فى الشيخ زويد أهل السنة والجماعة: ليس كل صاحب لحية تكفيريًا
يمر الشيخ هانى محلاب بين المعتكفين فى مسجد التوحيد بمدينة الشيخ زويد، مستقبلا استفساراتهم ومحاولا طمأنتهم بعد حملة اعتقالات داهمت منازل عدد من السلفيين فى المدينة قبل أيام، يبدأ حديثه ساخرا عن الصورة النمطية التى تلاحق السلفيين هنا، فكانت عبارته: «مرحبا بك فى معقل الإرهابيين.. ألا يرانا البعض هكذا؟!». فى جنبات المسجد الذى يعد من أهم مراكز السلفية فى شمال سيناء، يجلس بعض من تعرضوا للاعتقال والمساءلة فى السنوات الماضية قبل الثورة، أما تصنيف رواد المسجد لأنفسهم فهم «جماعة أهل السنة والجماعة»، ويتبعون «مشايخ مثل محمد حسان وأبو إسحق الحوينى»، حسب أحد أفراد الجماعة.
تستغرق المسافة من مسجد التوحيد إلى بوابات المدينة نحو خمس دقائق بالسيارة، حيث الموعد المحدد مع الشيخ حمدين أبوفيصل أحد القيادات السلفية فى شمال سيناء، وهو من تعرض للاعتقال أيضا بعد تفجيرات طابا فى عام 2004 لمدة 18 شهرا، وازداد اهتمامه بعدها بالعلوم الشرعية حتى أصبح مقصدا للمشورة، وعلى اتصال بمشايخ آخرين خارج سيناء.
فى الطريق من مسجد التوحيد إلى منزل القيادى السلفى الشيخ أبو فيصل، اتجهنا بسيارة حمدان أحد الشباب السلفى من أبناء المدينة، ولم يخف حمدان سخريته من التناول الإعلامى للإسلاميين فى سيناء، معلقا: «فى أحد الدروب الجبلية الوعرة اتجهنا إلى منزل أحد كبار المتطرفين الدينيين.. أليس كذلك يكتب بعض الصحفيين؟». يطلق حمدان الجملة الساخرة دون أن يخلو الأمر من مرارة وقلق، هذه المرارة نفسها التى دفعت الشيخ هانى محلاب إمام مسجد التوحيد أن يرفض لقاء بعض الفضائيات خشية «الإفك الإعلامى، وتحريف الأقوال»، على حد قوله.
تقع مدينة الشيخ زويد على مسافة 35 كيلومترا شرق مدينة العريش عاصمة محافظة شمال سيناء، من هنا مر أحد مجاهدى الفتوحات الإسلامية فى عهد عمر بن الخطاب ويعتبره المتصوفة من أولياء الله الصالحين ويتبرك به بعض سكان المنطقة. ولم تشفع تلك السيرة الجهادية من أن يتم تخريب ضريحه فى عدة محاولات بعد الثورة، وتتوارد الأقوال حول إن كان الفاعل سلفيا متحمسا أم تكفيريا من خارج المدينة التى يقدر عدد سكانها بما يتبعها من قرى أكثر من 50 ألف نسمة، ويتبنى السلفيون هنا آراء تدين زيارة المقابر والتبرك بها وأنها عقيدة الضلال. وفى منزل بسيط يقتطع مساحة من أرض صحراوية يجلس الشيخ حمدين أبو فيصل أمام جهاز الكمبيوتر الشخصى «اللابتوب» متوجسا من تصاعد الأحداث فى الأيام الماضية، «قبل الثورة كان ضابط أمن الدولة يدخل السوق وينادى على من معه قائلا: (لم التكفير دول). أخشى أن تعود هذه الأيام، وتبدأ حملات اعتقالات عشوائية ضد الإسلاميين، لأن هذا سيصنع أعداء جدد للسلطة، وقد يتحول المعتدل إلى معتدى.. أملى ألا يحدث ذلك». هذه الحالة القلقة بين السلفيين فى المدينة هى حصاد صورة رسمتها الأحداث لمنطقة شمال سيناء على مدى أكثر من عام ونصف مضت منذ ثورة 25 يناير، بعد أن ترددت بكثافة تعبيرات مثل «الإمارة الاسلامية فى سيناء» بين وسائل الإعلام المختلفة، نتيجة العمليات التخريبية المتكررة، ورغم إنكار تنظيمات معروفة بنهجها الجهادى مثل «مجلس شورى المجاهدين» و«جند الإسلام» أى صلة بهجوم رفح المسلح، إلا أن الجميع هنا يؤكد وجود مجموعات تتبنى النهج المسلح، وليس لأحد عليها سلطان، يجمع أفرادها علاقات الجوار والقبلية والفكر الواحد، سواء كان جهاديا أو تكفيريا. فى ظل هذا التشابك المعقد يخشى السلفيون فى المدينة من «أهل الجماعة والسنة» أن يتحولوا إلى كبش فداء أو أن يتعرضوا لاعتقالات واسعة على يد الجهات الأمنية الباحثة عن معلومات جديدة، ليس هذا ما يخشاه «أهل السنة والجماعة» فقط، بل إن بروزهم فى المشهد يجعلهم فى مرمى النيران، خصوصا بعد مشروع مهم لفت أنظار شمال سيناء والمهتمين بالمنطقة، هو «اللجنة الشرعية لفض المنازعات بشمال سيناء»، التى تضم الشيخ حمدين أبو فيصل والشيخ هانى محلاب إمام مسجد التوحيد، وتعتمد تجربة «اللجنة الشرعية» على فكرة تطبيق القضاء الشرعى كبديل عن القضاء العرفى القبلى فى سيناء.
