Monday, December 13, 2021

ما نفعله بالتاريخ وما يفعله بنا... معارك ضد الماضي




عبدالرحمن مصطفى

قبل سنوات بعيدة، أبدى أستاذي المخضرم في قسم التاريخ بكلية الآداب استياءه من مكالمات الصحافيين التي تطلب منه تقديم قصص تاريخية مسلية للقراء، حتى إن كانت ضمن تعليق على حدث له جذور تاريخية. واليوم، أتذكره كثيراً حين أقرأ مقالاً أو منشوراً على صلة بالتاريخ.

تعود قصتي مع أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر في جامعة القاهرة إلى عصور ما قبل انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، وقبل الاهتمام المتزايد بما يطلبه "التريند" من موضوعات وعناوين، وقبل تحول الوسم (الهاشتاغ) إلى جزء أصيل من ترويج كتاباتنا. ورغم ذلك، فإن بعض زملائه من الأكاديميين كانوا – وما زالوا- يتعاملون مع التاريخ بمنطق البحث عن عنوان مثير، حتى إن أسفر ذلك عن تسطيح حقب وشخصيات بأكملها.


كتاب مغرضون

هل الاستخفاف بالشخصيات والحقب التاريخية هو الذي حوّل صورة جمال عبد الناصر أثناء تحية الجماهير إلى شعار طريف (Meme) يعبر عن الفشل والنهاية المخزية؟ أفترض هنا أن صاحب هذه الدعابة الثقيلة لم يأت بها من فراغ، بل هو جزء من سياق يحول التاريخ إلى أحداث وشخصيات نفخر بها وأخرى تشعرنا بالخزي، دون اعتبار لإمكانية أن تكون الأحداث والشخصيات مركّبة وتحمل تناقضات ومفارقات.

في الحقيقة، إن البحث عن الإثارة في عنوان يضرب شخصية أو مرحلة في مقتل ليس جديداً، وسابق على ظهور الإنترنت، كأن يدعي كاتب بأن ثورة 1952 أمريكية الصنع (انظر كتاب ثورة يوليو الأمريكية: علاقة عبد الناصر بالمخابرات الأمريكية) وذلك على عكس مسار الأحداث وسياقها الإقليمي والدولي، وهو السيناريو ذاته الذي قد يحدث مستقبلاً مع ثورة 25 يناير، والذي بدأ الترويج له مبكراً.

إن اختيار وثائق وشهادات بعينها، وقطعها عن سياق مرحلة بأكملها، يشكل مادة جذابة، تشبه فكرة الهاشتاغ التحريضي الذي يبرز كل حين على جانب موقع مثل تويتر.

لعل شخصية الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر التي نجحت في صنع أعداء ودراويش على حد سواء، مجرد حلقة في سلسلة شخصيات وحقب تاريخية ما زالت أسيرة لتناول يعتمد على الاستقطاب، تقسيم القراء إلى فريقين متنافسين وإشعال لحظة حماس، سرعان ما تمر ويبقى أثرها الضار، تاركة وراءها بعض التعصب وضيق الأفق.

ربما يجد جمال عبد الناصر فريقاً يدافع عنه رداً على أي اتهامات ضده، إضافة إلى وجود خطاب من السلطة يتعامل معه بشيء من التوقير، لكن الوضع يختلف مع شخصية أخرى، مثل الزعيم السياسي المصري سعد زغلول، الذي تتعامل معه بعض الموضوعات الصحفية بعقلية طالب ثانوي يسعى للثأر من شخصية أجبر على دراسة دورها في التاريخ الحديث.

ويكفي ضغط بعض الأزرار على لوحة الكتابة لنرى أنه يكاد لا يخلو موقع صحفي من مقال يكرّر ما قيل عن سعد زغلول بأنه مقامر وسكِّير ومنافق. ربما كان ما فتح المجال لذا التناول، هو نشر المؤرخين مذكرات سعد زغلول الشخصية، التي ضمت اعترافات ومحاولات للتطهر دوّنها على الورق، فاقتبسها كثيرون لتدمير صورة السياسي الراحل، وكانت تلك الفقرات المقتبسة كافية لهم عن التعمق في سيرته، بما تحمله من تناقضات وتوفيق أو سقوط.

هذا المقال ليس عن السؤال المثالي: كيف نصل إلى الحياد ونحن نتعامل مع أحداث التاريخ وشخصياته؟ بل هو عن الكتابات والتعليقات التي تسعى لإعادة تقديم التاريخ بشكل مثير، صادم، جاذب، مستقطب، وكأنها جاءت بنتائج جديدة. فهل من طريق يدفعنا إلى التعامل مع التاريخ بشكل أكثر تقديراً؟

هذا السعي وراء إثارة الجدل بشيطنة شخصيات وفترات تاريخية، لا يقع فيه كتاب هواة أو رواد مواقع التواصل الاجتماعي نتيجة قلة الخبرة، لكن بعض الكتاب المخضرمين والعاملين في مجال الكتابة التاريخية. على سبيل المثال، يعطينا الأديب والباحث المصري يوسف زيدان درساً في كيفية استغلال التاريخ والإعلام في صنع حالة من الجدل المفتعل: قبل سنوات، خرج زيدان بتصريح صادم خلال لقاء تلفزيوني قال فيه إن "صلاح الدين الأيوبي واحد من أحقر الشخصيات في التاريخ الإنساني". ثم أعقب ذلك بجملة اعتراضية أثناء حديثه على الهواء مع الإعلامي عمرو أديب قائلاً: "عملت لك مانشيت... عشان بكرة تستخدمه الجرائد".

هذا النموذج الجريء والمتجرِّئ في اختصار أحداث التاريخ وشخصياته في عبارات حادة، يشجّع آخرين على كتابة مقالات ومنشورات وتغريدات عبر الإنترنت، تفتقد التوازن في التعامل مع التاريخ وتكرّس حالة من الاندفاع والتهور، كتلك التي يتبناها مشجعو كرة القدم في المدرجات.

لن ينتهي الأمر عند هذا الحد، إذ يخبرنا التاريخ نفسه بأن مثل تلك الروح قد تنتج تطرّفاً وكراهية، مثلما يستعين أئمة السنة والشيعة بأحداث وشخصيات تاريخية، يختزلونها في صور بغيضة، لتحريض أتباع كل طائفة وتغذية روح الثأر.

وهكذا يعود التاريخ كمن يقول "احرقوا أنفسكم بتجرّئكم"، ليرد إلينا الإهانة تعبيراً عن ازدرائه من محاولات استخدامه في إثارة الجدل وجذب الانتباه، بلا توازن أو عقلانية. فتعود كرة النار الطائشة لتحرق الجميع بالتعصب وضيق الأفق.


صحفي في مهمة اغتيال

إن كتابة موضوع أو مقال عن شخصية أو قضية تاريخية هي قرار يتخذه صحفي أو كاتب أو مدوِّن (كاتب محتوى)، وحين يسعى هؤلاء وراء خلق صراع تختفي وراءه الصورة الكاملة للحدث أو الشخصية التاريخية، فتلك هي مسؤوليتهم. فالصحفي هو من ينتخب عنواناً من مناقشات في ندوة أو في حلقة تلفزيونية. هو مسؤول عن ترويج الطعنات الموجهة لشخصية راحلة أو حقبة بأكملها.

فما الذي يدفع صحفي لكتابة مقال أو خبر يسهم في اغتيال سعد زغلول أو صلاح الدين الأيوبي أو غيرهما؟ ما الذي يدفعه لاختيار جزء من التاريخ يمس مشاعر دينية أو وطنية لدى القارئ، حتى إن كان ذلك لا يعبر عن حقيقة ما كان؟ ثم لماذا لا يبتعد الكاتب أو الصحافي مسافة تسمح له برؤية أوسع، تضع هذا المحتوى المثير في سياق أشمل للتأكيد على أن ما يكتبه ليس كل الحقيقة؛ بل جزء منها؟

ربما تكون الإجابة لدى الفنانة رانيا يوسف وزميلتها إلهام شاهين. كيف ذلك؟ إن ما أفترضه هنا أن كثرة الاعتياد على توجيه الطعنات للآخرين وممارسة الاغتيال المعنوي تجاه شخصيات حالية على قيد الحياة، ووضعهم في ركن ضيق لا يستطيعون منه فراراً أو حتى الدفاع عن أنفسهم، هو ما قد يجعلنا نفهم ذلك السلوك المتنطع في التعامل مع التاريخ وشخصياته وأزمانه.

