب تعبيره :"كان ممكن تلاقي واحد جاي بيقول أنا عايز أبقى مدون مشهور..!"، لكن هذا لم يمنع أن تقوم بعض المنابر الإعلامية وبيانات وزارة الداخلية بالتشكيك في مصداقية المدونات، بل تجاوز الأمر هذا الحد إلى أن تقوم بعض المدونات بهذا الدور الذي يشير إلى الاستفادة المادية التي قد يحصل عليها الشخص من سمعته كمدون، يعلق وائل عباس على هذه النقطة : "أنا مثال واضح على كذب مثل هذه الادعاءات، فالرد الوحيد هو أنني كان بإمكاني أن أحصل على دعم من أي مؤسسة حقوقية عالمية وافتتح مركزا أديره بنفسي، وهو ما فعله آخرون لم يحققوا ربع مصداقيتي أو يبذلوا الذي بذلته في السنوات الماضية، هذا إلى جانب ما أتعرض له من تضييقات أمنية أثناء أسفاري المتكررة". يختلف أداء مدون مثل وائل عباس في تعامله مع قضية نشر الكليبات التعذيب أو غيرها من المخالفات عن مدونات أخرى أكثر تخصصا في قضية التعذيب مثل مدونة "التعذيب في مصر"، فبينما يعلن هو وبعض زملائه عن هويتهم، اتجهت محررة المدونة إلى الاكتفاء باسم المدونة محاولة الابتعاد عن إعلان هويتها موضحة ذلك قائلة : " السبب في ذلك ببساطة هو إكساب المدونة مظهرا احترافيا، فالزائر لن يهتم بالناشر بقدر اهتمامه بالمادة المنشورة. في مدونة التعذيب في مصر كل ما تقرأه هو حصريا عن هذه القضية". تعتمد مدونة التعذيب في مصر على عدة مصادر مختلفة مثل : المنظمات الحقوقية، والإعلام، والمواقع والمدونات الموثوق فيها على الإنترنت، إلى جانب ما يرسله الضحايا أنفسهم، وتضيف محررة المدونة قائلة: "في البداية طبعا كان الأمر أصعب بكثير، لأن المؤسسات الحقوقية لم يكن لها تواجد كبير على شبكة الانترنت، ولم تولي الصحافة اهتماما كبير لقضية التعذيب قبل ظهور كليبات التعذيب، خاصة كليب عماد الكبير وتصعيد قضيته، لكن مؤخرا أصبح الأمر مجهدا فهناك كثير من المواد، وهو أمر يحتاج إلى تدقيق". على نفس درب "مدونة التعذيب في مصر" تأسس قبل أقل من أسبوعين موقع "التعذيب عندهم .. واحنا ضدهم" وهو يعتمد في عمله على نشاط مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب، حيث يبرز في أحد أركانه أرقام الخط الساخن لمركز النديم، إلى جانب إشارة من الموقع تحت عنوان " لو كنت مدون، تقدر تساعدنا أكثر" الذي يعتمد فها على التشبيك مع المدونين دعوتهم إلى رفع شعار الموقع الجديد في مدوناتهم، يوضح مصطفى حسين مدير الموقع : "هناك لدى الكثير من المدونين مهارات جيدة في صنع الأفلام إلى جانب رصد بعضهم لحالات تعذيب بعينها، وبصفة عامة يعمل الموقع تحت مظلة ما يسمى قوة العمل المناهضة للتعذيب وهي مجموعة من المنظمات الحقوقية و الأطباء والمحامين والصحفيين والمدونين يعملون ضد التعذيب ". حسبما يذكر مصطفى حسين فإن إنشاء الموقع كان مخطط له منذ فترة ولم يكن بسبب إثارة القضية مؤخرا بعد حادث الشاب السكندري خالد سعيد. بين أكثر من 14 مليون مستخدم للانترنت في مصر قد يتصادف أن يسجل أحدهم لقطة ترصد مخالفة من داخل خبايا المجتمع المصري، لكن هل سيجد مثل هذا المستخدم تأييدا أو أدنى اهتمام؟ يقول جمال عيد مدير الشبكة العربية لحقوق الإنسان : "دور الصحافة المستقلة أن ترصد مثل هذه اللقطات التي تكشف لنا عن مشاكل في المجتمع، وسأضرب مثالا بما حدث في دولة المغرب حين توالى نشر كليبات على موقع يوتيوب بواسطة شخص مجهول رصد فيها فساد بعض رجال الشرطة هناك، وأثار جدلا بعدها في الصحافة، أما في مصر فقد كانت قضية عماد الكبير هي النموذج الأهم في هذا المجال، الذي تسبب في عودة العدالة للمظلوم عن طريق نشر كليب فيديو في البداية".
PDF

Thursday, June 17, 2010

مصر هي أمي.. لكن تركيا جدتي

مصر هي أمي.. لكن تركيا جدتي

قد يجمعهما الأصل التركي الواحد والإحساس بالوفاء تجاه الجارة تركيا، إلا أن فارق السن والتجربة قد صنع رؤيتين مختلفتين تماما تجاه البلد نفسه.

