Saturday, January 11, 2014

الناس والدستور في بولاق الدكرور

- في الشارع مواطنون اختاروا "نعم" دون قراءة وآخرون اعتزلوا السياسة
- السؤال الشهير : هل ستتغير حياتنا بعد الاستفتاء ؟

بإمكانك أن تخوض التجربة مع من حولك، أن تختار مادة من مواد الدستور الجديد الذي سيستفتى عليه في 14 و15 يناير الجاري، ثم تبدأ في المناقشة، و تتلقي ردود الأفعال .. قد تجد من بدأ في الأهتمام، وآخر يطلب منك نسخة من الدستور لقراءتها، وهناك من سيواجهك بإحباط ولا مبالاة . ذلك ما حدث في هذه الجولة بين شوارع حي بولاق الدكرور، على اختلاف الشرائح التي تقطن هذا الحي.

كتب – عبدالرحمن مصطفى

المشهد الأول
مواطن امام بالوعة

في موقع قريب من نهاية شارع ناهيا في حي بولاق الدكرور، وبمحاذاة الطريق الدائري مباشرة، كان المشهد كالتالي، شاب يجلس جوار تل من القمامة، وأمامه حفرة واسعة يتضح فيما بعد أنها بالوعة تم إنشاءها قبل أيام، جلس الشاب في هذا المكان في انتظار تجهيز "غطا البلاعة"، تحسبا من أن يقع طفل صغير في هذه الحفرة . "التفاصيل كلها عند ورشة الحدادة اللي في الشارع الجاي ..". وبكل زهد يرفض الشاب التحدث عن الدستور أو عن الاستفتاء القادم، إذ كان لديه أمور أخرى تشغله على رأسها انتظار "غطا البلاعة".
تأسست هذه الناحية من بولاق الدكرور بشكل عشوائي دون الالتزام بقواعد في البناء أو بخطط في تقسيم الحي، وهو ما نتج عنه مشاكل في خدمات الصرف الصحي، تزداد كلما ازداد عدد المنازل المتجاورة، وطوال السنوات الماضية كان المشهد التقليدي هو ظهور برك من مياه الصرف الصحي، ما أضر سكان هذه الناحية .. ورغم هذه الظروف البائسة التي مروا بها، إلا أن عددا منهم لم يبد اهتماما حين قرأت لهم المادة رقم 46 التي جاء فيها : "لكل شخص الحق في بيئة صحية سليمة، وحمايتها واجب وطني. وتلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للحفاظ عليها، وعدم الإضرار بها .." .

المشهد الثاني
عند ورشة الحدادة

في شارع أنور صديق المتفرع من شارع جمال عبدالناصر حيث تقع ورشة الحدادة التي تحدث عنها الشاب المنتظر جوار بالوعة الصرف، كان العمال يجهزون "غطا البلاعة" المرتقب، لإنهاء مشروع تصدى له الأهالي لتجديد شبكة الصرف الصحي هناك.
"ببساطة اجتمع سكان الشارع بعد صلاة الجمعة قبل شهور، وقرروا تجديد الصرف الصحي، وتكلف كل بيت حوالي 3000 جنيه، وكلفوا مقاول خاص بهذه المهمة ". الحديث هنا لمحمود الصادق الذي جاوز السادسة والستين و يشرف على العمال في تلك الورشة، وحين عدنا إلى المادة 46 الخاص الخاصة بالبيئة الصحية السليمة وعن موقفه من الاستفتاء على الدستور القادم، قال : "سأنزل وأصوت بنعم .. "، لم يكن ذلك نتيجة اهتمامه بمواد الدستور، فوجهة نظره أن اكتمال مؤسسات الدولة هو البداية، وفي النهاية يمكن للناس محاسبة الدولة.
في طريق العودة إلى شارع ناهيا بمحاذاة الطريق الدائري، ينخرط عمال الصرف الصحي الحكوميين في محاولة أخرى لتحسين وضع النفق أسفل الدائري الذي امتزجت فيه القمامة بمياه الصرف.. فيما مضى كانت هذه المنطقة تنقسم إلى مزارع ذات طابع قروي، قبل أن تتلاشى الأراضي الزراعية، ولا يتبقى سوى مساحات خضراء نادرة، في مربع مزدحم بالسكان.
المشهد الثالث
المزرعة المحاصرة

