Tuesday, September 13, 2005

قراءة في كتاب القرآن وكفي مصدرا لتشريع الاسلامي

عبدالرحمن مصطفى ـ مصر

أتيحت لي فرصة الاطلاع على كتاب ( القرآن وكفى مصدرا للتشريع الإسلامي) للدكتور أحمد صبحي منصور، والذي يدعو فيه إلى هجر الأحاديث النبوية، بعدما اعتبرها ليست بالأقوال التي يؤخذ بها، فدعا إلى الاكتفاء بالقرآن الكريم مرجعا وحيدا للتشريع، والابتعاد عن متابعة أقوال وأفعال نبي الاسلام محمد عليه الصلاة والسلام. مراجعة هذا الكتاب كانت محاولة مني لفهم منطق د. منصور وهو يحاول إثبات رأيه، وقد قدم د. منصور في كتابه أفكارا جديدة زينها بكم كبير من الآيات، غير أن المتابع لاستخدام الدكتور منصور لتلك الأيات قد يجد بعض الثغرات فيما ذهب إليه.

يبدأ الكتاب بمدخل يسرد فيه الكاتب بأسلوب ملحمي قصة نشره هذا الكتاب.. ثم ينتقل إلى الفصل الأول الذي أعطاه عنوان (القرآن الكريم هو المصدر الوحيد للإسلام)، وحاول الكاتب من خلال عدد من النصوص القرآنية تأكيد فكرة أن القرآن كتاب جامع مانع لا يحتاج إلى أي كتاب معه، والحقيقة أن هذا أمر متفق عليه، بل نستطيع اختصار الطريق على الكاتب ونعلن أن القرآن قد أنزله الله على رسوله، دون أن ينزِّل معه صحيح البخاري أو مسلم أو أي من كتب التفسير...!
وفي أول فصوله تمجيد القرآن تمهيدا لعرض فكرته الأصلية عن كتب الحديث التي يراها بلا فائدة، فيعرض علينا كما كبيرا من النصوص القرآنية التي ترهب من يفكر في الاستعانة بأي كتاب آخر بجانب القرآن... فكانت تلك البداية إشارة من الكاتب بأسلوب غير مباشر إلى أن الاستعانة بكتب الحديث هي ضلال وبعد عن كتاب الله.. على أساس أن القرآن قد نزل } تبياناً لكل شىء{ (89) النحل ، ولا حاجة لأي حديث بعده } فبأى حديث بعد الله وآياته يؤمنون{ (6) الجاثية .

وهنا نتوقف لنتساءل.. هل كانت تزكية الله لقرآنه الكريم مبررا في أن نبتعد عن كتب الحديث التي جَمَعت لنا أقوال وأفعال الرسول..؟؟ وإذا كان الأمر كذلك.. فكيف لم يتعرض القرآن لهذا الأمر من خلال نص صريح ومباشر..؟! لماذا لم يصرح القرآن بأن نبتعد عن تتبع أقوال وأفعال محمد عليه الصلاة والسلام...؟؟ أكان الله ليتركنا في ضلال..؟! الكاتب لم يأت بنص قرآني صريح مباشر يدعونا للابتعاد عن تتبع أقوال وأفعال محمد عليه الصلاة والسلام.

ولعل ما ذهب إليه الكاتب في رأيه هذا ما يعارض القرآن نفسه.. خصوصا مع نص قرآني كقوله تعالى: " وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ " (44) النحل، فالنص كما هو واضح دعوة من الله إلى رسوله كي يبين للناس ما نزل إليهم من قرآن، وبالتالي يصبح الناس في حاجة إلى أقوال وأفعال الرسول.. غير أننا نجد د.منصور يأول النص – مخالفا لأراء المفسرين- بقوله أن كلمة }الناس{ في الآية السابقة مقصود بها أهل الكتاب فقط، وذلك اعتمادا على تفسيره للآية السابقة عليها: " وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّ رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ " (43) النحل، وهذا التفسير أو التأويل من الكاتب فيه تكلف شديد.. فكما هو معلوم أن محمد عليه الصلاة والسلام قد أرسل للناس كافة، مصداقا لقوله تعالى " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ " (28) سبأ، كما أن الْقُرْآن قد أنزله الله تعالى للناس كافة }إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ{ (27) التكوير.

