Thursday, July 29, 2010

يوميات المخالفة والكارتة

ما لا يتحدث عنه سائقو الميكروباص
كتب – عبدالرحمن مصطفى
في منتصف المسافة بين ميدان روكسي ومحطة المظلات بشبرا يطل من جانب الطريق أحد جامعي الكارتة حيث يتلقى في يده جنيها معدنيا، بعدها يحيي السائق الشاب تحية عنيفة معاتبا إياه على تجاهله في "الدورة السابقة"، يتنصل السائق سريعا من الموقف، ويبدأ في تبرير صبره بسرد قصص عن نفوذ جامع الكارتة داخل قسم الشرطة ولدى رجال المرور. "لأ.. الحاجات دي مش بتحصل عندنا" يعلق محمد أحد سائقي موقف المظلات بأنه ليس في سلطة جامع الكارتة على الطريق أن يمارس العنف تجاه السائق بأي حال، يتحدث محمد مع ابتسامة واثقة مخفيا الكثير من المشاكل التي يواجهها يوميا، يوضح : "من المفترض عدم وجود كارتة على الطريق، لأننا ندفع كل ثلاثة أشهر كارتة مجمعة ضمن مشروع السرفيس إلى جانب المصاريف الأخرى وتختلف حسب طول الخط بين 450 أو 600 جنيه أو أكثر !".واقع الأمر أن السائق على هذا الخط في فترة النهار قد لا يمر فقط بشخص واحد يطلب منه جنيها كلما مر، بل أحيانا ما يواجه شخصا آخر قرب نهاية الخط، وعلى عكس الرجل الأول ذو الملامح القاسية، يبدو الثاني أكثر بؤسا وهو يطلب جنيها من سائق الميكروباص، يقول محمد السائق الذي جاوز الأربعين: "في النهاية ندفع عن طيب خاطر، بعض هؤلاء سائق قديم أصيب في حادث أو شخص له ظروف خاصة".. يكشف عن ساقه ويقول أنه هو أيضا يسير بساق بها شريحة معدنية لكنه اختار العمل اليومي بدلا من جمع أموال السائقين بهذه الطريقة.. الصورة التي يرسمها محمد ليست بهذه البساطة، رغم استخدامه لغة حذرة في حديثه عن "جامعي الكارتة" لكنه يعترف أيضا بدورهم وأنهم أحيانا ما يساندون السائقين لدى رجال المرور. يبدو متصالحا مع الحال في هذا الخط، إلا أن مشكلته الحقيقة تكمن مع رجال المرور، يشير إلى طابور السيارات أمامه، "من المفترض أن يكون الموقف أسفل كوبري المظلات، لكننا نأتي هنا لتحميل الركاب لأن هذا الموقع أيسر إلى الناس"، يعلم كل سائق أن هناك من سينافسه دائما بدء من زملائه حتى وسائل النقل الأخرى، لذا فالإجماع على المخالفة يكون أهون، لكن مثل تلك التصرفات تعرض السائقين لمخالفات، خاصة ناحية ميدان روكسي في بداية الخط حيث يكون المشهد أكثر توترا، فالسائقين لا يمرون أبدا بالموقف المخصص لهم، يقفون في الإشارة للتحميل وأحيانا ما يتلقون عبارات قاسية من رجال المرور يكون بديلها هو سحب الرخصة والمخالفة، أما المفاجأة فأن من التزموا الموقف الرسمي يدفعون هم أيضا كارتة غير مبررة لعمال آخرين تحت دعوى "المحبة والترضية"، يضيف محمد : "في مرة فكرنا في الإضراب بعد أن وصل الحال بأحد زملائنا أن حرر له الضابط مخالفات بألف وخمسمائة جنيه إلى جانب سحب الرخصة، هذه هي المشكلة الحقيقية وهي أهون مشكلة جامعي الكارتة". يشير محمد إلى الجانب الآخر من المظلات حيث أميال توصل إلى شبرا الخيمة، هناك عمال الكارتة أكثر ضراوة، السيارة الغريبة قد تدفع خمسة جنيهات، الحياة المزدحمة في الموقف لا تحتمل ضيف جديد، وعمال الكارتة ليسوا في بساطة العاملين على الخطوط الأخرى فهم يجمعون أموالا لحساب المحافظة، الموقف العشوائي في محطة عرابي بشبرا الخيمة أقرب إلى سيرك، علامات مشروع السرفيس غائبة من على زجاج السيارات، الشجار لايتوقف بين السائقين على التحميل، ومفاوضات مع رجال المرور الجالسين جوار الموقف، اختار أحد السائقين أن يكون الحديث في سيارته خشية الصدام مع أحد، يقول : " في أي وقت يمكن لأمين الشرطة أن يأخذ مفتاح السيارة وينطلق بها إلى القسم أمامي و أن يحرر الضابط مخالفة قد تصل إلى خمسمائة جنيه"، في هذه المنطقة أزمة يعيشها السائقون، أعرب عنها هذا السائق في استعداده أن يدفع خمسين جنيها - لمخالفة خط السير ضمن مشروع السرفيس - على أن يقع في قبضة رجال المرور كل فترة، هؤلاء السائقين بين القاهرة والقليوبية أقاموا إضرابا قبل أكثر من عام نتيجة تعرضهم المتكرر للمخالفة، أما هذا السائق و زملائه تحديدا فيعملون بين المسافة في محطة عرابي في شبرا الخيمة إلى شارع شبرا في القاهرة، وهو خط ابتكروه بأنفسهم، ولم يتحول إلى خط رسمي ضمن مشروع السرفيس. في هذه الأجواء تظهر سلطة جامعي الكارتة، إما بمثابة وسطاء، أو عمال لدى المحافظة في جمع الأموال رغم عدم مشروعية عملهم.
هذا المشهد يكون أوضح بعد الساعة الثانية عشر صباحا ناحية ميدان رمسيس، حين يظهر "عم أحمد" بشكله التقليدي، وملامحه التي تجمع الغضب والجدية، مرتديا بدلته القديمة، مزهوا بجسمه النحيل المتعارض مع ما له من سطوة على سائقي الميكروباص المتجهين ناحية عين شمس.. يظهر رجل المرور مطالبا السائقين بالرحيل، حسب الملصق المكتوب على زجاج سياراتهم عليهم أن يبدؤوا رحلة تحميل الزبائن من موقف أحمد حلمي، لكن هذا لا يحدث، يظهر "عم أحمد" يدفع له السائق جنيهان معدنيان، ويعود "عم أحمد" للتفاوض مع عساكر المرور كي يسمحوا للسائقين بالوقوف دقائق معدودات، يعلق سيد السائق الميكروباص الذي دفع لعم أحمد جنيهان في إجراء يومي قائلا : "محدش عارف الصح من الغلط.. احنا بنعك"، يعترف انه يجب أن يبدأ من موقف أحمد حلمي لكنه على أرض الواقع يعلم أن المكان الأنسب لتحميل الركاب هو من شارع رمسيس، وإذا لم يأتي إليه سيأتي غيره، وفي هذه الأزمة اليومية ظهر "عم أحمد" الذي يعمل فقط حتى الثالثة إلى الرابعة صباحا، يقول سيد : "الكارتة المجمعة الرسمية تصل عند التجديد إلى أكثر من 900 جنيه، ما أدفعه لعم أحمد لا أعلم جدواه، يقول لنا أنه يدفع لرجال المرور، لكننا كل يوم نتعرض للتضييق أو المخالفة، أو نختبئ في شوارع مجاورة، أحيانا ما ينجح في أن نظهر لدقائق سريعة في ميدان رمسيس وأحيانا يخفق مثلما حدث اليوم". يعلم سيد انه في موقف عبثي، لكنه سيستمر على هذه الخطة كل يوم، دون ملل أو تعب.

