Tuesday, January 24, 2012

الشعار الخفى للثائرين: معا ضد الأبوية


«زي والدك» آخر قشرة تحمى الديكتاتور فى مواجهة «الأبناء الثائرين» .. إن كنت «إخوانيا».. فلا تجادل ولا تناقش .. وإن كنت طالبـًا جامعيـًا «لا تغضب من أستاذك حين يستعيلك».. وحين تكون فى الكنيسة «لا تهتف ضد العسكرى»

فى مساء 10 فبراير من عام 2011 ألقى مبارك خطابه الأخير، مفتتحا عباراته بقوله: «أتوجه إليكم جميعا بحديث من القلب، حديث الأب لأبنائه وبناته». ورغم أنه تنحى عن الحكم فى اليوم التالى إلا أن تلك النبرة الأبوية مازالت أصداؤها مستمرة على مدى عام كامل فى الإعلام والسياسة، فبعد أن اختفى مبارك ظهر إعلاميون وسياسيون تحدثوا بنبرة أبوية غليظة وصفت الشباب المتظاهر بسوء التربية وقلة الأدب، وفى مواضع أخرى استخدموا النبرة الأبوية نفسها بشكل مختلف ليصبح الشباب هم الجيل الذى شرفنا. «هذه الحالة ليست جديدة.. فكل من يبحث عن الهيمنة وعن تدعيم سلطته يمارس دور الأب، لتبرير تجاوزاته وقمع أى محاولة تضعه فى إطاره الصحيح»، هذا التفسير من الدكتور أحمد زايد ــ أستاذ علم الاجتماعى السياسى بجامعة القاهرةــ يدعمه بأمثلة أخرى، منها لغة الرئيس الراحل السادات الذى أصر على استخدام ألفاظ مثل «العيب»، و«العائلة»، و«أولادى»، وكلها تحوله من رئيس إلى أب يهذب ويربى بعيدا عن تقييم إدارته لمؤسسات الدولة.
هذه الحالة الأبوية التى استمرت بعد الثورة واجهت مقاومة شبابية فى العديد من المؤسسات، وعلى رأسها مؤسسة الجامعة. «كل ما كنا نطلبه هو أن يكون لدينا صوت وتقدير لدى الإدارة، وألا يتم الاستهانة بنا فى أى وقت «، هكذا عبرت مى عزت، الطالبة بكلية الإعلام فى جامعة القاهرة، والتى انضمت لمجموعة من الطلبة فى مارس الماضى، للتعبير عن رافضهم لعميد كليتهم الذى أهان شباب الثورة قبيل التنحى، مشيرة إلى «خلفيته المنتمية إلى الحزب الوطنى المنحل».. كلها أمور دفعتهم إلى مطالبته بالرحيل مستعيرين النموذج الأكبر فى رحيل مبارك.
تقول مى: «كان يأتى بعض زملائنا ليتساءلوا: إنتوا عايزين إيه منه؟.. ده برضو راجل كبير ومحترم.. ما ينفعش تهتفوا ضده، وكنت أشعر أننا فى الموقف نفسه مع مبارك، وبعد أن جرت انتخابات العمادة فى الكلية وأتت بعميد جديد، احترمنا نتائجها.. كل ما نطلبه أن يتحقق التغيير لتدار البلد بشكل مؤسسى نزيه، وألا يتم تهميشنا فنحن من يتعلم هنا!».
مظاهر الأبوية فى الجامعة لا تتوقف على مواجهات بين الطلبة والإدارة فى ظرف سياسى، بل لها مظاهر أخرى فى العلاقة اليومية، كأن يطلب أستاذ من طلبته الحضور إلى إحدى الفاعليات التى يديرها خارج الجامعة ويلومهم بأسلوب أبوى إذا ما تهربوا من الحضور، لكن الثورة غيرت ملامح الجامعة فى العامين الدراسيين الأخيرين مع ازدياد النبرة الاحتجاجية الحقوقية بين الطلبة.. تعلق مى عزت طالبة الإعلام قائلة: «كل ما حدث لم يذهب هباء، فمجموعة الاعتصام الأولى تطورت إلى جبهة جديدة هدفها إرساء مناخ ديمقراطى بين الطلاب والأساتذة».
فى مجال التعليم يبرز الخطاب الأبوى فى ألفاظ واضحة مثل «تعالى يلا»، أو فى عبارات الشكوى من الطالب كثير الأسئلة، والهدف هو هيمنة الأستاذ وإعطاؤه سلطة مطلقة بعيدا عن المهنية، وذلك حسبما يرى الدكتور أحمد زايد ــ أستاذ علم الاجتماع السياسى ــ إذ يرى أيضا أن ضعف المؤسسات أوجد علاقة «التابع والمتبوع» داخل المؤسسات بعيدا عن اللوائح والقواعد».


