Saturday, December 29, 2012

ريف و مدينة: الجماهير بين الصخب الثوري وخدمات الاسلاميين

القبائل العربية تسجل حضورها في دفتر السياسة

كتب – عبد الرحمن مصطفى
"القبائل العربية تساند الشرعية و تؤيد قرارات الرئيس" ، تكرر ظهور مثل هذه العبارات مؤخرا في مسيرات و مؤتمرات داعمة للرئيس محمد مرسي، نقلت إحساسا بأن الرئيس مدعوم من ملايين المواطنين في أرجاء المحافظات المصرية، لكن الواقع مختلف. "لا يستطيع أحد أن يدعي أنه صوت القبائل العربية في مصر، أو أن يزعم أن القبائل تتبنى موقفا سياسيا واحدا". الحديث هنا للشيخ راشد السبع، ‏رئيس ائتلاف القبائل العربية المصرية‏‏ الذي يضم ممثلين عن قبائل سيناء و مطروح و وادي النيل، وهو الائتلاف الذي أعلن موقفه مبكرا من دعم الرئيس محمد مرسي منذ أن كان مرشحا في الانتخابات الرئاسية. "قد تجد للقبيلة الواحدة فروعا في وادي النيل وسيناء، وقد تجد قبيلة أخرى تنتشر في مطروح والدلتا والصعيد، لكن في النهاية فإن القبائل الممثلة في الاتحاد بشكل خاص هي التي أجمعت على دعم الرئيس مرسي منذ البداية".
بعد الثورة، ظهرت تكتلات قبلية متعددة هدفها ايجاد تمثيل سياسي يعلو فيه صوت القبائل العربية، لكنها على أرض الواقع لم تمثل إلا نفسها. أما ائتلاف القبائل العربية المصرية تحديدا فيروي الشيخ راشد السبع أسباب تأسيسه موضحا : "بعض أبناء القبائل العربية كانوا منتمين إلى التيار السلفي، ووجدوا فرصتهم في ممارسة السياسة بعد تأسيس حزب النور، واستبشرت القبائل خيرا بهذا الحضور السياسي، على أمل أن يتم تمثيل هويتهم وقضاياهم بشكل جيد أمام الرأي العام، لكن الواقع أن هؤلاء الأعضاء تبنوا قضايا أحزابهم الإسلامية، و ذابت قضايانا في زحام الأحداث".
يجمع أغلب أبناء القبائل العربية في مصر ملمح واحد هو أنهم محافظون بطبيعتهم وأقرب إلى التدين الفطري، وهي المساحة التي نجح التيار الاسلامي في استغلالها جيدا ، حسبما يصف الشيخ راشد السبع الذي يتحدث هذه المرة كباحث في أنساب القبائل العربية. و يضرب مثلا بحالة خاصة في محافظة مرسى مطروح بسبب قرب قبائلها من معقل الدعوة السلفية وذراعها السياسي "حزب النور" في مدينة الاسكندرية ، وهو ما أثر على اختياراتها السياسية. إذ تكشف حالة "مطروح" عن أن هناك شبه اجماع على اتجاه واحد يميل ناحية حزب النور .. على سبيل المثال حصد المرشح الرئاسي السابق عبدالمنعم أبو الفتوح حوالي 70% من أصوات الناخبين في المحافظة بسبب تأييد حزب النور له في المرحلة الأولى من انتخابات الرئاسة. و في المرحلة الثانية اكتسح الدكتور محمد مرسي منافسه الفريق أحمد شفيق بنسبة تقدر بـ 80% من أصوات الناخبين، وظلت المؤشرات ثابتة في صالح التيار الاسلامي أثناء انتخابات مجلسي الشعب والشوري التي حصدها حزبي النور والحرية والعدالة، بينما تصدرت مطروح نتائج المحافظات التي قالت "نعم" للدستور بنسبة 92%.
