Tuesday, December 29, 2009

عشر سنوات رسمت ملامح جيل

تصوير: أحمد عبد اللطيف
الحياة داخل أحد الكافيهات الحديثة تعبر بدقة عن التطور النهائى للمزاج المصرى حيث تصميم المكان الذى يساعد على تكوين تجمعات منفصلة تحافظ على قدر من الخصوصية لا توفره المقاهى التقليدية، بعضهم استغل هذه الأجواء فى المذاكرة، وآخرون استغلوها فى إدارة حديث عمل جاد، وعلى الجانب الآخر شلة أصدقاء لا يهتمون بكل هذا، أما عامل الكافيه فيدرك أن الجميع لا يحبون التطفل، تكفى زيارة أو اثنتين لعرض قائمة متخمة بأسماء من نوعية.. موكا، اسبرسو، تشيف سالاد،.. إلخ ثم يترك مساحة جيدة للعميل كى يندمج فى عمله أو مع رفاق جلسته محافظا على مسافة كبيرة بينه وبين الزبائن.
وسط هذه الأجواء قد يبدو شريف عبدالعزيز للوهلة الأولى مجرد شاب منشغل بعمله أمام جهاز الكمبيوتر المحمول الشخصى، ما يميزه قليلا أنه أكثر تورطا مع الإنترنت، حتى وجوده هنا كان سببه الرئيسى هو استخدام الانترنت والكمبيوتر، حسب تعبيره فإن الساعات التى يقضيها هنا» بمثابة طقس يومى ممتع يزيد من رغبته فى العمل».
ربما لا يملك الجميع هنا مدونة أو لديه نشاط كبير على شبكة الفيس بوك الاجتماعية، لكن المتورطين فى الإنترنت أمثال شريف سيجدون المكان هنا أفضل لمتابعة أنشطتهم.
قبل عدة سنوات بدأت هذه الكافيهات فى التعامل مع الانترنت بطريقة مختلفة حين أصبح على كل من يرغب فى استخدام الإنترنت أن يتصل برقم وكلمة سر تصل على هاتفه المحمول، وهو ما أثار بعض المدونين فى ذلك الوقت واعتبروه تطفلا على الزوار وأرجعوه لأسباب أمنية. اليوم استسلم الجميع لهذه القواعد، واعتبروها خطوة فى تطور علاقتهم بالإنترنت والأماكن التى يرتادونها.
فى العام 2000 كان هناك حوالى 300 ألف مستخدم للإنترنت أغلبهم من شريحة لديها القدرة على تحمل التكاليف. وفى عام 2002 بدأت خدمة الاتصال بالإنترنت بسعر المكالمة العادية مما زاد عدد المشتركين فى المنتديات الإلكترونية، كان شريف عبدالعزيز ضمن هؤلاء الذين اختاروا الاندماج فى مجتمع الإنترنت مبكرا، ويقول: «علاقاتى الأولى تكونت عبر برنامجى الدردشة MIRC، وICQ، وبعدها أصبحت فكرة المنتدى الإلكترونى أكثر رواجا، لكن الملاحظة الأهم فى تلك المرحلة هى أن بعض هذه المنتديات المشهورة خرجت منها مجموعات مهمة أثرت فى حركة المدونات المصرية وخرج منها ناشطون وكتاب شباب». هذا التطور صاحبته تطورات أخرى على الأرض حيث الأماكن التى تستهدف الشباب، يتذكر شريف ذلك الهوس الذى ضرب رءوس البعض بساقية الصاوى الثقافية حين أنشئت فى 2003 حيث جمعت المهتمين بالأنشطة الثقافية والفنية والناشطين.
تتفق معه ماريان ناجى ــ صحفية ــ المولعة أيضا بنفس الكافيه حيث يجلسان لمدد طويلة مع أصدقائهما، فى ساقية الصاوى كانت اللقاءات الأولى قبل عدة سنوات التى جمعت شريف وماريان بعدد أكبر من المدونين، تكمل ماريان: «خلقت المدونات حالة من الحميمية الافتراضية، لأنه كانت لدينا الفرصة لقراءة من نختاره، وكثيرون منا كان يبحث عن كائن يشبهه.. لذا تكونت بعض مجموعات مختلفة أقرب إلى الشلل لكنها كانت تحت مظلة التدوين، وبعض هؤلاء أصبح مرتبطا بأماكن بعينها مثل مقاهى وسط البلد إما لأنه ناشط سياسى أو كاتب أو غير ذلك من الأسباب.. عن نفسى لم تكن لدى كل تلك الأسباب فارتحت هنا أكثر حيث إن المكان ملائم أكثر لفتاة، وخدمته أرقى».