كتب – عبد الرحمن مصطفى
لا يخفي أحمد لطفي – الصحفي بجريدة الأهرام الفرنسي – أنه ورث عن عائلته ذات الأصل التركي صورة دفعته إلى الاهتمام بالتجربة التركية في سن مبكرة. الجد الذي وفد إلى مصر في العام 1914 حاملا معه انكسارات الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وجد في القائد التركي مصطفى كمال أتاتورك الذي أسقط نظام الخلافة عام 1923 نموذجا جديدا للتغيير، وتعمد تسمية نجله "مصطفى كمال" تيمنا بذكرى القائد على غرار بعض المصريين في تلك الفترة. يقول أحمد لطفي الذي يجاوز اليوم السادسة والستين من عمره : "ورثت عن أسرتي هذا الإعجاب بتجربة تركيا نحو التحديث الأوروبي، وتطور الأمر معي شخصيا بعد قيام الثورة المصرية عام 1952 حين كنت أرى مصر تتجه نحو إنشاء دولة حديثة تسعي نحو نهضة حديثة". هذه الرؤية تختلف معها نهلة البدري- المعيدة بقسم اللغة الإنجليزية في جامعة القاهرة- التي ترى تركيا بعيون أبناء جيلها، لا يشغلها الحديث عن جدها ذو الأصل التركي لتتحدث كشابة في الثانية والثلاثين عن إعجابها بالتطور الأخير للتجربة التركية، و تقول : "أنا من جيل تأثر بكلام الداعية عمرو خالد عن المشروع الحضاري والتنمية، وأعتقد أن الأتراك قادمون بقوة فهم أمة ناهضة من مصلحتنا أن نساعدهم".
يختلف مفهوم النهضة الذي استخدمه كل منهما بين نهضة أتاتورك والنهضة الإسلامية التي يراهن عليها الجيل الجديد، و لا يخفى البعد السياسي وراء صورة التركي في كل رؤية. يرى الدكتور عاصم الدسوقي - أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب في جامعة حلوان – أن السياسة كانت أحد العوامل الهامة في رسم صورة الشخصية التركية في مصر بدء من صورة الحاكم المتغطرس انتهاء بصورة الصديق الجار المسلم، و يوضح ذلك : "تطورت الصورة بعد أن اندمجت كثير من الأسر التركية في مصر بعد إعلان الحماية البريطانية عام 1914 والقطيعة مع الدولة العثمانية ثم سقوطها، فاختفت صورة الحاكم الأعجمي البعيد عن الحياة اليومية المصرية، خاصة مع وجود زعامات وطنية ذات أصول تركية مثل الزعيم محمد فريد، لكن على جانب آخر فلنتخيل صورة تركيا حين كان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر يخطب ضد تركيا احتجاجا على تعاونها مع القوى الاستعمارية آنذاك. تلك الصور اختلفت مؤخرا مع صعود حزب العدالة والتنمية في تركيا ومواقفه المؤيدة لفلسطين وإظهار حسه الإسلامي". هذا التطور الأخير الذي يشير إليه الدكتور عاصم الدسوقي اجتذب شريحة من الشباب أعلنت دعمها لتركيا الجديدة، يتجلى هذا في عشرات العناوين من مجموعات الفيس بوك، إحداها تحت عنوان "Arabs and Turks meeting place" ( مكان تلاقي العرب و الأتراك) التي تشارك في إدارتها نهلة البدري مع أصدقاء مصريين وأتراك، وتم تدشينها بواسطة مجموعة متحمسة درست اللغة التركية في المركز الثقافي التركي وشباب تركي مهتم بالعالم العربي. لم تتولد هذه المحاولات من فراغ بل نتيجة حماس شبابي بدأ يزداد وتبرز مظاهره نتيجة مواقف تركية رسمية.
في بداية العام الماضي تناقل الشباب عبر شبكة فيس بوك الاجتماعية لقطة الفيديو التي انسحب فيها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان من إحدى جلسات مؤتمر دافوس بعد توجيه اللوم للرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز، وقتها تكونت مجموعات داعمة لأردوغان، أما لقطة الفيديو نفسها فزارها مئات الآلاف مثلما يشير عدد زوار إحدى نسخها الموجودة على موقع Youtube.com لتحميل لقطات الفيديو. الموقف نفسه تكرر مؤخرا حين تبدلت الصور الشخصية لحسابات بعض الشباب وحلت محلها صورة رجب أردوغان مرة أخرى مع الاعتداء على أسطول الحرية المتجه لدعم الفلسطينيين عبر البحر، وعاد الحماس لتركيا ورموز حزب العدالة والتنمية الحاكم هناك. قد يبدو أحمد لطفي بعيدا عن هذه الأجواء تماما في حديثه لكنه يعلم جيدا كيف تتحكم السياسة في صورة البلدان وهو ما عاشه بعد ثورة 1952، إذ يوضح : "كان التوجه العام في مصر معادي للأرستقراطية وأحيانا ما كان هذا يضايق العائلات ذات الأصول التركية رغم أننا في النهاية مصريون". ما يذكره أحمد لطفي عن التهكم على صورة التركي المرتبطة بعائلات الثروة والسلطة لم يكن مرتبطا فقط بالثورة المصرية، بل كان له بدايات سجلتها السينما المصرية قبلها بأعوام قليلة بين تقديم صورة الباشا المتكبر، وبعضها ظهر في شكل كوميدي مثل ما قدمه إسماعيل ياسين بشكل مباشر في فيلم "المليونير – إنتاج 1950". و أثناء تلك الحقبة التاريخية كان الصاخبون أحيانا ما يستعينون في هتافاتهم المعادية للملك فاروق بتعبيرات تربط بين تركيا وتدهور الحكم الملكي في مصر مثل نداء "إلى أنقرة يا ابن الـمرة"، رغم انفصال تركيا تماما وقتها عن المملكة المصرية، وهو ما كان استدعاء للصورة القديمة للحاكم التركي الأعجمي من الموروث الشعبي. يعلق الدكتور عاصم الدسوقي قائلا: "الوعي الشعبي لا يكذب، بل يستند إلى أصل حقيقي لا يمكن إنكاره، لكن هذه الصورة تظهر وتختفي حسب تطور العلاقات السياسية حتى بدأنا نلاحظ مؤخرا مع انتشار المد الديني ظهور اتجاهات في الكتابة التاريخية تحاول تجميل صورة الدولة العثمانية و تلقى قبولا لدى البعض من منطلق ديني دون التحقق من أخطاء العثمانيين وسقطاتهم". الاختلاف بين وجهتي نظر جيلين و رؤيتين مثل رؤية احمد لطفي المعجب بالتجربة التركية العلمانية ورؤية نهلة البدري الشابة التي تدعم الملمح الإسلامي الجديد لم يقتصر على من هم يراقبون من بعيد في مصر، بل هو صراع كبير تعيشه تركيا نفسها التي تتأرجح بين الاستيعاب والاستبعاد في علاقتها مع أوروبا. وفي دراسة نشرت على موقع قناة الجزيرة الإلكتروني يؤكد الدكتور إبراهيم البيومي غانم- خبير الشؤون التركية- أن هناك فريق من الأتراك يرفض الاندماج الحضاري في الغرب ويرى أن مستقبل تركيا يكمن في توجهها ناحية الشرق بدلا من الغرب، بينما هناك رغبة علمانية/أتاتوركية أقدم وأقوى تسعى إلى الذوبان في أوروبا والاندماج في حضارتها. هذه الحسابات لا يهتم بها الكثيرون في مصر، خاصة مع الاقتراب من تفاصيل الحياة التركية عبر وسائط أخرى مثل الدراما التركية وتأسيس قناة تركية ناطقة باللغة العربية. هذه الطرق الحديثة للاتصال مع تركيا لفتت انتباه أحمد لطفي إلى شيء مختلف كان يفتقده : " لقد قدمت هذه المسلسلات صورة النظام الاجتماعي للأسرة التركية التي كنا نراها في بيوتنا في الماضي، وقدمت صورة جديدة لحنين قديم"، أما بالنسبة لنهلة البدري فتذكر : "كنت مهووسة بالثقافة الأمريكية التي يقدمها لنا التليفزيون المصري.. أنا حاليا لا أستطيع أن أشاهد مثلا حلقة كوميدية من Friendsبدون أن أسمع تلميح خارج أو إباحي... هويتنا كمسلمين مهددة، على الأقل الثقافة التركية – رغم تأثرها بالغزو الأمريكي – هي ثقافة قريبة من ثقافتنا، وعلينا أن نركز فيها على ما ينفعنا". تختم جملتها وتقرر أن ترفع صورة جدها ذو الأصل التركي على حسابها في الفيس بوك، وهو ما لن يفعله أحمد لطفي الذي احتفظ بذكرى جده في قناعات خاصة به، إلا أن كلاهما يكاد يكون متفقا على أن هناك اهتمام متصاعد بالنموذج التركي سببه السياسة والدين.