لا تجادل ولا تناقش
على مدى العام الماضى أتيح المجال بشكل أكبر لتأسيس أحزاب سياسية، لكن داخل كثير من تلك الأحزاب الجديدة كان هناك هاجس من تكرار ظهور «أقطاب»، و«رموز» ينفردون بالقرار والمشهد، أحد تلك الأحزاب هو حزب «التيار المصرى» الذى صاحب تأسيسه صخبا وعناوين من نوعية: «شباب الإخوان يخالفون قرار المرشد ويؤسسون حزب التيار المصرى». وكانت الصورة وقتها عن محاولة للهروب من أبوية قيادات الجماعة إلى كيان مؤسسى يدار بشكل مختلف بين مجموعات من الشباب. «الحزب فى مجمله يضم شبابا متآلفين مع خط الثورة والتغيير، القصة بدأت فقط بمجموعة أغلبها من شباب الإخوان. لكن على أرض الواقع فأغلب أعضاء الحزب من الشباب ولأنهم مع الثورة فهم بالضرورة ضد التسلط الأبوى الذى نواجهه فى السياسة، الأمر ليس له علاقة بالإخوان فقط!»، هذا ما يراه أحد الأعضاء المؤسسين فى حزب «التيار المصرى»، أما عن التجارب الحزبية الأخرى الناشئة فرغم وجود أسماء لامعة داخلها فإن الحالة العامة مع غياب «القائد، الأب، الرئيس» قد انعكست على الأحزاب وعلى السياسة.
وفى تجارب قريبة من نموذج «التيار المصرى»، يأبى أعضاء الحزب من الشباب تقديم مشروعهم عن طريق رموز أو مشاهير. وحسب المصدر نفسه من حزب «التيار المصرى» فإن هناك هاجسا دائما من أن يحاول البعض ممارسة الدور الأبوى فى الوصاية وقمع الآراء نتيجة نشأته فى بيئة تمارس هذه السلوكيات، ويعلق على ذلك قائلا: «ليس أمامنا من حلول سوى الالتزام بفكر الحزب القريب من تطبيق الديمقراطية التشاركية ولائحة الحزب، كما أننا مستفيدون من التشبيك عبر (فيس بوك) للتواصل بين كل الأعضاء، والأهم من هذا أننا نمارس رقابة على أنفسنا، فنحن قد رأينا ما كان فى عالم السياسة قبل الثورة، ولا نريد رؤيته مرة أخرى، كذلك استوعبنا درس الانتخابات التى أثبتت لشباب الثورة أن السياسة لها قواعد أخرى بعيدا عن شهرة الشخص أو إخلاصه فقط لقضيته..».
الأمر أكثر اختلافا داخل كيانات أخرى ذات بنية مختلفة مثل جماعة الإخوان المسلمين، إذ تزايدت رهانات فى كتابات وتحليلات المعلقين على تزايد حالات انسحاب الشباب هروبا من الحس الأبوى داخل الجماعة، إذ تستمد القيادات سلطتها من تاريخها النضالى على الأصغر سنا. بعض المجموعات من شباب الجماعة دخلت فى هذا الصراع مع الأبوية وانتهى الأمر إما إلى الانسحاب أو محاولة الإصلاح من الداخل، أشهر تلك الحالات نجدها على (فيس بوك) فى مجموعة «لا تجادل ولا تناقش.. أنت إخوانجى»، يصفون أنفسهم قائلين: نحن مجموعة من شباب الإخوان المسلمين «الحاليين والسابقين» من جميع المستويات داخل الجماعة، نستهدف التغيير والإصلاح من داخل الجماعة. وفى صدر صفحتهم كتبوا: «ينبغى أن يكون الأخ بين يدى مرشده أو نقيبه أو مسئوله كالميت بين يدى من يغسله يقلبه كيف يشاء»، وهذا فى سخرية من سطوة العلاقات داخل الجماعة التى يرغب البعض فى أن تقوم على السمع والطاعة.
يرى الكاتب الصحفى عبدالجليل الشرنوبى ــ العضو السابق بجماعة الإخوان المسلمين ــ أن أزمة الأبوية قادمة من داخل تنظيم الجماعة نفسه، إذ كانت تلك السلطة الأبوية مقبولة حين كان التنظيم ملاحقا أمنيا، فكانت إطاعة الأوامر مهمة للحفاظ على تماسك الجماعة وعلى أسرارها، ويقول: «بعض شباب الإخوان يبحث عن مساحة يطور فيها فكره، لكن الأمل فى الإصلاح من الداخل، إذ نرغب فى يوم ما أن نرى نقيب الأسرة فى الإخوان عنصرا فاعلا فى مجتمعه وليس وصيا على أحد».

فى قداس عيد الميلاد
إحدى المؤسسات التى واجهت صعودا لتيار شبابى مناهض لفكر الأبوية داخلها هى الكنيسة القبطية، إذ كان أبرز آخر تلك المشاهد هو صوت بيشوى تمرى وهو يهتف «يسقط حكم العسكر» داخل الكاتدرائية خلال احتفالات عيد الميلاد المجيد الأخيرة، وذلك فى خلفية احتجاجات على دعوة أعضاء من المجلس العسكرى للحضور دون مراعاة مشاعر الحزن على شهداء ماسبيرو وأغلبهم من الأقباط.
بيشوى تمرى هو عضو المكتب السياسى لاتحاد شباب ماسبيرو، فهل الاتحاد أحد مظاهر الخروج على النزعة الأبوية لسلطة الكنيسة؟ يجيب: «أحد أهم أهداف الاتحاد هو إيجاد مجال حركة للأقباط للتعبير عن احتجاجاتهم ومطالبهم بعيدا عن السلبية، ولم يأت هذا إلا بعد الثورة التى أعطت المصريين فرصة للتعبير والتضحية من أجل هدف»، ويضيف قائلا: «هناك متضامنون مع أفكارنا من رجال الدين، هم ليسوا أعضاء فى الاتحاد بقدر ما هم مستشارون، لكن لا مجال لوصاية أو أبوية من أحد منهم.. لأنهم ببساطة أيضا فارون من هذه الأبوية». تلك المحاولات لا تهدف إلى الصدام مع السلطة الروحية للكنيسة، بل إلى رفض احتكار الكنيسة للمشهد القبطى.