فالصحفي الذي نجح في اغتيال أحدهم معنوياً وهو على قيد الحياة وبكامل نفوذه، من السهل عليه اغتيال شخصية من التاريخ والتمثيل بجثتها دون أدنى إحساس بتأنيب الضمير، في الوقت الذي لا يدرك فيه الكاتب أنه ترك خلفه تحريضاً وكراهية وتكريساً لضيق الأفق.

إن ممارسة التحريض اليومي على الإنترنت ضد شخصيات عامة أو أخرى عادية، يبرمج الأذهان على سهولة ممارسة العنف والإقصاء في التعامل مع الآخرين، فلا محاسبة أو إدانة.

وحين يتخلى الصحافي عن كل ما درسه من ضرورة احترام الضحايا وعدم التشهير بالشخصيات العامة لخياراتها الشخصية، ويتحول إلى المتنمر الأول في ساحة الإنترنت؛ فإن النتيجة هو ظهور "حفلات" تجذب الآلاف لترديد عبارات الطعن والسب بكل بساطة ضد شخصية مشهورة أو أخرى خلقها "التريند".


إسلاميون على خط المواجهة

هذا المشهد الذي يبدو فوضوياً في التعامل مع الماضي، أحياناً ما يتشكل أيضاً بفعل ظرف سياسي أو اجتماعي، ليضع أمامنا سبباً جديداً لحالة الاستقطاب والتطرف في التعامل مع التاريخ. على سبيل المثال، فقد جاء انسحاب وضعف التيار الإسلامي في بعض البلدان العربية ليترك أثراً في الترويج لشخصيات وحقب ماضية، بل ترك فراغات ومساحات يجب ملؤها.

من الأمثلة على ذلك، طريقة التعامل مع الدولة العثمانية، فبينما كان الكتاب والمدوّنون والإعلاميون ذوو الصلة بالتيار الإسلامي يمجدون تاريخها وينقبون في مآثر رجالها، صانعين مادة مثيرة لدى محبي الفتوحات والغزوات؛ فإن الوضع تغير مؤخراً مع غياب تأثير هذه الفئة من الإسلاميين وتهميشها، خصوصاً بعد استغلال تركيا للوجه العثماني في الشأن السياسي. وهكذا صعدت كتابات أخرى تتعامل مع الحقبة العثمانية كتاريخ من الدماء وسلسلة من الاغتيالات والعسكرة والجهل. ومرة أخرى يصبح التعامل المتطرف والاستسهال هو التاريخ البديل.


تنقيب عن الفخر

ومع تقهقر التيار الإسلامي، أصبح بالإمكان رصد ما يحدث في بلداننا العربية من محاولات استعادة "أمجاد قومية" تحتفي بالحضارات القديمة. إذ يمكننا ببساطة ملاحظة تغير المزاج العام في التعامل مع التاريخ المصري القديم، بعد الحفل المبهر لموكب نقل المومياوات الملكية في مصر وما صاحبه من هوس على الإنترنت بأغنية تقدم ألحاناً وكلمات مصرية قديمة.

ثم تكرر ذلك مع افتتاح طريق الكباش في مدينة الأقصر الأثرية، وكأن هذا الاهتمام المتصاعد بالتاريخ القديم جاء بديلاً عن حالة "الفخر" التي سادت في السابق بالتاريخ الحربي الإسلامي، وهي الحالة التي كان يتغذّى عليها تيار الإسلام السياسي.

ولما خفت صوت الإسلاميين في عدة بقاع عربية، تراجع معها من كانوا يشعلون نشوة المستمعين بكتابات وخطب عن "الأندلس... الفردوس المفقود"، والدولة العثمانية التي هددت قلب أوروبا.

الأمر ليس مقتصراً على مصر في رحلة البحث عن تاريخ بديل للفخر، بل يمكن ملاحظة الاهتمام السعودي الجديد بتاريخ ما قبل الإسلام والاحتفاء بآثاره، بعد انسحاب تهديدات المتطرفين التي كانت تحط من شأن فترة ما قبل الإسلام، وفي السودان لا تخفى تلك النزعة التي تمجّد الماضي القديم، كاستخدام لفظ "كنداكة" في وصف صورة المتظاهرة السودانية الشهيرة أثناء ثورة ديسمبر، حين بدأ معها انحسار الإسلاميين.

هذه الروح لم تعد تخشى منغصات الوجود الإسلامي، فهي تبحث عن تاريخ بديل للفخر، لتسقط أحياناً في أزمة المغالاة في تمجيد حقب وشخصيات تاريخية سابقة، والسعي لإلغاء أخرى.

لكن التاريخ نفسه يقدم إلينا نماذج كارثية لهذه الممارسة، إذا ما انفلتت فيها روح الغل والتعصب، لتنتج أفكاراً قامت على خلطة "مثيرة" من الحقائق والأساطير، مثل ظهور الفاشية في إيطاليا كامتداد لمجد غابر، والنازية التي تمجد عرقاً أسطورياً، وهو ما جذب إليهما آلاف المتحمسين.


خاتمة

ربما يشعل التريند وسماً، فيرفعه عالياً في قائمة الأكثر رواجاً على مواقع التواصل الاجتماعي، وقد يتحقق النجاح عبر مزيد من القراءات والزيارات. لكن حين يتصل الأمر بكتابة التاريخ، فإن الإتيان بجديد لا يدعو بالضرورة إلى إلغاء القديم، فكلما تصاعدت نبرة التطرف في التعامل مع التاريخ بين الاحتفاء والازدراء، جاءت النتائج بمزيد من الانغلاق والتعصب.

وربما يغدو طموحاً جامحاً منا أن نطالب بالتعامل المحايد مع التاريخ والنظرة الشاملة للعصر والشخصية، بينما يمارَس الاغتيال المعنوي علناً لشخصيات عامة دون محاسبة. لا حل سوى الترفع عن أن تكون جندياً في معركة خاسرة مع الماضي.

Saturday, September 1, 2018

صلاح.. "ابننا" الذي كبر وتخلّى عن فن اللامبالاة

"إن تلك اللحظات من اللاهتمام هي اللحظات التي تحدد مسار حياتنا أكثر من غيرها" هذه واحدة من العبارات التي مر عليها اللاعب المصري محمد صلاح أثناء قراءته كتاب "فن اللامبالاة" الذي تسبب اللاعب في رفع مبيعاته حين نشر صورته عبر حسابه بتويتر. ولا يدعو هذا الكتاب إلى الكسل كما قد يظن البعض من عنوانه الخادع، لكنه يوجه القارئ إلى عدم بذل طاقة في أمور مستنزفة وغير مجدية، وربما هذا ما كان يحتاجه صلاح حين تفجرت أزمته الأحدث مع اتحاد الكرة المصري.

ما نعرفه عن محمد صلاح يؤكد أنه مر بمحاولات استنزافه منذ كان ناشئًا، إما بسبب نقص الإمكانيات، أو التضييق من المدرب، أو غير ذلك. لكن النجاح - حسبما يرى مارك مانسون مؤلف فن اللامبالاة وغيره من مؤلفي كتب "مساعدة الذات"- يتلخص في تجاوز كل هذا والتركيز على هدف واضح، حتى وإن كان يتطلب بعض المواجهات في أمور تستحق.