**
لغتي الثانية.. تركي

قبل عام واحد فقط لم تكن هناك أي صلة تجمع كل من سارة أحمد وأنس باسم وحقي إسماعيل، اليوم تجمعهم زمالة دراسة الدبلومة الأمريكية في مدرسة صلاح الدين الدولية. في العام الماضي اجتذبهم خبر تأسيس أول مدرسة تركية في مصر واتخذ البعض تغيير مساره الدراسي تماما، سارة التي كانت طالبة في الصف الثاني الإعدادي العام الماضي بمدرسة سانت فاتيما للغات جذبتها التجربة الجديدة، وتعلق على ذلك قائلة : "انتقلت من دراسة الشهادة البريطانية ( IGCSE ) إلى دراسة الدبلومة الأمريكية هنا بعد مناقشة مع أسرتي، وكان دافعنا الأساسي هو ما تقدمه المدرسة من رعاية إسلامية إلى جانب الطابع الحديث للمدرسة".
في طرقات المدرسة لافتات لأسماء الله الحسنى، وعبارات إسلامية أعدها الطلبة تعبر عن الطابع المتدين الذي يحيط بالمكان رغم أن المظهر العام قد لا يختلف في مظهره كثيرا عن بعض المدارس الدولية الأخرى. الاختلافات الجوهرية تكمن في إمكانية اختيار اللغة التركية كلغة ثانية بديلة عن الفرنسية أو الألمانية، إلى جانب ما يتلقاه الطلبة من دروس في الدين والقيم. تعرفت سارة على زميلها الجديد حقي (الألباني الأصل) في فترة الصيف حين أقيم موسم " Summer school المدرسة الصيفية" الذي تعرف فيه الطلبة على أساتذتهم والمواد الدراسية الجديدة، أما أنس الذي تعرف على زميليه الجديدين من خلال دراستهما للغة التركية كلغة ثانية فكانت له وجهة نظر أخرى: "أحيانا ما يزور والدي تركيا بحكم عمله، أطمح أن أجيد التركية حتى أساعده في عمله بعد سنوات.. من يعلم؟"
تعمل أخته ياسمين معلمة بالمدرسة نفسها، وهي تنقل وجهة نظر الأسرة في تعلم ابنها التركية في هذه المرحلة المبكرة قائلة : "هناك مجالات قادمة للتعاون مع تركيا، وقد بدأ السوق المصري في استقبال شركات تركية بالفعل منذ سنوات، وأعتقد أنه في ظل التقدم التركي واهتمامنا بهذه التجربة ستكون اللغة التركية ميزة لمن يجيدها".
حسب إدارة المدرسة فإن الطلبة الأتراك لا يمثلون سوى نسبة 15% من أعداد الطلبة الملتحقين بها في عامها الأول والبقية من المصريين، وتشجع الإدارة أولياء الأمور على التعرف على اللغة التركية للمهتمين في فصول خاصة لهم. أما الأصدقاء الثلاثة فما زالوا في سن صغيرة وتجربة مبكرة حتى يقرروا إذا ما كان أحدهم سيتخصص في اللغة التركية. سارة أحمد ترى في تعلمها التركية كلغة ثانية ميزة جديدة إلى جانب اللغة الفرنسية التي تعلمتها في مدرستها القديمة، أما حقي إسماعيل فقد نقل دفة الحديث إلى تجربته في المسابقة التي أقيمت بين المدارس الدولية التركية في تركيا حين حصل على الميدالية الفضية في مسابقات تعتمد على إجادة مبادئ اللغة.
يرى الدكتور عبد المنصف مجدي بكر- أستاذ اللغة التركية بقسم اللغات الشرقية في كلية السن بجامعة عين شمس- أن النشاط الإعلامي التركي المزدهر في السنوات الأخيرة عبر المسلسلات والفضائيات وإنشاء فضائية تركية باللغة العربية كلها أمور بدأت تؤتي ثمارها في الاهتمام بدراسة اللغة، خاصة في أماكن مثل المركز الثقافي التركي، وهو ما قد يتيح فرص عمل بواسطة رجال أعمال أتراك أو في فرص عمل جديدة لم تكن متاحة من قبل مثل خدمة العملاء في شركات الاتصالات، يقول : "في العام الماضي تقدم إلى شعبة اللغة التركية عشرة طلاب فقط، ثم ارتفع العدد إلى ستين في هذا العام وهو ما يعطي مؤشرا على الاهتمام باللغة وما قد تتيحه من فرص". يأتي هذا التحول بعد أن بدأت شعبة اللغة التركية بعد تأسيسها في العام الجامعي (1990/1989م) بانضمام طالبة واحدة تعمل الآن ضمن طاقم التدريس الجامعي بالقسم، وعلى مدار العامين الأخيرين فقط شهد الدكتور عبد المنصف مجدي بكر تطور هذه "النزعة التركية" التي زادت من الإقبال على دراسة التركية بشكل عام في مصر.