Sunday, January 22, 2012

صوت الثورة الصامت .. الجرافيتى


عبد الرحمن مصطفي



فن خدش الحوائط


يعود أصل كلمة جرافيتى إلى كلمة جرافيتو الايطالية التى تعنى الخدش، ويعيد كثير من المهتمين بهذا الفن جذوره إلى الممارسات الأولى للحضارة الإنسانية قبل آلاف السنين فى محاولاتها التعبير عن الأفكار بخدوش على الجدران، لكن انتقال الجرافيتى إلى داخل إطار ما عرف بفن الشارع قد ظهر بقوة فى نهاية الستينيات، وبرز مع ثورة الشباب فى فرنسا عام 1968 كأداة لانتقاد السلطة والتعبير عن الذات، كما ظهر بشكل أكثر خصوصية فى الولايات المتحدة الأمريكية مرتبطا بثقافة الهيب هوب التى تنعكس على الأزياء والموسيقى، وكان الهدف الأساسى من استخدام الجرافيتى فى أمريكا لمقاومة طاقة العنف داخل مجتمعات السود بالفن. وهناك وسائل مختلفة للكتابة على الجدران أشهرها (الاستنسل) أى الرسوم التفريغية والدهان حولها كى يظهر الرسم فى وقت سريع، أما أهم الأدوات المستخدمة فهى الكاتر (القاطع)، الألوان أو السبراى، برنامج الفوتو شوب للتعامل مع الصور، وألواح ورقية.
أول ظهور للجرافيتى فى فترة ما قبل الثورة بمصر يرجعه المهتمون إلى مجموعة ظهرت فى حى مصر الجديدة بالقاهرة، أنتجت رسومات أحدها يحاكى الرسم التقليدى «حافظ على نظافة مدينتك»، لكن تم استبدال صورة الرجل الذى يلقى القمامة فى السلة بإلقائه أذنا كبيرة، وجوارها عبارة «عيب ترمى ودن». هذه التجربة سجلها المخرج أحمد عبدالله حين شارك فيها عام 2007، ولم يكن الجرافيتى فى مصر قبلها بهذه الاحترافية الفنية مقارنة بالعبارات التقليدية المكتوبة فى شوارع المدن أو فى رسوم الحج. ثم ظهرت مجموعات فى مدينة الإسكندرية إلى جانب ظهور فنانين آخرين بالقاهرة وتوالى الاهتمام بالظاهرة من خلال المراكز الثقافية، أما الحادث الفارق فى التعبير عن الوضع السياسى فكان مع ثورة 25 يناير، التى اجتذبت العديدين إلى التجربة، خاصة مع تشجيع بعض المجموعات السياسية على إنتاج جرافيتى فى شوارع المدن. ولم تكن رحلة فنانى الشارع سهلة بعد الثورة، إذ تعرض بعضهم للتضييق الأمنى والحبس، ومن أشهر تلك الحوادث اعتقال على الحلبى رسام الجرافيتى والناشط فى حركة 6 إبريل، إذ لم يجد زملاؤه من الفنانين وسيلة للتضامن معه أقوى من تخصيص يوم كامل للرسم على الجدران تضامنا معه. أما أشرس ما يواجهه رسامى الشارع فهو إزالة السلطات لأعمالهم، وهو ما حدث مؤخرا مع رسومات شارع محمد محمود التى يعود بعضها إلى فترة ما بعد التنحى مباشرة، إذ إن جدارا واحدا من تلك الجدران كان يحمل جرافيتى ضد مبارك وأحمد شفيق والمجلس العسكرى، تم رسمها على فترات متتالية. وفى منطقة الزمالك حيث تكثر رسومات الجرافيتى تعرضت بعض الجدران للطلاء وإزالة الرسومات، لكن ذلك لم يمنع عودة كثير من الرسامين إلى تلك الحوائط مرة أخرى، وهو ما تنتظره قريبا شوارع ميدان التحرير ضمن عمليات التحضير ليوم 25 يناير القادم.
**
عمار أبو بكر: من الجامعة إلى الشارع والعكس