لسنا بديلا عن الدولة..
على صفحة «اللجنة الشرعية لفض المنازعات بشمال سيناء» فى شبكة فيسبوك الاجتماعية، بعض الفيديوهات لمجاهدين فى أفغانستان ولأسامة بن لادن، قد لا يكون ذلك دليلا على دعم مباشر من أهل السنة والجماعة لأنشطة جهادية أو تكفيرية، فالتكفيريون لن يقبلوا إمامة شيخ يعمل لدى الحكومة، كما لن يقبلوا موقف أهل السنة والجماعة من تأييد الدكتور محمد مرسى منذ فترة الانتخابات حتى الآن، ولن يهتموا بمشروع مثل اللجنة الشرعية لفض المنازعات بشمال سيناء، لكن هل تمثل هذه اللجنة الشرعية منازعة للدولة فى سلطانها؟ أو هى بمثابة تكوين نخبة سلفية تدير المجتمع، تمهيدا لشريحة أخرى تستخدم السلاح فى إقصاء الدولة تماما ؟ يعتدل الشيخ حمدين أبو فيصل فى جلسته دون أن يخفى ضيقه بالسؤال، مجيبا بلهجة بدوية ممزوجة بالفصحى: «لسنا بديلا عن الدولة، لكن يجب أن نفهم طبيعة المجتمع هنا، لقد كان هناك قضاء عرفى لا يستند إلى أحكام شرعية واضحة، وهناك ملتزمون دينيا يريدون بديلا أكثر انضباطا، فاتخذنا هذا الطريق، وذلك فى الوقت الذى انهارت فيه أجهزة الدولة بعد الثورة مباشرة.. نحن لا ننازع الدولة، هذه فى النهاية مبادرات».
يأتى هذا الحديث بعد أيام من عودة قسم شرطة الشيخ زويد إلى العمل للمرة الأولى منذ يناير 2011 الماضى. يدرك أبو فيصل تماما أن البعض يعتبره متطرفا رغم أنه لا يعتبر نفسه كذلك موضحا وجهة نظره: «أنا متطرف بالنسبة لشريحة من الإسلاميين، أو هكذا يروننى، لكنى فى الوقت نفسه معتدل بالنسبة لإسلاميين آخرين».
وفى مجتمع تحكمه القبلية مع الصعود الإسلامى فى هذه الناحية من سيناء تدور أفكار وهواجس عن فئات أخرى أهم من الجماعات الجهادية أو التكفيرية، وتحديدا فى ذلك الحضور القديم لأمن الدولة وحلفاء الحزب الوطنى المنحل وتجار السلاح والمخدرات، فالقلق الدائم لدى السلفيين هنا هو أن يكون تصدرهم المشهد سببا فى صدام مع قوى قديمة. وسط هذا الزحام، لا بد للفرد أن يستند إلى تجمع واضح بين قبيلة أو جماعة.. أو كليهما، وهو ما يدفع البعض إلى التقليل من شأن الجماعات المسلحة ويرونها مجموعات صغيرة لكن صخبها عال وضررها أعلى.
قبل توديع الشيخ أبو فيصل والعودة إلى مسجد التوحيد مرة أخرى يشرح الشيخ بعض مواقفه مع رجال الأمن وكيف قدم إليهم بعض التوصيات التى كان من ضمنها أنه رأى عدم عودة الشرطة إلى المدينة قبل عدة أشهر، إذ رأى بحكم تواجده فى المجتمع انتشارا للسلاح وموجات من العنف بين الأفراد والقبائل فى شمال سيناء أغلبها بعيد عن التطرف الدينى، «لقد استحسنت القيادات رأيى فيما بعد، وأدركوا إخلاصى فى رأيى حول تلك المسألة»، حسبما ينقل الشيخ أبو فيصل. أما فى طريق العودة فقد أصبح مشهد العربات المجنزرة وسيارات الشرطة والجيش وصوت الرصاص أمرا مألوفا فى الشيخ زويد كحال بقية بقاع أخرى فى سيناء. لم يعد أحد يتوقع مفاجآت جديدة، إذ أصبحت هناك ألفة مع التفجيرات المتكررة وأصوات إطلاق النار، وهو ما دفع شيخا مثل هانى محلاب أن يصدر فتوى قبل عدة أشهر بتحريم « إطلاق النار لأنه يؤدى إلى ترويع الآمنين وقتل النفس على جهة الخطأ».