تركيا قادمة عبر الفضائيات

"كنا منذ أعوام طويلة نتلقى رسائل كثيرة من مستمعينا الأفاضل يعبرون فيها عن رغبتهم في فتح قناة ناطقة باللغة العربية . فها قد تحقق حلمهم مع إطلاق قناة فضائية ناطقة باللغة العربية ". هذه العبارة الإعلانية سجلها موقع محطة "تي ار تي" التركية قبل ثلاثة أشهر ليعلن الخبر الذي انتظره الكثيرين "محطة تركية باللغة العربية". يرى مدير القسم العربي من القناة الذي يتابع تفاصيل العمل من اسطنبول أن الوقت ما زال مبكرا للحكم على مدى نجاح التجربة، لكن "المؤشرات طيبة" حسب تعبيره. سفر توران الذي يجيد اللغة العربية بطلاقة قال للشروق إن الرهان كان قائما على أمرين : الأول هو الأجواء السياسية التي قربت تركيا أكثر من العالم العربي نتيجة مواقف بعينها، وهو ما زاد الرغبة لدى العرب في التعرف على تركيا وإحياء الشوق للعلاقات المشتركة القديمة بين الطرفين، الأمر الثاني الذي يذكره توران هو أن التواجد التركي داخل الإعلام العربي عبر الدراما التقليدية قد زاد من تكثيف هذه المشاعر المتبادلة، خاصة أن تلك المسلسلات نقلت تفاصيل الحياة في البيت التركي، وأعادت الثقافة التركية إلى الأضواء.
لا يستطيع السيد سفر توران تقييم تجربة المحطة الناطقة بالعربية اعتمادا على مدة عمل تقارب الثلاثة أشهر فقط، و يعلق باقتضاب : "بعض البرامج حققت التقارب المطلوب والبعض لم ينجح وجاري تطوير مزيد من الأفكار". ما يطمئن مسؤولو القناة هو كم الإيميلات التي يتلقونها من الشباب عبر الموقع التي تحمل مشاعر طيبة لتركيا والمحطة، أما الصورة التي تراهن المحطة على تقديمها فهي صورة تركيا المنتمية إلى العالم العربي والاسلامي من خلال قناة ذات طابع عائلي تجمع بين الترفيه والثقافة والأخبار.. بعض البرامج اتخذت بالفعل طابعا مباشرا مثل "تعلم اللغة التركية"، و "وجهتنا تركيا" الذي يقوم بالتعريف بالأقاليم والمدن التركية المختلفة، إلى جانب فقرات تجمع بين المطربين العرب والأتراك في جلسات طرب، يقول سفر توران : "اعترف أننا تأخرنا في اتخاذ خطوة تدشين قناة ناطقة بالعربية طوال السنوات الماضية، خاصة حين نرى دولا لا يجمعها بالعرب أشياء مشتركة مثل الدين والتاريخ والثقافة وقد أسست أقساما عربية في فضائياتها، لكن في النهاية نحن لدينا هذه الميزة".

سلطنة عثمانلي

ما زالت صورة المطرب الجالس وسط أفراد "التخت الشرقي" مرتديا طربوشه الأنيق هي آخر ما تبقى من زمن "الطرب العثمانلي" القديم. يرى أحمد مصطفى- الأستاذ بمعهد الموسيقى العربية- أن هناك إسهامات أخرى للأتراك قد لا يشعر بها سوى المتخصص، وهو ما يوضحه قائلا : "هناك قوالب موسيقية تدرس في معاهد و كليات الموسيقى نادرا ما يعرفها المستمع العادي مثل : البشرف واللونجا وغيرها ألفها موسيقيون أتراك وما زال الطلبة يدرسونها حتى يومنا هذا!" . الصورة القديمة لمطرب التخت الشرقي صاحب الطربوش من أمثال عبده الحمولي وكامل الخلعي كانت تمثل اتجاها تركيا قديما يعتمد على التطريب بشكل كبير. ويوضح أحمد مصطفى رأيه بغناء كلمات وطنية على الطريقة التطريبية القديمة كي يعبر كيف قد لا يعبر الأداء عن المعنى، ثم يضيف موضحا: "النقلة الحقيقية التي كسرت الصلة مع الموسيقى التركية القديمة كانت على يد سيد درويش الذي اهتم بالتعبير عن المعنى من خلال الإيقاع والسرعة واللحن، وهكذا اتخذت الموسيقى المصرية المعاصرة طابعا جديدا تأثر بالموسيقى الغربية والموسيقى المصرية الخالصة". حسبما يؤكد أيضا فإن الصلات لم تنقطع تماما مع الموسيقى التركية، بدءا من الاقتباسات المتبادلة بين الفنانين في الجهتين انتهاء بملحوظة رصدها بحكم عمله كمعلم وعازف لآلة العود، حيث يذكر موضحا بمثال : "أصبحت هناك مدرسة تركية حديثة في العزف على العود تأثرت بالموسيقى الأوروبية، وتبناها عازفون شباب هناك، وقد لاحظت أن هناك عازفون مصريون بدؤوا في التأثر بهذه المدرسة ليعود النغم التركي مرة أخرى إلى الساحة وان كان لم يبلغ مدى اتساعه مثلما كان في زمن السلطنة التركية القديمة".