على بعد حوالي 300 متر من تقاطع شارع ناهيا مع الطريق الدائري السريع، تقع مزرعة وحيدة وسط حصار من المنازل المبنية بالطوب الأحمر والعمارات السكنية الكبيرة، حيث يجلس إبراهيم فوزي الشاب العشريني وسط هذه المزرعة الباقية، ويبدأ حديثه قائلا: " لم أقرأ الدستور، معك نسخة ..؟" كانت أقرب المواد إلى مجاله في الزراعة هي المادة رقم 29 التي جاء ضمنها أن : " تلتزم الدولة بحماية الرقعة الزراعية وزيادتها، وتجريم الاعتداء عليها، كما تلتزم بتنمية الريف ورفع مستوي معيشة سكانه وحمايتهم من المخاطر البيئية، وتعمل على تنمية الإنتاج الزراعى والحيوانى، وتشجيع الصناعات التي تقوم عليهما. وتلتزم الدولة بتوفير مستلزمات الإنتاج الزراعى والحيوانى".
بعد أن اطلع على نسخة من الدستور وقرأ المادة باهتمام عاد ليعلق قائلا: "هذه الأرض لا تحصل على سماد مدعم لها، والسبب بسيط وهو أن الجمعية الزراعية التي كانت تتبعها هذه الأرض قد أغلقت أبوابها منذ فترة طويلة، حيث كانت في منطقة زنين المجاورة، التي تحولت هي الأخرى إلى منطقة سكنية، لذا نشترى المستلزمات الزراعية بسعر السوق". هذه الأرض الزراعية باقية بناء على رغبة مالكها، بينما يعمل أحمد فوزي كعامل يزرع أنواع مختلفة من الخضروات، خس ،جرجير ، لفت، وتباع لتجار السوق المجاور.
تأسست منطقة بولاق الدكرور في الأساس كغيرها من المناطق ذات الأصول الزراعية بفكرة البناء فوق الأراضي الزراعية، وحسب بيانات محافظة الجيزة فقد زاد عدد سكان بولاق الدكرور من 197000 نسمة سنة 1976 إلى أكثر من 500000 نسمة سنة 2003، وهي الفترة التي تضخم فيها الحي بسبب البناء العشوائي، أما الآن فيصل عدد السكان إلى حوالي 850 ألف نسمة، وقد تتكرر نفس تلك القصة في أماكن أخرى خارج محيط العاصمة، إذ سجلت وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي في تقرير نشر لها مؤخرا أن ارتفاع إجمالى حالات التعدى على الأراضى الزراعية منذ 25 يناير 2011 وحتى 9 ديسمبر 2013 وصل إلى معدل 942 ألفا و790 حالة تشمل مساحة 40 ألفا و354 فدان ، وذلك في كافة انحاء الجمهورية.
أما بالعودة لأحمد فوزي العامل الزراعي الذي اختار العمل في هذه المزرعة المتبقية في بولاق الدكرور، فهو يعلم بحكم انتمائه إلى قرية "قنبرة" المجاورة أن الفلاح لا يكتفي فقط بما يحصل عليه من مستلزمات زراعية مدعومة من الحكومة وأن الأمر مكلف، والزراعة أحيانا ما تكون مغامرة.
يشير إلى أطراف المزرعة الصغيرة حيث بقايا أشجار تهاوت بعد أن تسربت إليها مياه الصرف الصحي من إحدى العمارات السكنية المجاورة، وهو ما دفع مالك المزرعة إلى بناء سور محكم حول أرضه، التي تقاوم وسط مجتمع رفض الزراعة قبل سنوات طويلة.
وأثناء الحديث مع العامل الزراعي أحمد فوزي حول الدستور، كان صديقه أحمد الشريف الذي يعمل في ورشة النجارة المجاورة قد أعجبته فكرة البحث عن مادة قريبة من عمله، فسأل : "هل فيه مادة تخص التأمين على العاملين؟". يعمل احمد الشريف بلا عقد أو ضمان اجتماعي، وهي الحالة التي تعرضت لها المادة 17 في نص يقول "لكل مواطن لا يتمتع بنظام التأمين الاجتماعى الحق فى الضمان الاجتماعى، بما يضمن له حياة كريمة، إذا لم يكن قادرًا على إعالة نفسه وأسرته، وفى حالات العجز عن العمل والشيخوخة والبطالة. وتعمل الدولة على توفير معاش مناسب لصغار الفلاحين، والعمال الزراعيين والصيادين، والعمالة غير المنتظمة، وفقًا للقانون". ورغم وجاهة هذه المادة إلا أن ما تذكره هنا من نصوص قد لا يوفر لهذه الفئات إلا معاش لا يجاوز 200 جنيه في أقصى تقدير.
