Tuesday, November 8, 2005

آخر الفتن السكندرية

من بين العديد من الأراضي التي زحف عليها الاسكندر الأكبر، كانت بقعة وحيدة على أرض مصر هي التي اختارها كي تكون مدينته الخالدة، فكانت الإسكندرية.. وهيئ الله لتلك المدينة أن تولد كعاصمة لدولة البطالمة.. ورثة الاسكندر، وأن تأخذ من الامتيازات ما يوفر لها استقلالها الإداري والقضائي الذي انعكس فيما بعد على شخصية المجتمع السكندري نفسه، فأصبح لديه شعورا خاصا بالتميز على بقية المدن المصرية، وزاد من هذا الإحساس ذلك التنوع الثقافي والسكاني الذي شهدته تلك المدينة التجارية التي تحولت في وقت قصير إلى واحدة من أهم مدن العالم القديم. كانت طبيعة المواطن السكندري.. منفتح، متقبل لثقافات الآخرين، يجمع ما بين أخلاقيات البحار والتاجر سويا فكان متعاونا مع الغرباء حريصا على مصالح الآخرين، غير أن بعض الفترات قد تبدل فيها الحال، فوجدنا صراعات بين الأديان أو الثقافات نتيجة تدخلات من الحكام أو كنتيجة لتأثيرات دولية، أو حتى بسبب جماعات المصالح المستفيدة من مثل تلك الأجواء.

كان من أسباب الفتن السكندرية تدخلات الحكام ضد أو مع إحدى فئات المجتمع، وهو ما عبَّر - وقتها - عن ضعف سياسات الدولة وعدم قدرتها على الإدارة السليمة، وهو ما حدث في النصف الثاني من عهد حكم البطالمة عندما وجدنا - على سبيل المثال - محاولات من ملوك البطالمة لإكراه اليهود على اعتناق ديانة البطالمة، في الوقت الذي جاء فيه هذا الأمر بعد هجرات يهودية إلى الإسكندرية، فما كان من إغريق المدينة إلا وأن بدأوا هم أيضا في حملاتهم الدعائية ضد اليهود وضد معتقداتهم، وتراشق الفريقان بالخطب والرسائل... ونجد نفس السياسات (الحكومية) الخاطئة تتكرر من قِبَـل بعض الحكام المسلمين عندما شهدت العصور الإسلامية في مصر تأرجحا في التعامل مع غير المسلمين ما بين التضييق عليهم أو محاباتهم بصورة فجة، فأحيانا ما كنا نجد مسئولا في الدولة من غير المسلمين وقد اشترك في مخالفات في حق المواطنين، فتكون الفرصة الوحيدة للمواطنين كي ينالوا منه ومن أبناء ديانته عندما تتغير سياسة الحكومة ضد غير المسلمين و تبدأ في التضييق عليهم، و قد شهدت الإسكندرية فتنة من هذا النوع وقت حكم المماليك في عهد الناصر محمد بن قلاوون وخلفائه، عندما اضطربت المدينة وأُحرقت دور العبادة وجرت العديد من الصدامات، فكان هذا التضييق على غير المسلمين من قِبَـل الحكومة فرصة وإشارة لفئات الشعب المقهور كي ينال من عزيز قد ذل، وموظف للدولة – من أهل الذمة- يعيش فترة ضعف وانتكاسة لغضب الحكومة عليه..!

وكان من ضمن أسباب الفتن السكندرية تدخلات خارجية وتبدل في السياسات الدولية... فعلى سبيل المثال، عندما أعلن الإمبراطور جوليان المرتد (361-363 مـ) كفره بالمسيحية، وتشجيعه للفلسفة والممارسات الوثنية، كانت بداية الصراع الديني في المدينة، وعندما أعلن الإمبراطور ثيودوسيوس الأول (379- 395 مـ) المسيحية دينا رسميا للإمبراطورية كانت تلك فرصة لرجال المسيحية أن يهدموا معبد السرابيوم معقل الفكر الوثني والفلسفي، في محاولة منهم لإحكام سيطرة المسيحية - وحدها - على المدينة

