عبدالرحمن مصطفى
الطريق إلى منزل الفنان عمرو فكري، أشبه بطريق الزائر داخل معبد مصري قديم، حين يمر من مرحلة لأخرى حتى يصل في نهايته إلى "قدس الأقداس". يقيم عمرو فكري في شقة أعلى سطح إحدى عمارات وسط البلد القاهرية، وهناك وسط رائحة البخور التي أحاطت بغرفته بدأ حديثه عن الفن المعاصر وعن مشروعه الذي قضى فيه أربع سنوات، واختار لمشروعه اسم "قدس الأقداس". يقول: "حين كنت طالبًا في كلية الفنون الجميلة، كان البعض يتعامل وقتها مع فن التجهيز في الفراغ Installatio على أنه موجة أو موضة علينا أن نتبناها كفن معاصر، وكنت أفتقد اللمسات الخاصة التي تبرز هوية الفنان وانتماءه"
ينتمي مشروع قدس الأقداس هو الآخر إلى فن التجهيز في الفراغ، ويتكون من أربع مراحل بدأت في العام 2004 حتى العام 2009 هي "الفراش"، "فناء الوحدة، فناء المكان"، "مواقف النفري"، و"بصير الملائكة"، وكل منها كان بمثابة مشروع مستقل، حتى إذا ما اكتملت الصورة كان العنوان الأكبر هو "قدس الأقداس". يعلق قائلا: "أنتظر إصدار كتالوج فني، يضم مشروع قدس الأقداس بأكمله، بدعم من المؤسسة الثقافية السويسرية (بروهلفتسيا)".
سبق هذا العمل خطوات هامة رسمت اتجاه الفنان مبكرًا؛ إذ تلقى دروسًا ما زالت تدير حياته ومشروعاته الفنية حتى الآن، الدرس الأول هو التعامل الصادق مع النفس، اختبر ذلك في فترة المراهقة أثناء ورشة تجريبية لصناعة الأفلام، يروي عن ذلك: "تعلمت أن أعبر عن نفسي دون حسابات، هذا ما حدث حين اخترت فكرة لفيلم في ورشة تدريبية، ونلت بها تقدير لجنة التحكيم رغم صغر سني، وكانت تضم في ذلك الوقت سينمائيين كبار، واخترت ألا ألعب في المضمون أو الأفكار المعلبة، ولكن أن أعبر عن أفكاري".أما الدرس الثاني فكان في جلسات الفنان الراحل حامد سعيد مؤسس جماعة "الفن والحياة" إحدى أهم الجماعات الفنية المصرية في القرن الماضي، يصف عمرو فكري ذلك : "كنت أحرص على تلك اللقاءات وانا طالب في الجامعة، وحاولت أن أكرر زياراتي للفنان حامد سعيد لمزيد من التعلم، وأثر بشدة على تفكيري". كان حامد سعيد، بمثابة الشيخ الصوفي الذي ينهل عمرو فكري من أفكاره، هناك التفت إلى قضية شغلته فيما بعد حول أن هناك هوية مصرية ممتدة عبر التاريخ، هي مصر الفرعونية، ومصر الموالد، والتصوف، والرقص والتدين، وأن علينا أن نعبر عن ذلك بصور مختلفة. "كان هناك في هذا الجيل جمال حمدان في الجغرافيا، وشادي عبدالسلام في السينما، وحامد سعيد في الفن التشكيلي، وكلهم يبحثون عن مصر وانتماءاتها" حسب عبارته.
على أرض الواقع قد يبدو هذا الحديث بمثابة ترف إذا ما عدنا إلى العام 2001 حين تخرج عمرو من الفنون الجميلة، يشرح قائلا: "كان الكل مشغولا بما يحتاجه السوق، هناك من اتجه من زملاء الدراسة إلى مجال الجرافيك، وهناك من انضم إلى قافلة الدعاية والاعلان، لذا واجهت السؤال الذي يواجهه كل خريج، وخاصة أبناء شعبة التصوير الزيتي، ما معنى كلمة فنان؟ خاصة أنني جربت فنونًا مختلفة أثناء الجامعة مثل التصوير الفوتوغرافي والرقص الحديث والإخراج..". كان معرض "حضرة مولاي" في العام 2002 هو لحظة التجلي التي كشفت له معنى الفنان، حين أراد نقل معرفته عن الصوفية ورجالاتها. لم يمنع نفسه من الضحك حين تذكر كيف كانت صورة افتتاح معرضه "أقيم المعرض في مهرجان القلعة، وكان افتتاح الفعالية على يد سوزان مبارك التي مرت على المعرض وقصت الشريط وكأنها تفتتح معرضي شخصيًا". في حضرة مولاي، استخدم عمرو فكري وقتها خط الثلث والصور مع تكوينات تحاكي رايات الطرق الصوفية في الموالد، وكان المكان مناسبا لهذه الأجواء.