صورة من الفيديو الذي بثه صلاح على فيسبوك للرد على تسريب خطابات محاميه لاتحاد الكرة محمد صلاح يرد على اتحاد الكرة المصري

في الفيديو المقسم إلى 3 أجزاء الذي تحدث فيه صلاح لمتابعيه على السوشيال ميديا، وخصصه للرد على اتحاد الكرة المصري، بدا اللاعب أكثر حسما. كانت عبارات الاستهجان تؤكد أن هناك قواعد جديدة للتعامل، وأنه لن يكون ورقة في مهب الريح أمام إدارة متخبطة، إذ كتب قبلها على تويتر "ليس من الطبيعي أن يتم تجاهل رسائلي ورسائل المحامي الخاص بي ... لا أدري لماذا كل هذا؟" وانتقد في الفيديو تسريب مخاطبات محاميه حول الأزمة إلى الإعلام معتبرا أن هذا أمر غير قانوني.


كان محمد صلاح يؤكد دوما في مقابلاته على أنه "فلاح" مصري، لن يتوه أمام إبهار الحياة الغربية، لكنه الآن يحاول التأكيد على رسالة أخرى؛ أنه لن يتم استغلاله لمجرد أنه "ابننا" على حد وصف الكثيرين. ويبدو أنها اللحظة الأنسب للاعب العالمي أن يصنع صورة جديدة لنفسه، يبدو فيها مخضرمًا. أو كما قال عن نفسه في حفل الإعلان عن أفضل لاعب بأوروبا "أنا أصنع شيئا لم يسبق إليه مصري، أفخر بأن 100 مليون مصري يروني مثلا أعلى".

الآن بعد سنوات من العيش وسط المحترفين، ومعرفة ردود أفعالهم وتصرفاتهم في المواقف المختلفة، أصبح لدى صلاح القدرة على أن يدخل في مواجهة قوية مع اتحاد الكرة في بلده، وأن يقول لهم نصا "احنا في 2018"


متابعة الناجحين

في فترة احترافه بنادي تشيلسي الإنجليزي قبل أكثر من 4 سنوات، قال صلاح في مقابلة مع برنامج "لقاء الأسبوع" إنه يحقق استفادة كبرى من خبرات اللاعبين المحترفين حوله؛ "أنا بقعد أبص على اللعيبة، بشوف ده بيتصرف ازاي في موقف معين، ده رد فعله إزاي في موقف معين، لازم استفاد من خبرات الناس دي.. بقى لهم 20 سنة بيلعبوا كورة".

كانت حقبة تشيلسي فترة ضاغطة في حياة صلاح، حين كان مدربه مورينيو لا يتيح له فرصًا جيدة للعب، وكان على اللاعب انتزاع النجاح كما وعد أهله وأصدقاءه، حتى إن اضطر إلى التنقل بين الأندية. والآن بعد سنوات من العيش وسط المحترفين، ومعرفة ردود أفعالهم وتصرفاتهم في المواقف المختلفة، أصبح لدى صلاح القدرة على أن يدخل في مواجهة قوية مع اتحاد الكرة في بلده، وأن يقول لهم نصا "احنا في 2018" . لقد أصبح لديه خبرات متراكمة من الانتقالات بين الأندية والاحتكاك بلاعبين حوله رآهم كيف يدافعون عن حقوقهم.

إن قصة الأزمة القانونية التي تسبب فيها اتحاد الكرة المصرية بوضع صورة صلاح على طائرة المنتخب دون إذن الشركة الراعية، أو انعدام الانضباط في تنظيم معسكر المنتخب، أو توريطه في مساندة سياسية على غير رغبته، كلها أمور عايشها صلاح، ورأى في المقابل أجواء احترافية في الأماكن التي لعب تحت اسمها، ما جعله يصرخ في الفيديو الأخير عن أن ما يطلبه للمنتخب هو ما يحدث في العالم كله.

من حساب صلاح على فيسبوك صلاح زويل

العالمي

هذه المواجهة التي وقعت بين مصري ذي شهرة عالمية وأطراف في الدولة، ليست الحالة الأولى، ومن الواضح أن محمد صلاح كان يضع نفسه في فترة مبكرة في هذه المكانة، يسعى إلى أن يكون ذلك المصري صاحب الإنجاز العالمي، فليس من المصادفة أن ينشر على حسابه في فيسبوك قبل 4 سنوات، عبارة منسوبة للعالم المصري الحاصل على نوبل أحمد زويل تقول"الغرب ليسوا عباقرة ونحن أغبياء، هم فقط يدعمون الفاشل حتى ينجح ونحن نحارب الناجح حتى يفشل". وقد قال اللاعب في لقاءاته الأخيرة أنه كان يسعى لهذه المكانة من البداية، "مش هبقى مجرد واحد راح أوروبا ورجع" كما قال للإعلامي عمرو أديب في مقابلة جرت في وقت مبكر من هذا العام.

لكن بعض هؤلاء المصريين "العالميين" واجهوا أزمات مع الداخل، إما بسبب فجوة في التفكير، أو بسبب تعرضهم للاستغلال في أحيان أخرى. ولعل قصة الممثل المصري العالمي عمر الشريف كانت أكثرهم حدة، إذ أفصح قبل وفاته أنه طُلِب منه أن يكون عميلا أمنيا في الخارج، لكنه تهرَّب.

ربما ظلت محاولات استخدام شهرة محمد صلاح طوال السنوات الماضية في حدود المسموح، وفي شكل أقرب للتبرع من "النجم المحبوب"، مثل استخدامه في حملة ضد المخدرات، أو في تبرعه لصندوق تحيا مصر. لكن تطور ذلك إلى محاولة الضغط على اللاعب لتمرير خرق لتعاقده القانوني مع واحدة من شركات الاتصالات الكبرى، لصالح الشركة الراعية للمنتخب. ما دفع صلاح لأول مواجهة علنية مع اتحاد الكرة كي يعيد الأمور إلى نصابها الاحترافي.

من حساب صلاح على تويتر، نشرها خلال أزمة طائرة المنتخب صلاح

ذكاء إلكتروني

حين أثيرت أزمة صلاح مع اتحاد الكرة للمرة الأولى، نشر اللاعب صورته وهو يقبض على عنقه في إشارة إلى ضيقه واختناقه مما يجري، وبعدها بيومين كتب "طريقة التعامل فيها إهانة كبيرة جدا..." . وتسبب إفصاحه عن أزمته مع اتحاد الكرة المصري في صعود هاشتاج #ادعم_محمد_صلاح عالميًا، حتى أنه كتب بعد أن تلقى وعودا بحل الأزمة قائلا "أنا بس صعبان عليا الهاشتاج". وكأنها إشارة إلى أن صلاح يدرك جيدا أن بإمكانه صنع معركة إلكترونية دون اشتباكات حادة.

تويتر صلاح

بعد قصة هذا الهاشتاج بأسابيع، نشر اللاعب صورا له من المالديف جذبت تعليقات الكثيرين، ليعقبها بعد ذلك بأيام تغريدة يمازح فيها أحد زملائه في المنتخب قال فيها "وفجأة الشعب قرر يصيف والصور كلها تنزل من على البحر. لا وبالمايوه "، وكأنه يختبر قدرته على صنع تريند جديد، متباهيا بنجاحه في قيادة متابعيه على مواقع التواصل الاجتماعي.

إن محمد صلاح يعلم أن هناك متابعون، ويؤكد على أنه قدوة ومحل اهتمام من الملايين، لذا كان من الطبيعي أن يحتد على اتحاد الكرة في رسالة بالفيديو يذكرهم "احنا في 2018"، فأدوات كلا الطرفين مختلفة.

"ابننا" الذي كبر

في لقاء تلفزيوني أجراه فرانك لامبارد أسطورة تشيلسي مع محمد صلاح قبل عدة أشهر، لاحظ زميله السابق اختلافا في شخصية صلاح عن الوقت الذي تزاملا فيه قبل 4 سنوات، فقال له "أنا واثق من أنك نضجت كلاعب.. وكرجل أيضا". هذا التطور يكشفه أكثر ما ذكره مؤخرا "مورينيو" مدربهما السابق في تشيلسي، حين اتهمه البعض بأنه تسبب في رحيل صلاح عن النادي، فقال إن اللاعب المصري لم يكن مستعدا بدنيا، ولم يكن مستعدا ذهنيا أو اجتماعيا أوثقافيا [للعب في تشيلسي]، بل وصفه بأنه "كان ضائعا". وهذا ما دفع لامبارد إلى التأكيد على هذا التطور، بعد سنوات قضاها صلاح في ملاحظة من حوله، والتعلم من تجارب جديدة.