Wednesday, July 28, 2010

صفحة من دفتر مهاجر سابق

كتب – عبدالرحمن مصطفى
رغم مرور عدة سنوات ما زال عمرو محمد السيد (26 سنة) محتفظا في ذاكرته بهذين التاريخين جيدا: 17 يوليو، 30 سبتمبر 2005، الأول هو يوم بدء رحلته الأولى في محاولة الهجرة إلى إيطاليا، والثاني هو يوم الإخفاق في إتمام نفس الرحلة. منذ ذلك الوقت حتى الآن ترفض أسرته فكرة تكرار التجربة مرة أخرى، أو حسب تعبيرهم : "لو بيرلسكوني جه بطيارة عشان ياخدك بنفسه على إيطاليا.. مش هتروح"، واكتفى بمتابعة أحوال المهاجرين والرضا بالواقع. يعيش عمرو السيد في قرية قلمشاه التي يقدر عدد سكانها بثلاثين ألف نسمة وتتبع مركز إطسا بمحافظة الفيوم إحدى أشهر المحافظات التي يتجه شبابها إلى الهجرة سرا إلى إيطاليا، لماذا إيطاليا ؟ يجيب عمرو: "كان في راسي وقتها نفسي السيناريو الذي نفذه آخرون، فإما أن تدخلني مافيا التهجير إلى إيطاليا وأعيش هناك، أو أن يتسلمني الصليب الأحمر كلاجئ هارب من إحدى مناطق الحروب ويتم الإنفاق عليّ أثناء إقامتي.. حتى أن ربان المركب التي قادتنا إلى إيطاليا في البحر ذكر لي أنني من الممكن أن أدخل المدرسة هناك وأتعلم لأن ملامحي كانت أصغر من سني".
في تلك الفترة كان عمرو في سن العشرين يدرس في كلية التربية بقسم اللغة الفرنسية، ووصل وقتها إلى قناعة بعدم جدوى التعليم الجامعي، وأن الهجرة هي المستقبل الحقيقي في ظل انعدام فرص العمل. يقول: "كان أمامي أيضا تجربة عمي الذي سبقني في الهجرة إلى إيطاليا بعام واحد فقط، ونجح في البقاء هناك لمدة ست سنوات من العمل". المفارقة التي يعيشها عمرو الآن هي أنه يقطن كعريس جديد في الطابق العلوي من شقة عمه الذي عاد إلى مصر مؤخرا محققا نموذج النجاح في إيطاليا. تذكر دراسة نشرت عام 2006 تحت عنوان "اتجاهات الشباب المصري حول الهجرة لأوروبا" وأجريت على عينة من شباب عدة محافظات مصرية أن حوالي 94% من عينة الدراسة حددوا دولة المهجر بناء على أحاديث الأصدقاء والأقارب، وكانت نسبة 61% من الشباب في ذلك الوقت قد اختارت إيطاليا كدولة هجرة مؤقتة، وهكذا كان عمرو أيضا.
لم يكن التيار وحده هو الذي دفع عمرو وأصدقاؤه إلى رحلة البحث عن إيطاليا بل واقع آخر.. فعلى مسافة عدة كيلومترات تقع قرية "تطون" الشهيرة كإحدى القرى الطاردة إلى إيطاليا، وطوال سنوات مضت راقب سكان القرى المجاورة ذلك التطور الذي أصاب تطون في غلاء أسعار الأراضي والعقارات إلى عشرة أضعاف، وارتفاع مستوى المعيشة وتغير طباع القرية الهادئة، وكانت إيطاليا هي كلمة السر، كما ان حالة الزهو التي تصيب بعض العائدين من هناك ما زالت تحرك غيرة الآخرين. الرحلة التي قطعها عمرو في 2005 لم تختلف عن التي قطعها عمه في العام السابق عليه، ولا عن الرحلات التي خاضها بعض أصدقاءه ومعارفه فيما بعد، ربما اختلفت الأسعار قليلا عن مبلغ 12000 جنيه الذي دفع عمرو نصفه على أمل أن يدفع النصف الآخر بعد إتمام العملية، بينما وصل المبلغ الآن إلى ما يقارب أربعة أضعاف هذا المبلغ. في 17 يوليو 2005 انطلق عمرو بجواز سفر سليم مباشرة إلى ليبيا بواسطة ميكروباص من الفيوم، يقول عمرو : "كنا أربعة، اثنان من الفيوم واثنان من طنطا، أقمنا في إحدى القرى الليبية ثم تركناها بعد يومين سريعا خشية الأمن، وانتقلنا إلى مكان آخر أقرب إلى مزرعة خاصة، حيث كنا نقيم في مكان محدد يلقب بالحوش، وتم تخزيننا هناك ". المكان الذي لا يزيد على ثلاث غرف وصالة توافد عليه من يأتي به مندوب التهريب، وبدأ عمرو مع مرور الوقت يشارك في استلام القادمين من مصر، وحين يسأله أحد في الشارع يقول : "أنا سائح من مصر !"، لكن مع مرور الأيام ثم الأسابيع بدأت الأجواء داخل "الحوش" تتوتر مع تزايد الأعداد وطول فترة "التخزين"، بدأ عمرو وقتها في تعلم أمور خاصة بالملاحة ومتابعة نشرات أخبار الطقس على أمل ظهور الوقت المناسب للإبحار، وبعد مرور أكثر من شهرين دون تسفير أحد، بدأ البعض يهدد المهربين بالعودة إلى مصر، يعلق عمرو : "في هذه المرة كنا على وشك الاشتباك مع المندوبين، خاصة أن الاتفاق كان مع أبناء الفيوم على أن ينفق الشاب على إقامته من جيبه على عكس أبناء بحري الذين دفعوا 25 ألف جنيه شاملة كل شيء". بعد ثورة المهاجرين كان يوم 29 سبتمبر هو الموعد الذي نقل فيه المهاجرون سرا عبر الساحل حيث تسلمهم أعضاء مافيا التهريب الليبية وانتقلوا إلى مركب صيد لا تتجاوز 12 مترا يقودها مصري من بلطيم وسط أكثر من 100 مهاجر سري، وكان الخوف الرئيسي من السقوط في قبضة البوليس الإيطالي في جزيرة لامبيدوزا نظرا لسمعتها في اتساع مراكز الإيواء بها للاجئين ثم ترحيلهم. حين يستدعي عمرو هذه التجربة الآن يحمد الله على نجاته وعودته سالما، ورغم أن له زملاء من فترة الجامعة اتجهوا إلى نفس التجربة في إيطاليا وجنوب أفريقيا كمهاجرين غير شرعيين ونجحوا، إلا تجربته كانت أكثر بؤسا. يقول عمرو : "مع ثورة البحر أصيب البعض بالوجوم وآخرون انهاروا تماما، وكان المشهد مروعا في المساء حين تتحول الأمواج إلى جبال تتحكم في الدفة، وزاد من بؤس الرحلة أن تعطلت بوصلة المركب واتجه الربان بالخطأ إلى جزيرة مالطة في اتجاه المعاكس حيث انتهت الرحلة هناك، وأغرق خفر السواحل المركب أمامنا". بعد معركة مع أمواج البحر يصفها عمرو ومعركة أخرى مع الربان الذي أراد عدم تسليم نفسه لخفر السواحل المالطيين، استقر الجميع في المعسكرات، يقول عمرو : "بعد أن وصلنا نفذت السيناريو الذي كانت سأتمه في إيطاليا، فقد كنا قد تخلينا عن جوازات سفرنا على الشاطي الليبي، فقلت في مالطا أنني فلسطيني على أمل أن أحصل على حق لجوء، لكن أخفقت بعد أن علمت أن مصيري هو السجن في تلك الحالة". عادت المجموعة إلى مصر عن طريق السفارة بعد أن شاهدت أهوالا أخرى داخل معسكر اللاجئين ومعارك مع اللاجئين الأفارقة هناك وتضاعف الإحساس بالهزيمة. قد تبدو القصة مسلية حين يرويها عمرو في منزله وفي خلفيته منازل القرية ومزارعها الخضراء، لكنه منذ ذلك الوقت ما زال مرتبكا بين واقع البقاء وفكرة الرحيل يقول : "بعض زملائي من الجامعة يعملون الآن عمالا وباعة في المحلات بأجر زهيد". يقول الجملة وهو محاط بتجارب العائدين من إيطاليا وتأثير اليورو في بلدة مثل "تطون" المجاورة، لديه قناعة أن الحياة في إيطاليا أفضل حيث شعار "الدين لله والوطن للجميع" حسب تعبيره، في إشارة منه إلى إحساس من خاضوا التجربة بالاحترام هناك رغم أنهم مهاجرين. عدا ذلك يحمد الله بعض من لم يهاجروا أنهم لم تطرأ عليهم تحولات مدينة تطون التي ابتعدت عن الطابع الريفي الهادئ وازداد صخبها نتيجة حركة الأموال الايطالية هناك .