بعيدا عن «ثقافة الشاى»
اليوم لا يجتمع شريف وماريان فى الكافيه المحبب لهما فى جلسة صداقة عادية بل يشغلهما تحضير ورش تدريبية ومشروعات عمل بعد خبرة نالاها فى العمل التنموى كان الإنترنت والتدوين سببا دفعهما إلى اقتحامه.
كلاهما يتذكر كيف تقدمت الكافيهات الحديثة على حساب المطاعم الكبرى للوجبات السريعة الأمريكية مثل ماكدونالدز ومطاعم البيتزا وغيرها التى ازدهرت فى الثمانينيات والتسعينيات، بعض هذه المطاعم مازال حريصا على تشغيل موسيقى الثمانينيات والتسعينيات للزبائن. لكن عدم إتاحة استخدام الإنترنت وتغلب روح المطعم على روح المقهى دفعا بشريحة من الشباب إلى الكافيهات الصاعدة التى حاولت المزج بين روح المطعم والمقهى معا، بل ومنافسة المقاهى المصرية التقليدية. يسجل موقع سيلنترو أحد هذه الكافيهات فى موقعه أن القائمين على المكان كان هدفهم الخروج بمظهر جديد بعيدا عن «ثقافة الشاي» المنتشرة فى مصر وأيضا تقديم وجبات عالمية، وظهر الفرع الأول فى الزمالك مع العام 2000 بحثا عن زبائنه فى حى متعدد الجنسيات، وأخذت هذه الموجة فى الانتشار عبر كافيهات أخرى حتى أن بعض المكتبات استضافت هذه الكافيهات لاجتذاب نوعية جديدة من الزبائن.
يرى الدكتور على أبو ليلة ــ أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب جامعة عين شمس ــ أن هناك عدة قضايا مختلفة أثيرت حول هذا الجيل فى البحوث الاجتماعية أثناء السنوات العشر الماضية مثل المخدرات والتحرش والبلطجة وأزمة الهوية والانتماء، لكن ما استوقفه هو العلاقة التى نشأت بين هذا الجيل مع الإنترنت. ويرى فى تحليلها أنه: «قد أصبح هذا الجيل أكثر انفتاحا على العالم، رغم اتجاهه إلى الإنترنت هروبا من المجتمع الواقعى الذى لم يشبع حاجاته، فكانت الدردشة الالكترونية والعلاقات الافتراضية شكلا من أشكال مواجهة هذا المجتمع».
انفتاح هذا الجيل على العالم جعله أكثر قابلية للتواجد فى أماكن مختلفة تماما عن المقاهى والمطاعم التقليدية، وبعيدة عن المزاج المصرى التقليدى وهو ما يراه الدكتور على أبو ليلة إحدى سمات هذا الجيل: «هذا الجيل أكثر ارتباطا بالثقافة العالمية، وعلى عكس الأجيال السابقة مشكلته أنه غير منتم إلى حد كبير إلى تراثه وسياقه الاجتماعى».
فى الولايات المتحدة الأمريكية انشغل البعض أيضا بوصف هذا الجيل فصك باحثان أمريكيان فى كتاب «Millennials Rising» تعبير جيل الألفية تعبيرا عن الذين ولدوا بين منتصف السبعينيات حتى نهاية التسعينيات لكن نفس هذا الجيل أطلق أيضا تعبير «جيل الشبكة Net Generation» فى إشارة إلى تعقد شكل علاقاته بسبب الاشتراك فى الشبكات الاجتماعية واستخدام شبكة الإنترنت بشكل عام.
