Wednesday, May 25, 2016

الصحافة السردية.. روح المحقق وقلم الروائي

 


عبدالرحمن مصطفى

وسط الركام الذي يحيط بنا بين عناوين مختصرة وتغطيات إخبارية كثيفة، تظل هناك حاجة لنوع من الكتابات يأخذنا بلغة رشيقة ومشوقة إلى تفاصيل أكثر وتفسيرات جديدة، حتى لو امتدت الكتابة عبر آلاف الكلمات للموضوع الواحد. هذا ما تقدمه "الصحافة السردية" كعنوان لتلك المساحة الجذابة التي يصعب الاستغناء عنها.

يمكن تعريف الصحافة السردية بأنها استخدام تقنيات الأدب القصصي لعرض المادة الصحفية المطولة، مع الالتزام بالعمق والدقة. وذلك استنادا لتعريف مؤسسة نيمان الداعمة للصحافة السردية.

تأتي البداية في ستينات القرن الماضي حين ظهرت ملامح تيار جديد في الكتابة الصحفية بين مجموعة من الشباب، اعتمدوا على العمل الميداني الشاق، وجمع المعلومات باحترافية ليصيغونها بشكل احترافي مشوق، وكرسوا فنا جديدا يقدم الحقائق بشكل إبداعي لا يعتمد على خيال المؤلف.

في عقد السبعينات، ظهر استخدام مصطلح "الصحافة الجديدة" في مقال للصحفي الأمريكي توم وولف ليعبرعن الصحافة السردية التي تستعين في إنتاجها بأدوات الأدب.

كيف تستعين الصحافة بأدوات الأدب؟ تجيب ماري فانوست الباحثة بالجامعة الكاثوليكية في لوفان ببلجيكا قائلة ضمن ورقة بحثية، إن الصحافة السردية تستعين بأدوات محسوبة على الأدب والإبداع، مثل استخدام الحبكة، والتشويق، والوصف، والصراعات، والشخصيات الدرامية، والحل.

هذه الأدوات ليست طارئة على لغة الكتاب والصحفيين، بل يميل الباحثون إلى التفتيش في جذور أقدم في العلاقة بين الأدب والصحافة تعود إلى القرن التاسع عشر، لكن تلك العلاقة ازداد تطورها مؤخرا، حتى شهد العام الماضي  انتصارا حقيقيا لمسيرة الصحفيين العاملين في الصحافة السردية، حين حصلت سفيتلانا ألكسيفيتش على جائزة نوبل للآداب. فهي صحفية من بيلاروسيا، احترفت الكتابة عن الجانب الإنساني من الأحداث الكبرى، مثل الحرب العالمية الثانية، وحرب الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، وكارثة انفجار المفاعل النووي "تشير نوبل"، إذ نقلت شهادات من حضروا تلك الأحداث، لترويها بأسلوب أدبي شيق، فتكتمل أمام القارئ صورة هذه الأحداث الكبرى. أو على حد تعبير الأمينة العامة للأكاديمية السويدية، عند الاعلان عن فوز سفيتلانا ألكسيفيتش: "في السنوات الثلاثين إلى الأربعين الأخيرة أجرت (سفيتلانا) مسحا للإنسان خلال المرحلة السوفييتية وما بعد هذه المرحلة. لكن الامر لا يتعلق بأحداث، بل بمشاعر".

تلك التفاصيل عن علاقة الصحافة بالأدب وما تنتجه الصحافة السردية قد تصنع تشوشا لدى القارئ، فما الخيط الفاصل بين الحقيقة والخيال؟ هذا السؤال عالجه قبل سنوات روي بيتر كلارك نائب رئيس معهد بوينتر للدراسات الإعلامية، ووجد الإجابة في عبارة بسيطة وبديهية، قائلا "على الصحفيين أن يكتبوا الحقيقة"، في إشارة إلى أن السرد هو أسلوب تقديم الحقائق التي توصل إليها الصحفي.