«لا أحتاج إلى إخفاء هويتى فى الأقصر أو فى القاهرة أثناء الرسم فى الشارع.. ولدى أسبابى فى كلتا المدينتين». يعمل عمار أبو بكر معيدا فى كلية الفنون الجميلة بجامعة جنوب الوادى، وهو من أصحاب رسومات الجرافيتى على جدران شوارع القاهرة والأقصر، والفارق بينه وبين أغلب رسامى الجرافيتى هو خلفيته الأكاديمية، وانغماسه فى عالم الفن التشكيلى طوال السنوات الماضية، يقول عن ذلك: «كنت أشعر أن مجتمع الفنانين التشكيليين يعيش حالة غربة مع الشارع، وليست هناك طريقة للوصول إلى الجماهير، لأن اللوحة الفنية تظل أسيرة نخبة محدودة مهتمة بالفن التشكيلى». لا يوقع عمار أبو بكر على أعماله بإمضاء خاص، ولايتخفى أثناء عمله معللا ذلك بأسباب أخرى منها أن نمط حياة رسامى الشارع فى الغرب يفرض قواعد معينة متعلقة بالتجريم القانونى لعملهم، أما بالنسبة إليه فإن وجوده فى مجتمع مدينة الأقصر لأكثر من عشر سنوات يجعل محاولة إخفاء هويته أمرا لا فائدة منه، أما عن عمله فى شوارع القاهرة فيقول: «الرسم فى شوارع مثل محمد محمود أو حول ميدان التحرير ليس بطولة تتطلب التخفى، خاصة إذا تذكرنا أن هناك من استشهدوا أو فقدوا أعينهم فى تلك الأماكن.. فما معنى التخفى وهناك من يواجهون الرصاص بصدورهم»؟.
ينقل أبو بكر الكثير من الأحداث إلى الجدران، ويرى فى ذلك وسيلة بديلة لعرض الحقيقة فى مواجهة اعلام لا ينقل الحقائق على حد قوله. وبين رسم الشيخ عماد رفعت ذى الوجه السمح فى مواجهة سلطة وجوه أخرى أكثر تشددا وعداء للثورة، أو رسم فتاة تعرت قسرا أثناء أحداث مجلس الوزراء، تصل الرسالة التى يسعى إليها، والهدف هو إبقاء الحدث أطول وقت ممكن فى أذهان المارة من أمام سور كلية الفنون الجميلة فى مدينة الأقصر أو فى غيرها من الأماكن. وفى السنوات الماضية كان بالإمكان ملاحظة تأثر عمار أبوبكر كفنان تشكيلى بالبيئة الجنوبية حيث يقيم فى الأقصر بحكم العمل، لكن هناك هاجسا آخر ظل يلاحقه حتى اليوم، ويقول شارحا: «فى العام 2005 أسسنا جمعية المحروسة لرعاية التراث والفنون المعاصرة، وكنا نهدف وقتها إلى تسجيل ما حولنا فى مجتمع الجنوب بكل وسيلة نجيدها، وفى الأقصر الأجواء مختلفة تماما عن الحالة الفنية فى القاهرة، حيث النزعة التجارية، والمحصلة أننا لا نصل للجمهور». بهذا الوعى فى التفاعل مع المجتمع، التحم عمار أبو بكر مع أجواء الثورة، وحسب عبارته فهو «ليس ناشطا سياسيا». لكن ذلك لم يمنعه من التواجد فى يومى 25، 26 يناير الماضيين مع بدء أحداث الثورة، وبعدها عاد إلى الأقصر، حيث يعمل، ويكمل قائلا: «كانت اللجان الشعبية فى الأقصر تقوم بدورها فى حماية المنشآت والآثار، لكن الشائعات كانت تنتشر بقوة، ولم تكن هناك أى وسيلة سوى الجرافيتى، وفى فترة حكم المحافظ سمير فرج كانت تتم ازالة الرسومات بشكل متتال، وبعد أن أنهكت قواى عدت إلى القاهرة بعد موقعة الجمل بيومين».
منذ تلك التجربة أصبحت رسوماته على الجدران أكثر ارتباطا بالحدث وأكثر قربا إلى الجماهير خارج صالات العرض، وفى حالات كثيرة كان الهدف هو تشجيع الناس على المشاركة، أشهرها جرافيتى: «انزل الشارع». وفى 28 أكتوبر الماضى كانت هناك فرصة أكبر للتعاون مع فنانين آخرين فى فعالية يوم الجرافيتى والرسم على الجدران تضامنا مع على الحلبى ناشط 6 أبريل.
تختلف نظرة عمار أبو بكر إلى طريقة توصيل رسالته باختلاف الجمهور المستهدف، ويوضح ذلك قائلا: «حين رسمت أمام مجلس الوزراء فى الاعتصام الأخير، كنت أعلم أن رسالتى مزدوجة، إذ كانت الرسالة الأولى إلى المعتصمين فى مشاهدتهم لرسم الطبيب أحمد حرارة الذى فقد بصره فى أحداث الثورة، واخترت أن ألبسه قناعا للغاز فى إشارة إلى أنه عائد مرة أخرى إلى مكانه، وكأنها رسالة طمأنة للثوار، أما الرسالة الثانية فكانت إلى جنود الأمن وكاميرات المراقبة هناك، إذ تكفيهم رؤية جرافيتى: عايزين عينك يا مشير، حتى تصلهم الرسالة. أما فى الصعيد فيتبع أبو بكر وسائل أخرى لإيصال رسالته، كأن ينقل أشعار الأبنودى فى قصيدة «لسه النظام ماسقطش» متوقعا انعكاساتها على المارة، يعلق قائلا: «رجل له حضور مثل الأبنودى من المؤكد أن كلماته سيكون لها مصداقية أكبر.. وهذا هو الهدف أن تصل معانى الثورة».
فى زحام الشوارع لم يفقد أبو بكر حس المحاضر الأكاديمى الذى استغله فى ورشة تدريبية على رسم الجرافيتى تبناها حزب التحالف الشعبى بالقاهرة، ونزل مع الدارسين فى الورشة كى يرسموا معا فى الشارع. ولم تكن محاضراته مقتصرة على تقنيات فن الشارع فقط، بل عرض جذورا أبعد من ذلك يشرحها قائلا: «كلمة جرافيتى لها أصل لاتينى بمعنى الخدش، أى أننا أمام فنون نتجت من التعامل مع الجدران، وهو ما عشت معه فترة طويلة فى فنون مصر القديمة على الجدران».
فى أعمال المصرى القديم ظهرت مظاهر التمرد فى فترات انتقالية ظهرت فيها خفة ظل الفنان وخروجه على التقاليد، وفى الفن التلقائى المتصل برسوم الحج حديثا لاحظ أبوبكر هذا الحس فى رسم راقصة على جدار يحمل صورة الكعبة فى كسر لكل التقاليد أو القيود، ويعلق قائلا: «فن الرسم على الجدران أقدم من كونه ظاهرة جديدة فى حياتنا ظهرت قبل سنوات».
**
كايزر KEIZER: كن فخورًا بما ترسم