علاقات من الافتراضى للواقع
هذه العلاقات التى نشأت عن الدخول فى شبكة علاقات المدونات والتشبيك الذى يصنعه موقع الفيس بوك بين أعضائه كان سببا فى أن تتعرف راندا أبو الدهب ــ الناشطة فى منظمة المرأة الجديدة ــ على شريف وماريان، ورغم أنها تشترك معهما فى نفس الأفكار فإنها حسب وصفها لا تنتمى بأى حال من الأحوال إلى مزاجهما فى اختيار أماكن اللقاء، وتقول : «لا أجد لهذه الكافيهات تاريخا أو قصة وراءها، أنا أذهب إليها مجاملة لأصدقائى»، بينما تبدى تحمسا للمقاهى التقليدية فى وسط البلد، يمكنها أن تعدد الأدباء والفنانين الذى كانوا يفدون على مقاهى من نوعية الحرية أو سوق الحميدية أو الندوة الثقافية وغيرها. بعض المقاهى صعدت بشكل مثير فى السنوات الأخيرة. تقول راندا : «من العام 2003 كانت تجمعنى مع أصدقائى الصحفيين والناشطين الحقوقيين مقاه بعينها فى وسط البلد، أحدها هو مقهى البورصة الذى تحول بعد بروز التدوين والحركات السياسية المعارضة إلى تجمع يجتذبهم». فى تلك المرحلة التى تصفها راندا كان ظهور الانترنت فائق السرعة ADSL مشجعا على الدخول إلى الانترنت والتواجد بشكل مكثف، وحسب دراسة أعدتها وزارة الاتصالات والمعلومات المصرية فى العام 2005 كانت غالبية مستخدمى الإنترنت وقتها الشباب من زوار المجالات الترفيهية كالمحادثة وتحميل الأغانى والأفلام..الخ، وهو ما أبرز فئات أخرى مثل المدونين كان بعضهم ينتج مادة مختلفة على الإنترنت.
فى جوار مقهى البورصة دخلت راندا إلى التدوين بعد جلسة تضم صحفيين وناشطين وأصدقاء من مجالات مهنية أخرى غير أنهم جميعا كانت تجمعهم مظلة التدوين على الإنترنت وتقول: «عن طريق صداقتهم اقتنعت بفكرة التدوين الذى أدين له الآن بالكثير، أفاد حياتى العملية، اليوم أنا مشاركة فى تطوير موقع المؤسسة التى أعمل بها، على عكس الماضى حين كان يقتصر عملى على العمل الورقى والميدانى، لكن الجانب الآخر الذى انكشف لى بعد التورط فى حياة الإنترنت هو أنها لا تخلو من الشللية، وانعكس ذلك بالفعل على بعض المجالات التى انتقلوا إليها.
يتوقع الدكتور على أبو ليلة ــ أستاذ علم الاجتماع ــ أنه قد تنتج نخبة ما فى وقت لاحق من مجتمع الإنترنت وستنتقل إلى الواقع، ويوضح : «الوجود داخل المجتمع الافتراضى والاكتفاء به هو عنصر الخطورة على المجتمع والفرد وذلك حين يكتفى الفرد بالاعتراف الاجتماعى داخل الانترنت، هناك مزايا قد توفرها الإنترنت مثل التدرب على القيادة وتقييم أوضاع المجتمع والاشتباك معه، لكن المهم أن يتحول ذلك إلى عمل مفيد على أرض الواقع. ولا استبعد أن يخرج من بين من مارسوا القيادة وطوروا مهاراتهم عبر الإنترنت أن يمثلوا شريحة متميزة فيما بعد».
شريف عبدالعزيز يتفق بشدة مع هذا الرأى، فهو نفسه قد تغيرت حياته المهنية من الهندسة إلى العمل فى المكتب الإنمائى للأمم المتحدة بسبب عرض تلقاه من إحدى الصديقات التى عرفته عن طريق المدونات.
هذه العلاقات المتشابكة التى أوجدتها الإنترنت دفعت بالبعض أيضا إلى زيارة أماكن لم تكن على بالهم، محمد ربيع الذى يعمل فى مجال الهندسة، حاول أن يكون بعيدا طوال سنوات طويلة عن الاندماج فى حياة الإنترنت، وكان مشغولا بعمله، ومع ازدهار المدونات بدأ معلقا حتى وجد نفسه منجذبا لبعض الأفراد أصحاب المزاج الواحد على الانترنت، وقاده ذلك إلى مقاه من نوعية التكعيبة التى يلتقى بها بعض الأدباء والكتاب الشباب والفنانين : « دخولى إلى الإنترنت نفسه أعطانى فرصة لإنتاج كتابة على المدونة فى شكل نصوص قصيرة قد تبدو غريبة للبعض، لكنها خطوة شجعتنى على الكتابة وتلقى التقييمات، وبعد مرحلة أيقنت أننى لا يجب أن أظل أسيرا للإنترنت فقط».