وما الأسباب الخارجية إلا غطاء لأسباب داخلية.. كظهور إحدى القوى الداخلية التي تستغل الدين في السيطرة على الجماهير وتكوين كيان خاص بها... فعلى سبيل المثال قد تم التنكيل ببعض الفلاسفة ممن لم يدينوا بالمسيحية في مدينة الإسكندرية على يد رجال الدين المسيحي من أجل قهر الوجود الفكري غير المسيحي بالمدينة، ولعل أشهر تلك الحوادث ما جرى للفيلسوفة "هيباشيا" عام 415 مـ التي تم الاعتداء عليها والتمثيل بها تحت أعين بعض رجال الكنيسة تنكيلا بالفلسفة وأهلها، وإرهابا لهم كي يتركوا المدينة، وتقوية للكنيسة ورجالها في المجتمع السكندري والمصري، وتعبيرا عن أن هناك من ينافس الحكومات الداخلية (= الولاة الرومان) في المجتمع.

قد تكون هناك أسباب خارجية تقوي البعض في الداخل وتدفع به كي يجرب الثورة، كتلك الحادثة التي جرت عام 608 هـ عندما فكّر مجموعة من الحمقى قدروا بثلاثة آلاف من التجار الفرنج استغلال المد الصليبي نحو المشرق كي يستولوا على الإسكندرية، وفشلوا فشلا ذريعا.. وهناك العديد من الحوادث التي انصاعت فيها بعض القوى الداخلية لقوى خارجية.. غير أن الفتن الحقيقية هي تلك التي تتكون داخليا بين سكان المدينة الواحدة، دون قوات خارجية تساندها.

مؤخرا... وقعت آخر الفتن السكندرية عندما تجمهر المسلمون حول إحدى كنائس المدينة، وسادت هناك أجواء من التعصب أفضت إلى إصابات وخسائر مادية، وانتشرت روح البغضاء بين أبناء الطائفتين على إثر انتشار تسجيل لإحدى المسرحيات اعتبرها الكثيرون مسيئة للإسلام، والتي تم تصويرها داخل تلك الكنيسة، فعادت أجواء الفتن السكندرية إلى الظهور مرة أخرى. وهنا.. نجد أن أغلب أسباب الفتن السكندرية مازالت تتكرر، فالأجواء الدولية لها تأثيرها في جعل بعض المسلمين في حالة تحفز تجاه كل حديث عن الإسلام، ولكن.. تظل الأسباب الداخلية هي الأقوى دائما في إحداث الفتن.. فعلى ما يبدو أن هناك أيضا من يسعى لفرض نفوذه باسم الدين من داخل الكنيسة ومن بين المسلمين.. فيستغل الناس ويستخدمهم في مثل تلك الأحداث، مثلما كان الأمر قديما، أما عن تدخلات أو سياسات حكومية داخلية نستطيع أن نقدمها كسبب وراء هذا الحدث، فلا نستطيع أن نجد أثرا حكوميا واضحا وراء تلك الفتنة السكندرية الأخيرة، غير أننا نلاحظ أن هناك اعتقاد لدى بعض المسلمين أن الحكومة تعرقل سير أي قضية يكون أحد طرفيها من المسيحيين خصوصا في المسائل ذات الطابع الديني أو السياسي، ويكون ذلك لصالح الجانب المسيحي درءا للمشاكل.. ونحن لا نعلم أصل هذا الاعتقاد... غير أن كل تلك الأمور تجعلنا نرى أن أسباب الفتن السكندرية طوال تلك القرون كانت متقاربة، فعلى المصريين - على الصعيدين الشعبي والحكومي - الانتباه لمثل تلك الأسباب.
نتمنى للمجتمع السكندري أن يعود إلى نشأته الأولى حرا طليقا، قادرا على استيعاب الكل.. بكل ما فيه من اختلافات، فكل ما نخشاه أن تكون الهجرات الداخلية إلى الإسكندرية قد أفقدتها روحها الأصيلة، وطمست شخصيتها، فأصبحت اليوم في حاجة إلى بعث من جديد، لكن.. تبقى تلك المهمة الآن هي مهمة السكندريين وحدهم فقط.
ــــــــــــــــ

No comments:

Post a Comment