Sunday, July 18, 2010

أسوان.. مدينة تتحدى الصيف

في الوقت الذي تتجه فيه الأعين ناحية المدن الساحلية المطلة على البحرين الأحمر و المتوسط، تظل مدينة أسوان في أقصى جنوب مصر صبورة على الصيف وما يصاحبه من انخفاض في معدلات السياحة.. رغم ذلك تواجه المدينة قسوة الصيف بتحد. و داخل البيوت النوبية على أطراف المدينة و في حكايات تجار السوق تدور أحاديث ذات طابع خاص.
كتب - عبدالرحمن مصطفى
يمر محمد عبداللطيف جوار كورنيش مدينة أسوان محتميا بسيارته من حرارة الجو الحارقة، يشير إلى البواخر النيلية الطافية جوار الطريق متحدثا بضيق عن تأثير الصيف على نشاط المدينة وحركة السياحة، قد لا يعلم محمد أن مدينة أسوان قد سجلت في العام الماضي 2009 حسب تقديرات هيئة الأرصاد الجوية أعلى درجة حرارة في مصر وتحديدا في يوم السادس من إبريل حين بلغت درجة الحرارة العظمي 47 درجة مئوية، حين تذكر مثل هذه المعلومة هنا أمام أحد أهالي أسوان قد يشكك في الرقم مرجحا أنها تتجاوز ذلك بكثير، أما محمد فيقول : "لا يدرك حقيقة التحول الذي يطرأ على أسوان في الصيف سوى من زارها في الشتاء، أو من شهد عصور ازدهار السياحة قبل سنوات". حسب بيانات محافظة أسوان فإن الأرقام في السنوات الماضية تشير إلى هوة في أعداد السائحين عند المقارنة بين شهرين مثل فبراير ويوليو على سبيل المثال، وتكشف المقارنة عن أن الأعداد في الصيف تنخفض إلى الثلث تقريبا حسب أرقام العام 2008، يكمل محمد حديثه معلقا عن أنه انتقل قبل عدة أشهر إلى شركة الكهرباء هروبا من تقلبات العمل في السياحة حيث يعمل في نقل السائحين بمركبه الصغير في النيل بين البواخر العملاقة والمواقع السياحية على الشاطئ، يقول : "وجدت أن الاعتماد الكامل على السياحة ليس في صالحي"، يتلقى مكالمة من أحد زملائه يعرض عليه عملا لنقل فوج سياحي بمركبه، لكنه يبدي عدم الاهتمام، ثم ينطلق بسيارته إلى قريته النوبية "نجع المحطة" حيث ينتمي، هناك يختفي اسم محمد ويناديه الجميع بـاسم "حمادة"، يسير بين دروب القرية حيث تبرز مفارقات في الطريق إلى منزله، البعض اختار الجلوس على مصاطب المنازل، والبعض الآخر هرب من الحر تاركا دروب القرية خالية من السكان، أما المفارقة الأوضح فتظهر ظهور ذلك العدد القليل من المنازل ذات العمارة النوبية التقليدية ومنازل أخرى ذات طابع لا يختلف كثيرا عن بيوت مدينة أسوان. يشير "حمادة" إلى أحد المنازل القديمة التي صممت على الطراز النوبي القديم قائلا: "مثل هذه المنازل المبنية بالطوب الني كانت تساعد القباب فيها على موجهة حرارة الجو صيفا". المعلومة التي يذكرها "حمادة" استرعت انتباه الكثير من المعماريين وعلى رأسهم المعماري الشهير حسن فتحي الذي لفت نظره هذا النموذج الملائم للبيئة في البيت النوبي، حيث تعكس أسقف المنازل المصممة على شكل قباب أشعة الشمس، وتعمل فتحات تهوية في أسقفها على خفض درجة الحرارة و تجديد الهواء داخل المنزل، كذلك فاتجاهات بناء المنزل تراعي حركة الرياح في الشتاء والصيف، في منزل حمادة الذي بناه بيده "طوبة طوبة" كلما تجمع معه بعض المال، يظهر نمط معماري لا يكترث كثيرا بحر الصيف، ففي داخل المنزل تكييف صحراوي يعمل بالمياه وموفرا الكهرباء، ولم يعد تصميم المنزل هو الفيصل في مواجهة تقلبات الجو. إلا أنه لم يتخل عن بعض اللمسات النوبية في الديكور وطلاء المنزل. بعد صلاة الظهر في مسجد القرية يجتمع بعض الشباب والشيوخ على غير موعد أمام مبنى جمعية "نجع المحطة"، هناك جلس عم "حسّون" دون اهتمام بأشعة الشمس الساقطة على رؤوس الجميع، يتأمل مشهد المجموعة التي تكونت أسفل إحدى الأشجار للعب الورق وتبادل الأحاديث، يعلق عم "حسون" الذي جاوز عامه السبعين قائلا:"قبل ستين عاما لم تكن هناك مثل تلك الجلسات المختلطة التي تجمع الشيوخ مع الشباب". اليوم أصبح الشيخ المسن يلتمس العذر لأي شاب ينفخ الدخان جواره من ضيقه بالحياة، قد يبدو سؤالا ساذجا في مثل تلك الأوقات: "كيف تقضون فصل الصيف؟!"، بعيدا عن قلقه وغضبه المكتوم من خمول حركة السياحة يعلق حمادة: "آخذ الأطفال واتجه إلى النادي – مركز الشباب- وأحيانا ما يكون الاستحمام في النيل هو الحل للهروب من هذه الأجواء". يتدخل عم "حسون" في الحديث معلقا : "علاقة النوبي بالنيل لم تختلف في أي جيل، ربما في الماضي كانت منازلنا أكثر بساطة ونواجه تغير الصيف والشتاء بتصميم بسيط، أما اليوم فمنازل القرية أصبح الدش والتكييف جزء منها". يعلل عم حسون انحسار وجود التصميم النوبي في البناء الملائم لطقس القرية أن ذلك ارتبط بحوادث السيول التي دفعت الناس إلى البيوت الإسمنتية التقليدية، ولأن الاسمنت يزيد من حرارة المنزل فأصبح التكييف ضروريا. يعلق حمادة على تلك العبارة قائلا : "في قرية غرب سهيل ستجد التصميمات النوبية أكثر عددا، حتى من يبني على طرز حديثة مختلفة يفعل ذلك خارج البيوت النوبية القديمة، خاصة أن تلك البيوت أصبحت مزارا للسائحين". في محافظة أسوان يمثل النوبيون نسبة 20% من السكان، ويجمع قريتي نجع المحطة وغرب سهيل أن سكانهما ينتميان إلى النوبيين من فرع "الكنوز"، كما أن كلا من القريتين انتقل إليها المهاجرون بعد مشروعات إنشاء خزان أسوان، ثم من توالت الهجرات إليهما بعد تعليته في عامي 1912 و 1933، لكن أجواء الصيف تختلف إلى حد كبير بين القريتين، خاصة في غرب سهيل .
إلى غرب سهيل