"الفن أسلوب حياة" مثلما يرى عمرو فكري .. أجواء الصوفية والعقائد الشرقية تظهر في جلسته على الأرض في منزله الذي أقام فيه لمدة عام تحت أضواء الشموع حتى إدخال الكهرباء، ولعل اهتمامه المبكر بعالم التصوف رغم أنه ليس محسوبًا على طريقة صوفية بعينها دفعه إلى رحلة تأمل، إذ سافر إلى زيورخ في العام 2003 بدعم من المؤسسة الثقافية السويسرية (بروهلفتسيا). وبين الصدمة والاغتراب وجفاف الحياة الروحية في الغرب، عرف هناك خطواته القادمة، فكان مشروع "الفراش" مستندًا فيه إلى تكوينات شبيهات بالمقرنصات الإسلامية التي هي في الأصل إعادة تشكيل أجزاء من صور التقطها الفنان، واتخذ عنوان "الفراش" من عبارة للحلاج في كتابه الطواسين تقول: "الفراش يطير حول المصباح إلى الصباح و يعود إلى الأشكال فيخبرهم عن الحال بألطف المقال، ثم يمرح بالدلال طمعًا في الوصول إلى الكمال". وكانت تلك هي بداية مشروعه الأكبر "قدس الأقداس"، إذ كانت المرحلة الثانية في "فناء الوحدة، فناء المكان" الذي قدم للزائر تجسيدا يشبه المقامات الصوفية واستخدم فيه قراءاته عن الهندسة المقدسة والطاقة بهدف إدخال الزوار إلى مساحة تطهر ذات تأثير روحي، أما مشروعه الثالث "مواقف النفري" فاستعان بإبداعه في إعادة تشكيل الصور، كما اختار نصوصًا معبرة، واختتم في مشروع "بصير الملائكة" حين انتقل إلى "متون هيرميس" واستعار الشكل الهرمي المقدس عند المصريين القدماء.
يخرج عمرو من مشروعه قدس الأقداس ليعرض على جهاز اللابتوب في منزله بعضا من معارض وأعمال أخرى ارتبطت بأحداث انفعل بها، منها "طقوس الأخير"، الذي اعتمد فيه على صور من الحياة المصرية اليومية باللونين الأبيض والأسود، وأثناء العرض على جهاز الكمبيوتر يقفز اللون الأحمر ليلطخ الصور وكانها طقوسا دموية، وكان ذلك في العام 2006 تحت تأثير مذبحة اللاجئين السودانيين، والانتخابات المزورة.
خارج شقته الصغيرة على سطح العمارة - التي يقطن بها أيضا الفنان عادل السيوي- لا صوت إلا صوت الرياح ومشاهد العمارات القريبة والبعيدة، التي قد تبعده عن صخب المليونيات والمظاهرات في وسط المدينة، لكنه غير بعيد عنها، كل طموحه اليوم أن يعيد مشروعه الذي تعطل في حقبة مبارك، حين سعى لتأسيس واحة للفنانين، يعيشون فيها فترات تأملاتهم وينتجون فيها أعمالهم. يعترف قائلا: "الثورة صنعت لي ارتباكًا شديدًا، ورغم ذلك سأعبر عن تلك المرحلة بمشروع قادم، لقد كنا في الماضي نقاوم، وما كنا نقاومه قديما بدأ في الانهيار، لذا نحن مقدمون على مرحلة جديدة تمامًا، نحتاج فيها إلى التعرف على أنفسنا من جديد، وأن نقدم هوية جامعة للمصريين".