يتسلل النضج إلى حياة صلاح، بينما ما زلنا ندعوه "ابننا". دون أن ندرك أن الأبناء يكبرون مع الوقت، وربما هذا ما أراد أن يقوله اللاعب العالمي في أزمته الأخيرة مع اتحاد الكرة المصري.

Thursday, December 15, 2016

الأسد ينفض غبار المعركة.. والمصير الغامض يهدد المستقبل بعد «تحرير حلب»

كتب - عبد الرحمن مصطفى

 خرج الرئيس السوري بشار الأسد، من وسط غبار معركة حلب ليلقي كلمة مصورة بدا فيها مبتسما، وأكثر هدوءا عن ذي قبل، واصفا “انتصار” القوات السورية على الفصائل المعارضة باللحظة التاريخية التي سيتوقف عندها الزمن ليدخل التاريخ «مرحلة ما بعد تحرير حلب»، بحسب وصفه.

تزامن بث فيديو الأسد عبر حساب الرئاسة السورية على تويتر مع عملية إجلاء آلاف المدنيين والمقاتلين من آخر معقل للمعارضة في حلب بعد اتفاق جرى لوقف إطلاق النار.

حلب

 

“ما يحدث اليوم هو كتابة تاريخ يكتبه كل مواطن سوري، لم تبدأ كتابته اليوم، بل بدأت من نحو 6 سنوات عندما بدأت الأزمة والحرب على سوريا”. هذه الكلمات الوائقة من الرئيس السوري، أخفت وضعا بائسا عاشته المدينة مؤخرا، دفعت لجنة تحقيق في جرائم الحرب تابعة للأمم المتحدة، أمس الأربعاء، إلى تحميل الحكومة السورية مسؤولية أساسية كي تمنع أي هجمات أو انتهاكات ضد حقوق الإنسان في حلب من قبل جنودها أو القوات المتحالفة معها. وهي الممارسات التي وصفتها الأمم المتحدة من قبل بأنها “تمثل على الأرجح جرائم حرب”.

انشغل الرئيس السوري بالنصر، وقال في ظهوره الأخير “أعتقد بعد تحرير حلب، سيقول التاريخ، لا السوري ولا الإقليمي فحسب، بل الدولي أيضا: قبل تحرير حلب وبعد تحرير حلب، كما قال من قبل مرحلة ما قبل سقوط الاتحاد السوفييتي، وبين الحربين العالميين”.

وفي جزء من حديثه عن تأثير نتائج معركة حلب على توازنات القوى في المستقبل، كثير من الصحة، إذ لن يحصد الأسد وحده غنائم الحرب، بقدر ما سيشاركه فيها حلفاء آخرون على رأسهم روسيا الاتحادية التي دعمت بشكل قوي القوات الحكومية، مع اتخاذ تدابير دبلوماسية تضمن تحقيق هذا النصر.


ويطرح ظهور بشار الأسد اليوم سؤالا حول حقيقة هذا “النصر”، في وقت أدان فيه المجتمع الدولي انتهاكات جرت ضد المدنيين في حلب، وأكدت فيه دول غربية كبرى، قبل أسبوع، أنه لن تكون هناك أي حصانة للأفراد المتورطين في جرائم حرب. داعين الأمم المتحدة لجمع الأدلة للمساعدة في مثول الأفراد أمام العدالة.

كذلك بدا موقف الرئيس السوري معزولا أمام الدبلوماسية العربية، إذ نددت دول  في اجتماع طارئ لجامعة الدول العربية، اليوم الخميس، باعتداءات جرت على مدنيين أثناء فرارهم من حلب.

وقال أحمد قطان مندوب السعودية أمام الاجتماع الذي عقد في القاهرة “نجتمع اليوم ونحن نشاهد بأعيننا حجم الدمار الهائل الذي أحدثه النظام السوري وحلفه، (…)، بل أمعنوا واستمروا في قتل الشعب السوري الشقيق بوحشية وبدون أي وازع ديني أو ضمير إنساني”.


حلب

أما جمعة مبارك الجنيبي، مندوب دولة الإمارات الدائم لدى الجامعة العربية، فقال “لا يمكن القول بأن قوات النظام السوري حققت انتصارا بتطهير بلد من سكانه بهذه الطريقة الوحشية، كما أنه لا يمكن تصور هذا الضعف الذي يعاني منه المجتمع الدولي بصمته على تلك الجرائم الإنسانية وجرائم الحرب التي ترتكب يوميا هناك”.

سيواجه الرئيس السوري في المستقبل أزمة مع الانتهاكات التي جرت في مدينة حلب من أجل تحقيق ذلك “النصر”. كما يبقى أمامه أزمة في آلاف النازحين من حلب، وحالة الطوارئ التي دفعت الأمم المتحدة لتجهيز خطط طوارئ لاستقبال 100 ألف شخص في إدلب.

قد تبدو ملامح الرئيس السوري الواثقة في فيديو اليوم، أكثر تعبيرا عن النصر، لكنها قد لا تستمر على هذا المنوال في المستقبل، بعد أن تظهر نتائج أخرى أغفلها بشار الأسد من حساباته. ما يطرح بدوره تساؤلا عن المصير الغامض الذي يهدد مستقبل الأسد  بعد «تحرير حلب»، وهو ما ستكشف عنه مجريات الأحداث خلال الفترة الضبابية المقبلة  في تاريخ البلاد.

Wednesday, May 25, 2016

الصحافة السردية.. روح المحقق وقلم الروائي

 


عبدالرحمن مصطفى

وسط الركام الذي يحيط بنا بين عناوين مختصرة وتغطيات إخبارية كثيفة، تظل هناك حاجة لنوع من الكتابات يأخذنا بلغة رشيقة ومشوقة إلى تفاصيل أكثر وتفسيرات جديدة، حتى لو امتدت الكتابة عبر آلاف الكلمات للموضوع الواحد. هذا ما تقدمه "الصحافة السردية" كعنوان لتلك المساحة الجذابة التي يصعب الاستغناء عنها.

يمكن تعريف الصحافة السردية بأنها استخدام تقنيات الأدب القصصي لعرض المادة الصحفية المطولة، مع الالتزام بالعمق والدقة. وذلك استنادا لتعريف مؤسسة نيمان الداعمة للصحافة السردية.

تأتي البداية في ستينات القرن الماضي حين ظهرت ملامح تيار جديد في الكتابة الصحفية بين مجموعة من الشباب، اعتمدوا على العمل الميداني الشاق، وجمع المعلومات باحترافية ليصيغونها بشكل احترافي مشوق، وكرسوا فنا جديدا يقدم الحقائق بشكل إبداعي لا يعتمد على خيال المؤلف.

في عقد السبعينات، ظهر استخدام مصطلح "الصحافة الجديدة" في مقال للصحفي الأمريكي توم وولف ليعبرعن الصحافة السردية التي تستعين في إنتاجها بأدوات الأدب.

كيف تستعين الصحافة بأدوات الأدب؟ تجيب ماري فانوست الباحثة بالجامعة الكاثوليكية في لوفان ببلجيكا قائلة ضمن ورقة بحثية، إن الصحافة السردية تستعين بأدوات محسوبة على الأدب والإبداع، مثل استخدام الحبكة، والتشويق، والوصف، والصراعات، والشخصيات الدرامية، والحل.