كان حمادة على موعد في اليوم التالي مع قرية غرب سهيل حيث زملاء العمل في السياحة وأبناء العمومة، يصاحبه في الزيارة صديقه الشاب محمد الحلفاوي عضو المجلس المحلي عن قرية "نجع المحطة" الذي تحدث في أثناء الرحلة عن مشاكل تعيشها القرية قائلا : "هناك أشياء بسيطة نبذلها مثل طلب أعمدة إنارة للقرية، لكن هناك مشاكل أكبر مثل عدم تملك سكان القرية لأراضيهم التي عاشوا عليها منذ تهجيرهم نتيجة إنشاء خزان أسوان وتعليته، كذلك عدم تعويض بعض من تعرضوا لهدم بيوتهم أثناء القيام بأعمال توسعة الطريق التي جرت قبل سنوات.. رغم وعود المسئولين". يحاول كلا من حمادة ومحمد الحلفاوي نسيان مشاكل قريتهم "نجع المحطة" أثناء توجههما إلى قرية غرب سهيل.. وعلى مشارف القرية يبدو الاختلاف واضحا مع ظهور الأفواج السياحية والجمال والبازارات السياحية، إلى جانب حركة "الفلوكات" الصغيرة على الشاطئ.. في المواسم التقليدية تستقبل القرية يوميا بين الألف والثلاثة ألاف زائر، ورغم قلة الأعداد الآن إلا أن الصيف الأسواني لم يتسبب في ركود الحال تماما، الأفواج السياحية جاءت مباشرة إلى غرب سهيل للاستمتاع بالسياحة البيئية حيث المنازل التي حافظت على تصميمها النوبي التقليدي، يوضح حمادة قائلا : "حتى من يبني منزلا على نمط حديث يبتعد بعيدا عن قلب القرية، هذا أحد مميزات المكان هنا". أمام أحد المنازل النوبية المطلة على النهر يخرج عم "ناصر" مستقبلا زواره، وداخل منزله الفسيح كان المشهد مختلفا، حيث المنزل النوبي التقليدي ذو الأسقف ذات القباب و الساحة الفسيحة والمصاطب. إلا أن كل هذا لم يمنع وجود التكييف داخل المكان، يعلق عم ناصر قائلا: "لم يكن الحال هكذا في البداية كان كل شيء مختلف.. في التسعينات جاءني أحد المرشدين مستأذنا في زيارة منزلي مع مجموعة من السائحين، وبعد أيام تكرر الأمر، وبدأ يتطور إلى اتفاق، ثم بدأ في تسديد النصائح إلى حول كيفية تطوير المنزل كي يكون صالحا لاستقبال السائحين الراغبين في التعرف على النوبيين، بدء من إعداد أكواب الشاي، حتى إضافة مصاطب للجلوس وتسقيف الحوش بسعف النخل، وتطورت الفكرة بالقرية وبدأت الجمال تظهر للسائحين، وتبرز البازارات على الطريق" . رغم هدوء صيف أسوان إلا أن هناك فئة من السائحين يعتمد عليها البعض في هذه الفترة وهم الأسبان والإيطاليين الذين يؤجرون منازلهم صيفا ويأتون إلى مصر في هذا التوقيت بأسعار الصيف الرخيصة. يأتي الكركديه البارد فيصب عم "ناصر" لضيوفه تاركا مساحة من الحديث لمحمد عبدالباسط الذي انضم إلى الجلسة وهو أحد مشاهير القرية، حيث يغني ويحفظ تاريخ النوبة كما أن له تأويلات كثيرة لبعض الكلمات والعبارات في العامية المصرية يعيدها إلى جذورها النوبية.. يعود السؤال إلى الظهور مرة أخرى في الجلسة: "كيف اختلف التعامل مع صيف أسوان على مدار هذه السنوات؟"، يجيب محمد عبدالباسط الذي جاوز الخامسة والستين قائلا : "هناك أشياء جربناها ولم تعد متواجدة اليوم مثل الاستمتاع بفيضان النيل، والصيد، والغطس أمام المنزل مباشرة"، يتدخل عم ناصر صاحب الضيافة مشيرا إلى باب منزله قائلا : "كانت المياه في وقت الفيضان تصل إلى الباب، كان بإمكاني اصطياد السمك من أمام المنزل، كان الخير يفيض حتى أننا كنا نعطي فائض الصيد لجيراننا". بعد إنشاء السد العالي اختلفت الطبيعة تماما، واختفى الفيضان الطائش واستبدل بصيف راكد، يضيف محمد عبدالباسط : "في الصيف هناك بعض الأكلات التي تتحدى حرارة الجو ولن تجدها إلا هنا في أسوان وتحديدا لدى النوبيين.. أشهر أنواع الطعام هو الـ (أب-ريه) قبل أن نعده كنا نبدل المياه بين كل زير وآخر للحفاظ على برودة المياه، هذه الأكلة بالذات كانت حلا رائعا في وقت الحر، عبارة عن خبز شبيه بالرقاق يغطس في مياه باردة مع ليمون وبلح وسكر، مع مشروب مثل قمر الدين.. ويكون كافيا عن الغداء". يعلق عم ناصر : "قل عمله الآن، لكنه ضيف عزيز في موائد رمضان". كان الحديث عن العادات النوبية قديما وكيف تغير بعضها سببا في الحديث عن النوبيين بصفة عامة، ربما شهد هذا الصيف عودة هذا الحديث من خلال مؤتمرات وتصريحات عن "القضية النوبية" مرة أخرى، لكن الجلسة لم تكن تحتمل مزيدا من السخونة.. فجأة يشير محمد عبدالباسط قائلا : "على فكرة.. نحن لم نتحدث بعد عن الفرح النوبي!؟".. كثرة الأفراح في الصيف إحدى اللحظات التي تنسى فيها أسوان وقرى النوبة ضجر الصيف، أما الفرح النوبي تحديدا فله طقوس خاصة قد تستمر لأسبوع حيث تعتمد في البداية على المرور بين دروب القرية ومنازلها لدعوة الجيران والأهل، وانتقال ليالي الاحتفال بين منزلي أهل العريس والعروس، مرورا بليلتي الحنة والزفاف حيث يستمر الغناء حتى الصباح. كل تلك الأجواء تغير من مزاج الصيف العكر.. يودع حمادة ورفاقه قرية غرب سهيل عائدا إلى نجع المحطة، لم يخلو طريق العودة من مفارقة أذاعها كاسيت سيارته لأغنية تحت عنوان "غرب سهيل"، أما المغني لم يكن سوى محمد عبدالباسط الذي كان يتحدث في منزل عم ناصر قبل قليل، دندن الشباب في السيارة مع الكاسيت معاندين الصيف وضجره.
الحرارة فوق الأربعين !
ليست مدينة أسوان هي المدينة الوحيدة التي انفردت بتسجيل أعلى درجات الحرارة في الصيف الماضي، بل نافستها حسب أرقام الهيئة العامة المصرية للأرصاد الجوية مدن أخرى خلال أشهر يونيو ويوليو وأغسطس وسبتمبر، حيث تصدرت القوائم مدينة الأقصر ولم تنتزع منها أسوان المركز الأول سوى في شهر أغسطس، أما أعلى درجة حرارة على الإطلاق سجلت في العام الماضي فقد كانت في شهر إبريل أثناء فصل الربيع، وحققتها أسوان حين وصلت إلى 47 درجة مئوية، ويفسر ذلك الدكتور علي قطب المتحدث الإعلامي باسم هيئة الأرصاد الجوية قائلا : "من المعلوم أن صيف الكرة الشمالي يسجل دائما أعلى درجات الحرارة خاصة في المنطقة العربية نظرا لطبيعتها الصحراوية، بل وأحيانا ما تسجل درجات حرارة مرتفعة في النصف الثاني من فصل الربيع نتيجة الموجات الخماسينية والحرارية القادمة من جبال أطلس القادمة من الغرب مرورا بمصر" . ويوضح الدكتور علي قطب أن درجة الحرارة ليست العنصر الوحيد المؤثر على الشعور بالحرارة، فهناك عوامل أخرى مثل ارتفاع الرطوبة وسرعة الرياح. على جانب آخر يشرح الدكتور جمال سعودي مدير مركز التحاليل الجوية الرئيسي كيف تتم عملية تسجيل معدل درجة الحرارة التي تتم في ظروف خاصة، ويقول : "في مصر حوالي 114 محطة، تتم عملية التسجيل في كشك خشبي يسمح بمرور الهواء من فتحات شيش، وتغطي أرضيته العشب حتى لا تنعكس حرارة الأرض مباشرة على الترمومتر، وتلك الظروف هي المتفق عليها عالميا وهي الأقرب للحياد". يوضح الدكتور جمال أن عدم اقتناع البعض بدرجة الحرارة المذكورة في نشرة الأخبار سببه أن الشعور يختلف من مكان لآخر، يوضح قائلا : "من يقيم في وادي أو شارع ضيق، يختلف عن آخر يجلس أمام النيل، كما أن تأثير الضغط الجوي ونسبة الرطوبة والرياح أمور تزيد من الشعور بالحرارة أو العكس، لذا يتم قياس درجة الحرارة في محطاتنا داخل ظروف محايدة .
PDF