«أبو عبيدة» لتنمية المجتمع
بالعودة إلى مسجد التوحيد مرة أخرى كان هناك لقاء آخر فى جمعية أبو عبيدة بن الجراح لتنمية المجتمع المحلى المجاورة، حيث جلسة كبيرة بعد صلاة العصر، تضم أكثر من عشرين فردا من «أهل السنة والجماعة» انضم إليهم بعض رواد المسجد، ودار سؤال فى بداية الجلسة أخذ يطوف على الحاضرين: من يقوم بهذه الهجمات؟ ولماذا يربط البعض حتى فى العريش المجاورة بين أهل الجماعة والسنة وعمليات التفجير المتكررة ؟ القصة قديمة حين أثيرت الأسئلة نفسها فى نهاية يوليو من العام الماضى، وقتها أقيمت فى ميدان التحرير ما عرف بجمعة تطبيق الشريعة، أما فى شمال سيناء فقد خرجت مسيرة باتجاه مدينة العريش مطالبة بتطبيق الشريعة، أعقبتها اعتداءات على قسم للشرطة بمدينة العريش، وعلى تمثال الرئيس أنور السادات فى ميدان الحرية وسط مدينة العريش. وفى نفس اليوم وقع اعتداء على خط لأنابيب الغاز فى سيناء، وحتى اليوم تظهر فيديوهات هذه المسيرة حين يأتى ذكر الإرهاب فى سيناء، يرد الشيخ هانى محلاب إمام مسجد التوحيد: «كنت هناك وقتها، وجاءتنا مكالمة من ضابط فى جهة أمنية رفيعة يخبرنا عن تلك الاعتداءات على قسم الشرطة، واتصل وقتها حتى نأخذ حذرنا من بعض المتهورين، لكن أخذنا الإعلام والعامة بذنب هؤلاء، رغم أن من قام بها هم مجموعة من المغامرين غير المحسوبين علينا».
«من يقوم بهذه العمليات ليسوا أشباحا خفية، فهم معروفون للأمن جيدا»... تتكرر الجملة على ألسنة السلفيين وغيرهم بحكم تشابك العلاقات القبلية وما تفرضه تجارة الأنفاق من تبادل معلومات، لكن لا توجه الاتهامات إلى أشخاص محددين، ومع اتساع نطاق «عملية النسر» الأمنية للقضاء على المسلحين فى سيناء، يتخذ البعض نبرة الاستبشار بإنهاء الموقف، مع خشية الاستجواب أو الاعتقال القسرى مثلما كان يتم قبل الثورة. يقطع الحديث الشيخ هانى محلاب إمام الأوقاف ذى النهج السلفى، مؤكدا: «نحن ندين اعتداءات رفح وما تبعها من اعتداءات تهدد الآمنين، لكننا أيضا ندين اعتقال أتباعنا ومن نعلم أنه بعيد عن الارهاب».
قبل إفطار المغرب بوقت قليل تبدو مدينة الشيخ زويد كمدينة يختلط فيها هدوء الصائم وجمود المذهول مما حوله من أحداث، فى طريق العودة إلى العريش تلتقى مرة أخرى فى طريقك بعض السلفيين الذين كانوا قبل دقائق فقط فى مسجد التوحيد، فى الطريق إلى منازلهم، وهم على حذر من المستقبل.
حزب النور.. ساعة للسياسة وساعة للاعتكاف
يتقدم من بين المعتكفين داخل مسجد عمر بن الخطاب فى مدينة العريش شاب ملتح ذو جلباب أبيض، بادئا حديثه: «دعنا نتفق على أن التيار الاسلامى ذو أطياف متعددة، بين تميع وتشدد، بين إسلامى يصافح النساء ويسمع الأغانى، وآخر منعزل عن المجتمع ويكفر من حوله، نحن أبناء الدعوة السلفية وحزب النور نحسب أنفسنا وسطا بين ذلك وذاك». الحديث لضياء مصطفى المتحدث باسم الحزب فى شمال سيناء، الذى انضم إلى اعتكاف قيادات حزب النور بالمحافظة، حيث يوزعون أوقاتهم بين العبادة وشئون السياسة.