هذه النتائج لا يمكن قراءتها سوى في ضوء العلاقات القوية بين التيار السلفي و القبائل العربية في مطروح، بينما اختلف الأمر لدى قبائل سيناء والصعيد في أثناء فترة الانتخابات الرئاسية. فقد استقبلت بعض القبائل المرشح السابق عمرو موسى بحفاوة، مع الإشارة الدائمة إلى جذوره العربية، وكذلك حين استقبلت زعامات قبائل الأشراف بالصعيد آنذاك الفريق أحمد شفيق، وكأن كل فريق يبحث عن من يمثله، ويعبر عن جزء من هوية لا تجد لها مساحة في السلطة الحاكمة أو في الإعلام.
قد لا يكون الرئيس محمد مرسي منتميا إلى إحدى القبائل العربية الكبرى، لكنه تواصل مبكرا مع أبناء هذه الشريحة لكسب تأييدها منذ أن كان مرشحا رئاسيا، حين أقر بأحقيتهم فى تملك الاراضى التى يقيمون عليها.
و في جانب آخر اتخذ بعض أبناء القبائل موقفا محايدا تجاه الرئيس مرسي وقراراته طوال الشهور الماضية، مثال على ذلك الشيخ على فريج راشد- رئيس جمعية القبائل العربية بسيناء- الذي طمح بعد تأسيسه للحزب العربي للعدل والمساواة في أن يجتذب أبناء القبائل من المحافظات المختلفة في كيان واحد، غير أن هذه التجربة لم تحقق الكثير، ويقول: "أبناء القبائل العربية المنتمون إلى التيار الإسلامي في سيناء ملؤا فراغا تركه الحزب الوطني ولم تملأه أحزاب جديدة، واستغلوا انهيار جهاز أمن الدولة في التقرب من الأهالي والتواجد بينهم بعد التضييق الذي مورس عليهم، وكان المزاج المحافظ هو العامل المشترك الذي قرب أبناء القبائل من المرشحين الاسلاميين". وكان الشيخ على فريج راشد قد اختير مؤخرا ضمن أعضاء مجلس الشوري المعينين من الرئيس محمد مرسي، وهو القرار الذي اعترض عليه ناشطون بسبب انتمائه إلى الحزب الوطني السابق كعضو مجلس محلي لمدة 18 سنة عن شمال سيناء.

العاطفة مفتاح الفرج
يسجل الدكتور محمد علي- الأستاذ المساعد بقسم الاجتماع في كلية الأداب بجامعة سوهاج- أن هناك أدوات للضبط الاجتماعي تستخدمها القبائل العربية في إدارة علاقتها الداخلية، منها الأخلاق والقيم الدينية، و تقدير قيمة الكبير الذي بيده السلطة، وهو ما يؤثر في الاختيار السياسي لكثير من أبناء القبائل العربية، وكيف يرون رئيس الجمهورية، ويضيف معلقا  : "هناك أمر آخر أكبر من اختيارات القبائل العربية ، و هو متعلق باختيارات المصريين السياسية بشكل عام، إذ تقوم الاختيارات على أساس عاطفي .. وهذا هو مفتاح الوصول إلى الناخبين".
في المادة 16 من الدستور نص يؤكد على أن "تلتزم الدولة بتنمية الريف والبادية، و تعمل على رفع مستوى معيشة الفلاحين وأهل البادية"، و يذكر الشيخ على فريج أن البعض روّج لهذه المادة في سيناء وكأنها نصر مبين، دون الالتفات إلى بقية مواد الدستور.