Thursday, July 15, 2010

الحياة على شريط الترام

رحلة الصبر وطول البال
في المقهى المقابل لجراج الترام ومكتب الاشتراكات بحي محرم بك يجلس وائل قناوي إلى جوار سعيد سليمان في انتظار لحظة الانطلاق إلى رحلة الصبر في شوارع الاسكندرية، قد يختلفان في العمر وفارق الخبرة، لكن الزمالة وظروف العمل الواحدة جمعتهما فأذابت تلك الفوارق. تمر من أمامهما عربات ترام "البلد" بلونها الأصفر حيث تتفرع الخطوط في اتجاهات مختلفة على عكس ترام "الرمل" بلونه الأزرق الأكثر استقرارا فوق قضبانه، يقول وائل : "أعترف بأنه أصبح من الصعب الآن أن ينسجم البعض مع فكرة سير الترام في عكس طريق السيارات بتلك السرعة البطيئة، لكن لا سبيل الآن للتغيير". يحاول وائل الشاب الثلاثيني الذي بدأ عمله قبل 12 سنة سائقا في هذا الخط أن يوضح بهذه العبارة جزء من حياته اليومية التي يعيشها هناك، لم يعد يزعجه صوت العربات الترام التي تهز جدران المقهى من حوله. قبل عدة أشهر شهد هذا المكان احتجاجات بعض العاملين في ترام النزهة على انخفاض حوافزهم التي تتأثر تلقائيا بحجم إيرادات الترام، في تلك الفترة كان جزء من طريقهم معطلا بسبب الاصلاحات وهو ما انعكس على حوافزهم في النهاية، لكن سرعان ما هدأت النفوس بعد معالجة الإدارة لهذا الأمر، هذه القصة استوقفت زميله سعيد سليمان الذي يعمل محصلا للتذاكر منذ 43 سنة، يعلق قائلا : "الدخل الحقيقي لنا هو الحوافز التي تتحرك صعودا وهبوطا حسب إيراد الترام وبيع التذاكر"، تلك النقطة هي كلمة السر في حياة العاملين هنا، إلى جانب بعض التفاصيل الأخرى التي يشرحها سعيد قائلا: " يجب أن يتجاوز عدد أيام العمل 25 يوما في الشهر، إن قلت عن هذا الرقم تتدهور الحالة المالية بشكل حاد، على سبيل المثال فإن مقابل الوجبة اليومي يصبح جنيهان ونصف بدلا من خمسة جنيهات ونصف، وكذلك تقل قيمة النسبة التي يحصل عليها المحصل أو السائق من الإيراد"، يبتسم ثم يكمل حديثه قائلا: "ومن الواجب أن أعمل يومين جمعة على الأقل في الشهر.. كل تلك الظروف منهكة لرجل في السابعة والخمسين". يرى وائل الأمر بصورة أخرى تمثل وجهة نظر سائق يقضي نصف يومه في شوارع المدينة، ركز في حديثه على حالة العربات العتيقة وتكالب الناس على السائق في حالة وقوع حادث. يقول : "لا أحد يرحم السائق حين يقع حادث" ينهيان حديثهما مودعين المقهى ويتوجهان إلى الضفة الأخرى من الشارع أمام مكتب الاشتراكات، يشير وائل مبتسما إلى مكتب الاشتراكات قائلا : "أحد أسباب قلة الإيراد اليومي ازدياد الاقبال على الاشتراكات". أما سعيد فيقلقه أمر آخر لا يخفيه، قائلا : "أحد أصدقائي من العاملين في هيئة السكك الحديدية نال 100 ألف جنيه كمكافأة نهاية الخدمة، أما نحن فلا نصل إلى ربع هذا المبلغ". ينهى عبارته ويحين وقت توديع زميله الشاب، حيث لن يعملا سويا في هذا اليوم، هناك محصل آخر سيشارك وائل في رحلته.