لا يبدو المشهد مختلفا عن مساجد سلفية أخرى فى المحافظات المصرية، إلا أن صعود حزب النور التابع فكريا لمدرسة «الدعوة السلفية بالإسكندرية» يحمل قصة ذات مذاق مختلف، فليست مفارقة غريبة أن يكون تاريخ تأسيس صفحة «الدعوة السلفية بسيناء» على شبكة فيسبوك الاجتماعية هو نفسه تاريخ تنحى الرئيس السابق مبارك 11 فبراير 2011، إذ كانت الثورة بداية رفع التضييق عليهم. «قبل الثورة أبلغت قيادات أمن الدولة عن أن سيناء فى مأزق، وطلبت منهم أن يتركوا لى فرصة الدعوة فى الأماكن النائية التى يزهد الناس فى الاهتمام بأهلها، لكنهم كانوا يمنعوننا من التحرك شبرا واحدا خارج العريش»، هكذا يعرض شاب آخر من قيادات حزب النور تطور الوصول السلفى إلى السياسة، هو مصطفى عبدالرحمن أمين الحزب بشمال سيناء.
سريعا، ينتقل الحديث إلى الطابق الثانى من المسجد حتى لا ينزعج بقية المعتكفين، وينضم إلى الجلسة قيادات حزب النور الواحد تلو الآخر، بعضهم من ذوى الأصول العريشية، وآخرون من ذوى الأصول العربية القبلية، إلى جانب من تعود أصولهم إلى محافظات وادى النيل. بدأ النقاش بسؤال طاف على جميع الحاضرين عما إذا كان وصول السلفيين إلى السياسة قد مهد الطريق إلى تيارات أخرى أكثر تشددا تحاول هى أيضا أخذ نصيبها من السلطة؟ «وجود الإسلاميين فى السياسة هو صمام أمان حتى لا تختطف السلطة من جماعات متطرفة أو من رجال النظام القديم فى سيناء». هذه الإجابة التى طرحها ضياء مصطفى المتحدث باسم الحزب فى شمال سيناء تلقى قبولا لدى الجميع، لكنها لا تكشف عن المسافة بين أنماط السلفية الكبرى الموجودة فى المحافظة، فبعيدا عن القطيعة التى يعلنها أتباع حزب النور والدعوة السلفية مع النمط الجهادى إذا ما ارتكبت باسمه أعمال تخريبية، إلا أن مساحة العلاقات بين الدين والسياسة تجعله فى طرف آخر من المعادلة السياسية بشكل عام إذا ما قورن بتيارات أخرى ليبرالية أو اشتراكية، لكن غياب مثل تلك التيارات على أرض الواقع فى سيناء ينتج عنه أن يكون حزب النور وسطا بين جهادى وإخوانى، فى حين يكون الإخوانى وسطا بين سلفى وليبرالى فى محافظات أخرى، وخصوصا فى العاصمة، تلك الملامح قد ظهرت فى نتائج الانتخابات الرئاسية بشكل واضح.. إذ دائما ما كان يلاحق محمد مرسى فى شمال سيناء أحد ممثلى فترة ما قبل الثورة، مثلا تقدم عمرو موسى إلى المركز الثانى من المرحلة الأولى للانتخابات الرئاسية حاصدا آلاف الأصوات، وفى انتخابات الإعادة كانت نسبة ثلث الأصوات تقريبا من نصيب أحمد شفيق، وهذا ما يطرح سؤالا عن هل لا يمثل القوى السياسية المدنية سوى رموز فترة ما قبل الثورة؟ «لا تقلق القوى السياسية فى سيناء من منافس سوى رجال النظام القديم والحزب الوطنى»، هذا ما تردد على ألسنة عدد من الإسلاميين فى مدينة العريش. ويطرح مصطفى عبدالرحمن أمين حزب النور بشمال سيناء تحليلا آخر: «للأسف.. فالواقع الحالى لم يختلف كثيرا عن الماضى، إذ ما زال التهميش يحيط بأهالى سيناء، وهو ما انعكس على غياب روافد فكرية أخرى منافسة». على هذه الأرضية يمارس حزب النور السياسة فى بيئة قد تختلف قليلا عن بقية المحافظات، وفى أثناء الحديث ينضم إلى الجلسة كمال الأهتم من قيادات حزب النور فى شمال سيناء، وهو ضابط شرطة سابق استقال فى العام 2007 بعد اعتكاف مع الشيخ حازم شومان، وأنهى خدمته فى 2009. بدأ حديثه بأن لا فصل بين الدين والسياسة، فأسس اختيار القيادات قائمة على منهج الدعوة السلفية، ويشرح موضحا: «هناك منهج وتربية للفرد وهو ما يمنع أن يقع أحدنا على سبيل المثال فى بئر التطرف المسلح، وذلك رغم انتشار السلاح من حولنا بشكل بالغ». هذا الواقع لا ينفى تعددية من نوع آخر بدت ملامحها داخل المسجد، وفى هذا الجلسة نفسها نجد ذى الأصول العربية القبلية يرتدى القميص والبنطلون، والذى تنتمى أصوله إلى أهل وادى النيل يرتدى زيا عربيا، بل قد لا يعبر الزى نفسه عن هوية دينية، «ليس كل نقاب أو جلباب هو سلفية أو تدينا»، حسبما يقول أمين الحزب. فى الدور السفلى حيث ساحة المسجد، أكثرية من الملتحين إلى جانب ذوى المظهر العربى البدوى التقليدى، لا تبدو الاختلافات قوية، أما المشهد فى منطقة وسط المدينة «البلد»، فيحمل شكلا آخر من التعددية، اللهجات الصعيدية والبدوية والفلسطينية، إلى جانب لهجة العريش، وتقل تلك أجواء التعددية على أطراف المدينة، وتكاد تتلاشى فى بقية مدن شمال سيناء الأخرى.