تختلف طبيعة القضايا المطروحة من القبائل القاطنة بالبوادي والمناطق الحدودية عن القبائل الأكثر استقرارا في وادي النيل، خاصة في صعيد مصر .. وهو ما يؤكد عليه إبراهيم البرسي، المنسق العام لائتلاف القبائل العربية بأسوان، إذ يقول: "الوضع معقد جدا هنا، ولا أعتقد أن نتائج الاستفتاء أو الانتخابات قبلها معبرة بشكل كامل عن اختيارات القبائل العربية والأشراف بالصعيد، على الأقل فأنا أعرف من كانوا ينتمون إلى الحزب الوطني السابق وصوتوا بنعم في الاستفتاء الأخير، و لم يكن موقفهم من باب التأييد لمرسي ". وعلى عكس ائتلافات أخرى فإن ائتلاف القبائل العربية في أسوان تعود نشأته إلى بدايات ثورة 25 يناير حين تحالفت القبائل العربية من أجل سد الفراغ الأمني ، واستمر عمل هذا التحالف حتى وقت قريب في مهام اجتماعية مثل الصلح بين العائلات المتنازعة، ونقل مشاكل أبناء المحافظة إلى السلطة، وكان الاتفاق منذ البداية على إبعاد السياسة عن الائتلاف. يعلق إبراهيم البرسي قائلا: "ببساطة، فإن المنتمين إلى التيار الاسلامي، لديهم تواجد بين قبائلهم، وقد قلتها من قبل لعمرو موسى ولحمدين صباحي: التيار المدني نفسَه قصير مقارنة بالأحزاب الدينية الأكثر دأبا وعملا". أما قضايا القبائل في الصعيد فهي جزء من قضايا المجتمع الجنوبي بشكل عام، فقضية النوبيين تهم القبائل العربية المجاورة، والبحث عن الاستثمار في الصعيد هو جزء من مشكلة الجنوب. ويقول إبراهيم البرسي بعين خبيرة في قبائل الصعيد التي يمتد نسبها إلى آل البيت وشبه الجزيرة العربية: "أعتقد أن كلمة الاستقرار التي جاءت بنعم هي هدنة، تتضح بعدها الرؤية، وقد بدأت الرهانات على من سيملك القرار في المستقبل وتحقيق مصالح أبناء القبائل وأهالي الصعيد.. فهل سيكون التيار السياسي الحاكم الآن في قوة الحزب الحاكم السابق؟ لقد بدأ البعض بالفعل في ترتيب أوراقه للتقارب مع المنتمين إلى التيار الاسلامي، وامتداداته في الصعيد".
 
مسيرة في قرية .. مظاهرة في مركز، و الإسلاميون في الخدمة دائما !
كتب – عبد الرحمن مصطفى
في قريته التابعة لمركز "منية النصر" بمحافظة الدقهلية، اختارت الصناديق "نعم" للدستور، وطوال الفترة الماضية كان الحشد واضحا بشدة، وكأحد أبناء القرية يتوقع مدحت صالح- الطالب بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر- أن يتكرر المشهد قبل الانتخابات البرلمانية القادمة.
أما في الأسابيع الماضية ، فلم يجد مهربا من تلك الأجواء سوى بالانخراط في مسيرة قريبة من قريته تشبه المسيرات التي تجوب شوارع القاهرة والاسكندرية بهتافات مثل "يسقط يسقط حكم المرشد"، و "لا..لا.. للدستور". ويصفها قائلا: " هذه المسيرات هي حدث خاص في الأماكن ذات الطابع الريفي، وتمثل لهم مفاجأة، على عكس القاهرة والاسكندرية التي اعتادت على هذه المشاهد".
خرجت المسيرة احتجاجا على الدستور وشارك فيها شباب من حزب الدستور والتيار الشعبي والألتراس. و يعتقد زميله البدراوي ثروت- الناشط بحزب الدستور- أن هذه المسيرات التي أقيمت مؤخرا قرب القرى الريفية في منية النصر لم يضع أثرها هباء، و يوضح: "كانت النتائج جيدة في أغلب قرى مركز منية النصر حيث قمنا بالمسيرات وتوزيع دعايتنا، عدا إحدى القرى التي ينشط فيها الإخوان المسلمون، هي التي أجمعت على نعم للدستور". سبقت هذه المسيرة حملات توعية و وقفات احتجاجية منها وقفة بعد حادث قطار أسيوط الذي أسفر عن مصرع أكثر من 50 طفلا.