الطريق إلى النزهة
داخل الترام المتجه إلى النزهة يبدو وائل أكثر صمتا مع زميله المحصل أحمد إبراهيم، والأسباب واضحة فأمامه طريق مزدحم بالسيارات والعربات الكارو والدراجات، والركاب يزداد عددهم في الداخل، مع الوقت تنتقل أجواء التحمل والجلد إلى الركاب، في تلك الأجواء يبدو سؤالا من نوعية "لماذا تركب الترام رغم بطء سرعته؟" من الأسئلة السخيفة التي تثير ضجر البعض، وهو ما دعا أحد الركاب إلى رفض التعليق مكتفيا باستكمال رحلة التأمل في المجهول.. في ترام "الرمل" المجاور لطريق الكورنيش بعيدا عن ترام البلد ذكر أحد الركاب أنه يجد في الرحلة من محطة الرمل إلى باكوس حيث يقطن متعة خاصة دأب عليها منذ عشرات السنوات قضاها طالبا ثم معلما ثم مفتشا في التربية والتعليم، تلك الرؤية المختلفة لقضاء الوقت داخل عربة الترام لم تجذب الركاب في ترام البلد ذي اللون الأصفر، علق أحد الركاب ساخرا : "هل هناك متعة في الوقوف هكذا!؟ .. أنا لا أستخدم الترام أثناء توجهي إلى العمل صباحا، وحين أنهي عملي أحيانا ما أستخدمه إلى نقطة محددة حيث لا توجد وسيلة مواصلات أخرى، أنزل في محطة قريبة ثم أكمل مشواري بسيارات المشروع ". قبل أن يفترق وائل قناوي و سعيد سليمان كان حديثهما منصبا على أن الترام لم يعد هو وسيلة المواصلات الأساسية، سيارات المشروع – الميكروباص باللهجة السكندرية – زحفت حول خط الترام واجتذبت الزبائن، ولم يتبق من المحافظين على ركوب الترام سوى البسطاء وأصحاب المزاج الخاص أو من اضطرتهم الظروف إلى تحمله لمسافة قصيرة. راكب مسن يضع وصفا من عنده قائلا : "الترام هو عكاز العجوز" مستبعدا فكرة "التنطيط" في عربات الميكروباص، في تلك الأثناء كان وائل يضغط دواسة الجرس محاولا إفساح الطريق المزدحم بالسيارات، بينما كان زميله المحصل أحمد إبراهيم يحاول إقناع أحد الركاب بأن وائل لا يتباطأ في طريقه، لكن الراكب يغادر دون اقتناع.
يشير وائل إلى محطة"الوكالة" التي تمثل كارثة كبرى في طريقه، العاملون في مجال التجارة لن يلتفتوا إلى عربات الترام، يفرغ العمال حمولتهم دون اكتراث، في تلك المواقف قد يتلقى السائق والمحصل عبارة عنيفة من أحد الركاب، إحدى تلك العبارات دفعت المحصل أحمد إبراهيم إلى استرجاع قصة التحاقه بالعمل محصلا للتذاكر قائلا: "قبل أن أعمل في هذه المهنة جربت حظي في مجال السياحة، وكان عملا مربحا، لكني كنت أبحث عن العمل الحكومي الأكثر استقرارا، حيث المعاش والتأمين الصحي، وهو ما يجعلني مستمرا في هذه المهنة، كذلك فأنا لم يكن أمامي فرص كثير للعمل في تخصصي الأصلي كفني تكييفات". يحصل أحمد على مرتب أساسي لا يتجاوز 180 جنيها بعد العمل ستة عشر سنة في الهيئة العامة لنقل الركاب، قد يصل دخله إلى 800 جنيه في أفضل الأحوال، لكن هناك نقاط أخرى يوضحها : "مرتباتنا تعتمد على إيراد الترام لذا تنخفض بصورة ملحوظة في مواسم الشتاء على سبيل المثال، فقد لا يصل محصل في سنوات خبرتي إلى مبلغ 600 جنيه، هذا إلى جانب ما يخصم من المرتب بسبب السلفيات والقروض". قد تكون مثل تلك المشاكل جوهرية في حياة أحمد إبراهيم وزملائه لكن هناك تفاصيل أخرى اعتاد عليها، مثل تكرار الوجوه التي تستقل الترام بشكل دائم، بعضها يكون مثيرا للضجر على عكس آخرين يلقون عليه التحية لأنه هو الآخر قد تحول إلى جزء من حياتهم، هناك تفاصيل أخرى لا ترضيه، يوضح ذلك : "أفتقد وعي بعض الركاب الذين لا يقدرون قيمة التذكرة التي في أيديهم، فبعيدا عن أن احتفاظهم بها هو أمر هام بالنسبة لي وقت التفتيش لكنها في ذات الوقت حقهم الذي عليهم الا يفرطوا فيه". ما يتحدث عنه أحمد إبراهيم من مشاهدات يومية لا تختلف كثيرا عن ملاحظات بعض العاملين في ترام الرمل الذي كان مستقلا بذاته حتى انضم إلى الهيئة العامة لنقل الركاب بمحافظة الاسكندرية، وحتى الآن يقع ترام الرمل تحت نفوذ إدارة مستقلة في الهيئة، وبينما تمتلك الهيئة في خط ترام الرمل الأفضل حالا من حيث نوعية المركبات وحالة الطريق 42 مركبة على خطين فقط، تدير الهيئة في ترام المدينة 119 مركبة تنتقل بين 15 خطا. أحد العاملين في ترام البلد ذي اللون الأصفر المميز ذكر أن هناك روح طبقية تظهر أحيانا حين يمر الترام الأصفر ناحية محطة الرمل لا يخفيها العاملون هناك تجاه أقرانهم. قد يجد سائق الترام الأصفر مضطرا إلى انتظار الترام الأزرق حتى ينطلق قبله.. الترام الأصفر أحيانا ما يعامل كضيف ثقيل في خط الرمل. في الطريق الذي قد يستغرق قرابة الساعة يتبادل وائل وزميله المحصل الحديث، يرفع يده لتحيه زميل قادم في الاتجاه المقابل، قد تطول الأوقات في بعض الأيام مثلما يشرح وائل : "شارع محرم بك على سبيل المثال يزدحم في أيام الخميس والجمعة والأحد في أوقات معينة بسبب وجود ستوديوهات التصوير ومحلات الكوافير التي تستقبل زبائنها من العرائس، وليس في يدي تجاوز الزفة ". في الشهر الماضي أعلن وزير النقل عن قرب إصدار قرار بإنشاء مترو أنفاق الاسكندرية، الفكرة التي تبدلت الأماكن المقترحة لتنفيذها لم تستقر بعد، لكنها في الغالب ستكون بعيدة عن شريط الترام الذي يسير عليه وائل و رفاقه، لا يشغل العاملون في الترام بالهم بهذا التصريح، كل قضيتهم هي العبور اليومي إلى نهاية الخط.. يشير وائل بيده إلى إحدى النقاط الضيقة أمام محطة مصر طريق ضيق يكاد يسمح بعبور الترام بسبب ازدحام الرصيف بمحلات الملابس وصخب الزبائن، يحافظ وائل على هدوء أعصابه محاولا السيطرة على ما هو خارج العربات تاركا مهمة السيطرة على ما هو داخل العربة لزميله المحصل مثلما اعتاد كليهما في كل يوم.


ما لم يقله الترام لركابه !


بعد أكثر من ثلاثين سنة من العمل سائقا ومحصلا داخل عربات ترام الرمل، اختار محمد محمد عبد الحميد (58 سنة) العمل على هامش شريط ترام الرمل الشهير، المهنة : مفتاحجي، تمتد يده كل بضعة دقائق لسحب ذراع طويلة مثبتة في الأرض بقوة ليحدد مسار العربة القادمة حسب رقمها، يقول : "اخترت الشغلانة دي عشان أبعد عن وجع الدماغ"، تلك العبارة الحاسمة لخص بها معاناة عشرات السنوات التي شاركته فيها أسرته في تحملهم الضغط العصبي الذي كان يصيبه يوميا، يبدأ عمله في الساعة الثانية والنصف عصرا حتى الثانية صباحا، لكنه يعتبر ذلك "أرحم" من العمل داخل عربات الترام. كل شيء تغير من حوله وزاد من تعكر مزاجه الذي لم يخفيه أثناء حديثه، في بعض الأيام يؤنسه زميله السبعيني الذي ترك الخدمة ويأتي للجلوس إلى جواره متابعا مشهد الترام، يقول محمد عبد الحميد : " نوعية الراكب تغيرت وأصبحت أكثر شراسة، كثيرا ما كنت أواجه بمن يرفع صوته محتدا قائلا: انت متعرفش انت بتكلم مين؟، رغم أننا في وسيلة مواصلات لا تتجاوز قيمة أجرتها الخمسة وعشرون قرشا، اليوم تعاملاتي في أضيق الحدود". لم يشهد محمد عصور ازدهار الترام حين كانت تديره شركة خاصة يعمل فيها الخواجات، يتدخل زميله السبعيني معلقا : "أنا أيضا لم أشهد تلك الفترة، لكن شهدت في صباي فترة قبل التأميم وبعدها.. كانت الأجواء أكثر هدوءا". لم يتوافر لأي منهما فرصة الاستمتاع بقراءة تحولات المباني المحيطة بالمحطة الرئيسية (محطة الرمل) أو المباني الخلفية في حي المنشية، المقاهي التي كانت تستقبل في نهاية القرن قبل الماضي رواد البورصة تحولت اليوم إلى جزء من معالم المدينة، وتخلي أغلبها مع هجرة الأجانب في الخمسينيات عن (البار) الذي كان يعمل بكامل كفاءته في خدمة الأجانب من سكان المدينة.