إذن فالرسول ما كان لينزِّل الله عليه قرآنا فيبينه لقسم من الناس كأهل الكتاب دون الآخرين كما ذكر الكاتب، وإذا كنا سننساق مع قول الكاتب، فسنجد أنه سيكون على الرسول أيضا أن يبين للمسلمين (ما نزل إليهم) ، فكون القرآن قد نزل لكل الناس، وكون محمد رسول لكل الناس، فهذا يجعل مهمة الرسول هي أن يبين للناس كافة ما نزل إليهم، وهذا ما أوضحه الطبري في تفسيره لقوله تعالى { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } بقوله: لتعرفهم – يا محمد- ما أنزل إليهم من ذلك، و ذكر القرطبي في تفسيره أن: الرسول صلى الله عليه وسلم مبين عن الله عز وجل مراده، مما أجمله في كتابه من أحكام الصلاة والزكاة، وغير ذلك مما لم يفصله. إذا فنحن في حاجة لمتابعة أقوال وأفعال محمد عليه الصلاة السلام التي (تبين) لنا ديننا، كي تكتمل الصورة مثلما أوضح لنا القرآن.

وهكذا نرى الأمور قد بدأت تتواءم مع طبيعة المنطق، بل إننا نجد ما يؤيد هذا في قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا " (59) النساء، وحسبما جاء في تفسير الجلالين أن الآية دعوة إلى رد الأمور الخلافية إلى "الله" أي كتابه القرآن، "والرسول" أي في مدة حياته.. و بعده باتباع سنته، وذلك خير من التنازع والأخذ بالرأي. لكننا نجد الكاتب يحاول أن يدور على المعنى مرة أخرى، ويأتي بفكرة جديدة تسعى إلى التفريق بين محمد الرسول، ومحمد النبي... فالكاتب يذهب إلى أن الله يدعونا إلى طاعة محمد (الرسول)، على أساس أن الله–في رأي الكاتب- لم يأمر المسلمين في أي موضع من القرآن بأن " يطيعوا النبي"..!

وحجة الكاتب في ذلك كم كبير من الآيات حاول أن يوضح من خلاله أن لفظ النبي دائما ما يأت مع حياة محمد الاجتماعية والإنسانية، أو عند ارتكابه لخطأ ما، فيأت القرآن ليقومه بعد ذلك، واستشهد في ذلك – على سبيل المثال- بما وقع للرسول من خداع على يد بعض المنافقين، عندما ناداه القرآن مخاطبا: " إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا" (105) النساء.. هذا كان مع محمد النبي، بينما محمد الرسول – عند الكاتب - هو ناقل للقرآن الذي تعهد الله بحمايته من أي سوء أو خطأ.. ويدعونا الكاتب إلى إتباع ما قام به محمد سواء كان النبي أوالرسول من خلال ما ذكر عنه داخل القرآن فقط، بل جعل الكاتب أحاديث الرسول هي ما قاله الرسول ضمن نصوص القرآن، فالسنة القولية للرسول عند أحمد صبحي منصور هي في القرآن وحديث القرآن، وما تكرر فيه من كلمة "قل" الموجهة لمحمد عليه الصلاة والسلام.
وعليه.. فيصبح تتـبُّع أفعال النبي وأقواله خارج النص القرآني أمر غير مطلوب، بل هو أمر منهي عنه على أساس أن المرجعية الوحيدة للمسلم هي القرآن.. إذن فالكاتب يذهب إلى أن أقوال وأفعال محمد رسول الله هي –فقط- ما جاء في القرآن، وهي المطلوب منا أن نتبعها من خلال الآيات..

ولعل ما ذكرناه سابقا عن قوله تعالى: " وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ " (44) النحل، يرد على ما ذكره الكاتب هنا.. فلكي يبين الرسول ما نزل إلى الناس فعليه أن يواجههم ويتحاور معهم، ويقترح عليهم حتى }يتفكرون{، فيأتي من يعقبه من أجيال تالية فيجمع هذه (النبويات) كي لاتكون حكرا على من سبقهم فقط.

ورغم إعجابنا بفكرة الكاتب حول التفريق بين شخصية النبي وشخصية الرسول، إلا أننا لا نتفق معه فيما ذهب إليه من أن شخصية النبي محمد لا يجب البحث وراءها واتباعها إلا من خلال ما ورد عنها في القرآن، على أساس أنها خارج سياق الوحي... لأن الكاتب برأيه هذا حول الرسول إلى مجرد موظف لدى الإله، يترك وظيفته في ميعاد محدد فيتحول إلى نبي لا علاقة له بالسماء والوحي..!
والرد على هذا الأمر موجود في القرآن أيضا.. ويؤكد ما ذهبنا إليه من قبل في أن من واجبات محمد (الرسول والنبي) أن يبيِّن { لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ }.. فلا فرق في هذا الأمر بين محمد الرسول و محمد النبي ، فكلاهما هو محمد عليه الصلاة والسلام..