و في داخل المسيرة انطلقت الشماريخ وتشابهت الهتافات مع هتافات ميدان التحرير. أما القوى الإسلامية فتتبع طرقا أخرى أبسط، حين تنطلق السيارات بميكروفونات في القرية، و يدعو أحد كوادر الإخوان المسلمين أهل قريته إلى تبنى موقفا محددا أو انتخاب أحد المرشحين، و لا يخلو الأمر من ابتكارات أخرى مثل مسيرة بالدراجات البخارية من أجل الدعاية، وحسب البدراوي فإن أنشطة التيار الإسلامي "تفتقد الصخب والجاذبية وكأنها تحصيل حاصل !" . هؤلاء الشباب الذين يديرون العمل الاحتجاجي خارج القاهرة يعتمدون على شبكة علاقات "ثورية" تكونت على مدار العامين الماضيين، جمعتهم فيها الكثير من المناسبات والمصاعب سواء في أحداث بالقاهرة أو خارجها، رغم اختلاف انتماءاتهم الحزبية الآن.
هناك من يرى في هذا النهج الذي يعتمد على نقل الأسلوب الثوري في الدعاية السياسية والاحتجاج إلى الريف أمرا غير ذي جدوى ، فيقول الدكتور عبده البردويل- الأمين العام لحزب الحرية والعدالة بدمياط: "الشارع أصبح لا يحتمل كل هذا، والتواجد بين الناس وخدمتهم هو الفيصل في كسب أصوات الجماهير". و على هذا تنقل صفحات حزب الحرية والعدالة أرشيفا مصورا لما يقدمه الحزب من معارض خدمية وقوافل طبية ومؤتمرات حاشدة في المناسبات المختلفة.
بعيدا عن الدلتا .. يختلف الوضع قليلا في الصعيد، حيث تكون الأمور أكثر صعوبة، حسبما يصف الناشط السياسي أحمد خنفور من محافظة أسيوط: "نحن ما زلنا في معركة البحث عن شرعية الاحتجاج والتظاهر في بيئة محافظة بطبعها، أنا أجد من يدعون لي بالتوفيق في مسيراتنا، لكنهم لا يشاركون.. ما زلنا نبحث عن موضع قدم لحرية المعارضة والدعاية الصاخبة في الشارع الأسيوطي".
و يدرك أحمد خنفور وغيره من الشباب أن أزمتهم الحقيقية هي في التواجد بأنشطة دائمة خدمية، وهي تكلفة قد لا يتحملونها بأنفسهم، وفي الجانب المقابل فإن أعضاء حزبي "الحرية والعدالة" و"النور" لا يتحركون في مسيرات صاخبة، عدا في المظاهرات الحاشدة في القاهرة والاسكندرية كالتي أقيمت أمام جامعة القاهرة في سبت الشرعية والشريعة في أول ديسمبر 2012 لاستعراض القوى أمام مسيرات ومظاهرات القوى الثورية والمعارضة.
يصف الدكتور محمود ابراهيم المتحدث الاعلامي لحزب النور في مدينة السويس ذلك قائلا: "كان الاعلام أكثر تركيزا على المظاهرات المعادية للرئيس، لذا لجأنا للتظاهر في حشد هائل في العاصمة وهو ما نفعله في أضيق الحدود، لمواجهة حملات العداء للرئيس وإسقاط الدولة ".
يبقى المشهد خارج العاصمة والمدن الكبرى وخاصة داخل الريف المصري منقسم بين أبناء تيار الإسلام السياسي المعتمدين على التواجد الدائم بأنشطة خدمية، وعلى الجانب الآخر نشطاء أغلبهم من الشباب يحاولون نقل روح الثورة والتغيير إلى من لم يرونها بعد في القرى والمراكز الريفية !