في أي وقت يترك محمد عبد الحميد من يحدثه متجها إلى ذراع النقل ليحول الطريق أمام الترام القادم، في محطة بولكلي (إيزيس) اختار أن يختم حياته المهنية في إحدى المحطات التي تتفرع فيها خطوط الترام، مثلها مثل محطات أخرى كسبورتنج "الكبرى"، ومصطفى كامل، وسان ستيفانو، لكن أهم ما يميز هذه المحطة تحديدا هو أنها كانت نهاية أول خط ترام في مصر وإفريقيا حين تأسس في العام 1860، اليوم يتذكر محمد عبد الحميد تواريخ أقرب كانت تمثل أحداث هامة في حياته المهنية، يصف ذلك قائلا : "لن أنسي أحد أعياد عام 1980 بعد عام واحد من التحاقي بالعمل في ترام الرمل، وقع حادث لطفل مد جسده خارج شباك العربة فاصطدم بأحد الأعمدة الجانبية، ووجدت نفسي مسئولا عن الحادث أثناء عملي سائقا، هل مسؤوليتي حراسة الركاب؟!" لم يكن ذلك أخطر ما واجهه، أقسى ما واجهه وما زال يراه بحكم عمله اليوم خارج عربات الترام هو ركوب بعض الشباب على جانبي العربات، ووقوع عدد من الحوادث لم ينساها بسبب تهور بعض الشباب، يعلق على ذلك بشجاعة: "نحن بحاجة إلى شرطة خاصة بهذا المرفق تضبط مخالفات الركاب وصفاقة بعض الشباب". تلك الحالة التي تصيب بعض الركاب بالرعونة وحب الاستعراض كانت سببا في وصم الترام منذ نشأته الأولى بأنه أداة انفلات اجتماعي، فحسبما تروى سوزان عابد في مقال تحت عنوان "الترمواي.. عفريت يجوب شوارع المحروسة" (مجلة ذاكرة مصر المعاصرة-العدد الثاني .مارس 2010) صاحب نشأة الترام ظهور قلق اجتماعي من تشجيع النساء على الخروج من المنزل واستغلال الشباب له كمكان لتحديد لقاءاتهم الغرامية، وهي الفئة التي لقبها البعض آنذاك "الشباب الترامي"، في محطة بولكلي حيث يعمل محمد عبد الحميد كانت نهاية خط أول ترام بدأ رحلته من محطة الرمل بعربات تجرها الخيول على قضبان، وفي عام 1863 كانت البداية الحقيقية لتشغيل خط الترام للجمهور خاصة مع استخدام القاطرة البخارية. الفترة الطويلة التي قضاها محمد عبد الحميد في حياته العملية هي قصيرة جدا في عمر الترام، لكن طرأت في السنوات الأخيرة مشاهد لم يكن ليراها احد من قبل حسبما يروي، أهمها ظهور فئة "أبناء الشوارع" بقوة في حياة العاملين في الترام، بعضهم يقيم في محطات بعينها، لكن الأمر قد يتجاوز ذلك بكثير، يقول : "يكفي أن أصف ما ارتكبه بعضهم قبل أيام في شجار استخدموا فيه النيران التي أصابت إحدى العربات وأفزعت الركاب، هذا إلى جانب محاولاتهم الدائمة لركوب الترام ومضايقة النساء ". تلك المواقف التي كان يتعرض لها يوميا ما زال على صلة بها بسبب تواصله الدائم بزملائه المارين بعرباتهم من أمامه حاملين له حكايات "أعداء الترام" ضدهم. على هامش هذا الخط حياة أخرى، أجانب الماضي قد استبدلوا بزوار الصيف و من جاءوا إلى المدينة المليونية لغرض ما، فاندمجت ذكرى ما قبل الثورة بما بعدها، يمكن تتبع ذلك بإشارات ما زالت موجودة حتى اليوم، فالمستشفى اليوناني التي أنشاها اليوناني ثيوخارى كوستيكا عام 1938 مـ كدليل على وجود يوناني راسخ في المدينة تحولت في الستينات إلى مستشفى جمال عبد الناصر، أما الترام الذي كان يحمل الخواجات والسكندريين إلى المستشفى اليوناني قد تبدل زبائنه، تتضح الصورة أكثر أمام مستشفى الشاطبي الجامعي على مسافة غير بعيدة من رصيف محطة الشبان المسلمين حيث تجلس مجموعات قادمة من محافظات مجاورة افترشوا الرصيف في انتظار دورهم للدخول، حيث لا يسمح إلا بزائر واحد حسبما يصف أحدهم. المدينة التي جذبت ألأجانب في بدايات القرن الماضي وكانوا سببا تطويرها أصبحت اليوم تستقبل حسب أرقام الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في العام 2008 حوالي 280 ألف مهاجر من المحافظات الأخرى جاء أغلبهم للعمل. الفارق بين هؤلاء وإسكندرية الأربعينات أن الأجانب كانوا ضمن المهاجرين إلى المدينة حسبما يذكر الدكتور محمد صبحي عبد الحكيم في كتابه (مدينة الإسكندرية - الهيئة المصرية للكتاب، 2007) فقد وصلت نسبة الأجانب عام 1947 إلى 7% من مجموع السكان بعد أن كانت تمثل ربع سكان المدينة في تعداد 1907، والحقيقة التي يؤكدها صبحي عبد الحكيم في دراسته هي انخفاض النسبة كان أحد أسبابه تجنس الأجانب بالجنسية المصرية، حتى أن اعتبرهم البعض مجرد "خواجات"، لكنهم عملوا في جميع المهن وضمنها العمل داخل عربات الترام.

عفاريت الترام
الترام الذي اعتبره المصريون في بدايته عفريتا يجوب شوارع المحروسة يقابل اليوم بعفاريت بشرية، يشير محمد عبد الحميد إلى صبية اختاروا التعلق في العربة الأخيرة من الترام قائلا: "هؤلاء من أقصدهم.. كيف أتعامل معهم وليس لدي سلطة عليهم؟!". أثناء عمله محصلا قابل محمد عفاريت أخرى يقتحمون الترام في شلل ويضايقون المحصل. نفس الترام الذي تعاطف مع احتجاجات الوطنيين على إثر اندلاع ثورة 1919 وأعلن عماله الإضراب، يمر اليوم بعبارات احتجاجية من نوع آخر.. في الطريق إلى بولكلي حيث يقف محمد عبد الحميد، إحدى تلك العبارات كتبت على جدران مجاورة لشريط الترام بإمضاء "جمال الدولي" مشجع نادي الاتحاد السكندري الشهير الذي ملأ شوارع الإسكندرية في فترة من الفترات بعباراته الساخطة ضد السلطات، في هذه النقطة تحديدا كتب عبارة ضد إسرائيل، مثل تلك العبارات استقبلتها قد يجد الزائر عبارات شبيهة بها على جدران شواطئ الإسكندرية حيث يدعو بعضها إلى العفة وأخرى من نوعية:" لا تحلموا بعالم سعيد .. خلف كل قيصر يموت"، وقبل أسابيع قليلة شهدت ساحة القائد إبراهيم مظاهرات بسبب قتيل الإسكندرية الشاب خالد سعيد على مسافة قليلة من محطة الرمل الرئيسية، مثل تلك الأحداث "الطارئة" لا تشغل بال كثير من العاملين داخل عربات الترام بقدر ما تشغلهم الأحداث اليومية، يشير محمد عبد الحميد من موقعه الراسخ ناحية محطة الشبان المسلمين قائلا : "هناك محطات أصبحت تثير قلق العاملين، مثل الشبان المسلمين حيث مدرسة محمد علي التي يتكرر شغب طلابها وشجارهم هناك". في محطة الرمل الرئيسية عمل محمد في إحدى المهام الإدارية التي اعتزلها ابتعادا عن تعقيدات العمل اليومية.. هناك في محطة الرمل أجواء أفضل حيث العمارات الفخمة العتيقة بعيدا عن مشاكل الركاب والطلبة في موسم الدراسة، حديث محمد عبدالحميد عن تجاوزات الشباب في الترام تثير مفارقة في أن بداية هذا الخط في محطة الرمل تقع جدارية ضخمة عليها صورة فنان الشعب السكندري سيد درويش، إلى جانب رائدة التعليم نبوية موسى، أحد العاملين في الجوار لم يعرف من صاحبة الصورة. تبدو الصورة وكأن المرأة التي تعرضت للتضييق من رجعية المجتمع وسلطات الاحتلال البريطاني نتيجة سعيها للعمل في مجال التربية وإنشاء مدارس البنات ستظل في موقعها هذا شاهدة هي الأخرى على تطور حال المدينة وشبابها

