Tuesday, July 27, 2004

عفوا.. فلنكتف بهذا القدر

بقلم : عبد الرحمن مصطفى حسن ـ مصر
كنت وقتها طفلا صغيرا يصطحبه والده إلى المسجد الجامع لصلاة الجمعة, ولم نكن ندري أنه كان يصلي معنا في نفس المسجد, وقبل إقامة الصلاة مباشرة, تقدمت الصفوف لرؤيته, وبالفعل, نظر إلي وتبسم, فلم أصدق أنه هو, ففرت إلى جانب والدي و أدينا الصلاة, ثم رأيت تجمهر الناس من حوله بعد الصلاة فتأكدت أنه هو, وذكرت لكل أقراني وقتها أن ياسر عرفات كان يصلي معنا في نفس المسجد, وأنه تبسم لي. كانت تلك الحادثة في نهاية الثمانينيات, وكان ياسر عرفات قد عُرف وقتها كزعيم وممثل للشعب الفلسطيني, و رغم ذلك فقد كان عليه الكثير كي يتحول إلى شخصية دولية مقبولة عالميا, وقد تم ذلك بعد قبول التفاوض مع الإسرائيليين.

ــــ رجل سلام في زي عسكري

يخوض عرفات بعد ذلك طريق السلام الذي رفض خوضه من قبل مع الرئيس السادات, فتبدأ مباحثات مدريد بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية, ثم يلي ذلك توقيع اتفاقية أوسلو في عام 1993, فيكون انسحاب إسرائيل من غزة و أريحا في العام التالي, وتزدهر الأمور أكثر لعرفات بأن ينال جائزة نوبل للسلام في نفس العام, ليتحول إلى بطل للسلام برغم ماضيه كرئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية, التي كان البعض يعتبرها منظمة إرهابية. وبعد اتفاقية أوسلو الثانية عام 1995, و برغم مقتل رايبن شريكه في جائزة نوبل للسلام، يصبح عرفات في يناير 1996 أول رئيس للسلطة الفلسطينية بعد انتخابه بنسبة تفوق 88 % من الأصوات.

ــــ زعيم و رئيس حتى النهاية

و هنا يصبح عرفات أكثر الشخصيات الفلسطينية شهرة دولية و قبولا إعلاميا, إضافة إلى ذلك فهو لم يتخذ الصفة الإسلامية الجهادية لنفسه, مما أعطاه تميزا, هذا إلى جانب تاريخه النضالي الطويل. ولكن, وعلى الرغم من عدم استقرار الأمور مع إسرائيل و تعثر المفاوضات معها, إلا أن نوعا من الاستقرار قد حدث بين الفلسطينيين, وأقصد هنا ذلك الاتفاق غير المعلن على أن عرفات هو الزعيم الأبدي للفلسطينيين, وأنه قد تحول إلى تلك الحالة التي عليها أقرانه من الرؤساء في مصر وسوريا و ليبيا, أي أن يبقى في منصبه حتى يتوفاه الله. ولكن على ما يبدو أن ذلك الأمر قد دعا الرجل إلى أن يركن إلى الراحة, فيدب الفساد في الإدارة الفلسطينية, حتى يصل إلى الأجهزة الأمنية, بل إن حوادث الفساد لم تقتصر على الجانب المالي فحسب, بل امتدت إلى الجانب الأخلاقي, فنجد على سبيل المثال في الفترة الواقعة قبل انتفاضة الأقصى, أنه يتم معاقبة ثلاثة من كبار ضباط جهاز الشرطة الفلسطينية, بعد اتهامهم بإدارة شبكة للدعارة و ممارستهم للابتزاز.