Thursday, December 20, 2012

نادي الفكر التقدمي.. نقطة علمانية في بحر إسلامي

عبد الرحمن مصطفى
جميعهم يحفظون القرآن الكريم كطلبة تقليديين في جامعة الأزهر الشريف، وفي الوقت نفسه هم «علمانيون»، و«تقدميون»، متحملين في سبيل ذلك الكثير من الضغوط التي يواجهها علماني في بيئة إسلامية. اختاروا لقاءهم بعيدا عن الجامعة في أحد المقاهي المجاورة للبورصة المصرية، ويشرح مؤمن عبدربه أكبرهم سنا، (21 سنة) الطالب في كلية الهندسة، وجهة نظره: «الثورة غيرت شريحة من شباب جامعة الأزهر، انضم بعضهم إلى حركات مثل 6 إبريل، وحزب الدستور، والتيار الشعبي مؤخرا، لكن سبب اختيارنا الفكر الاشتراكي التقدمي هو أن هذه الأحزاب والحركات لا تتبنى فكرا سياسيا واضحا، وكنا نحتاج إلى فكر سياسي في مواجهة الإسلام السياسي المحاصرون به».
 يجلس مؤمن مع رفيقيه محمد السعيد ومحمد عمر، الطالبين بكلية اللغات والترجمة وأعضاء نادى الفكر التقدمى الذى تأسس هذا العام فقط، ويأمل جميعهم أن يكونوا جزءا من تيار ثالث بدأ ينمو فى الجامعات المصرية، ويوضح مؤمن قائلا: «كانت الخريطة منقسمة قبل الثورة بين شباب الحزب الوطنى والاسلاميين، الآن أصبح الوضع فى الجامعة منقسما بين الإخوان المسلمين والسلفيين.. أما نحن كشباب تقدمى فنحن جزء من شريحة أخرى من شباب الأحزاب والحركات السياسية». هذه الفئات التى يتحدث عنها مؤمن ورفاقه لا تمثل جميع الطلبة هناك، ففى داخل جامعة الأزهر وحدها 284 ألف طالب حسب أرقام الجهاز المركزى للتعبئة العامة والاحصاء عن العام الدراسى الماضى. وتختلف جامعة الأزهر عن بقية الجامعات فى أنها جامعة مركزية تتركز أغلب كلياتها فى القاهرة، ما يجعل نسبة كبيرة من طلابها منتمين إلى محافظات وأقاليم مصر المختلفة، وهو نفس حال هذه المجموعة التى أسست نادى الفكر التقدمى، إذ ينتمون إلى ثلاث محافظات مختلفة. ويدرس الطالب فى جامعة الأزهر مواد شرعية تجعله قريبا من الأفكار الإسلامية، أما بعد الثورة فقد ازدادت الجرعة الإسلامية بعد انهيار الضغط الأمنى ووجود الحزب الوطنى، ما جعلها فرصة لصعود الإسلام السياسى بجناحيه: الإخوان المسلمين، والدعوة السلفية داخل الجامعة.
 تكفى نظرة على صفحة أسرة «جيل النصر المنشود» القريبة من جماعة الإخوان المسلمين حتى تتضح معالم الاستقطاب، إذ تصدرت صفحتها فى الفترة الماضية دعوة للتصويت بنعم فى الاستفتاء على الدستور تأييدا للشريعة. ويتشابه اسم الأسرة الطلابية نفسه مع عنوان كتاب للشيخ يوسف القرضاوى، أما إحدى أكبر الأسر الطلابية الأخرى على مستوى الجامعة فهى أسرة «نبض الأزهر» التى تأسست عقب الثورة، وتميل ناحية التيار السلفى، ولا تخفى هدفها فى عبارة واضحة: أسرة تهتم بالأنشطة الطلابية فى ضوء الشريعة الإسلامية.