هذه الأدوات ليست طارئة على لغة الكتاب والصحفيين، بل يميل الباحثون إلى التفتيش في جذور أقدم في العلاقة بين الأدب والصحافة تعود إلى القرن التاسع عشر، لكن تلك العلاقة ازداد تطورها مؤخرا، حتى شهد العام الماضي  انتصارا حقيقيا لمسيرة الصحفيين العاملين في الصحافة السردية، حين حصلت سفيتلانا ألكسيفيتش على جائزة نوبل للآداب. فهي صحفية من بيلاروسيا، احترفت الكتابة عن الجانب الإنساني من الأحداث الكبرى، مثل الحرب العالمية الثانية، وحرب الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، وكارثة انفجار المفاعل النووي "تشير نوبل"، إذ نقلت شهادات من حضروا تلك الأحداث، لترويها بأسلوب أدبي شيق، فتكتمل أمام القارئ صورة هذه الأحداث الكبرى. أو على حد تعبير الأمينة العامة للأكاديمية السويدية، عند الاعلان عن فوز سفيتلانا ألكسيفيتش: "في السنوات الثلاثين إلى الأربعين الأخيرة أجرت (سفيتلانا) مسحا للإنسان خلال المرحلة السوفييتية وما بعد هذه المرحلة. لكن الامر لا يتعلق بأحداث، بل بمشاعر".

تلك التفاصيل عن علاقة الصحافة بالأدب وما تنتجه الصحافة السردية قد تصنع تشوشا لدى القارئ، فما الخيط الفاصل بين الحقيقة والخيال؟ هذا السؤال عالجه قبل سنوات روي بيتر كلارك نائب رئيس معهد بوينتر للدراسات الإعلامية، ووجد الإجابة في عبارة بسيطة وبديهية، قائلا "على الصحفيين أن يكتبوا الحقيقة"، في إشارة إلى أن السرد هو أسلوب تقديم الحقائق التي توصل إليها الصحفي.

وفي صحف مثل نيويورك تايمز، نيويوركر، وأتلانتيك، أصبحت هناك مساحات واسعة لهذا النوع من الصحافة، الذي أصبح من المتعارف أنه لا يقل عن 1500 كلمة في الموضوع الواحد. بينما تتنوع الموضوعات لتغطي اهتمامات وقوالب مختلفة، مثل: الحوار، والسفر والرحلات، والتحقيقات الاستقصائية، والسيرة الذاتية، والعلوم، وغيرها من الموضوعات. وهنا تظهر الصحافة السردية كأداة وتقنية في الكتابة تستطيع التعامل مع كافة تلك التصنيفات. حيث يفيد القالب الروائي- والملحمي أحيانا- الذي تقدمه الصحافة السردية وأسلوبها الدرامي القصصي في تقديم صورة شاملة عن موضوعات تحمل جهدا بحثيا واستقصائيا كبيرا.

ومن خلال ما يقدمه محترفو الصحافة السردية من نصائح وإرشادات، تتضح ملامح هذا النوع من الصحافة بشكل أكبر. على سبيل المثال سجل المدرب ألبرتو سالسيدو راموس على موقع شبكة الصحفيين الدوليين "5 ملاحظات من أجل صحافة سردية أفضل" يمكن تلخيصها في: "الاستعانة بجهد استقصائي كبير قبل الكتابة- البداية القوية للموضوع – الالتزام بالحقائق- ألا يفرط الصحفي في إقحام نفسه داخل النص – التطوير الدائم لمهارات الكتابة".

أما الكاتبة الأمريكية كونستانس هال، التي قضت أكثر من 20 سنة في عالم الصحافة السردية، وقامت بالتدريس في جامعة هارفارد، فأوصت ببعض التقنيات المهمة التي لا يمكن الاستغناء عنها بسهولة.

منها: رسم مشاهد للقارئ أثناء الكتابة، وإحياء شخصيات الموضوع وإبراز ملامحها، والاعتماد على الحبكة، والتناقضات، والتشويق، والاهتمام بالصراعات الدرامية.

كم عدد الكلمات المطلوبة؟ المساحة مفتوحة حسب كم التفاصيل المشوقة، فقد نجد صحيفة مثل نيويورك تايمز تفرد مساحة لتحقيق يتجاوز 28 ألف كلمة على خمس حلقات، تنقلنا فيه الصحفية أندريا إليوت، تحت عنوان "الطفل الخفي" إلى عالم أطفال الشوارع، وهو ما استثمرته في إصدار كتاب عن القضية نفسها.

هذا التطور في مسار الصحافة السردية لم يمنع انتقادات متكررة عن وقوع بعض الصحفيين في فخ الانحياز للشخصيات أو القضايا التي يكتبون عنها، بسبب الهالة التي تضفيها الكتابة على شخصيات الموضوع، وهو ما جعل بعض الصحفيين يطلقون تحذيرات من الاهتمام بالسرد على حساب العمل الصحفي، على سبيل المثال، أطلق جيم جيراثي أحد الكتاب المحافظين الأمريكيين صرخة في مقال منشور بمجلة "ناشيونال ريفيو" تحت عنوان: "ماذا لو كانت الصحافة السردية في الإعلام مضرة لقضاياها؟" مستندا في ذلك إلى حادث شهير قتل فيه شاب أسود على يد رجل شرطة أمريكي، واتهم الكاتب الصحافة السردية بأنها وجهت الرأي العام نحو فرضية أن الحادث ناتج عن أسباب عنصرية، وحين لم تقتنع بذلك هيئة المحلفين، وقعت بلبلة لدى جمهور القراء.

الكثير من الأمثلة والتعليقات تؤكد على أهمية الجهد الصحفي وجمع المعلومات، ومن أهم ما قيل حول ذلك هو ما ذكره جاي تاليس الصحفي الأمريكي، الذي يعتبره البعض "الأب الروحي" للصحافة السردية، وهو كاتب البروفايل الأشهر عن المطرب الراحل فرانك سيناترا. إذ جمع خبرته في عبارات محددة كتبها عام 1970 بقوله: إن الصحافة السردية ليست خيالا، لكنها تُقرأ وكأنها إبداع، تعتمد على الحقائق دون غيرها. ويوصي الكاتب المخضرم الذي يتجاوز الآن عامه الرابع والثمانين بأهمية امتلاك الأدوات الصحفية، ولعب دور المخبر للوصول إلى حقائق ينسجها الصحفي بأسلوب شيق.

Sunday, May 8, 2016

الصحفيون والداخلية: مَن يقصف جبهة اﻵخر؟

تحركتُ يوم الأربعاء الماضي من أمام مبنى نقابة الصحفيين في وسط القاهرة، تاركًا خلفي طاقة إيجابية ملأت محيط النقابة، رغم الحصار المحكم لآلاف الصحفيين من رجال الأمن و”المواطنين الشرفاء”. انتهت الجمعية العمومية الطارئة للصحفيين وسط الهتافات والابتسامات والرضا، لكن بمجرد عبوري الجهة الأخرى من الطريق، استوقفني أحد المارة ليسأل عن وقوع اشتباكات بين الصحفيين والأمن، وحين أجبته بالنفي، استطرد: “ما هو ده إعلام (…) يعني هما عايزين إيه يعني؟”

تنتزعك مثل تلك المواقف البائسة من نشوة التفاؤل دون مقدمات، حين تفاجأ بأن ما تعتقد أنه معلوم بالضرورة، لا يعلمه كثيرون. وبعد توالي الأيام على صدور قرارات الجمعية العمومية الأخيرة، اتضح أن داخل الصحفيين أنفسهم، من لا يتبنى هذه القرارات بأكملها، بل إن النقابة نفسها تراجعت عن حماسها الذي ظهر في بياناتها النارية الأولى.


هذا المقال ليس عن هؤلاء الذين يفسدون لحظاتنا السعيدة، ويقطعون نشوتنا ويجهضون النجاحات الصغيرة التي نحققها، ولا عن المواطن التائه بين مبررات الأمن لاقتحام مقر نقابة الصحفيين للقبض على صحفيين مطلوب ضبطهما، وغضب الصحفيين لانتهاك “كرامتهم”.

فالسؤال الصادر بسلامة نية أحيانًا: “هي إيه القصة بالظبط؟”، لا بد أن يدرك الصحفيون أهميته، أن يحددوا إجابات شافية له، تجذب الرأي العام لقضيتهم التي تتجاوز واقعة اقتحام النقابة.