ـــــ عرفات و الفساد

لعل التنظيم الإداري للأجهزة الأمنية الفلسطينية يساعد أكثر على الفساد, نظرا لضعف السيطرة المركزية عليه, حيث أن الأجهزة الأمنية الفلسطينية تتسم بالكثرة, وقد كان ذلك متعمدا منذ البداية حتى لا يتحول أفراد الأمن الفلسطينيين يوما ما إلى قوة عسكرية لها القدرة على مواجهة إسرائيل, ومن ثمَّ دخلت المحسوبية مع الفساد كردِ فعلٍ لضعف السلطة المركزية, وكنتيجة أيضا لسياسة عرفات الخاطئة في التعامل مع الفاسدين, فنجده منذ عدة أعوام (عام 2001) يفرج عن أحد المتهمين في قضايا الاختلاس, والذي اختلس أموالا من الصندوق القومي الفلسطيني الذي كان يرأسه, وقد جاء قرار الإفراج دون إبداء أسباب واضحة. ولعل مثل تلك الأمور قد دفعت البعض إلى تصديق الشكوك حول فساد عرفات نفسه, وبالنسبة للمتابع فقد يتخطى الأمر مرحلة الشكوك.
فوكالات الأنباء العالمية تتناقل أخبار السيدة سهى عرفات, والتي ذكرت بعض التقارير عنها أنها تتلقى أموالا من زوجها تقدر بالملايين وتحوَّل إلى حسابها في باريس, فمنذ عدة أشهر أثيرت قضية السيدة سهى حين أكد مكتب المدعي العام في باريس أنه يريد فحص تحويلات من مؤسسة سويسرية إلى حسابين منفصلين لسهى في باريس خلال الفترة الواقعة بين يوليو 2002 إلى يوليو 2003.
وتصف السيدة سهى تلك التقارير التي تتحدث عن تحويل 9 ملايين يورو لحسابات باسمها بأنها كاذبة و مجنونة, و أن شارون يسعى لتشويه صورة زوجها عن طريقها, و ليغطي أيضا على فضائحه هو و أسرته, ورغم ما تذكره السيدة سهى عرفات, إلا أن تقريرا أصدره صندوق النقد الدولي يتحدث عن 900 مليون دولار قد نقلت من حسابات السلطة الفلسطينية إلى الخارج, في الفترة الواقعة بين عامي 1997إلى 2003. حتى قريع رئيس الوزراء الفلسطيني (المستقيل), كان اسم عائلته ضمن قضية أثيرت منذ عدة أشهر داخل أروقة المجلس التشريعي, عن قيام البعض بتهريب أسمنت مصري إلى الإسرائيليين, و استخدامه في بناء المستوطنات و الجدار العازل, ولم تتضح صحة هذا الأمر من عدمه!
واتخذت مسألة الفساد داخل السلطة الفلسطينية بعدا دوليا, فها هو الرئيس الأمريكي بوش يطالب في تصريح له منذ أكثر من عامين بتغيير القيادة الفلسطينية, ويصف المجتمع الفلسطيني بأنه مجتمع فاسد ولا يتمتع بالشفافية. ويؤكد وزير خارجيته كولن باول رأي بوش, بأن قال وقتها " نريد قيادة فلسطينية جديدة نستطيع التعامل معها", وكان رد فعل السلطة حينذاك أن أمريكا تريد عميلا لها في الأراضي الفلسطينية. ورغم كل تلك الأمور يظل عرفات في منصبه, ويجدد انتخابه رئيسا. ولكن في نفس الوقت يتزامن مع كل تلك الأمور, قيام المنظمات الفلسطينية- ذات الطابع الجهادي - بعملياتها من تفجير و ما إلى ذلك, مما يجعلها تصطدم أحيانا مع السلطة التي لا تريد للأمور أن تخرج أكثر عن سيطرتها, حيث أن تلك الفصائل قد حازت على التعاطف والتأييد الشعبي, و خصوصا بعد ما قامت به إسرائيل من اغتيال لقادتها. ويبدو أنه سيقدر لتلك الفصائل المسلحة تشكيل مرحلة جديدة في حياة عرفات (المحاصر).

ــــ الإحلال

لما كان البقاء للأقوى, ولما كانت الفصائل الفلسطينية المسلحة كحماس و كتائب شهداء الأقصى و غيرها, هي التي تمارس الفعل الوحيد الذي يقوم به الفلسطينيين, في الوقت الذي ظهر فيه عرفات عاجزا حتى عن مواجهة الفساد الذي دب في الأجهزة الأمنية و الإدارية التي تقع تحت سلطانه, كان من الواجب على الأقوى أن يحل محل الأضعف, وقد بدأت مظاهر ذلك الأمر تظهر بالفعل, وبدأ التجرؤ على السلطة, وإن لم يكن الأمر موجها لشخص عرفات, حيث أنه الآن قد أصبح لدى شعبه أحد هؤلاء الرؤساء الذين لا يتركون مناصبهم إلا بموتهم. فها هي حركة (حماس) تسعى - في شهر إبريل الماضي- إلى أن تقوم هي على إدارة قطاع غزة في حالة انسحاب الجيش الإسرائيلي منه, وقد قوبل طلبها بالرفض من جانب السلطة الفلسطينية التي تعللت بأن لها مؤسساتها و أجهزتها الأمنية التي تستطيع أن تؤدي واجبها بكفاءة. ثم نجد بعض الجماعات الفلسطينية المسلحة تنتقد عرض مصر المساعدة في تسيير أمن غزة, من حيث إعادة الهيكلة والتدريب, ونجد كتائب شهداء الأقصى المنبثقة عن حركة فتح – التي يرأسها عرفات –­­ تقوم بالتعامل الفردي مع بعض المعروفين بالفساد, سواء بالخطف أو بغيره, بالإضافة إلى الإعدام مع المتعاونين مع الاحتلال, هذا فضلا عن انتقادها العلني للسلطة الفلسطينية على ما تغلغل فيها من فساد ومحسوبية. إذا فلدينا الآن عددا من الفصائل الفلسطينية وقد ضج بأخبار الفساد الموجود داخل أجهزة السلطة الفلسطينية, و خصوصا الأمنية منها.