بنطلون ملطخ بالألوان، وسويت شيرت يخفى به شعره الكثيف، ولحية قصيرة، كحاله أثناء عمله على رسوماته فى شوارع القاهرة، يتلو رسام الجرافيتى كايزر ــ حسبما اختار أن يعرف نفسه ــ القانون الأول والأخير فى عالم فن الشارع: «القانون الأول أنه مفيش قوانين، ومفيش خط أحمر، وطول ما أنا حر يبقى انا فى الطريق الصح». اختار كايزر عدم ذكر اسمه الحقيقى، كما اختار إخفاء هويته عن متابعيه عمدا، مقتنعا بأن إمضاء اسمه KEIZER فى أسفل رسوماته كاف.. فالأهم بالنسبة إليه هو العمل ورسالته.
ينزل وحده ليلا مستهدفا أحد الجدران التى درسها قبل ذلك بفترة، دون الاهتمام بإظهار نفسه أو لفت الأنظار، يقول: «لا أعمل ضمن مجموعة أو شلة، وأخفى هويتى تحسبا لأى ضرر قد يقع لى عند تنقلى من مكان لآخر، خاصة أنى لا أركز رسوماتى فى منطقة واحدة، وأنصح بعدم التباهى فى هذه الفترة التى نعيشها لأننا لا نعلم ما قد يواجهه فنانو الشارع مستقبلا». لم يتعرض كايزر لمشاكل حادة أثناء عمله، فهو فى نظر المارة «فنان مغامر مفتون بالرسم»، لكنه قبل أشهر مضت استضافته سيارة شرطة وطافت به قليلا قبل أن يتوعده الضابط، مع ركلة تبرع بها المعاون دون سبب واضح.
اختار كايزر خطا مختلفا يعبر عن قناعاته حول فن الشارع، فى مرة نرى وجه أم كلثوم فى رسم على الحائط، ومرة أخرى جملة بالانجليزية مثل: Who Watches The Watchers؟ أو من يراقب المراقبين؟ وفى مرة ثالثة صورة لميكى الشخصية الكارتونية الشهيرة، دون الاهتمام بتوجيه رسائل مباشرة، يعلق على ذلك قائلا: «الباب مفتوح لتفسير كل رسم حسبما يراه المار، قد يكون تفسيرا سياسيا أو اجتماعيا أو شخصيا، وهناك مدارس فى الفن التشكيلى تحذو هذا الحذو.. الأمر ليس جديدا». تنتقل المناقشة إلى رسم شهير لوجه الفنان النوبى أحمد منيب وجواره عبارات من أغنية فى دايرة الرحلة تقول: «رحلة يا رحلة.. يا صعبة يا سهلة.. رحالة خطْوتنا»، ثم أعلى كل هذا جملة تقول: أصلى يا منيب. فى نقاشه لا يحاول ترجمة عمله بقدر ما يضع هذا الرسم نموذجا يمكن تفسيره حسب ثقافة كل شخص، إذ يمكن اسقاط المضمون على أمور سياسية أو اجتماعية أو شخصية، يضيف متحمسا: «الرسالة لابد أن تكون مقروءة فى كل وقت، ويمكن نقلها إلى أماكن عديدة حول العالم.. كأن ترسم وجه فتاة محجبة، هذا أمر لا يتعلق بمصر فقط، بل هو وجه يمكن رؤيته فى أى مكان فى العالم، والمضمون المعادى للقهر أيضا ذى محتوى إنسانى».
بدأ كايزر علاقته بفن الشارع من خلال التواصل مع فنانين خارج مصر، وكان بداخله قرار البدء لكنه تأجل كثيرا، وطوال سنوات مضت دار سؤال برأسه: «هل نعيش من أجل جنى الأموال دون العمل من أجل رسالة أو قيم بداخلنا؟». ومع بدء الثورة تفرغ لفن الشارع وودع مجال الدعاية والاعلان الذى احترفه لسنوات، ومع بدء أحداث الثورة انتفض داخله الحس الثورى ضد مجالات كثيرة مثل معاداة النزعة الاستهلاكية وتسلط المؤسسات العملاقة، وكذلك الظرف السياسى الحالى، وطوال هذا العام لم يعمل كايزر فى وظيفة تقليدية تدر عليه مرتبا ثابتا. وقبل عدة أشهر كان كايزر ضمن عدد من الفنانين فى معرض فنى تحت عنوان «ده مش جرافيتى»، وفى ديسمبر الماضى شارك فى معرض آخر تحت عنوان «صمود».
فى هذه المعارض لن يجد الزائر كايزر واقفا جوار إحدى رسوماته، ويعلق على ذلك ساخرا: «لست بصدد إصدار ألبوم غنائى أو فيلم جديد حتى يصبح وجهى إحدى وسائل إيصال رسالة العمل».. وينفى أن يكون هناك أهداف تجارية تقليدية من هذه المشاركات، يضيف قائلا: «فنانو الشارع فى الغرب يربحون أموالا طائلة بسبب سمعتهم ونجاح أفكارهم فى الوصول إلى الجماهير، وأنا آمل أن ينتقل هذا إلى مصر بعيدا عن الفكر التجارى التقليدى، ما أطمح إليه شخصيا أن أجد رسما لى على منتج مختلف يعبر عن روح التمرد.. لكنى لن أكون أبدا تحت سلطة مؤسسة تقليدية تمتهننى، هذا الأمر لا يشغلنى الآن، على سبيل المثال فى المعرض الأخير، قدمت العمل على جدار، ولم أقدمه على لوحة تباع، ولم أندم على ذلك».. على موقعه على الانترنت العديد من الصور لرسومات منتشرة فى شوارع القاهرة، بعضها استعار فيها خبرته السابقة بفن الخط، إذ كتب فى إحداها: «الكلام خسارة فى حكومة غدارة». أجواء السخرية التى تبدو فى كثير من رسوماته لا تتضح فى نبرته الجادة والمثالية أغلب الوقت. وفى صفحة التواصل مع زوار الموقع كتب: I Don’t Exist! بمعنى: أنا لست موجودا، ورغم هذه الحالة التى قد تبدو على الموقع إلا أن نشاطه المكثف دفعه إلى البحث عن جدران جديدة على أطراف مناطق شعبية مثل الكيت كات وأرض اللوا وميت عقبة، مع احتمالات أكبر للتعرض لمزيد من أسئلة المارة، فهل ينتقل ما يقدمه على أطراف هذه المناطق إلى داخلها بواسطة أبنائها حين يجيدون فن الشارع؟ يجيب: «لن يحدث هذا إلا بالتجربة، وأن يضحى الشاب بجزء من وقته لعرض فكرة تلح على رأسه». يصمت قليلا ثم يستطرد: «يكفى فخرا لصاحب رسم الجرافيتى بأن تصل فكرته برسم دون أن يتبقى من شخصيته الحقيقة سوى توقيع أسفل الرسم».
موقع كايزر على الإنترنت:
www.wix.com/keizerstreetart/cairo