 على المقهى فى منطقة البورصة الشهيرة، يكشف محمد السعيد، الطالب بكلية اللغات والترجمة، عن جانب آخر واجهه حين وفد من قريته إلى الجامعة، إذ تم ترشيحه للسكن فى بنايات استأجرها منتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين لاستقبال طلاب الجماعة وغيرهم، وهو ما يسمح لغير المنتمين أن يقتربوا من فكر الإخوان المسلمين، وما رفضه محمد السعيد فى بداية التحاقه بالكلية وظل يبحث عن آخرين «غير اسلاميين» حوله، ويقول: «انضممت إلى حركة 6إبريل فلم أجد فيها فكرا أواجه به تيار الاسلام السياسى، وانضممت إلى الاشتراكيين الثوريين فوجدت فكرا واضحا أبنى عليه موقفا سياسيا، ورغم قراءاتى فى الدين وخلفيتى الأزهرية إلا أننى ورفاقى لا نخفى علمانيتنا».
 يرتدى قلادة عليها صورة الثائر تشى جيفارا، ويتحدث بحماس عن قريته فى محافظة الدقهلية، وأن هناك شريحة متنورة هناك تزداد رغم انتشار الأمية. كان محمد قد تعرض للضرب فى مظاهرة داخل الجامعة أقيمت ضد الإعلان الدستورى الأخير، واصفا إياها: «دى المرة الأولى فى تاريخ جامعة الأزهر اللى تقوم فيها مظاهرة ضد تنظيم اسلامى زى جماعة الإخوان».
 يضم نادى الفكر التقدمى حوالى 20 شابا وفتاة يميلون ناحية اليسار السياسى، يجمعهم بشباب الحركات والأحزاب السياسية الأخرى حالة من التمرد على مزج الإسلام بالسياسة داخل جامعة ذات هوية إسلامية. يجلس ثالثهم محمد عمر فى هدوء، مبرزا اختلافا ضئيلا يوضحه قائلا: «طوال عدة سنوات داخل الجامعة شعرت بغربة فى نقاشاتى مع زملائى الطلبة، فأحيانا ما أتهم بالضلال بسبب رفضى للتيار الإسلامى السلطوى، لكن كانت كلى ثقة فى أن هناك آخرين يتفقون معى فى الآراء نفسها.. ووجدتهم مصادفة».
 يعيش محمد عمر حالة من الغربة كزملائه العلمانيين، يبدو مثقفا بين طلبة الجامعة بحرصه على قراءة الصحف بشكل دءوب، ومناقشة الآخرين. وتتكرر كلمتا «علمانى»، «علمانية» بشكل واضح على ألسنتهم جميعا، رغم ما تثيره من مشاكل لدى أبناء التيار المحافظ فى هذه المرحلة. ويرد مؤمن عبدربه على ذلك قائلا: «أنا مقتنع تماما بأن الإسلام السياسى له مشروع منفصل عن بقية التيارات السياسية، ومن الصعب أن يتحد مع هذه القوى فى ائتلاف، فالإخوان على سبيل المثال يطمحون إلى أستاذية العالم، لذا لن أخجل من إعلان هويتى العلمانية!». هذه النبرة الحادة تقلق زميله محمد عمر الذى ينتمى لأسرة سلفية من محافظة أسوان، ويخشى من الصراع القادم قائلا: «العلمانية التى نريدها لا تقصى الإسلاميين، ولا تتعسف ضدهم أو تعزلهم، مثلما حدث فى فترة حكم جمال عبدالناصر.. نحن نرفض السلطوية وفرض أفكار لا تناسب العصر». أن تكون أزهريا وعلمانيا فى الوقت نفسه، ذلك ليس اختيارا سهلا، فقد يبدو الرفاق الثلاثة مألوفين فى مقهى فى وسط البلد، لكن أفكارهم القائمة على الإيمان بالعلمانية واليسار السياسى تضعهم فى مأزق، مع زملائهم أو عائلاتهم.