وفي صحف مثل نيويورك تايمز، نيويوركر، وأتلانتيك، أصبحت هناك مساحات واسعة لهذا النوع من الصحافة، الذي أصبح من المتعارف أنه لا يقل عن 1500 كلمة في الموضوع الواحد. بينما تتنوع الموضوعات لتغطي اهتمامات وقوالب مختلفة، مثل: الحوار، والسفر والرحلات، والتحقيقات الاستقصائية، والسيرة الذاتية، والعلوم، وغيرها من الموضوعات. وهنا تظهر الصحافة السردية كأداة وتقنية في الكتابة تستطيع التعامل مع كافة تلك التصنيفات. حيث يفيد القالب الروائي- والملحمي أحيانا- الذي تقدمه الصحافة السردية وأسلوبها الدرامي القصصي في تقديم صورة شاملة عن موضوعات تحمل جهدا بحثيا واستقصائيا كبيرا.

ومن خلال ما يقدمه محترفو الصحافة السردية من نصائح وإرشادات، تتضح ملامح هذا النوع من الصحافة بشكل أكبر. على سبيل المثال سجل المدرب ألبرتو سالسيدو راموس على موقع شبكة الصحفيين الدوليين "5 ملاحظات من أجل صحافة سردية أفضل" يمكن تلخيصها في: "الاستعانة بجهد استقصائي كبير قبل الكتابة- البداية القوية للموضوع – الالتزام بالحقائق- ألا يفرط الصحفي في إقحام نفسه داخل النص – التطوير الدائم لمهارات الكتابة".

أما الكاتبة الأمريكية كونستانس هال، التي قضت أكثر من 20 سنة في عالم الصحافة السردية، وقامت بالتدريس في جامعة هارفارد، فأوصت ببعض التقنيات المهمة التي لا يمكن الاستغناء عنها بسهولة.

منها: رسم مشاهد للقارئ أثناء الكتابة، وإحياء شخصيات الموضوع وإبراز ملامحها، والاعتماد على الحبكة، والتناقضات، والتشويق، والاهتمام بالصراعات الدرامية.

كم عدد الكلمات المطلوبة؟ المساحة مفتوحة حسب كم التفاصيل المشوقة، فقد نجد صحيفة مثل نيويورك تايمز تفرد مساحة لتحقيق يتجاوز 28 ألف كلمة على خمس حلقات، تنقلنا فيه الصحفية أندريا إليوت، تحت عنوان "الطفل الخفي" إلى عالم أطفال الشوارع، وهو ما استثمرته في إصدار كتاب عن القضية نفسها.

هذا التطور في مسار الصحافة السردية لم يمنع انتقادات متكررة عن وقوع بعض الصحفيين في فخ الانحياز للشخصيات أو القضايا التي يكتبون عنها، بسبب الهالة التي تضفيها الكتابة على شخصيات الموضوع، وهو ما جعل بعض الصحفيين يطلقون تحذيرات من الاهتمام بالسرد على حساب العمل الصحفي، على سبيل المثال، أطلق جيم جيراثي أحد الكتاب المحافظين الأمريكيين صرخة في مقال منشور بمجلة "ناشيونال ريفيو" تحت عنوان: "ماذا لو كانت الصحافة السردية في الإعلام مضرة لقضاياها؟" مستندا في ذلك إلى حادث شهير قتل فيه شاب أسود على يد رجل شرطة أمريكي، واتهم الكاتب الصحافة السردية بأنها وجهت الرأي العام نحو فرضية أن الحادث ناتج عن أسباب عنصرية، وحين لم تقتنع بذلك هيئة المحلفين، وقعت بلبلة لدى جمهور القراء.

الكثير من الأمثلة والتعليقات تؤكد على أهمية الجهد الصحفي وجمع المعلومات، ومن أهم ما قيل حول ذلك هو ما ذكره جاي تاليس الصحفي الأمريكي، الذي يعتبره البعض "الأب الروحي" للصحافة السردية، وهو كاتب البروفايل الأشهر عن المطرب الراحل فرانك سيناترا. إذ جمع خبرته في عبارات محددة كتبها عام 1970 بقوله: إن الصحافة السردية ليست خيالا، لكنها تُقرأ وكأنها إبداع، تعتمد على الحقائق دون غيرها. ويوصي الكاتب المخضرم الذي يتجاوز الآن عامه الرابع والثمانين بأهمية امتلاك الأدوات الصحفية، ولعب دور المخبر للوصول إلى حقائق ينسجها الصحفي بأسلوب شيق.

No comments:

Post a Comment