الطريق إلى منزل الفنان عمرو فكري، أشبه بطريق الزائر داخل معبد مصري قديم، حين يمر من مرحلة لأخرى حتى يصل في نهايته إلى "قدس الأقداس". يقيم عمرو فكري في شقة أعلى سطح إحدى عمارات وسط البلد القاهرية، وهناك وسط رائحة البخور التي أحاطت بغرفته بدأ حديثه عن الفن المعاصر وعن مشروعه الذي قضى فيه أربع سنوات، واختار لمشروعه اسم "قدس الأقداس". يقول: "حين كنت طالبًا في كلية الفنون الجميلة، كان البعض يتعامل وقتها مع فن التجهيز في الفراغ Installatio على أنه موجة أو موضة علينا أن نتبناها كفن معاصر، وكنت أفتقد اللمسات الخاصة التي تبرز هوية الفنان وانتماءه"
ينتمي مشروع قدس الأقداس هو الآخر إلى فن التجهيز في الفراغ، ويتكون من أربع مراحل بدأت في العام 2004 حتى العام 2009 هي "الفراش"، "فناء الوحدة، فناء المكان"، "مواقف النفري"، و"بصير الملائكة"، وكل منها كان بمثابة مشروع مستقل، حتى إذا ما اكتملت الصورة كان العنوان الأكبر هو "قدس الأقداس". يعلق قائلا: "أنتظر إصدار كتالوج فني، يضم مشروع قدس الأقداس بأكمله، بدعم من المؤسسة الثقافية السويسرية (بروهلفتسيا)".
سبق هذا العمل خطوات هامة رسمت اتجاه الفنان مبكرًا؛ إذ تلقى دروسًا ما زالت تدير حياته ومشروعاته الفنية حتى الآن، الدرس الأول هو التعامل الصادق مع النفس، اختبر ذلك في فترة المراهقة أثناء ورشة تجريبية لصناعة الأفلام، يروي عن ذلك: "تعلمت أن أعبر عن نفسي دون حسابات، هذا ما حدث حين اخترت فكرة لفيلم في ورشة تدريبية، ونلت بها تقدير لجنة التحكيم رغم صغر سني، وكانت تضم في ذلك الوقت سينمائيين كبار، واخترت ألا ألعب في المضمون أو الأفكار المعلبة، ولكن أن أعبر عن أفكاري".أما الدرس الثاني فكان في جلسات الفنان الراحل حامد سعيد مؤسس جماعة "الفن والحياة" إحدى أهم الجماعات الفنية المصرية في القرن الماضي، يصف عمرو فكري ذلك : "كنت أحرص على تلك اللقاءات وانا طالب في الجامعة، وحاولت أن أكرر زياراتي للفنان حامد سعيد لمزيد من التعلم، وأثر بشدة على تفكيري". كان حامد سعيد، بمثابة الشيخ الصوفي الذي ينهل عمرو فكري من أفكاره، هناك التفت إلى قضية شغلته فيما بعد حول أن هناك هوية مصرية ممتدة عبر التاريخ، هي مصر الفرعونية، ومصر الموالد، والتصوف، والرقص والتدين، وأن علينا أن نعبر عن ذلك بصور مختلفة. "كان هناك في هذا الجيل جمال حمدان في الجغرافيا، وشادي عبدالسلام في السينما، وحامد سعيد في الفن التشكيلي، وكلهم يبحثون عن مصر وانتماءاتها" حسب عبارته.
على أرض الواقع قد يبدو هذا الحديث بمثابة ترف إذا ما عدنا إلى العام 2001 حين تخرج عمرو من الفنون الجميلة، يشرح قائلا: "كان الكل مشغولا بما يحتاجه السوق، هناك من اتجه من زملاء الدراسة إلى مجال الجرافيك، وهناك من انضم إلى قافلة الدعاية والاعلان، لذا واجهت السؤال الذي يواجهه كل خريج، وخاصة أبناء شعبة التصوير الزيتي، ما معنى كلمة فنان؟ خاصة أنني جربت فنونًا مختلفة أثناء الجامعة مثل التصوير الفوتوغرافي والرقص الحديث والإخراج..". كان معرض "حضرة مولاي" في العام 2002 هو لحظة التجلي التي كشفت له معنى الفنان، حين أراد نقل معرفته عن الصوفية ورجالاتها. لم يمنع نفسه من الضحك حين تذكر كيف كانت صورة افتتاح معرضه "أقيم المعرض في مهرجان القلعة، وكان افتتاح الفعالية على يد سوزان مبارك التي مرت على المعرض وقصت الشريط وكأنها تفتتح معرضي شخصيًا". في حضرة مولاي، استخدم عمرو فكري وقتها خط الثلث والصور مع تكوينات تحاكي رايات الطرق الصوفية في الموالد، وكان المكان مناسبا لهذه الأجواء.