صناعة الحياة فى زمن الرصاص
فى أرض صحراوية تتخللها زروع خفيفة داخل مدينة العريش، جلس شباب متطوعون فى سن صغيرة يعبئون حقائب بلاستيكية بالأرز والمكرونة والسكر وغيرها من المواد الغذائية، «هؤلاء فى المرحلة الثانوية، ورغم الاعتداءات المتكررة داخل العريش وخارجها، والعمليات العسكرية بين قوات الأمن والمسلحين إلا أن قرارنا واحد، وهو أن تصل حقائب الخير إلى المدن والقرى المجاورة». يشرح جهاد سليمان (23 سنة) الضغوط التى يتعرض لها فريق «صناع الحياة» فى شمال سيناء، أثناء تنسيقه إرسال الحقائب الرمضانية إلى زملائه كى يوزعوها فى (بير العبد، الشيخ زويد، رفح). هذه الحالة الطارئة لا يراها جهاد كذلك، بل يرى أن «الموقف دائما فى صعوبة داخل سيناء».
● لا أرى شيئا جديدا، اشتباكات، ومحاولات تطهير شمال سيناء، لكن لا أحد يبحث فى الأسباب.
● «لماذا يعتبر البعض تجارة الأنفاق أمرا غير مشروع؟ لقد كانت تتم فى أجواء علنية ونظام معروف.. ليست كل الأنفاق لتجارة المسروقات وتهريب اللاجئين».
عمل جهاد بعد تخرجه مباشرة مدرسا للحاسب الآلى فى مدرسة «بئر معين» ناحية وسط سيناء، حيث يهرب الكثيرون من العمل فى قرى وسط الصحراء، وفى هذه المناطق لمس حالة التهميش مقارنة بالوضع فى مدينته العريش، فلجأ إلى أعمال تطوعية مع زملاء له، يتذكر منها زيارتهم إلى مدرسة «المغارة» فى وسط سيناء، التى لا تبعد كثيرا عن جبل «الحلال» الشهير بأنه مأوى المسلحين، يقول عن ذلك: «قمنا بطلاء المدرسة وتركيب شبابيك جديدة، وأذكر الموقف حين تاه أحد أصدقائنا، وفقدنا الاتصال بسبب غياب شبكات المحمول، فأتى به أحد البدو من سكان المغارة، هذه الأجواء الصعبة لم تنعكس بشدة على الأهالى، إذ أنهم رحبوا بمبادرتنا، وكلهم أمل فى التواصل مع العالم». فى تلك الزيارة التى يتحدث عنها جهاد كان قد توجه إلى أهل القرية الصحراوية مرتديا «تيشيرتات» عليها صور شهداء 25 يناير، «كانت رسالة واضحة إليهم أن يندمجوا مع المتطوعين دون أن يكون هناك أى غرض دعائى أو سياسى».