• أكلات مشتركة ومذاق مختلف

يظن البعض أن وجود بعض الأكلات المتشابهة بين المطبخين المصري والتركي مثل : الكشك، و المسقعة، و الشاورما، والشركسية، قد يعني بالضرورة تطابق المذاق، إلا أن مدحت المغربي مدير المطعم التركي بالقاهرة يختلف تماما مع هذه الفكرة قائلا : "أحيانا ما يأتيني زبون جديد ويطلب شركسية على أساس أنها الاسم الأقرب إلى أذهان المصريين عن الأكل التركي، فأسأله : هل أكلتها من قبل؟ فإن لم يكن قد أكلها في بيته – تبعا لأصوله التركية على سبيل المثال – فأرشح له طلبا آخر، أما إذا كان قد ذاقها فأقدمها له موضحا أنه سيتذوق طعاما تركيا مختلفا عما ذاقه من قبل هنا في مصر". في قائمة المأكولات أسماء قد يتعرف عليها الزبون المصري بسهولة مثل : الكبيبة، بابا غنوج، ورق عنب بالكوارع، شاورما باللحمة، لكن هناك أسماء اخرى قد تبدو مختلفة مثل : رول فيليه عثمانلي، دونر كباب، اسكندر شاورمة لحم. حيث يعتمد المطبخ التركي على "تتبيلته" الخاصة للتميز على بقية المطابخ.
في عام 1997 أسس مدحت المغربي المطعم التركي محددا رؤيته منذ البداية التي يوضحا قائلا : "كان الأسهل أن أؤسس كافيه أو مطعما تقليديا حيث أقدم الشيشة أو حتى المشروبات الروحية، لكن كان في رأسي صورة المطعم التركي المثالي الذي لا يفد إليه الزائر سوى للاستمتاع، مثلما كنت أرى ذلك أثناء فترة عملي في مطاعم تركية بالخليج أو أثناء زياراتي لتركيا". حول المطعم في حي المهندسين شبكة من مطاعم الوجبات السريعة التي تكاد تحاصره، وهي نفس المطاعم التي يعتبرها مدحت المغربي قد قتلت حس الاستمتاع بتناول الطعام لدى المصريين. يشغله هذا الأمر ليس فقط خوفا من المنافسة بل أيضا بحكم عمله كمحاضر في أحد المعاهد الفندقية. يعلق على ذلك بقوله : "أعترف أن هناك اتجاه أكبر للتعامل مع المطعم عبر خدمة توصيل الطلبات، لكن في النهاية ما أحققه في الحد الأدنى هو حرصي على تقديم المذاق التركي الأصلي". يذكر مدحت المغربي أن هناك "تتبيلة" خاصة هي التي تميز الأكل التركي تعلمها فريق العمل المصري في المطعم على يد طباخين أتراك عملوا في بداية تأسيس المطعم.. ثم بدأ الاعتماد على المصريين الحاليين لغلاء أجور الأتراك. لا يخفي مدحت المغربي أن اسم المطعم "أتاتورك" الذي يعني "أبو الأتراك" أحيانا ما جلب له تعليقات تتهمه بالعلمانية لسمعة الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك، بينما كان أساس اختياره هو معنى الاسم، تلك التعليقات لم تزعجه لرضائه عن وفاء زبائنه المحبين للمزاج التركي في الأكل وفي أجواء المطعم المصممة بزخارف وطريقة تركية تقليدية. يقول مدحت المغربي : "الاهتمام الأخير بالمسلسلات التركية أثر بشكل ما على اهتمام الزبائن، لكن ما يلفت نظري أنا في هذه المسلسلات وأدعو الناس إلى ملاحظته هو ذلك الاهتمام الواضح بجلسات الطعام داخل المجتمع التركي، وهي قيمة فقدناها إلى حد ما في مصر، وأرجو أن تعود مرة أخرى، وهذا ما أتمسك بتقديمه".