"الفن أسلوب حياة" مثلما يرى عمرو فكري .. أجواء الصوفية والعقائد الشرقية تظهر في جلسته على الأرض في منزله الذي أقام فيه لمدة عام تحت أضواء الشموع حتى إدخال الكهرباء، ولعل اهتمامه المبكر بعالم التصوف رغم أنه ليس محسوبًا على طريقة صوفية بعينها دفعه إلى رحلة تأمل، إذ سافر إلى زيورخ في العام 2003 بدعم من المؤسسة الثقافية السويسرية (بروهلفتسيا). وبين الصدمة والاغتراب وجفاف الحياة الروحية في الغرب، عرف هناك خطواته القادمة، فكان مشروع "الفراش" مستندًا فيه إلى تكوينات شبيهات بالمقرنصات الإسلامية التي هي في الأصل إعادة تشكيل أجزاء من صور التقطها الفنان، واتخذ عنوان "الفراش" من عبارة للحلاج في كتابه الطواسين تقول: "الفراش يطير حول المصباح إلى الصباح و يعود إلى الأشكال فيخبرهم عن الحال بألطف المقال، ثم يمرح بالدلال طمعًا في الوصول إلى الكمال". وكانت تلك هي بداية مشروعه الأكبر "قدس الأقداس"، إذ كانت المرحلة الثانية في "فناء الوحدة، فناء المكان" الذي قدم للزائر تجسيدا يشبه المقامات الصوفية واستخدم فيه قراءاته عن الهندسة المقدسة والطاقة بهدف إدخال الزوار إلى مساحة تطهر ذات تأثير روحي، أما مشروعه الثالث "مواقف النفري" فاستعان بإبداعه في إعادة تشكيل الصور، كما اختار نصوصًا معبرة، واختتم في مشروع "بصير الملائكة" حين انتقل إلى "متون هيرميس" واستعار الشكل الهرمي المقدس عند المصريين القدماء.
يخرج عمرو من مشروعه قدس الأقداس ليعرض على جهاز اللابتوب في منزله بعضا من معارض وأعمال أخرى ارتبطت بأحداث انفعل بها، منها "طقوس الأخير"، الذي اعتمد فيه على صور من الحياة المصرية اليومية باللونين الأبيض والأسود، وأثناء العرض على جهاز الكمبيوتر يقفز اللون الأحمر ليلطخ الصور وكانها طقوسا دموية، وكان ذلك في العام 2006 تحت تأثير مذبحة اللاجئين السودانيين، والانتخابات المزورة.
خارج شقته الصغيرة على سطح العمارة - التي يقطن بها أيضا الفنان عادل السيوي- لا صوت إلا صوت الرياح ومشاهد العمارات القريبة والبعيدة، التي قد تبعده عن صخب المليونيات والمظاهرات في وسط المدينة، لكنه غير بعيد عنها، كل طموحه اليوم أن يعيد مشروعه الذي تعطل في حقبة مبارك، حين سعى لتأسيس واحة للفنانين، يعيشون فيها فترات تأملاتهم وينتجون فيها أعمالهم. يعترف قائلا: "الثورة صنعت لي ارتباكًا شديدًا، ورغم ذلك سأعبر عن تلك المرحلة بمشروع قادم، لقد كنا في الماضي نقاوم، وما كنا نقاومه قديما بدأ في الانهيار، لذا نحن مقدمون على مرحلة جديدة تمامًا، نحتاج فيها إلى التعرف على أنفسنا من جديد، وأن نقدم هوية جامعة للمصريين".
منشور في الموقع فقط
ReplyDelete