كان هذا سؤالًا ساذجًا، ويتلوه آخر بديهي: “لماذا احتشد آلاف الصحفيين هكذا داخل نقابتهم؟” حين يبحث القارئ العادي عن الإجابة، قد يُفاجأ بعبارات بليغة، من نوعية: “احتشد الصحفيون رفضًا للممارسات الأمنية الغاشمة”، أو “اجتمع الصحفيون دفاعًا عن كرامة المهنة”، أو”عقد الصحفيون جمعية عمومية حفاظًا على قدسية قلعة الحريات”، وكلها إجابات مُرضية جدًا وتعبر عن جزء كبير من الحقيقة. لكن، ونحن الآن في العصر الذي يردد فيه “إعلاميون” قصصًا عن مؤامرات الجيل الرابع والخامس من الحروب، ويتحدثون عن مؤامرات “الإعلام الفاسد”، هل تجدي هذه الجمل البليغة نفعًا وسط الأجواء التحريضية والضبابية؟

لا يمكن إرجاع الأزمة الأخيرة بين نقابة الصحفيين ووزارة الداخلية فقط لواقعة الاقتحام الأمني لمقر النقابة، وما تبع ذلك من مطالبات صحفية بإقالة وزير الداخلية، فقد سبقت ذلك بأسبوع مسيرة إلى مكتب النائب العام لتقديم بلاغ في وزير الداخلية ضد انتهاكات تعرض لها صحفيون أثناء أداء عملهم في ذكرى تحرير سيناء.

وقبلها بأسابيع أعلن نقيب الصحفيين إلغاء قرار أمر ضبط وإحضار صادر ضد خالد البلشي رئيس لجنة الحريات بالنقابة، الذي كان يواجه عدة اتهامات.

كل تلك الضغوط وغيرها من معاناة أصحاب هذه المهنة، قد لا تمثل تهديدًا مباشرًا لبقية المواطنين، بل قد يرى بعضهم هذا الصراع على طريقة مباريات كرة القدم.. من أحرز الهدف الأول؟ وقد يُختصر المشهد في صراع بين الصحفيين والداخلية حول من يقصف جبهة الآخر، دون الالتفات إلى ركام الأزمات والمشاكل التي يواجهها الصحفيون يوميًا في عملهم، وبعضها يتعلق بوزارة الداخلية تحديدًا، وهو ما تجلى أخيرًا في قصة اقتحام النقابة.

دارت برأسي أفكار كثيرة مع بعض الزملاء، حول هذا الحماس الاحتفالي الذي جمع الصحفيين يوم الجمعية العمومية، وما إذا كانت قرارات الجمعية العمومية صدرت تحت تأثير هذا الحماس الزائد، دون التفكير في جدية الالتزام بقرارات نقابة الصحفيين.
***
حققت الجمعية العمومية الأخيرة مكسبًا كبيرًا في حشد آلاف الصحفيين حول مهنتهم، ونقلت روحًا جديدة إلى واجهات الصحف الورقية، كاستخدام صورة “نيجاتيف” لوزير الداخلية، بهدف إثارة تساؤلات القراء، واستخدام شعار جانبي موحد “لا لحظر النشر، لا لتقييد الصحافة”، وهي أفكار قريبة من ممارساتنا اليومية على شبكات التواصل الاجتماعي في استخدام الهاشتاج والبانر وغيرها من الأفكار. ربح الصحفيون محاولتهم الضغط على مجلس النواب كي يفيق من ركوده، وجذبه إلى قضية متعلقة بالحريات، كما حاولت النقابة قطع أي محاولة لتسديد اتهامات إليها بالاستقواء بالخارج ورفضها “أي تدخل أجنبي رسمي في شأن الصحافة المصرية” أو “استغلال أي جماعة أو تيار سياسي بتوظيف الأزمة الراهنة لصالحه”.

تلك بعض المكاسب الذي حققها الصحفيون عبر تلك الأزمة، لكن مع الوقت، لم تكن المكاسب في نفس وزن ما أعتقد أنه خسائر أو تراجع متصاعد في قضية الصحفيين.

في البداية ظهرت الأزمة للرأي العام وكأن القضية مجرد جدل حول مسألة الاقتحام الأمني لمقر نقابة الصحفيين، وهكذا بدا الأمر في صدر البيان الصادر عن نقابة الصحفيين يوم الأربعاء الماضي، وفي كثير من التعليقات الصحفية. بعدها بدأ انسحاب قيادات صحفية، أيًا كانت انتماءاتهم، من حالة الإجماع والحماس الزائد في الجمعية العمومية التاريخية الأسبوع الماضي، وبدأ التراجع يزداد متمثلًا في عدم تنفيذ بعض الصحف ما اتُفق عليه من تصعيد، كتلوين الصفحة الأولى باللون الأسود، وانتهى الأمر في بيان أخير صادر عن مجلس نقابة الصحفيين بعد توضيحات متتالية أن الصحفيين لم يطالبوا باعتذار الرئيس، وهذا نفسه موقف مؤسف، لأن النقابة كانت قد طلبت بالفعل في بيان واضح: “تقديم رئاسة الجمهورية اعتذارًا يحفظ كرامة الصحفيين ومهنتهم ونقابتهم”.

هذا التسلسل في الأحداث، كان يصاحبه دائمًا سؤال من الرأي العام “ما القصة؟”


هناك من هم أكثر مني احترافًا في الشأن النقابي وفي قضايا الحريات، فـ”مَن أنا لأقول لكم ما أقول لكم”، لكن إذا عدنا إلى أزمة مشابهة جرت قبل أشهر بين الأطباء ووزارة الداخلية، سنجد أن الأمور كانت مختلفة بعض الشيء.

أعتقد أن إجابة سؤال “ما القصة؟” كانت أكثر وضوحًا في أزمة الأطباء منها في أزمة الصحفيين الحالية. ففي رأيي الشخصي أن نقابة الأطباء نجحت وقتها في تصدير قضية أبعد من قصة اعتداء الشرطة على أطباء أثناء تأدية عملهم، إذ استغل الأطباء الفرصة وطرحوا على الرأي العام أزماتهم اليومية في العمل، وضغطوا من أجل لفت الأنظار إلى معاناتهم، وأشاروا إلى أن التقصير الأمني جزء من أزمات يواجهونها في عملهم.
***
يواجه الصحفيون تضييقات ورقابة أصبحت تصيب كثيرين بالارتباك، خشية الاضطرار إلى سحب أعداد الجريدة من الأسواق كما حدث مع عدد من الإصدارات، أو مواجهة اتهامات بالعمالة، وما إلى ذلك من مظاهر التضييق.

وفقًا لأرقام التقرير السنوي لمجلس نقابة الصحفيين في مارس 2016، فإن “هناك نحو 29 زميلًا رهن الاحتجاز في قضايا متنوعة، من بينهما قضايا تتعلق بمهنتهم، سواء على ذمة المحاكمة أو محكومين بأحكام غير نهائية، أو باتة أو من دون توجيه أي اتهامات إليهم، وبين هؤلاء من تجاوز احتجازه الحد الأقصى للحبس الاحتياطي”.

هناك مشاهد يومية بائسة في عالم الصحافة، يكاد يتضاءل أمامها مشهد اقتحام النقابة، ولابد أن تتصدر هذه الأزمات المشهد بصورة أكبر في المرحلة المقبلة، بمعنى أن يدرك القراء جيدًا ماذا يخسر المجتمع إذا خسرت الصحافة جراء ضغوط أجهزة الدولة على الإعلام.

أقول هذا خشية أن تتحول الأزمة الحالية إلى حرب حول مَن يقصف جبهة مَن، الداخلية أم نقابة الصحفيين، أو أن ينتهي الأمر إلى ترضية “عرفية” بين الطرفين.

لذا فإن التركيز على الضرر الواقع على المهنة وما يسببه ذلك من ضرر على المجتمع، قد ينقل القضية إلى مساحة أخرى، يبدو فيها مشهد الاقتحام الأمني مجرد حادث في واقع بائس يهدد ويربك العاملين في مجال نقل المعلومات إلى المجتمع.

