Sunday, November 29, 2009

سياحة المآذن

كتب – عبدالرحمن مصطفى
تقول القصة أن القدر خيب ظن السلطان حسن حين أراد تشييد أربع مآذن فوق جامعه الشهير أمام قلعة الجبل فسقطت إحدى هذه المآذن أثناء بنائها وتسببت في مصرع المئات، فامتنع السلطان عن استكمال البناء وبقت مئذنتان فقط من أصل أربع.. رأى العامة في تلك الحادثة نذير شؤم يهدد بزوال ملك السلطان، وتحققت نبوءتهم فمات السلطان بعدها بثلاثة وثلاثين يوما. تلك القصة التي رواها المقريزي المؤرخ الشهير ونقلها عنه علماء الحملة الفرنسية في كتابهم وصف مصر تصور مكانة المئذنة قديما في مخيلة العامة كرمز للسلطان والحكم ودليل على الهيبة. وهو ما يدركه الآن السائحون الأجانب في زيارتهم المتعمدة إلى داخل مآذن القاهرة كي يواجهوا تلك الهيبة و يطلوا منها على القاهرة مدينة الألف مئذنة.
التنقل بين مآذن القاهرة يكشف عن مفارقات أهمها أن أغلب رواد المآذن الأثرية من الصاعدين على سلالمها الداخلية هم الزوار الأجانب حسبما أكد العاملون حول تلك المآذن، قد يكون الحظ أفضل في عطلة يوم الجمعة حيث تزيد فرص رؤية بعض المصريين هناك، محمد حسن طالب كلية التجارة اصطحب أخته الصغرى وقريبة لهما إلى أعلى سطح مسجد أحمد بن طولون على مسافة ليست بعيدة من جامع السلطان حسن، دخلوا سويا من باب أسفل المئذنة التي تكاد تكون منفصلة عن المسجد، و صعدوا كبقية الزوار درجات سلم يدور حول قاعدتها المكعبة حتى يصل الجميع إلى المنطقة التي يختار فيها الزائر إما أن يتجول فوق سطح المسجد أو أن يكمل طريقه داخل جسد المئذنة. محمد والذين معه امتنعوا عن استكمال المشوار إلى أعلى المئذنة كان هدفهم واضحا منذ البداية يقول : "شاهدت فيلما تسجيليا عن قصة بناء جامع ابن طولون وقررنا زيارة المكان، ربما لو كنت وحدي لصعدت المئذنة". لم تستفز هذه العبارة أخته أو قريبته للصعود، خاصة أنها مهمة تجنبها بعض السائحين الأجانب من كبار السن وأقدم عليها بعض الشباب الذي تخلفوا عن مجموعتهم لالتقاط بعض الصور من أعلى المئذنة.
يصف الأثريون مئذنة ابن طولون بالملوية و السبب يعرفه كل من حاول الصعود داخل جسد المئذنة، حيث يقابله سلم دائري ضيق يقود الزائر إلى مستوى أعلى يمكن من خلاله الراحة والتقاط الأنفاس ثم الصعود الأخير إلى أعلى نقطة في المئذنة .
كانت المآذن قديما تسمى بالمنارات وذلك لأنها كانت تضاء ليلا بالقناديل لإرشاد المسافرين ليلا، أما اليوم فيمكن للزائر أن يتحسس أماكن هذه القناديل، وحول مئذنة ابن طولون اختار البعض تصوير القاهرة من زاوية تكشف مساحة كبيرة من حي السيدة زينب بمساكنه الفقيرة وآثاره العريقة. مئذنة ابن طولون هي أول مئذنة حقيقية في سماء القاهرة، أما جامع عمرو بن العاص أول جامع في مصر فقد أنشئت فوقه صوامع لإقامة الأذان ولم تكن مآذن حقيقية. ولم يقتصر استخدام المآذن على رفع الأذان وقت الصلاة، ففي أوقات أخرى كانت منصة لإذاعة البيانات الحكومية وإعلان الحاكم الجديد على العامة، وفي كتاب عجائب الآثار للمؤرخ عبدالرحمن الجبرتي تسجيل لعدد من عمليات إطلاق النار والنزاعات التي استخدمت فيها المآذن. وتكفي زيارة إلى مئذنة أخرى من نوع فريد في أعلى باب زويلة كي تؤكد لنا هذه الصورة الأخرى من استخدامات المآذن حيث مئذنتي جامع المؤيد شيخ. هناك يبدأ الصعود من باب في أسفل البوابة يجلس عليها أحد أفراد الأمن.. مهمته أن يقطع التذاكر للزوار مقابل جنيه واحد للمصريين وخمسة عشر جنيها لغير المصريين، يقول بفخر : "زارني هنا دبلوماسيون وسفراء أجانب في زيارات هادئة دون أن يدري بهم أحد، على رأسهم السفيرة الأمريكية الحالية، وكذلك السفير الأمريكي السابق، كانوا أهم من زار المئذنة والبوابة أثناء وجودي." . عدا ذلك فأغلب زواره المصريين من الطلبة القادمين في مهمة محددة هي البحث عن الجانب العملي في دراستهم سواء من طلاب الآثار أو العمارة. وتكاد تكون مئذنة المؤيد شيخ هي الوحيدة التي يقطع لها تذاكر زيارة و السبب هو خصوصيتها حيث أقيمت كامتداد لبرجي باب زويلة (بوابة المتولي)، بعيدا عن الشكل التقليدي لعلاقة المئذنة بالمسجد