ـــــ الصِدام الأخير.. ليس الأخير !!

لعل مسألة عدم توحيد الأجهزة الأمنية الفلسطينية تثير حفيظة الكثير من الفلسطينيين, فكما ذكرنا من قبل أن تفرق الأجهزة الأمنية الفلسطينية و كثرتها, و عدم إحكام قبضة السلطة الفلسطينية عليها, قد جعلها أوكارا للفساد والمحسوبية و الشللية, وقد جاء تعدد تلك الأجهزة نظرا لنشأتها الأولى هكذا, حتى لا تتحول في يوم من الأيام إلى جيش في وجه إسرائيل. أما اليوم, فقد أصبح هذا الوضع يمثل خطرا على إسرائيل نفسها, فالأفضل لإسرائيل أن تحكم السلطة الفلسطينية قبضتها على الأمن الفلسطيني بدلا أن يقوم غيرها بذلك, ولن يتم ذلك إلا بأن يتم توحيد أجهزة الأمن الفلسطيني وتقليص عددها, وخصوصا بعد قيام عناصر فلسطينية مسلحة الأسبوع الماضي, باختطاف مجموعة من الفرنسيين للفت الأنظار, إلى جانب اختطاف عدد من المسئولين الفلسطينيين, وحرق المنشآت الحكومية وذلك بغرض الضغط كي يتم الإصلاح. لذا كان قرار عرفات بأن يتم توحيد تلك الأجهزة الأمنية ليصبح عددها ثلاثة فقط, بعد أن أصبحت مسألة الانفلات الأمني تمثل مشكلة حقيقية, وخصوصا أن هنالك ضغوطا خارجية على عرفات كي يقوم بنقل مزيدا من الصلاحيات الأمنية إلى رئيس وزرائه. ولكن جاء إخفاق عرفات دليلا على حالة الانهيار التي يعيشها, وذلك في الوقت الذي تعلو فيه أسهم الفصائل المسلحة. فكان الصدام. حيث أن ياسرعرفات قد اختار قريبه اللواء موسى عرفات لمنصب مدير الأمن الفلسطيني, وكأنه يؤكد للجميع أن المحسوبية قد أضحت قانونا في داخل السلطة الفلسطينية, والأكثر من ذلك أن موسى هذا تعتبره الفصائل الفلسطينية المسلحة عدوا للمقاومة, فكانت المواجهات المسلحة بين اللواء موسى و العناصر الفلسطينية المسلحة, والتي كان منها قيام كتائب شهداء الأقصى بالسيطرة على مقر الاستخبارات في خان يونس ثم إحراقه. وقبلها بقليل نجد عددا من الاستقالات يقدم وعلى رأسها استقالة رئيس الوزراء, التي لا ندري هل قدمها لكسب الصلاحيات الأمنية التي حثت عليها العديد من الأطراف خارج فلسطين, أم أن تلك الاستقالة تهربا من المسئولية ؟! ورغم الهدوء النسبي للأوضاع حاليا, إلا أن السبب الأساسي لتلك الفتنة لم يزل حتى الآن, ألا وهو وجود الفساد و المحسوبية في داخل السلطة الفلسطينية.

ــــ رسالة إلى عرفات

سيدي الرئيس عرفات.. إنك لست مثل حسني مبارك أو القذافي أو الأسد, فهؤلاء جميعا في دول مستقرة نسبيا, أما أنت فمن السهل الانقلاب عليك لولا الخوف من الفتنة, فقد تركت الفساد يرعى من حولك, مع ازدياد قوة الفصائل الفلسطينية من حولك أيضا, وأظن أنه قد آن الأوان كي تنسحب في هدوء, وأن تستقيل من منصبك هذا, بدلا من أن تقضي بقية عمرك منفيا بواسطة الإسرائيليين, أو أن تقتل على يد أحد المتهورين من أبناء شعبك, وفي كلا الحالتين, سيكون الضياع مصير الفلسطينيين إلى أن يشاء الله.
سيدي الرئيس.. فلنكتف بهذا القدر, ولتترك الأمر لمن هو أصح منك و أجدر منك بالحكم.

No comments:

Post a Comment