Sunday, December 2, 2012

قبل أيام الصدام .. تختلف الانتماءات ، والطريق واحد

كتب – عبد الرحمن مصطفى
اشتراكي ، علماني ، إخواني ، برادعاوي ، كلهم شباب جمعهم ميدان التحرير يوما ما ، يتحركون في محيط الأحداث الأخيرة دون أن يكونوا على صلات مباشرة ببعضهم البعض . يحمل كل منهم أفكاره ، وصورة عن الآخرين . و لا يرغب أحد منهم في أن تقع لحظة الانفجار مع تصاعد الأحداث يوميا .
جلسوا يتحدثون دون أن يمثلوا تياراتهم التي ينتمون إليها ، بقدر ما يروون تجاربهم ، ويعرضون ما قد يفرقهم ، وما قد يجمعهم ، و وسط حديثهم ، تتشابه الجمل والعبارات ، وتتشابك في مواضع أخرى . وليس أمامهم سوى سؤال واحد ..  ماذا بعد ؟ 
  • إخواني
- أحمد أبو الحظ
- 26 سنة
- مهندس حاسبات

في الطريق إلى أحد المقاهي المجاورة للبورصة المصرية ، يمر أحمد أبو الحظ على عدد من الأصدقاء ، وينتقل بهم الحديث من الحياة الشخصية إلى السياسة ، وتبدأ محاولات التهكم على المواقف الحكومية و على تأييد شباب الجماعة لهذه السياسات، يتقبل أحمد مثل هذه المواقف بصبر و ثقة ، محاولا الحفاظ على علاقاته المستمرة مع شباب من خارج جماعة الإخوان التي ينتمي إليها .
مثل هذه المناوشات الخفيفة بين المعارف و الأصدقاء تكون أعنف في العالم الافتراضي على الانترنت، حيث ازداد كم الصفحات على شبكة اجتماعية مثل فيسبوك تستهدف فقط التهكم على جماعة الإخوان المسلمين ومواقفها وفي هذه الأجواء التحريضية ، قد تخسر أحد أصدقاءك في نقاش. بدأت تلك الموجة في الصعود منذ أحداث محمد محمود الأولى في نوفمبر 2011 ، لاحظ بعدها أحمد - عضو جماعة الإخوان المسلمين- ازدياد حدة النقاش، وكان ذلك في خلفية تمسك التيارات الاسلامية بالترشح لانتخابات مجلس الشعب، رغم الاشتباكات العنيفة بين الأمن والمتظاهرين آنذاك .
يتحدث أحمد نافيا الصورة المرسومة لشباب الإخوان عن أنهم مجرد تابعين لقادتهم، ويقول: "الفكرة هي أن هناك اختلاف بين شريحة من شباب الإخوان و آخرين في أنني على سبيل المثال أرى الثورة وسيلة وليست هدفا ، كذلك فإن شباب الجماعة منذ شهور يعملون لصالح حرب التطهير على الفساد ، في مجهودات قد لا يراها الكثيرون .. مثل مراقبة تهريب الوقود في بعض المحطات ، وتكوين لجان تعمل على كشف الفساد داخل مؤسسات من منتمين إلى جماعة الإخوان وآخرين .. كل هذا يضيع الفرصة أن نرد على اتهام شباب الإخوان بأنهم قطيع".