Wednesday, June 9, 2010

قلق المياه لم يغير الجميع

كتب – عبدالرحمن مصطفى
بحكم عمله كحارس عقار في عمارة مزدحمة بالسكان يداوم "ربيع" على أداء مجموعة من المهام اليومية على أمل أن يزيد دخله الشهري الذي لا يتجاوز المئتين جنيه، يبدأ بغسيل السيارات في الساعة السابعة صباحا ، لا يستخدم خرطوم المياه سوى حين يطلب صاحب السيارة لمزيد من النظافة والتلميع، أما الأداء العادي فيعتمد على جردل المياه والفوطة المهترئة. لا يعتبر نفسه مسرفا بأي حال في استخدامه للمياه يكتفي بذكر ملاحظة واثقة متسائلا: "من المسرف؟ انا ام الذي يرش المياه أمام المحل أو المقهى؟". القضية الكبرى التي انشغل بها الجميع مؤخرا عن مستقبل حصة مصر في مياه النيل لم تشغله، فمصاريف استهلاك المياه يدفعها اتحاد ملاك البرج السكني الذي يحرسه، حتى إن جاوزت الألف وخمسمائة جنيه شهريا، لا يواجه أي امتعاض من السكان سوى أثناء عملية تنظيف السجاد التي قد تمكنه من الحصول على مبلغ يتراوح بين الخمسين والمئة في المرة الواحدة، يعلق على ذلك : "نادرا ما يعترض السكان.. وفي حالة الاعتراض يكون السبب مشاكلهم الشخصية وليس قلقهم على حجم استهلاك المياه". من وجهة نظر الدكتور مصطفى عبدالعظيم فرماوي أستاذ تنظيم المجتمع بكلية الخدمة الاجتماعية في جامعة حلوان فإن القلق العام الذي ظهر مؤخرا بقوة في الإعلام والتصريحات السياسية حول مستقبل حصة مصر في مياه النيل خلق حالة لم تنعكس على سلوكيات الأفراد في المجتمع، معلقا على ذلك قائلا: "اللغة التي استخدمت في الفترة الماضية كانت مؤثرة في اتجاه مختلف، حيث دار الحديث عن حرب المياه وحقوق مصر التاريخية وهو ما شحن الناس في هذا الاتجاه الحماسي، لكنه للأسف لم يتم استغلال هذه الفرصة لتعديل سلوكيات الناس في تعاملهم مع المياه".
الحارس النشط "ربيع" يستهلك المياه بصورة يومية في أغراض التنظيف ويتحدث بضمير مرتاح عن أنه ليس مسرفا في استخدامه، يشير إلى الحديقة المجاورة التي يعمل على تنسيقها أحد عمال البلدية مقابل خمسين جنيها في الشهر، يقول : "إن كنا سنتحدث عن استهلاك كبير للمياه، فالحدائق المجاورة للأبراج السكنية تستهلك كما أكبر، ورغم شراء السكان لرشاشات ري تقليدية، إلا انني أعتمد في الري على غمرها بخرطوم المياه حسبما أصر عامل الحديقة والسكان". يرفض ربيع أي اتهام بالإسراف وفي ذهنه صورة الحقل الزراعي في قريته الذي يعتمد على مياه تقدر بأضعاف التي يستهلكها اليوم في عمله، حسب الأرقام المتداولة على ألسنة المسئولين في وزارتي الري والزراعة فإن حوالي 80% من المياه المستهلكة في مصر تذهب إلى الزراعة.. هذه الصورة يدركها الدكتور مصطفى عبدالعظيم فرماوي بحكم عمله أيضا كوكيل لشئون خدمه المجتمع وتنميه البيئة في كلية الحدمة الاجتماعية، معلقا على ذلك : "إذا ما أردنا أن نقدم أقتراحات عملية في هذا المجال فعلينا ألا نفوت فرصة القلق الذي حدث مؤخرا حول مستقبل المياه في مصر وأن نحوله إلى إجراءات تواجه الاستخدام غير الرشيد للمياه، أهمها نقل رسالة إعلامية مباشرة تواجه سلوكيات الإسراف، وتنشيط دور المجتمع المدنى في إدارة حملات لتغيير سلوك المواطن، كما يجب اتخاذ بعض الاجراءات القانونية مثل استصدار قرارات تجرم هدر المياه". يسجل الدكتور مصطفى ملاحظة هامة في هذا الشأن وهي أن المشكلة أكثر تفاقما في المناطق الريفية الزراعية نتيجة استمرار استخدام أساليب تقليدية في الري، وتحديدا أسلوب الري بالغمر. هذه الطريقة هي التي تسللت إلى سلوكيات ربيع وعمال الحدائق الخاصة تدفعهم إلى عدم الانشغال بكم المياه المستهلك في ري الحدائق فهي الطريقة الشعبية المعتمدة في مصر حتى الآن. رغم تلك الثقافة فهناك بعض من تمرد على هذا الوضع نتيجة تغير صورة المزارع في العقود الأخيرة، الدكتور أحمد عيسى الذي بدأ مبكرا في الثمانينات في استصلاح قطعة أرض ناحية وادي النطرون لم يكن اقتناعه بفكرة الري بالتنقيط لمجرد أنها أنسب وسيلة لتوفير المياه في مصر، بل لأن قواعد وزارة الزراعة كانت تفرض استخدام ميكنة حديثة في الزراعة والري، يصف هذا التطور بنفسه : "اليوم اعمل على ترويج الفكرة في مسقط رأسي في قلين بمحافظة كفر الشيخ، ونجحت في إقناع أبناء عائلتي في استخدام فكرة الري بالتنقيط لنفس الهدف". لم يكتفي أحمد عيسى بهذا بل بدأ في نشر مقالات على الانترنت عن فوائد استخدام الري بالتنقيط، والهدف الأسمى هو توفير مياه النيل، لكنه يذكر أسبابا أخرى : "أؤكد أن الري بالتنقيط بعد هذه الخبرة الطويلة هو الأفضل للمنتجات الزراعية في انتشار الكيماويات بشكل سليم". مشاكل استنزاف مياه النيل في الزراعة حسبما يراها أحمد عيسى الذي عاش في بيئتين زراعيتين مختلفتين، حيث الريف التقليدي ثم اراضي الاستصلاح الزراعي تتفاقم لأن الحياة في الريف تم تنظيمها وتخطيطها على الري بالغمر واستنزاف مواردنا من المياه منذ ألاف السنين. كما ان الصلة تكاد تكون مقطوعة بين من لا يشغلون بالهم بقضية إهدار المياه في تنظيف أو زراعة أو رش المياه وقت الظهيرة، وبين متخصصين لا يجدون المساحة الكافية لنشر دعوتهم في مواجهة هذه الظاهرة.