بحكم تلك الأنشطة الموزعة بين مدن وقرى شمال ووسط سيناء تتعدد المخاطر، «الجميع الآن يتحدث عن التكفيريين والمتطرفين المسلحين، ونسوا الواقع خارج مدن سيناء، بل وداخل بعض الأجزاء فى مدينة كبيرة مثل العريش، ستجد قصة مكررة فى كثير من القرى الصحراوية، لإمام جامع معادى للدولة، يخطب فى الناس بقوة أنصاره، ولا يذهب إلى تلك البقاع أحد من الدولة أو حتى متطوعا، ومثل هذا الإمام هو محسوب على قبيلة، ما يجعل الأمور أكثر تعقيدا». مثل تلك النوعية من الحالات رغم عدم شيوعها تثير قلق من يعمل فى مجال التطوع. أما عن مجموعة صناع الحياة فى شمال سيناء التى يقدر عدد أعضائها بخمسين متطوعا، فحتى اليوم لم يحصلوا على مقر ثابت منذ أن بدأوا نشاطهم فى 2004 بعد طرح الفكرة بواسطة الداعية عمرو خالد، وتصدت لها إلهام أبو حية من مدينة العريش. وعلى مدى تلك السنوات ظلت هذه المجموعة المتجددة من الشباب المتطوع، تمر على جمعيات أخرى وداخل معاهدهم وكلياتهم، وأحيانا ما اختطف الحزب الوطنى مجهوداتهم ونسبها إلى نفسه، تعلق الهام أبو حية: «بعض الجمعيات اجتذبت الشباب بالمقابل المالى، وهى فكرة غربية لا تتواءم مع موروثنا الاسلامى، ولا أخلاقنا العربية التى تحض على البذل والكرم، أنا أتحدث عن تجارة مع الله». هذه المواقف يضاف عليها بعض العوامل الثقافية التقليدية، مثل مشاركة الفتيات فى العمل التطوعى، وتوضح ذلك قائلة: «حين أردنا أن ندعم حملة (إوعى) المناهضة للإدمان شتتنا الأحداث المتتالية من التفجيرات، وأعلنت لزملائى خارج العريش أننا فى شمال سيناء نواجه ظروفا صعبة تمنعنى من المغامرة بالفتيات فى أى عمل تطوعى.. لقد أصبح الوضع يذكرنى بغزة التى اعتاد أهلها صوت إطلاق النار». تنتمى إلهام أبو حية إلى أصول فلسطينية، ما جعلها ترى جانبا سيئا من الأحداث الأخيرة حين تعرض بعض الفلسطينيين المقيمين فى العريش إلى التضييق وجرى اتهامهم بأنهم وراء أعمال التخريب المتتالية فى سيناء.
تلك المواقف المربكة أحيانا ما تواجه شبابا مثل جهاد أو الهام في عملهم الميداني، يروي جهاد أنه أثناء توزيعه لحقائب رمضان التقاه أحدهم قائلا له: "كيف تلقبون أنفسكم بصناع الحياة ؟ الله وحده هو صانع الحياة .."، يعلق جهاد الذي ترك إعداد الحقائب الرمضانية قليلا ماسحا عرقه : "هذه الأنماط المتشددة موجودة في كل محافظات مصر، لكن المشكلة هنا في سيناء هي المساحات الواسعة، والتهميش الشديد من الدولة، وضعف المبادرات التطوعية".
**
من أقوال العابرين
● أنا آخذ الأجرة مضاعفة من الفلسطينيين مقارنة بالمصريين، فأنا لا أحب التعامل معهم
(سائق أجرة أمام منفذ رفح البرى)
● الفرق بين القاهرة وما يحدث هنا فى شمال سيناء من اشتباكات وعمليات مسلحة، هى أن هناك من كانوا مشاركين فى أحداث ومواجهات عند ميدان التحرير ووزارة الدفاع ووزارة الداخلية، أما هنا فى شمال سيناء فمساحة الاعتراض والاشتباك محدودة، ولا يمارسها سوى الإرهابيين والجماعات المسلحة.
(شاب من مدينة العريش فى وسط المدينة)
● لا أرى شيئا جديدا، اشتباكات، ومحاولات تطهير شمال سيناء، لكن لا أحد يبحث فى الأسباب.
(شاب من العريش ذو أصول بدوية)
● «لماذا يعتبر البعض تجارة الأنفاق أمرا غير مشروع؟ لقد كانت تتم فى أجواء علنية ونظام معروف.. ليست كل الأنفاق لتجارة المسروقات وتهريب اللاجئين».