**
نيمو NEMO فى المنصورة: ارسم واجرى

قبل كل مرة يتجه فيها أحمد نيمو ــ حسبما يناديه رفاقه ــ لرسم جرافيتى فى أحد شوارع مدينة المنصورة، يختار المكان جيدا، والمواصفات المطلوبة هى: مكان يلفت نظر المارة على طريق للمواصلات العامة، وأن تكون المساحة مناسبة بحيث لا تضيق عليه عمله أو على حد تعبيره «ببقى عايز أنا اللى اتحكم فى الرسالة اللى عايز أوجهها مش العكس». أما لحظة الرسم نفسها فلا يحتاج نيمو إلى وقت طويل، يشرح ذلك قائلا: «لازم أخلص فى أسرع وقت، يعنى تقريبا بارسم واجرى!». ولا تعبر تلك العبارة عن حبه للتسرع، إذ إنه يقضى ساعات فى التحضير لهذه اللحظة، لكن السبب الرئيسى هو قلقه من ردود أفعال المارة غير المتوقعة، لذا تبدأ رحلته فى كل مرة بعد منتصف الليل، وفى كل مرة تكون هناك صحبة من الأصدقاء، أحدهم يراقب الأجواء، وآخر يستأذن من الأهالى إذا ما تطلب الأمر ذلك. ويعلق على ذلك بقوله: «فى القاهرة أصبح هناك وجود كثيف لرسامى الشارع، حتى إن كثيرا منهم لم يعد يخشى الرسم فى وضح النهار، والنقاش مع المارة، خاصة فى أماكن مثل ميدان التحرير إذ اعتدنا مشاهدة الجرافيتى هناك، أما فى المنصورة فما زال الأمر حديثا وغريبا.. أستطيع أن أؤكد أننى إذا ما حاولت الرسم قبل منتصف الليل أننى سأواجه مشاكل».
يدرس أحمد نيمو طب الأسنان فى المنصورة، ولم يقاوم حب الرسم منذ طفولته، وفى بعض الأحيان ما يمر أحدهم على نيمو أثناء الرسم ليلا ويواجه سؤالا تقليديا عن دراسته، ويفاجأ صاحب السؤال بأنه لم يدرس الفن. لكن ما يعزيه هو قناعته بأن «الطب لابد أن يتوافر فى دارسة العلم والموهبة والفن، وإذا ما استطاع الموازنة بينهم سيصبح طبيب أسنان ناجح»، وهذا نقلا عن إحدى المحاضرات التى درسها فى الكلية. لكن هؤلاء المارة الأبرياء الذين يتجاوبون مع ما يقدمه من رسم على الحوائط ليسوا الأغلبية، فقد تعرض واحد من رسوم نيمو الأخيرة للتشويه بعد رسمه بأيام قليلة، وكان عن الصورة الشهيرة للجندى فوق سطح مجلس الشعب وهو يهدد بالتبول على المتظاهرين بالأسفل، ونقل نيمو هذه الصورة إلى جدار أحد شوارع المنصورة العامة كاتبا تحتها «شعبى وأنا حر فيه.. أعمل عليه بى بى».
هذا الرسم تعرض لمحاولة الطمس، وكان تعليق أحمد نيمو: «الناس مش عاوزة تشوف الحقيقة!».
ومنذ سن السابعة عشرة سنة بدأ شغفه بالجرافيتى، واليوم يكاد يكون الأشهر فى مدينة المنصورة دون أن يعرف ملامحه أغلب المارة، بدأ الأمر لديه بالاهتمام بالجرافيتى المرسوم على جدار غزة العازل قبل سنوات، خاصة رسومات الفنان البريطانى (بانكسى) فى تلك الفترة، ومع القراءة حول فن الشارع، والدخول إلى مواقع تشرح طرق متعدد لممارسة الرسم على الجدران، اختار نيمو التجربة والخطأ حتى وصل إلى مستواه الحالى، لكن تظل تجربة الانضمام إلى إحدى مجموعات الألتراس المصرية بمثابة تجربة أخرى أهم بالنسبة إليه، يعلق على ذلك قائلا: «فى وسط مجموعة الألتراس تتعرف على جميع الطوائف والثقافات والاهتمامات، ودرجات متفاوتة فى الموهبة، ونقاش جماعى يدفع إلى الأمام». الأعمال التى شارك فيها نيمو مع الألتراس كانت لها طابع المجموعة، وهو ما يختلف تماما عن عمله بمفرده الذى يعبر عن شخصيته وقناعاته. يضيف قائلا: «الشىء الملفت فى هذه التجربة أنك لن تجد مجموعة ألتراس تحاول إزالة أو تشويه رسم مجموعة أخرى حتى إن كانت مجموعة لفريق منافس».
فى عالمه الصغير داخل المنزل، لا يواجه صعوبات مع الأسرة التى تقدر ما يفعله، حتى إن حجرته تحمل رسما لمغنى البوب الراحل مايكل جاكسون، رسمه فى وقت فراغه، أما الأدوات التى يعمل بها من ألوان وألواح ورقية وكاتر فيراها غير مكلفة بالمرة. كل ما يطمح إليه هو انتشار ذلك الفن فى مدينته المنصورة.
صفحة نيمو على فيس بوك:
www.facebook.com/egynemo