يقول تعالى: " إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا " (163) النساء، وهنا يوضح الله تعالى أن الأنبياء كان يوحى إليهم.. و منهم أنبياء فقط، وليسوا برسل، أو أصحاب رسالات وكتب سماوية.

وقد وُصف محمد عليه الصلاة والسلام بالنبي والرسول في مواضع عديدة من القرآن، كقوله تعالى: " قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ" تَهْتَدُونَ " (158) الأعراف.. إذا فمحمد هو رسول ونبي، وكما رأينا منذ قليل في الآية (163) من سورة النساء أن الأنبياء أيضا في كانوا حالة وحي حتى لو كانوا بدون رسالة، فعلى هذا...لا يمكن لنا أن نهجر أفعال النبي محمد وأقواله التي لم تذكر في النص القرآني، بل إن علينا أن نتتبعها لأن فيها وحيا لكنه غير مكتوب داخل رسالة أو نص كتابي.

وعموما.. فعلى ما يبدو أن ما يدعو إليه د. أحمد صبحي منصور لا يصلح من الناحية العقائدية، أما من ناحية المنطق، فكيف نقبل بآراء الفقهاء والمفسرين والمجتهدين، ونهمل ما كان يقال على لسان رسول الله بين أصحابه وفي مجالسه..؟؟ ثم إن محمدا هو نبي القرآن، وليس كنبي الله عيسى أو موسى أو أي من الأنبياء الذين نكتفي بالقراءة عنهم في القرآن.. إن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يفسر القرآن ويوضح للناس ما جاء فيه، وأقدم للقاريء هذا الحديث الذي قد يوضح لنا أهمية الحديث النبوي للقرآن: في صحيح البخاري : ‏حدثنا ‏ ‏قتيبة بن سعيد ‏ ‏حدثنا ‏ ‏جرير ‏ ‏عن ‏ ‏الأعمش ‏ ‏عن ‏ ‏إبراهيم ‏ ‏عن ‏ ‏علقمة ‏ ‏عن ‏ ‏عبد الله ‏ ‏رضي الله عنه ‏ قال: لما نزلت " الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم " شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم ؟ فقال رسول الله " إنه ليس بذلك... ألا تسمع لقول لقمان: يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم "

يوضح الحديث السابق أهمية الحديث في تفسير القرآن، وكيف أن الرسول قد أوضح أمرا كان غائبا عن الصحابة من داخل النص القرآني، ليضع بذلك أسوة لمن يجتهد في النص الديني، وما هذا الحديث إلا مثالا فقط... فكثير من الأحاديث الأخرى توضح أسباب نزول الآيات وملابسات نزولها، ولا أدري كيف هو الأمر مع الدكتور صبحي منصور..؟؟ هل لديه البديل عن تلك الأحاديث النبوية كي يوضح لنا ملابسات نزول الآيات..؟! أظن أنه من الصعب علينا أن نهمل تاريخ نزول القرآن و الخلفية التاريخية لنزول آياته.

ربما جاء هذا الكتاب تعبيرا عن روح جديدة ساخطة وسط مجتمع الشيوخ والفقهاء المصاب بالركود، غير أن صاحب الكتاب على ما يبدو قد تطرف بعض الشيء واستخدم التأويل كثيرا في تفسيراته، وقد عبر هذا التطرف عن عجز حقيقي في وضع أسس منهجية للتعامل مع كتب من نوعية كتاب البخاري وغيره، فكانت النتيجة أن أنكر البخاري وكتب السنة تماما، بدلا من العمل على إصلاح الخطأ الذي نواجهه.. ومهما حوت تلك الكتب من أحاديث لم نعد نقبلها الآن-وهي التي ركز عليها الكاتب في فصله الأخير- إلا أن هذا ليس مبررا لهجر الحديث النبوي كله والبعد عن أفعال الرسول.. ولعل الكاتب لم يوضح لنا إلى ما نستند في معرفة كيفية الصلاة أو الزكاة أو الحج و غيرها من العبادات..!

* في النهاية.. يقول تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) آل عمران.

No comments:

Post a Comment