ربما لا ينجذب ربيع هو الآخر إلى نفس النوعية من الكافيهات التى يرتادها كل من شريف وماريان فهو صاحب مزاج قريب من راندا حيث المقاهى التقليدية بعيدا عن التكلف لكنه بعيدا عن علاقات الإنترنت التى انتقلت إلى الأرض يرى أن: «الأهم من علاقات المقاهى وتجمعات الإنترنت هو ما استفدته على المستوى الشخصى، فى الإنترنت لديك فرصة الاختيار من بين كثيرين تتابعهم بشكل دائم وأحيانا تعرف تفاصيل حياتهم، وربما تجدهم يفهمونك أكثر من آخرين حولك».
العلاقات المشتبكة والملتبسة فى بعض الأحيان على الإنترنت قد توجد شكلا من التشجيع على ارتياد أماكن أو اتخاذ خطوات، الورشة الأدبية التى حضرها ربيع العام الماضى وأنتج منها رواية تحت الطبع يرتادها هذا العام أربع مدونين لم يلتقوا أغلبهم من قبل، وإحداهن هى ماريان ناجى.
يقول ربيع: «الإنترنت أوجدت شكلا جديدا من العلاقات لم تكن موجودة من قبل، أشعر الآن أننى أنتمى إلى مجتمع لم أر أغلب أفراده، وأعرف كثيرين منهم رغم أننا لم نلتق». قد يكون محمد ربيع أكثر من يتفهم هذه النقطة لأن حياة الإنترنت هى سبب تعرفه على زوجته التى كانت تدون هى أيضا. وفى حفل زفافهما كانت نسبة كبيرة من الحضور من أصدقائه ومعارفه على الإنترنت.. وهو ما لم يكن ليحدث قبل عشرة سنوات من الآن.
مقاهي القاهرة
ظاهرة المقاهي التي تستقطب الناشطين في مجالات بعينها مثل الأدب والثقافة والسياسة ليست جديدة على المقاهي المصرية، إلا أن الجديد في العقد الأخير أن الانترنت ـ كوسيط ـ أصبحت أحد أداة تعارف هذه الفئات..  في السابق كانت المواهب الأدبية أو الانتماءات السياسية أحد عناصر تجمع هذه الفئات. يرى الكاتب الصحفي جمال الغيطاني بعين الأديب أن العصر الذهبي للمقاهي كان في فترة العشرينات والثلاثينات حسبما يذكر في مقدمة كتاب مقاهي الشرق، لكن قبلها أيضا كانت المقاهي تضم النخب من الكتاب والسياسيين ومن أحد أشهر هذه الملتقيات قهوة متاتيا التي كان يلتقي فيها في نهاية القرن قبل الماضي سعد زغلول ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني ومن بعدهم عباس العقاد. كانت تكفي شهرة الكاتب أو السياسي كي يلتف حوله المريدون. الآن  اختفى هذا المقهى تماما من الوجود، أما مقهى ريش الذي ما زال باقيا كأحد رموز هذه المقاهي التي اجتذبت الناشطين السياسيين والكتاب والأدباء، اشتهر بتواجد الراحل نجيب محفوظ الذي عرف عنه التواجد على مدار حياته في مقاه كثيرة مثل مقهى عرابي في الظاهر أما أهم ما اشتهر به مقهى ريش فهو تواجده البارز أثناء ثورة 1919 وكذلك وقت ثورة 1952 حيث شهد اجتماعات جمال عبد الناصر بالضباط الأحرار. لم تخف الهوية السياسية عن بعض المقاهي مثل مقهى الشيوعيين، وكذلك تجمعات أبناء حركة اليسار في مقاهى مثل ايزافيتش الذي كان يملكه رجل ذو أصل صربي من عائلة ايزافيتش.. واختفى المقهى من الموجود وحل محله الآن مطعم للوجبات السريعة رغم تاريخه الذي شهد نشأة طبقة من الفنانين وابناء اليسار، وخروج اعتصام الطلبة عام 1971 من داخله.
الفنانون لم يكونوا بعيدين عن مقاهي وسط البلد حين كان يرتادها نجوم مثل رشدي أباظة وشكري سرحان وغيرهم، وكان مقهى الحرية في باب اللوق أحد هذه الملتقيات. ولا تخفي بعض المقاهي هدفها مثل مقهى الندوة الثقافية الذي أعلن طابعه على لوحته منذ البداية.

1 comment:

  1. يدي الكريمة تكتب على كيبورد لابتبوب الزميل أحمد عبداللطيف
    :)

    ReplyDelete