السلطان مؤيد شيخ المحمودي جاء مصر عبدا وحبس في فترة داخل سجن مجاور لباب زويلة (بوابة المتولي) وحين تولى الحكم بنى مسجده مكان السجن الذي عذب فيه، ونظرا لوجود المئذنتين فوق سور له أغراض حربية، فعلى الزائر ألا يفاجأ أثناء رحلة الصعود بالعلامة الإرشادية التي ستقابله في أحد الأركان معلنة رسالة تحذير فريدة من نوعها عن أن هذا المكان كان يصب منه الزيت المغلي على رؤوس الأعداء، وقبل دخول الزائر إلى جسد المئذنة سيواجه بلافتة قاسية أخرى تقول "احذر السلم ضيق"، ولا يعلم فائدة هذا التحذير سوى من يكمل الرحلة داخل جسد المئذنة فوق سلم دائري ضيق جدا، ويصعد الزائر إلى المستوى الأول حيث يمكنه أخذ قسط من الراحة والتفكير في الاكتفاء والنزول دون إكمال المهمة. في تلك المرحلة الوسطى بإمكانه أن يرى علامة للذكرى الخالدة كتبها زائر يدعي أسامة لصديقته علا وكلاهما من الإسكندرية حسبما كتبا على جدران الأثر التاريخي في أعلى المئذنة كدليل على جرأتهما للصعود إلى هذا المكان.
الانتقال إلى مآذن جوامع أخرى قد لا يكلل بالنجاح بالنسبة للزوار المصريين، في جامع الحاكم بأمر الله أكد عمال المسجد ومسئولي الآثار الجالسين خارج المسجد على أن صعود منارة جامع الحاكم هو أمر ممنوع منعا باتا منذ سنوات لأعمال الترميم، لكن تلك التأكيدات القاطعة تكذبها صور السائحين التي رفعوها على موقع
picasawebلرفع الصور
ويظهر فيه أحد الزوار الأجانب في صورة له أعلى المسجد بالقرب من المئذنة، إلى جانب صورة أخرى أكثر طرافة أضافتها مستخدمة تدعى جوليا على حسابها التقطتها من داخل جسد المئذنة حسب وصفها ويظهر برفقتها أحد عمال المسجد الذين كانوا قد نفوا لي إمكانية الصعود إلى المئذنة أو سطح الجامع.
المئذنة التي اعتبرها العامة في عصور سابقة رمز السلطان والقوة تجذب اليوم السائحين الأجانب بقوة وتثير في رؤوسهم فكرة مواجهة رمز الإسلام، والاستمتاع بالنظر إلى مئات المآذن المجاورة، تلك الروح فيما يبدو جعلت تلك الزيارات وكأنها مقصورة على الأجانب، وهو ما يدركه العاملون في المساجد الأثرية، بعض السائحين سجلوا تجاربهم عن أن "البقشيش" هو الذي يوصل السائح إلى أعلى بعض المآذن، وهو ما انتقل ليصبح نصيحة وجهها أحدهم عبر قسم السفر في موقع ياهو. ويوضح أحد خدام جامع المرداني في منطقة الدرب الأحمر بأنه "مرن مع الزوار" لكنه في حقيقة الأمر كان أكثر مرونة مع الأجانب، فحسب تعبيره "أنا أعلم من أتى بهم إلى هنا"، بينما طلب مني تصريحا بالصعود إلى مئذنة المسجد أو كارنيها يثبت أني طالب أدرس الآثار.
يرى فرج فضه رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية بالمجلس الأعلى للآثار أن تفسير ما يحدث داخل المآذن هو أن بعض المآذن ليست من الكفاءة أن تتحمل زيارات السائحين لذا يتم حظر الصعود داخلها، عدا مآذن مثل جامع المؤيد شيخ فوق باب زويلة وجامع ابن طولون فيسمح بزيارتهما. في حين رفض التعليق على صور السائحين المتواجدين داخل منارة جامع الحاكم رغم رفض عمال المسجد السماح بالصعود إليها.

2 comments:

  1. رائع
    يا ريت في كلمة توفيك حقك في سلاسة الكتابة و طلاوة الوصف
    متنبئالك بمستقبل مميز و فارق عن بقية ما يكتبه البعض كصحافة

    تحياتي

    ReplyDelete
  2. جهد واضح في استقصاء حكايات ما وراء المآذن في التاريخ والحاضر
    أعجبني المزج بين تعليقات بعض من التقيتهم، وكتابات أو صور آخرين على مواقع إلكترونية

    كتابة صحفية رشيقة يا عبدالرحمن

    ReplyDelete