(شاب سلفى عمل فى تجارة الأنفاق)
**
هاجس التجربة البورسعيدية يخترق الأذهان
«أنا أخشى أن ترتبط سيناء فى أذهان المصريين بأنها المكان الذى قتل فيه جنودنا فى رمضان»، هذه العبارة يقولها حسن شعبان الذى يعمل فى إدارة موقف العريش، إذ لاحظ منذ الليالى الأولى لاعتداءات رفح والعريش وقوع اعتداءات على سيارات تعمل على خط العريش إلى المحافظات، وإن لم تكن اعتداءات عنيفة فقد واجه بعض السائقين نظرات الازدراء خارج سيناء، رغم أن هذه الحالة من العداء قد خفت مع مرور الوقت. يخشى حسن شعبان الذى يعمل فى موقف أجرة العريش منذ 30 سنة من أن تواجه المدينة ما واجهته بورسعيد، بعد حادث مقتل لاعبى النادى الأهلى فى ستاد المدينة: «نحن هنا نرتبط بمصالح وعلاقات مع جميع المحافظات، ولا أحد يريد أن تتغير صورته أو أن يرتبط فى الأذهان باعتداءات أو بالإرهاب». ذلك ما يتمناه حسن شعبان، أما عن الخطاب السائد فى شوارع المدينة، فهو أن إسرائيل هى من وراء هذا الحادث، وأنه من المستحيل أن يعادى أحد الجيش المصرى. هذه الحالة من الإنكار لا تستسلم أمام ما تسفر عنه العمليات من نتائج تثبت صلات أفراد من الداخل بالحوادث المتكررة فى شمال سيناء. أما الفئة التى تعرضت هى الأخرى للوصم هنا، فهم الفلسطينيون المقيمون فى العريش، وخصوصا بعد إغلاق معبر رفح البرى، إذ أسند بعض العامة التهمة إلى جماعات فلسطينية مسلحة، وهو ما أثار نقاشات حادة ضد الفلسطينيين. ورغم هذه النبرة المتداولة والتى بدأت فى الزوال تدريجيا من مدينة العريش، فإن الحياة تبدو طبيعية فى أغلب الأوقات، حتى داخل أجزاء المدينة شهد اشتباكات بين قوات الأمن والمجموعات المسلحة. يجلس الحاج حسن شعبان نفسه فى كافيه شهير على البحر ومن حوله أجواء ترفيهية على الشاطئ ليلا، وصبية يركبون الخيل محدثين ضجة من حوله. أما فى مكان عمله الذى يبعد بمسافة طويلة عن هنا، فيدير موقف السيارات وعلاقات السائقين بشكل مختلف عن كثير من مواقف السيارات فى المحافظات الأخرى، «هنا ما زالت للعائلة والقبيلة سلطة على أفرادها، فكل من يعصى له كبير نعود إليه». ينتمى إلى أصول عريشية من المدينة، لكن الحديث عن سطوة العائلة على أفرادها، جلب معه حديثا آخر عن الجانب السيئ حين يتحول الأمر إلى نزاعات بين العائلات، «أصبح السلاح فى يد الجميع، ويطوفون به فى الشوارع، هذا ما زاد من حس التمرد والعنف، لقد أصبحت جلسات الصلح أمرا مألوفا، وأتمنى أن تكون المرحلة التالية للحرب على الإرهاب هى ضبط العلاقات بين الناس، بدلا من يدير الناس علاقاتهم بأنفسهم».
**
عاصمة شمال سيناء
تمتد أصول مدينة العريش إلى العهد المصرى القديم حين اتخذت موقعا على طريق حورس الذى اتخذه الجيش المصرى قبل آلاف السنين طريقا فى تحركاته داخل تلك الناحية من مصر، واستمر هذا الموقع المميز ضاغطا على المدينة فى أن تتلقى الصدمات والغزوات القادمة من الشرق أو من الشمال، لذا تعد قلعة العريش من أهم آثار المدينة، أما بقايا طريق القطار القديم الذى كان يعبر سيناء فما تزال بعض الملامح موجودة فى لافتات كانت فى يوم من الأيام مستخدمة كلافتة فى محطة قطار. ويقدر سكان المدينة بما تضمه من قرى مجاورة نحو 160 ألف نسمة (عام 2011)، وتعود أصول أهل العريش إلى ثلاثة روافد، الأول هو هجرة أبناء القبائل العربية التى استوطنت سيناء وتواجدت داخل المدينة، أما الرافد الثانى فهم أبناء المدينة الذين تشكلوا على مدى العصور من هجرات مختلفة فلسطينية وشامية وغيرها، كذلك فقد شهدت العريش فى الفترة العثمانية هجرات من البلقان والأرنؤوط، أما الرافد الأخير فهو ما ازداد بعد تحرير سيناء من هجرات قادمة من وادى النيل.