***
حين يسألني أحدهم:” ما قصة النقابة والداخلية؟” هل أخبره أن الأزمة أني صحفي وعلي راسي ريشة، كما فعل أغلبنا غاضبًا لكرامته على صفحات التواصل الاجتماعي؟ هل أخبره أن قصة النقابة والداخلية تتلخص في أن الأمن تخطى الحواجز واخترق “قدسية النقابة”؟

نحن جميعًا أدرى بأن هناك فواجع أكبر تحدث في هذا البلد. ولعلنا في حاجة إلى مزيد من الشرح والتفسير لقرائنا بخصوص ما يحدث للمهنة وما تواجهه من أخطار، وكيف سيؤثر ذلك على المنتج المقدَّم إلى هؤلاء القراء في المستقبل، وماذا سيخسر القراء إذا خسروا الصحافة.

Wednesday, July 15, 2015

رسالة من محاربة للسرطان: لا نطلب الشفقة وادعمونا بالتفاؤل


كتب - عبدالرحمن مصطفى
فى الطابق الخامس من المعهد القومى للأورام تقف سمر سيد التى أصيبت قبل عام بمرض السرطان وهى تحاول ألا تبرز إرهاقها فى ذلك اليوم، فهى لم تأت من أجل تلقى العلاج، بل جاءت مع أصدقائها لتنظيم حفل ترفيهى للأطفال الخاضعين للعلاج فى المعهد، تتحرك فى أرجاء المكان المخصص للحفل، وتغير الأغانى على أمل مشاركة الأطفال المنهكين من العلاج. وتقول: «لا يعلم كل الناس أن هناك أطفالا يعالجون فى هذا المكان، ولهذا جئنا إليهم». تجلس سمر الفتاة التى أتمت الثلاثين سنة هذا العام، لتلتقط أنفاسها بعد شهورها بالاجهاد من ضغوط اليوم وتأثير جرعات العلاج الكيميائى التى تتلقاها على مدى عدة أشهر، ثم تستكمل: «رسالتى أن أرفع معنويات مرضى السرطان كلما استطعت».
فى بداية شهر رمضان الحالى طرحت صفحة «الجمعية المصرية لدعم مرضى السرطان» على فيسبوك سؤالا يقول: إيه رأيكم فى الاعلانات الخاصة بمستشفيات السرطان فى رمضان ٢٠١٥؟. وجاءت بعض الإجابات من مرضى السرطان، كان إحداها لأم مصابة بالمرض وتسبب إعلان لإحدى مستشفيات السرطان فى إصابة ابنها بالذعر، وكانت سمر محاربة السرطان ضمن المرضى الذين سجلوا إجاباتهم على السؤال وأبدوا استياءهم.
تقول إسراء الشربينى المدير التنفيذى للجمعية المصرية لدعم مرضى السرطان، إن الجمعية قد جمعت عددا من شهادات المرضى، وتوجهت بها إلى إدارة مستشفى السرطان التى تسبب إعلانها فى ضيق عدد من المرضى، وتضيف: «موقفنا محايد من هذه الإعلانات، لكننا سعينا إلى توصيل جميع الأطراف ببعضها.. لكننا لم نتلق رد فعل على مبادرتنا ».
بالعودة إلى حفل المعهد القومى للأورام، فقد كانت سمر سيد محاربة السرطان ـ كما تصف نفسها ــ تتحرك بين الأطفال المرضى، فى محاولة لتحفيزهم على الرقص والمرح، وتستكمل حديثها بعد انتهاء الحفل بدقائق فتقول: «الأطباء لا يشرحون لمريض الأورام حقيقة الأعراض الجانبية للعلاج، كما أن هناك صورة سلبية يروجها التليفزيون عن مرض السرطان، وهى أمور تؤثر على نفسية المريض، لذا أدعو المرضى ألا يتأثروا بكل تلك الضغوط». قبل عام علمت سمر سيد أنها مصابة بورم سرطانى، وتعرضت بعدها للعديد من المواقف التى تستلزم شجاعة وقدرة على إدارة الموقف، منها ما تذكره عن تغير معاملة بعض الناس معها، وتقول: «فى الوقت الذى تخسر فيه معارف لك بعد أزمتك، تكتشف أهمية بعض الشخصيات الأخرى فى حياتك». وعلى صفحات فيسبوك مازال بعض مرضى السرطان يفعلون مثل سمر، ويدونون رغبتهم فى تغيير الصورة السلبية عنهم، وبث القوة فى نفوس بقية المرضى.

Friday, July 10, 2015

سنة أولى رمضان خارج بيت الأهل

كتب - عبدالرحمن مصطفى
انتقل أحمد رفعت إلى مدينة الشروق فى ديسمبر الماضى بعد زواجه مباشرة، مودعا حى العباسية الذى عاش فيه قرابة 30 سنة، ليقضى أول رمضان فى مدينة جديدة وأجواء مختلفة تماما عن الحى الذى نشأ فيه. يصف ذلك قائلا: «كل شارع فى العباسية يضاء فى رمضان بأنوار وزينة تشعرك باختلاف، أما المساجد والمحلات فهى قريبة يمكنك السير إليها، بينما يختلف الأمر هنا فى مدينة الشروق».
وتبعد مدينة الشروق مسافة 37 كيلومترا عن العاصمة، بحيث يقضى أحمد رفعت عشرات الكيلومترات يوميا فى الذهاب إلى مقر عمله فى المركز القومى للبحوث، ولاحظ فى بداية سكنه فى مدينة الشروق أن العلاقات إلى حد كبير محدودة بين السكان، وتكاد تكون مقتصرة على أبناء العمارة الواحدة، ويضيف: «اضطررت إلى العودة إلى بيت العائلة مع زوجتى، وقضيت أغلب أيام رمضان هناك لاستعادة الأجواء المفقودة».
تلك الأزمة أصابت عددا من السكان الذين انتقلوا من أحياء تقليدية فى العاصمة إلى مدن جديدة ذات طابع هادئ، ومع مرور السنوات حاولت مجموعة من السكان المدينة التى لا يزيد عمرها على 20 سنة أن يتجمعوا فى كيان تحت اسم «رابطة ملاك الشروق»، وحاولوا استعادة أجواء رمضان التى افتقدوها فى مناطقهم الأصلية التى جاءوا منها. فقبل عدة أيام أقامت مجموعة من سكان المدينة إفطارا رمضانيا لكسر أجواء العزلة التى تضرب العلاقات بين الجيران.أحمد عبدالرحمن هو أحد سكان الشروق الذى انتقل من حى عين شمس قبل خمس سنوات، وهو منظم الافطار الرمضانى الأخير، يعتقد أن مثل تلك الفعاليات قد تجذب السكان إلى مزيد من التفاعل سويا، وتدفعهم إلى ابتكار طرق جديدة للتواصل معا. يقول: «تلك الفعاليات تتجاوز أحداث شهر رمضان، فقد أقمنا قبل ذلك حفلات شواء بين السكان، وحفلات ترفيهية للأطفال». وبينما يبدو أحمد عبدالرحمن أكثر تفاؤلا. فإن ساكنا جديدا فى مدينة الشروق مثل الباحث الشاب أحمد رفعت لم يحضر تلك الفعاليات حتى الآن.
«أنشطتنا لا تتوقف على شهر رمضان فقط، لكنها تبدو مهمة فى هذا الشهر، لأنها تكسر حالة الجمود التى تصيب بعض من انتقلوا حديثا إلى مدينة الشروق». تتحدث منى نور إحدى عضوات رابطة ملاك الشروق التى انتقلت قبل سنة إلى المدينة، واختارت دعوة السكان إلى المشاركة فى الأعمال الخيرية، وكان شهر رمضان فرصة لتجد من يلبى دعوتها. وتشرح قائلة: «أقمنا فعاليات لدعم الأطفال المصابين بالتوحد، وزيارة دور المسنين فى الشهر الكريم والتخفيف من وحشتهم، إلى جانب إعداد حقائب الخير الرمضانية». وترى مريم فى مثل هذه الأنشطة استعادة لروح رمضان بممارسة الأنشطة الخيرية.