Thursday, January 12, 2012

في سن الثلاثين .. صراع يومي مع الماضي


كتب – عبد الرحمن مصطفى
"أرفض تعبير أولاد الشوارع، أنا زي أي حد.. وده حقي". يجلس عبد المنعم أحمد الذي أتم الثلاثين في العام الماضي، في مقهى ناحية حي القللي، مرتديا جاكيت جلدي، ويمتزج لون شعره الكثيف بغبار الشارع حيث يقضي أغلب وقته. يصمت قليلا ثم يصر على أن يبدأ حديثه بفكرة ألحت عليه مؤخرا، يوضحها قائلا: "أفكر أن يكون هناك كيان يضم أمثالي من أبناء جمعيات رعاية الأيتام أو أبناء الشوارع حسب تعبيرهم وان نكون بمثابة شبكة تمارس الضغط والرقابة سواء على المؤسسات الداعمة للقضية و على أجهزة الدولة". لم يصل عبد المنعم إلى فكرة متماسكة بعد.. لكنه يحمل في حديثه سخطا على طريقة العمل المؤسسي وعلى الدور الضعيف للحكومات المتتالية تجاه هذه القضية، يتوقف حديثه عدة مرات كي يوزع التحيات على من حوله، إذ أنه قد اختار العيش قبل أكثر من 15 سنة في هذه المنطقة حين قرر الفرار من الجمعية الخيرية التي كان ملحقا بها آنذاك، أما اليوم فما زال متواجدا يدير أعمالا مؤقتة على رأسها تنظيف سيارات الميكروباص في الموقف المجاور.
وكانت قد أثيرت مؤخرا قضية أبناء الشوارع بعد أحداث شارع محمد محمود، ومجلس الوزراء وتم توجيه اتهامات إلى هذه الفئة بأنها وراء عمليات التخريب هناك، ومع ازدياد الزخم الإعلامي، برزت دراسات وأرقام من أهمها دراسة تم تداولها إعلاميا مؤخرا عن مركز الدراسات الاقتصادية تؤكد أن مصر حصلت خلال الفترة من عام 1975 وحتى عام 2011 على مليار و400 مليون دولار في شكل معونات ومنح من دول العالم من أجل أطفال الشوارع، وعلى موقع فيسبوك ظهرت مبادرات ومجموعات لم تتخط حاجز الانترنت منها: "حملة لجمع مليون توقيع للمشير من أجل إلحاق أطفال الشوارع بالجيش"، يعلق عبد المنعم قائلا: "مشكلة الإعلام معنا أن البعض يفكر في مصلحة وقتية، مرتبطة بالأحداث، وليس علاج المشكلة، وأقول هذا رغم وجود إعلاميين داعمين لنا، لكن بصورة فردية".
في بطاقته الشخصية ليس له عنوان سكني عدا اسم آخر مؤسسة التحق بها، وفي طفولته نشأ في جمعية "أولادي" وظل بها حتى سن الثانية عشر في نشأة يصفها بالراقية، كان يخاطب من يرعونه بالتبني بألفاظ مثل "بابي" و "مامي"، وطوال تلك الفترة لم يرى الشارع، ثم حدث التحول حين اضطر إلى الانتقال إلى مؤسسة أخرى ترعى المراهقين، وهناك تعلم التدخين والهروب من المدرسة، وتزوير إمضاءات المعلمين، وانطلق إلى الشارع، ثم انتقل إلى مؤسسة أخرى حتى كانت معاملة المشرفين هي الفيصل في اختيار الشارع، وبدأ هذا الطريق من سن 14 سنة. تنقل بين مناطق كثيرة في القاهرة وخارجها لكن ظلت منطقة رمسيس هي مجال حركته الأوسع حتى بلغ الثلاثين، يعلق: "أعلم أني في مرحلة سنية حرجة، حولي آخرين اكتفوا بالحرام دون زواج، وهناك من عاثوا في طريق الإجرام، وفقدوا الأمل، وعاشوا في عالمهم"، لم يجد سندا طوال الوقت سوى من دعموه بالمال والعلاقات كي يحصل على كشك في شارع فيصل، هذا الدعم المتواصل كشف له زيف بعض العاملين في المؤسسات الخيرية، خاصة مع تجربته القديمة في العودة إلى مؤسسة في سن السابعة عشر بعد أن اتهم في جنحة اعتدى فيها بالضرب على صاحب ورشة كان يعمل لديه، فأعادته الشرطة إلى مؤسسة عومل فيها "معاملة الكفار" حسب تعبيره. يصمت قليلا ليحي صديقا له محيلا النقاش إلى قصة نجاح هذا الصديق الذي تدير عائلته عددا من الأكشاك في مناطق متعددة، واعتزلوا الوظائف التقليدية رغم تعليمهم. يقول: "حين تكون لديك عائلة وأهل تصبح الحياة أسهل، ودائما ما يكون لك داعمين".