المشهد الرابع
شارع زحمة
حين نترك هذه الناحية من بولاق الدكرور ونسير مع شارع ناهيا في اتجاه شريط القطار، تزداد كثافة الباعة الجائلين، وعربات "التوك توك"، ووسط هذا الزحام تتبدل ردود أفعال الباعة عند الحديث معهم عن الاستفتاء على الدستور، بين من يقول "هو الدستور بيقول إيه؟ كله حبر على ورق" و آخر يرى أن السيسي سيضبط إيقاع البلد بعد الاستفتاء على الدستور، وهناك من اعتبر أن مجرد الحديث عن الدستور وسط شارع مزدحم وصخب المارة هو نوع من الاستهزاء به.
كانت هذه المنطقة تحديدا قد شهد قبل سبعة أشهر تقريبا، قيام مديرية أمن الجيزة بحملة علي شارع ناهيا ما زال بعض الباعة يتذكرونها حتى اليوم، حين كان الهدف إزالة تواجد الباعة الجائلين تماما من المنطقة، لكن الأمور عادت إلى طبيعتها فيما بعد.
"أذكر أننا حاولنا وقتها النزول لإقناع الباعة الجائلين بضرورة إيجاد حل لمشكلة تضييقهم الشارع، وكانت ردود الأفعال عنيفة، وغير متوقعة .. وللآسف أن التواصل مع السلطات لم يكن مفيدا في أي مبادرة نطرحها". الحديث هنا لمحمد مجدى أمين حزب مصر القوية في بولاق الدكرور، الذي كان يتابع قبل أيام حادث القبض على عدد من أعضاء حزبه أثناء توزيعهم منشورات تدعو المواطنين للتصويت بلا على استفتاء الدستور.
لا تبدو الصورة متفائلة في حديثه، إذ أن مجرد فتح النقاش حول المادة 244 من مشروع الدستور التي تتعرض لفئة السياسيين الشباب، تنقلنا إلى مشاهد أخرى قد يعانيها الناشط السياسي في حي مثل بولاق الدكرور، وتنص المادة 244 على أن تعمل الدولة على تمثيل الشباب تمثيلاً ملائماً في أول مجلس للنواب يُنتخب بعد إقرار هذا الدستور وفقا للقانون. هذه المادة لم تكن مبهرة لعدد من النشطاء السياسيين المنتمين إلى حي بولاق الدكرور، إذ اعتذر أحد المنتمين إلى حزب الدستور عن التعليق على الدستور أو هذه المادة تحديدا، معللا ذلك بأنه قد ابتعد عن السياسة مؤخرا، وآخر منتمي إلى حركة 6 إبريل رفض التعليق على أي من مواد الدستور، في حين يرى محمد مجدي الذي تبنى حزبه -مصر القوية- مقاطعة الاستفتاء ، أن الحالة في هذه المادة، قد تخدم النظام القديم بشكل أو بآخر، كيف ؟ يعرض ذلك قائلا: "أذكر في الانتخابات البرلمانية السابقة كيف حاول أعضاء الحزب الوطني المنحل أن يصنعوا تحالفات وبدائل لهم ، أعتقد أن التزام الدولة بتمثيل الشباب قد تفيد شاب له ولاء لبرلماني سابق في الحزب الوطني". يتحدث محمد مجدي دون أن يخفي أن منطقته تكاد تكون خالية لعودة أعضاء برلمان 2010 ، وغياب شباب الثورة من المشهد.
المشهد الخامس
المقر السابق لحزب النور
تكفي جولة بين الشوارع الرئيسية في بولاق الدكرور، حتى نتفهم نبرة الإحباط التي يتحدث بها بعض النشطاء الشباب داخل الحي، ففي الناحية الأخرى من الكوبري الخشب، كان يقع حزب النور السلفي، اليوم حين تسأل المواطنين من أبناء نفس المربع، تجدهم لا يعرفون أين انتقل المقر الجديد، بل إن بعضهم لم يكن يعلم مكانه القديم قبل أن يخلي مقره قبل عدة شهور، في حين أن هناك لافتة تتصدر الشارع الرئيسي لعضو سابق في الحزب الوطني، وقد ظلت تلك اللافتة على حالها وكأن انتخابات العام 2010 كانت بالأمس، أما إذا انتقلنا مرة أخرى في منطقة شارع 6 أكتوبر قرب نهاية شارع ناهيا، سنجد مقرا لخدمة المواطنين لسيد المناعي أحد الوجوه المعروفة التي كانت تنفق بذخ على انتخابات 2010. كل هذه المشاهد تجعل المادة 244 التي تخص الشباب العاملين في السياسة غير ذات قيمة في مجتمع بولاق الدكرور التي يتوقع أن يعود إلى قبضة أبناء النظام القديم.