Monday, June 7, 2010

المذاكرة الجماعية

لا سبيل سوى التضامن في وجه الامتحانات
كتب – عبدالرحمن مصطفى
أمام كمبيوتر شخصي تجلس مجموعة من الشباب محدقين في الشاشة حيث تظهر صورة تمثال من العصر القديم، يبدأ الجميع في إطلاق تعبيرات من نوعية "انسيابية الشكل"، و"البؤرة البصرية" وذلك أثناء تعليقهم على صورة العمل الفني، جميعهم من طلبة السنة الأولى في المعهد العالي للنقد الفني بأكاديمية الفنون، في فترة الامتحانات يديرون يوميا مجموعة للمذاكرة استعدادا لكل امتحان. في داخل المشهد الذي يضم الجميع في كافيتيريا معهد الفنون الشعبية المجاور يطرح أحمد طارق الجالس إلى جوار الكمبيوتر سؤالا.. "شايفه إيه يا مصرية؟؟" موجها سؤاله إلى زميلته مصرية بكر، ثم يدور السؤال بين أفراد الدائرة بهدف التحريض الذهني على النقد وإبداء الآراء، وهكذا الحال مع كل مادة. توضح مصرية بكر طريقة مذاكرتهم بقولها: "كلنا خضنا تجربة الدراسة في كليات من قبل، أنا على سبيل المثال كنت أكتفي بالملازم وحضور محاضرات في مراكز خاصة قبل امتحاناتي في كلية التجارة، لكن الواقع هنا مختلف.. نحن ندرس 18 مادة تعتمد على النقد وعرض وجهة نظرك، وعلى حضور ذهنك". تكونت هذه الجلسة قبل امتحانات الترم الأول وآتت ثمارها ما دفعهم إلى استكمالها في الترم الثاني خاصة مع توطد علاقات الصداقة طوال الأشهر الماضية، تلوح مصرية بذراعيها في أداء استعراضي انتزع ابتسامات زملائها "أنا على سبيل المثال محبة للباليه والرقص، هذا هو دوري في التحدث عن هذا الفرع قبل امتحان المادة، بينما يقوم أحمد اليوم بتناول أعمال تشكيلية بحكم اهتمامه الصارخ بهذا المجال".
الاختلاف الذي يميز هذه المجموعة في أكاديمية الفنون عن أي مجموعة دراسية أخرى في مراحل التعليم المختلفة أن أغلبهم حاصلين على شهادات جامعية بالفعل من جامعات مختلفة، بل وخاص بعضهم تجربة المذاكرة الجامعية من قبل. "ريّان" حسبما يناديه أصدقاؤه هنا كان طالبا أزهريا لسنوات وانتقل من جامعة الأزهر إلى المعهد مؤخرا وحسب تعبيره : "لم أعرف وسيلة للمذاكرة طوال حياتي قبل الامتحانات سوى المذاكرة الجماعية، كنا نقسم المنهج علينا ويشرح كل واحد جزء، لكن الآن الوضع مختلف، نحن نتبادل الآراء، ولا نحاضر لبعضنا البعض". زميله حسن سعيد الذي خاض تجربة أكثر تميزا في الحصول على شهادته الجامعية من خارج مصر ألقى بتعليق متهكم قائلا :"أنا عن نفسي دي أول سنة أذاكر فيها أصلا"، لا يخفي حسن لغته الساخرة أثناء المذاكرة تخفيفا من حدة توتر الامتحانات المتلاحقة، حيث يمتحن الطلبة يوميا عدا يوم الجمعة . أثناء الجلوس بين أفراد المجموعة وأثناء طرح تحليلاتهم النقدية وتبادل الآراء والمعلومات يمكن ملاحظة تقسيم الأدوار التي تبناها كل فرد في هذه "الشلة" بدء من شراء "الكشري" وقت الغداء، مرورا بالدعم النفسي لمن يمر بالضيق، انتهاء بكتابة المادة العلمية على الكمبيوتر، هذا التآلف يخفي تفاصيل أخرى حول تجربة المذاكرة في مجموعة كهذه، فبين صخب المجموعة تجلس هداية في ركن مبدية بعض التحفظ قليلا والمشاركة الجادة في فترات أخرى، قبل انضمامها إل المعهد حصلت على ليسانس الآداب في اللغة الانجليزية بعد أربع سنوات دراسية لم تعرف فيها فكرة الدراسة في مجموعات، وتعلق هداية على ذلك بقولها : "بصراحة.. كنت أفكر في عدم إكمال الدراسة مع المجموعة، لأني لم أكن معتادة على الفكرة، كما أن كل شخص منا في النهاية سيكتب رأيه هو، لا أجد ميزة سوى تبادل المعلومات، والتدريب الذهني الذي نمارسه هنا، وهو أهم جزء في دراستنا".
المذاكرة في مجموعة حسبما ترى الدكتورة سهير الجيار- أستاذ أصول التربية بكلية البنات جامعة عين شمس – فكرة لا تصلح إلا في فترات التحصيل النهائي للمراجعة وتبادل وجهات النظر والمعلومات، وتضع الدكتورة سهير الجيار بعض القواعد التي قد تسهم في إنجاح المذاكرة الجماعية، تقول : "يجب ألا يزيد عدد أفراد المجموعة عن أربع أفراد منعا للتشتت، كذلك فهي ممارسة قد لا تصلح في كافة التخصصات حيث لا بد أن يكون التخصص الدراسي معتمدا على فكرة النقاش وعرض وجهات نظر مختلفة". أما النقطة التي رأت أنها قد تعيق عمل المجموعة بشكل مباشر فهي اختلاف سمات الشخصية لدى المشاركين حيث توضح : "قد تضم المجموعة الكسول، والانطوائي والأناني، كل هذا قد يعرقل عمل المجموعة، خاصة أننا لسنا هنا تحت إدارة شخص تربوي متخصص يقيس هذه الأمور ويحاول علاجها". هذه الملحوظة الأخيرة أكدها أعضاء مجموعة معهد النقد الفني فإلى جانب وجود عوامل تجمعهم، فهناك من لم تعجبه الفكرة وهناك من كان يطمح في تحضير ملخصات جاهزة، وهو ما حاول "ريّان" شرحه: "لاحظت شيء مؤسف بين الطلبة الآن، وهي .. النفسنة، بصراحة هناك من يحاول إحباطك والتقليل من محاولاتك في الاجتهاد، بل وتدمير نفسيتك قبل الامتحانات، ولا أعرف ما سبب هذا؟" بعض الطلبة يمرون حول المجموعة ليستمعوا دون أن يشاركوا، والمشاكل الأخرى تذكرها هداية التي تكتشف أن البعض يحاول تبديل أماكن الكتب في المكتبة كي يضلل زملاؤه، هنا تتحول هذه المجموعة إلى ما يشبه مجموعة الدعم وليست فقط مجموعة مذاكرة تجتمع في الامتحانات، توضح مصرية ذلك : "احنا في النهاية أصحاب، بنروح سينما مع بعض، وناكل، ونخرج، ونذاكر مع بعض". أحيانا ما تنتقل جلسات المذاكرة إلى منزل حسن سعيد حيث يستضيف "ريّان"، وأحمد طارق، بينما يتواصلون مع مصرية وهداية على الانترنت، حيث يسمح الماسنجر بصنع اجتماع افتراضي على الانترنت، وهنا تظهر مهارة حسن في عرض ملفات موسيقية على الجميع عبر الانترنت، ويبدأ في تحليلها معهم، لأنه الأكثر اتصالا بعالم الموسيقى.
هذه المجموعة التي جمعتها الامتحانات أصبحت حاضنة لمجموعة من محبي المسرح والأدب والموسيقى والفن التشكيلي، تركوا شهادتهم التقليدية وأصروا على البحث عما يحبونه في معهد النقد الفني.