طوال حديثه يطرح مشكلة ضعف الفرد المهمش أمام المؤسسات بما فيها المؤسسات المهتمة بقضيته، والأسوأ حين تواجه الأجهزة الحكومية، يضيف: "كنت دائما الأكثر وعيا بين زملائي، وأحاول دائما معرفة حقوقي لدى المؤسسات الخيرية ولدى الدولة سواء بالوصول إلى مستندات، أو بالضغط الحاد والتهديد، لذا شجعت عددا من زملائي على الاتجاه إلى الأجهزة الحكومية للحصول على شقة سكنية، لأن الشقة هي أحد شروط الزواج من بنات المؤسسات الخيرية الذين عاشوا ظروفنا، المفارقة أني لم احصل على الشقة رغم حصول بعض زملائي عليها في ذلك الوقت، إذ تعاملوا معنا بطريقة فرق تسد". في داخل بعض المؤسسات هناك يعمل أبنائها مشرفين مقيمين، لكن عبد المنعم رأى أن أغلبهم تناسى ماضيه ومعاناة أخوته، وتحول إلى موظف تقليدي.
في بداية أحداث الثورة اتجه إلى الحي الذي تقطنه سيدة ترعاه وعرض عليها أن يحمي منزلها، والبحث عن حياة جديدة هناك، وتنقل طوال أحداث العام 2011 في ميدان التحرير وطاف بين خيام المعتصمين بحثا عن أخوته، وهل هم مشاركون في الأحداث أم لا؟ و لم يجدهم..لكنه يقول بنبرة واثقة: "لن أفاجأ إذا ما قيل لي أن بعض أطفال الشوارع والمراهقين تم استغلالهم في هذه الأحداث مقابل المال، فالجميع يحاول استغلال هذه الفئة لأغراض مؤقتة، وهناك إشارات في حديث بعضهم تؤكد ذلك"، ويتبنى عبدالمنعم هذا الرأي نتيجة تجارب شخصية، إذ تمت الاستعانة به من قبل في شجارات، وتلقى في إحدى لحظات الطيش ضربة مطواة في بطنه، ولم يسعفه سوى إحدى السيدات كانت تعمل في مؤسسة "أولادنا" و ظلت على صلة به حتى بعد اعتزالها العمل الخدمي. وفي كثير من المواقف التي يرويها كان يحركه نمط حياة الشارع حيث لا بديل عن القوة، مدللا على ذلك بقوله: "حين تسلمت الكشك في منطقة فيصل قمت باستعراض للقوة حتى يحذر الجميع مني هناك". لكن هناك بعد آخر هو نمط الحياة داخل المؤسسات وغياب العدالة فيها أحيانا، ما اضطره أن يسطو وهو مراهق على مخزن إحدى تلك المؤسسات التي أقام فيها بعد الشك في أن هناك من الموظفين من يستغلها استغلالا شخصيا. تلك الأجواء التي عاشها عبد المنعم هي نفس الأجواء التي عاشها عمرو أحد أقرب زملائه إليه، لكن الفارق بينهما حسب وجهة نظره أمران: أن زميله ما زال متمسكا بطيبته مبتعدا تماما عن العنف، وانه استكمل تعليمه العالي، رغم انه يعمل الآن في مقهى مجاور بمرتب زهيد لا يكفي حياته الزوجية، ولم يستطع زميله عمرو العمل في وظيفة مناسبة بسبب ماضيه الذي يلاحقه في كل ورقة يقدمها. يعلق عبد المنعم قائلا: "هناك قصص نجاح كثيرة، فمن إخواني من سافر إلى الكويت، ومن نجح في الحصول على وظيفة بوساطة أهل الخير أو بالرشوة، وثالث لديه محل كوافير، وهناك أخصائيون اجتماعيون.. نعم هناك من نجح في الاستقرار، لكنه دائما ما يعيش في عالم معزول". يعرف عبد المنعم وسط أصدقاؤه باليمامة المغتربة، لأنه طاف محافظات عديدة بحثا عن حياة مختلفة أو هروبا من مأزق، فهل تتعارض هذه الحياة مع حياة الاستقرار والوظيفة؟ يجيب: "أعطني فرصة وسأحاول". أما المعادلة التي يعيش بها حياته فهي القوة كوسيلة للتعامل مع الشارع، أما الطرف الآخر من المعادلة فهو المحافظة على الداعمين كسند له وبديل عن العائلة المفقودة في مواجهة الفساد الإداري والروتين . ويختم بالعودة إلى حلمه الذي بدأ به طامحا في رؤية تجمع لأبناء هذه الفئة يمارسون دورهم كجماعة ضغط في مواجهة الدولة وسطوة المؤسسات، وقسوة الشارع.
PDF