أما في الطريق أسفل محور صفط اللبن، فتبرز بقايا لافتات لمتنافسين من عهد الحزب الوطني، ما زالت كما هي، دون تغيير، وفي الجهة الأخرى تقع منطقة أبو قتادة التي تدخل هي الآخرى في زمام بولاق الدكرور، هناك شريحة أخرى من الشباب السلفي وقد اعتزلوا الشأن السياسي بأكمله، أحدهم ينتمي فكريا إلى الدعوة السلفية، وهي نفس مرجعية حزب النور السلفي، أكد أنه لم يقرأ الدستور، بل يرفض الحديث عنه، لكن حين عرضت عليه المادة رقم 7 التي يمكن لها أن تكون مهمة بالنسبة إليه بحكم نشاطه الدعوي، كان رده أنه سيعمل بالدعوة في الحدود المسموح بها، حتى لو فرض عليه أن يدعو آل بيته فقط، وكانت المادة 7 تنص على أن الأزهر الشريف هو المرجع الأساسى فى العلوم الدينية والشئون الإسلامية، ويتولى مسئولية الدعوة ونشر علوم الدين واللغة العربية فى مصر والعالم . وهو ما قد يهم أحد العاملين في مجال الدعوة بعيدا عن الأزهر ومنهجه.
في الناحية المقابلة من عزبة أبو قتادة تقع مستشفى بولاق الدكرور العام، في داخلها يعيش مجتمع صغير من الأطباء، يواجه مواقف يومية بعضها يصل إلى درجة أن يتعرض لاعتداء أهالي المرضى بسبب تدهور الخدمة، أو ظنونهم حول أن الأطباء يتكاسلون في خدمتهم. وفي يومي 1 و 8 يناير الماضيين شارك أطباء هذه المستشفى مع مستشفيات عديدة حول الجمهورية في إضراب جزئي، ما كان له ردود أفعال لدى بعض المواطنين في المناطق المجاورة من بولاق الدكرور.
المشهد السادس
المستشفى العام
وفي إحدى ساحات المستشفى تقف مجموعة من الأطباء في نقاش جانبي، شاركوا في الإضراب الأخير، بعضهم موافق على مواد الدستور وآخرون يرفضون المشاركة في الاستفتاء بسبب احباطهم من الحالة العامة في البلاد. على سبيل المثال فإن الطبيب الشاب عزت عطية من قسم الأطفال، قد بدأ حديثه قائلا: "المشكلة ليست في الدستور، المشكلة في تطبيق القوانين التي تخرج من عباءة الدستور، ثم هل تكفي نسبة 3 % من الناتج القومى فقط لإنفاقها على الصحة حسب هذا الدستور؟". يقضي أغلب هؤلاء الأطباء سنوات العمل الأولى من أجل الحصول على لقب أخصائي، على أمل افتتاح عيادة خاصة ، أو حتى السفر إلى الخارج .. ومن أحد أسباب الإضراب هو تدني أجور الأطباء الشبان، إلى جانب غياب المستلزمات الطبية في بعض حالات الطواريء، ما يستدعي نقل المريض إلى مستشفى أخرى . "أحيانا ما يأتينا مريض وهو يحتضر بعد جولة على مستشفيات عاجزة عن تقديم الخدمة الطبية.. إضرابنا من أجل المريض والطبيب معا". يستكمل الدكتور عزت عطية وزملائه الحديث. وحين أنقل إليهم عبارة من نص المادة 18 تقولأنه : " يجرم الامتناع عن تقديم العلاج بأشكاله المختلفة لكل إنسان فى حالات الطوارئ أو الخطر على الحياة.". يأتي الرد سريعا من الجميع، الاضراب ليس امتناعا عن تقديم خدمة الطواريء أو ما تمثل خطرا على الحياة، كافة الأقسام من هذا النوع تعمل طوال فترة الاضراب. وفي خارج المستشفى مدرعة وجنود متراصين لحماية المكان، أما في بقية بولاق الدكرور، فتسير الأمور كما اعتاد أهلها أن تسير، إما بالحلول الجماعية أو بالإنصياع لصوت السلطة أحيانا، وتبقى مواد الدستور حائرة، بين من لم يقرأ وقرر أن يصوت بنعم، ومن اختار المقاطعة، وآخر متحمس لاستكمال خطوات خارطة الطريق.