جبل الحلال.. الخير حين يحتوى الشر
يقلل عدد من أبناء قبائل شمال سيناء من شأن الاهتمام الزائد «بجبل الحلال»، وتصويره على أنه أرض الشرور فى سيناء وأن القضاء على ساكنيه سيوفر الأمن والأمان. «إن لم يتم القضاء على الأسباب المؤدية إلى الهروب إلى الجبل، سيظل جبل الحلال عامرا بالهاربين إلى يوم الدين»، هذا ما أكده أحد المتواصلين مع سكان الجبل. تبدأ أسطورة جبل «الحلال» مع بدايات الألفية الثانية بعد أن انتشرت فى سيناء أنواع جديدة من الجرائم، مثل تهريب الأجانب إلى إسرائيل، وازدياد مساحة الاشتباك بين أبناء القبائل والشرطة وتوالى العمليات الإرهابية والتفجيرات. تحول هذا المكان إلى ملجأ للفارين من الأحكام والهاربين من الاعتقالات، وكانت البداية القوية مع تفجيرات طابا ونويبع فى 2004، إذ جرت وقتها حملة أمنية واسعة تعرض فيها الآلاف من أبناء سيناء إلى الاعتقال، قدرتهم المصادر الحقوقية ب3000 مواطن، وتعرضت شريحة منهم للاعتقال التعسفى والتعذيب على يد الشرطة، ولجأ بعض الفارين منهم إلى الجبل.. وهناك تدير «القبلية» الموقف فى أغلب الأوقات، ويتحول ذلك التجمع فى جبل «الحلال» إلى جماعة ضاغطة تظهر نفوذها فى بعض المواقف. ويقدر بعض خبراء الأمن وجود آلاف المسلحين فى الجبل، بينما يؤكد عدد من أبناء القبائل العربية المحيطة أن العدد يحمل الكثير من المبالغة. هذا التقليل من شأن جبل «الحلال» ودوره فى احتواء الجماعات المسلحة على اختلاف انتماءاتها، يناقضه تلك السمعة التى حظى بها بين المنتديات الداعمة للجهاديين على الإنترنت، إذ يلفت نظر الزائر لشبكة «أنصار المجاهدين» موضوعا تحت عنوان: «اللهم احفظ مجاهدى جبل الحلال»، وبعدها يتلقى ردودا متفاعلة، أحدها تظهر فيه النبرة التكفيرية بجدارة، ويقول أحدهم معلقا على هجمات الجيش على الجبل: (لعنة الله على هذا الجيش المجرم المرتد). ما يعبر عن مكانة عظيمة لهذا الجبل فى نفوس المتمردين والتكفيريين، خصوصا مع إخفاق السلطات خلال السنوات السابقة فى تطهير هذا الجبل من الجماعات المسلحة، إذ وصل التقدم بهذه الجماعات أن زرعت ألغاما أرضية لمنع تقدم قوات العمليات الخاصة داخل جبل الحلال فى العام 2005 على خلفية تفجيرات شرم الشيخ. حين تحول جبل «الحلال» إلى رمز الإجرام والعنف، أخفى ذلك العديد من الجوانب الإيجابية فى سيرته، على رأسها كم المعادن والثروات الموجودة فى هذه المنطقة، مثل الرمال البيضاء المستخدمة فى صناعة الزجاج والسيراميك والأسمنت الأبيض، وكذلك بعض الخامات الأساسية الأخرى منها الزلط والحجر الجيرى. ويقع جبل «الحلال» على بعد نحو 60 كلم جنوب العريش باتجاه وسط سيناء، حيث تضعف القبضة الأمنية ووتغيب الأنشطة المهمة التى تجتذب الهجرات إليها على عكس منطقتى شمال وجنوب سيناء، وقد اقترح عدد من مشايخ القبائل والقيادات المحلية فى هذه المنطقة أن تقام محافظة لوسط سيناء، كى يتوافر لها النهوض واستغلال ما بها من موارد، وعلى رأسها سياحة الجبال والطبيعة، إذ مازال عالقا فى أذهان بعض أهالى سيناء ذكريات عن جبل «الحلال» قبل تحويله إلى فندق للهاربين، أحد هؤلاء كان الشاعر السيناوى أشرف العنانى الذى سجل فى مدونته على الإنترنت وصفا لهذا الجبل وكيف كان مساحة للتأمل ومغازلة الطبيعة، يقول عن ذلك: «هذا المكان الذى يظنه البعض موحشا فى حين أنه على الأقل بالنسبة لمن يعرفونه جيدا هو قطعة من جنان الصحارى، نعم قاسية دروبه ولكن ليس على من أحبه، نعم وعرة مسالكه، ولكن ليس على من تنفس هواءه بلا تذمر، وشرب سكونه الفادح دون خوف». ويستطرد أن ذلك كان فى سنوات مضت قبل أن يكتسب المكان سمعته الحالية، ثم تلاشت سيرته المحببة إلى سكان تلك الناحية، كما فقد البعض أملهم بعد التأكد من أوهام ما كان يتداول إعلاميا عن تعمير وسط سيناء، ويختم أشرف العنانى قائلا: «هذا هو جبل (الحلال) الذى أعرفه ويعرفه أبناؤه كمرادف الخير، الربيع، جنان الصحارى، لكن المفارقة أن تتحول هذه الجنان إلى جحيم! أن يرتبط اسم جبل الحلال بالعنف والقتل والمطاردة». تلك المواقف المربكة أحيانا ما تواجه شبابا مثل جهاد أو إلهام فى عملهم الميدانى، يروى جهاد مثلا أنه أثناء توزيعه لحقائب رمضان التقاه أحدهم قائلا: «كيف تلقبون أنفسكم بصناع الحياة ؟ الله وحده هو صانع الحياة..»، يعلق جهاد الذى ترك إعداد الحقائب الرمضانية قليلا ماسحا عرقه: «هذه الأنماط المتشددة موجودة فى كل محافظات مصر، لكن المشكلة هنا فى سيناء هى المساحات الواسعة، والتهميش الشديد من الدولة وضعف المبادرات التطوعية».
No comments:
Post a Comment