 PDF

Thursday, July 2, 2015

قواعد جديدة لمشاهدة التليفزيون.. وحنين إلى «لمة العيلة»

 
• البعض يلجأ إلى الإنترنت هروبـًا من كثافة الإعلانات
• صفوت العالم: لم يحدث تغير فارق فى عادات المشاهدة
•  داليا الشيمى: على الإعلام أن يراعى نفسية المشاهدين

فى الوقت الذى يتابع فيه الزوجان المُسنان مسلسلا رمضانيا فى الصالة الرئيسية، كان الابن يجلس فى غرفته أمام شاشة الكمبيوتر متابعا حلقات مسلسل أمريكى شهير، وبينما يبدو هذا المشهد غير متوائم مع أجواء رمضان الذى تجتمع فيه الأسرة حول التليفزيون، لكنه نموذج لبعض التغييرات التى جرت على عادات مشاهدة التليفزيون عند الأسرة المصرية.
«لم يعد رمضان مرادفا للمة العائلة حول التليفزيون، لقد أصبح الشباب أكثر انشغالا بهواتفهم الذكية والانترنت». تتحدث ربة الأسرة آمال عبدالله، المحاسبة بالمعاش (61 سنة) أنها اعتادت قبل أكثر من سنة أن تشاهد المسلسلات بعد تحميلها من الانترنت، أما ابنها إسلام فهو من دلها على تلك الوسيلة لمتابعة ما يفوتها من حلقات أو مسلسلات، بينما يتجه الابن لاستخدام موقع يوتيوب لمشاهدة الدراما على الانترنت.
كان هذا المنزل يعيش أجواء رمضانية مختلفة قبل 25 سنة حين كان إسلام طفلا مع أخوين آخرين يجتمعان حول التليفزيون باهتمام لمتابعة مسلسلات بعينها، وما زالت الأم تتذكر الروتين اليومى فى الجلسات العائلية بعد الإفطار، من متابعة مسلسل الأطفال أثناء الافطار، ثم حلقات الكوميديا مع مشروبات بعد الإفطار، ثم حلقات ألف ليلة وليلة التى تتزامن مع فقرة الحلويات والاستعداد لصلاة التراويح، واختلفت هذه الأجواء بعد مرور ربع قرن، وازدياد عدد الفضائيات وكثافة عروض الدراما والبرامج الرمضانية.
يقول محمد أمين رب الأسرة الذى جاوز الرابعة والستين، إنه اعتاد مع زوجته بعد طلوعهما على المعاش أن يقضيا أغلب أوقاتهما أمام شاشة التليفزيون، مكتفيان بالبرامج السياسية وقنوات الأفلام، حتى تبين لهما إمكانية تحميل الأعمال الدرامية عبر الانترنت ثم مشاهدتها عبر شاشة التليفزيون العملاقة فى المنزل. يستكمل المهندس الستينى: «اشتريت جهاز ريسيفر جديدا يسمح لى بعرض فيديوهات على التليفزيون بعد تحميلها على ذاكرة الكترونية ». وتقل هذه العادة تدريجيا فى شهر رمضان حسب آمال عبدالله ربة الأسرة التى تقول: «قمت فى الأسبوع الأول من رمضان بتحميل ثلاث حلقات من مسلسل لم أكن أتابعه جيدا، لمشاهدتها مرة واحدة دون الإعلانات التى تقطع المشاهدة على الفضائيات». ويسند الزوج الستينى إلى زوجته مهمة البحث على الانترنت عن المسلسلات وتحميل الحلقات سواء فى رمضان أو فى غيره.
يرى صفوت العالم أستاذ العلاقات العامة والاعلان فى كلية الاعلام بجامعة القاهرة أن كثافة المادة الإعلانية وما قد تصنعه من تشتيت عن المحتوى الدرامى فى رمضان، لن تدفع بالضرورة إلى المشاهدة عبر الانترنت هروبا من التليفزيون، ويقول: «متابعة وتحميل المسلسلات الدرامية عبر الانترنت لا يلائم جميع الأعمار ولا كل المستويات الاقتصادية حتى نستطيع أن نصفه بتغير فى عادات المشاهدة». وكان بعض مستخدمى مواقع التواصل الاجتماعى مثل فيسبوك وتويتر قد عبروا عن ضيقهم بكثافة المحتوى الاعلانى على الشاشات، بينما يستدرك أستاذ الإعلام قائلا: «فى الأيام الأولى من شهر رمضان تظهر حالة من الفضول والاهتمام من المشاهدين لمتابعة إعلانات رمضان، وأحيانا ما يعوض غياب بعض النجوم عن الدراما أنهم يحضرون فى الاعلانات». ويضيف صفوت العالم أن كثافة الإعلانات الخيرية فى النصف الثانى من الشهر تفسد حالة المشاهدة لما تعرضه من ألم ومعاناة .
انسحاب شريحة من المشاهدين لمتابعة الدراما الرمضانية عبر الانترنت لم يخضع لدراسة ترصد تأثير ذلك على نسبة المشاهدة عبر شاشات التليفزيون، لكن بعض الأرقام الأولية عن عدد مشاهدات الحلقة الأولى فى عدد من المسلسلات الرمضانية على موقع يوتيوب للفيديو يتجاوز 250 ألف مشاهدة فى بعض الأحيان. أى أن ظاهرة متابعة الأعمال الرمضانية عبر الانترنت قد أصبحت تستقطب آلاف المشاهدين، رغم أن هذه الشريحة نفسها تواجه الفواصل الاعلانية أيضا على موقع يوتيوب. فى الوقت الذى أعلن فيه الموقع الأشهر فى عرض لقطات الفيديو عن نيته بث خدمة خالية من الاعلانات تماما فى مقابل اشتراك.
«فتحت شاشة الكمبيوتر أمامى فوجدت عالما واسعا شاهدت من خلاله أفلاما من روائع السينما الأمريكية أنقلها من أصدقائى أو أحملها عبر الانترنت». الحديث لإسلام الشاب العشرينى الذى كان مشغولا مع بداية شهر رمضان الحالى بمتابعة حلقات مسلسل Game Of Thrones الأمريكى التى فاتته مشاهدتها، وخصص لها وقتا قبيل السحور، بينما لا يبدى اهتماما بزحام المسلسلات العربية.
«انسحاب بعض المشاهدين إلى متابعة الدراما عبر الانترنت هو ابتعاد عن إحساسهم بأنهم مجبرون على المشاهدة وفقا لخطة المعلنين، لذا تعزز المشاهدة عبر الانترنت إحساسهم بأنهم من يتحكم فى قواعد المشاهدة، وعلينا أن نتذكر أن إلحاح المعلنين يصاحبه أيضا برامج للمقالب ودراما تحض على العنف، وهو ما يستنفر العدوانية لدى المشاهدين ويهدد ارتباط المشاهدين بالدراما من الأساس». تتحدث داليا الشيمى الخبيرة النفسية عن أن التليفزيون قد دخل فى تحد مع التكنولوجيا واندماج كثيرين فى مواقع التواصل الاجتماعى، وأن المواد التى تستدعى نفور المشاهدين فى فترة رمضان قد تؤثر على ولائهم لشاشة التليفزيون.
«أمام التليفزيون تحديات مثل انشغال الناس بالتكنولوجيا والانترنت وانشغالهم الدينى فى رمضان بصلاة التراويح وقراءة القرآن، وهى أمور يجب على القائمين على الإعلام مراعاتها فى التعامل مع نفسية المشاهدين». تختم الخبيرة النفسية بهذه العبارة.
أما الأسر المصرية التى يتشابه بعضها مع أسرة محمد أمين المهندس بالمعاش، فمازال فى ذهنها كيف كان التليفزيون يجمع الأسرة فى توقيتات محددة فى رمضان ويتحكم فى روتين يومهم، وكيف تطورت علاقة الأسر المصرية مع هذه الشاشة إلى حالة من الجفاء فى أوقات أخرى.