Thursday, July 1, 2010

المحاماة بيـن مجـد غابـر وواقع بائس

رغم أن كليهما قد اضطر إلى الالتحاق بكلية الحقوق حسب قواعد مكتب التنسيق، فأن ذلك لم يمنع سرّاء أسامة (19 سنة) من التعلق بأمجاد مهنة المحاماة القديمة، فى الوقت الذى اختار فيه عماد أحمد (27 سنة) طريقا آخر يصفه قائلا: «بعض طلبة الحقوق يشعرون بأنهم موصومون بالفشل نتيجة تذيل كليتهم قائمة التنسيق وازدحام الطلبة فيها، لكن تجربتى كانت أسوأ بسبب انتقالى من كلية العلوم بعد رحلة إخفاق وانضمامى إلى طلبة السنة الأولى ضمن المحولين من كليات أخرى، وقتها قررت ألا يكون لدى هدف سوى الحصول على شهادة التخرج وإنهاء الخدمة العسكرية لأعمل بعدها بشكل حر». يعمل عماد اليوم بعد تخرجه مصمم جرافيك، حيث يجلس بالساعات أمام شاشات الكمبيوتر، ورغم تخرجه قبل عامين فإن أعوام الدراسة لم تمثل له أى فائدة فى مشواره العملى، حسب قوله فهو «لم يدخل محكمة فى حياته»، بل كان ضيفا خفيفا على الجامعة قضى أغلب وقته أثناء الدراسة فى التدرب على الكمبيوتر حتى لحظة التخرج.أما على الجانب الآخر فتختلف الصورة تماما لدى «سرّاء» طالبة الفرقة الثالثة التى اختارت الانتظام فى تدريب عملى داخل مكتب للمحاماة، تمهيدا للحصول على خبرة تفيدها فى ممارسة المهنة بعد التخرج، تعلق على ذلك: «تجربة التدرب على المحاماة كانت مبهرة لى فى البداية، الجميع ينادوننى بلقب أستاذة وأحصل على تقدير سواء فى المكتب أو فى المحكمة.. غير أن الواقع أحيانا ما يتغير حين أتعامل مع الأفراد العاديين الذين يصابون بالريبة من مهنة المحامى». فى تلك المواقف تستعيد «سرّاء» ما قيل على لسان بعض أساتذتها داخل قاعات المحاضرة عن فضل مهنة المحاماة وقدسيتها، وتحاول نسيان ما تواجهه من تحديات يومية.
صورة من يمارس المحاماة كانت قد تبدلت منذ نشأة المهنة فى مصر حتى اليوم، حين كانت الصورة فى البداية لشخص «غلباوى» كثير الكلام يعتمد على لسانه أكثر من اعتماده على قوة حجته، خاصة أنها لم تعتمد فى البداية على فئة مؤهلة تعليميا، هذه الملامح سجلها المفكر المصرى أحمد لطفى السيد ــ خريج مدرسة الحقوق ــ فى كتابه قصة حياتى (هيئة الكتاب 2008) فى موقف محدد واصفا حال والد الزعيم الوطنى محمد فريد الذى بكى حزنا على ابنه الذى اختار العمل بالمحاماة قائلا: «هل يصح أن يهزأنى محمد فريد فى آخر الزمن ويفتح دكان أفوكاتو؟». لم تدم هذه الصورة كثيرا بفضل إجراءات التحديث التى اتخذتها الدولة آنذاك لاستبعاد غير المؤهلين، وتبدلت الصورة إلى حال أفضل مع ازدياد أعداد دراسى الحقوق الذين استقطبتهم أجهزة الدولة حتى تكونت فيما بعد نخبة حقيقية من العاملين فى مجال المحاماة لأسباب أخرى توردها د. أمانى الطويل فى كتابها «المحامون بين المهنة والسياسة» (الشروق، 2007) الذى رسمت فيه ملامح تطور صورة المحامى بعد ظهور شخصيات من أمثال سعد زغلول وقاسم أمين الذين عمل بعضهم على تطوير المهنة.وفى فترة التحرر الوطنى امتزجت المواقف الوطنية بالسياسية فلمعت صورة المحامى المدافع عن الحقوق، خاصة حين تحولت نقابة المحامين إلى ساحة يبرز فيها الانتماء السياسى والمواقف الوطنية. تلك الفترة التى احتفى بها المجتمع بمهنة المحاماة قد يتذكرها بعض شيوخ المهنة أو الأكاديميين الذين التحقوا بكلية الحقوق ــ قبل ظهور مكتب التنسيق ــ وكلهم أمل فى اللحاق بركب النخبة السياسية والحكومية.فى ذلك الوقت اتخذت حفاوة المجتمع بالمحاماة أشكالا أخرى مثل التعلق ببعض تفاصيل المهنة التى تتجلى فى «أدب المرافعة» الذى تظهر فيه عناصر البلاغة والفصاحة لدى المحامى. وكانت المرافعة تستمد أهميتها من أهمية الحدث وأحيانا من شهرة المحامى، فتفرد مساحات فى الصحف لهذا الغرض، وهو ما حول بعض هذه المرافعات إلى ميراث مطبوع فى كتب حتى يومنا هذا كما انتقل بعضها أخيرا إلى الانترنت. «كلية الوزراء»، حسبما يردد بعض أساتذة كلية الحقوق حتى اليوم لم تعد اختيار أغلب من دخلوها، وهذه الصورة التى كانت تظهر المحامى فى سينما الأبيض والأسود بملابس مهيبة وصوت رصين استبدلت منذ عقود بصورة مختلفة تناولتها أفلام مثل «الأفوكاتو» للفنان عادل إمام الذى أثار عددا من المحامين ضده فيما اعتبروه إساءة لهم، بينما أعقب ذلك أفلاما أخرى تناولت مافيا محامى التعويضات مثل فيلم «ضد الحكومة».وتحولت صورة المحامى إلى شكل جديد متعارض مع الصورة التى كانت عليها من قبل. بعيدا عن التطور الذى أصاب صورة المحامى يجلس عماد فى عمله راضيا عن وجوده أمام شاشة الكمبيوتر التى أدمن الجلوس أمامها منذ سنوات، لم يعد يربطه بالكلية سوى شهادة تخرج حصل عليها قبل عامين، أما سراء أسامة فتقول: «لا أشغل بالى بالمستقبل بعد التخرج، أعلم أن ممارسة المحاماة ليست سهلة، فأنا أحصل من تدريبى على 150 جنيها، ما يثير سخرية أصدقائى رغم أنه مبلغ كبير مقارنة بغيرى.. الجميع يفكر فى العمل فى مؤسسات كبرى وهو ما يحتاج إلى إجادة عدة لغات، أما أنا فأسعى وراء صورة أحببتها ومهنة تعلقت بها».