عادات وتقاليد المذاكرة
منبهات وقهوة
"ممكن أشرب خمس كوبايات قهوة في يوم واحد" الجملة لفاروق عادل طالب الفرقة الأولى بقسم الإعلام في جامعة حلوان، لا يخفي أن أسرته تقف ضد فكرة تعمد السهر بشرب القهوة والمنبهات لكنه يقول : "لم يعد لدى بدائل". قبل عام واحد فقط كان فاروق عادل طالبا في الثانوية العامة ودشن مدونة تحمل تفاصيل حياة طالب ثانوي، يقول اليوم : "ورثت عن هذه الفترة فكرة الانقطاع عن النوم لعدة أيام وأتذكر أنني خسرت الكثير من الدرجات في امتحان الرياضيات بسبب عدم التركيز وقلة النوم"، اليوم الوضع مختلف عن المرحلة الثانوية، حيث لا يعرف كثيرا عن المنهج و"الأجزاء المحذوفة" و"الأجزاء المهمة" سوى قبل الامتحانات بأسبوعين وهو ما يراه أصعب قليلا عن وضوح المرحلة الثانوية، لا يخفي فاروق أن هذه الأجواء القلقة قد تدفعه إلى القهوة والمنبهات رغم تجربته المؤلمة في الثانوي.

الملخصات هي الحل
إبراهيم محمد طالب الفرقة الثالثة بحقوق عين شمس تختلف عاداته بحكم اختلاف نمط حياته حيث يعمل في متجر أسرته طوال السنة، لا يظهر حول الجامعة سوى قبل الامتحانات بأسابيع قليلة، يقول : "أحصل على المذاكرات، وأعرف المنهج، وأجلس مع أصدقائي للمذاكرة سويا"، في أوقات الامتحانات يكون حسب تعبيره "أكثر هدوءا عن بقية الطلبة حيث أن متحقق بالفعل في عمله" حتى مع قلة النوم، بل يكون أكثر ثباتا و"شياكة".. لأنه لا يجد داعي للقلق

المذاكرة في السرير
من الصعب الوصول إلى تفاصيل عادات المذاكرة إلى الدرجة التي حققتها شبكة فيسبوك الاجتماعية حيث كانت متنفسا لهؤلاء الذين أرادوا أن يشاركوا الآخرين هذه الجزئية من حياتهم، في إحدى صفحات الإعجاب في الفيسبوك انضم أكثر من 2700 شخص تحت هذا العنوان: المذاكرة في السرير ♥ I Love Studying In Bed ♥، الصفحة التي دشنت قبل ثلاثة أشهر فقط اعتمدت على توجيه رسائل ساخرة في فضل المذاكرة في السرير، وصور على نفس النمط اجتذبت تعليقات المجهدين من المذاكرة، أحدهم يقول ساخرا : "فعلا المذاكرة كأن فيها تنويم مغناطيسي"، ومع قرب الامتحانات أصبح مدير الصفحة المجهول أكثر جدية حيث كتب في واجهة الصفحة دعاء تقربا إلى الله.. وفيما يبدو أن تجربة المذاكرة في السرير لم تكن مجدية معه ولم يعد يجوز عليه الآن سوى الدعاء

حلاقة الشعر
قبل أسابيع قليلة فقط كان أيمن طالب الصف الثالث الثانوي - في إحدى المدارس الخاصة - محافظا على قصة شعره التقليدية "سبايكي"، لكن على مدار الأسابيع الماضية تحولت القصة التي أهمل العناية بها إلى كرة شعر كبيرة يحملها على رأسه في حاجة إلى حلاقتها، يقول بوضوح : "مش هحلق إلا بعد الامتحانات"، المفارقة أن بعض أصدقائه لم يختلف مظهرهم، ومنهم من احتفظ بطريقة حلاقة شعره نمرة 1 دون أي تأثر بالامتحانات.

الأكل الكتير
في صفحة "لكل اللى بياكلو كتير أيام المذاكرة" كانت رسالة مؤسس الصفحة واضحة في الآتي : " احنا لاحظنا إن أيام المذاكرة بناكل كتير.. فقولنا نعمل البيدج دى نشوف كام واحد زينا... انت بتاكل كتير ايام المذاكرة؟". الحصيلة النهائية لهذه الصفحة هي حوالي 230 مشترك، بعضهم سجل تعليقاته على الفكرة وعلى عادة "الأكل المفرط" أثناء المذاكرة، تعلق إحداهن "أنا بفش خلقي في الشيبس والشوكولا"، ولا تخفي صورتها ملامح البدانة، بينما يدخل بعض المرور لتسجيل حالته الآن وماذا يأكل