يرى أحمد كغيره من الشباب الأكثر اختلاطا بالتيارات الأخرى داخل الجماعة أن الاتهام الموجه إليهم بالتبعية وعدم القدرة على المعارضة، هو نتيجة عدم فهم الكثيرين لنظام الحياة الذي ينشأ عليه الفرد الإخواني .. عند أحمد الأمر أكثر وضوحا حين يشبه شكل العلاقات بالمؤسسة ، ويحدد ذلك قائلا : "قد تكون داخل كيان عملاق له رؤية عظيمة ، لكن علينا أن نتأكد أن الوعي بهذه الرؤية يختلف من موظف لآخر، وكذلك الحال داخل الجماعة". أما ما يزيد من حالة الحدة أحيانا في النقاشات والسجالات بين شاب إخواني و شاب آخر، هو هذه الصورة المسبقة عن الإخوان، كما أن الشاب الإخواني في الأغلب لن يحمل انتقاداته واعتراضاته على قادته و المسؤولين عنه داخل الجماعة ، ويبدأ في الحديث عنها على الفيسبوك ، أو على المقاهي أو الندوات .. لذا فمساحة الأخذ والرد تقل إلى حد كبير مع الآخرين.
يعلق أحمد أبو الحظ قائلا : "فكرة السمع والطاعة التي تتردد كثيرا عن الشاب الإخواني ، يتحدث عنها الآخرون كوصم على الإخوان ، لكنهم لم يفكروا في أن العمل أقرب للشكل المؤسسي ، وهناك نشأة تربى عليها الشاب الإخواني ، تجعله متفهما لفكر قياداته ، وقادرا على الاعتراض بشكل لائق".
أحد المشاكل التي يتناقلها بعض شباب الإخوان في هذه الفترة هي نفس المشكلة التي ظهرت في أعقاب الثورة مباشرة، وأحرجت بعض شباب الإخوان أمام شباب الثورة ، وهي غياب الكوادر الشبابية عن المشهد الاعلامي، وسيادة لغة وخطاب قادة الجماعة من جيل شباب الستينات والسبعينات.
ما يحدث مع شاب إخواني في جلسة مع تيارات أخرى غير إسلامية هو أن يجد نفسه يحمل أوزار إسلاميين آخرين أساؤوا لبعض قضايا العمل الاسلامي، وهنا يتوجه إتهام آخر للشاب الإخواني و هو المراوغة. يرى أحمد بشكل شخصي أن قضية مثل تطبيق الشريعة في حاجة إلى جلسات ونقاشات للتعرف على مخاوف الآخرين. و يرى أيضا أننا نفتقد فقها مصريا حديثا يرفع عنا ما نحن فيه من اختلاف واستعارة نماذج أخرى. ويردد بعض شباب الإخوان المسلمين أن الشاب الإخواني -بحكم وجود الإخوان المسلمين في السلطة الآن - أصبح يحمل أوزار السلفيين والجهادين وتصريحاتهم ومواقفهم المختلفة .
هذا ما حدث مع أحمد أبو الحظ حين قيل له بشكل مباشر من أحد زملائه: "أنا أتعامل مع المسيحي ، هو أقرب لي من أن أتعامل مع إخواني ".
في تلك اللحظات العصيبة لا يرى حلا سوى في العمل المشترك، و يقول موضحا : "الحل في مشروعات ومبادرات تجمع كل الأطياف، وتقوم على المصارحة والمصالحة .. وأن يتذكر الجميع أن الإخواني في النهاية مصري مثلهم".
  • علماني
-         هيرماس فوزي
-         29 سنة
-         مهندس تكنولوجيا معلومات
لا يخفي إعجابه بصراحة الشيخ وجدي غنيم حين يهاجم الليبراليين والمسيحيين بشكل صدامي ، و يقول: "الشيخ وجدي غنيم واضح و أستطيع أن أتفهمه، لكن هناك من يتحدثون عن تطبيق الشريعة وأنها لن تقف ضد الحريات ، وحين أدخل معهم في نقاشات أرى صورة ضبابية". يجلس في مقهي بوسط البلد على بعد مسافة غير بعيدة عن شارع محمد محمود و ميدان التحرير حيث تعرض لإصابات سابقة أثناء المظاهرات المتجددة . يوضح : "الدولة التي أنتظرها بعد الثورة هي دولة مدنية ، لا تقحم الدين و تفرضه على الناس ، و لا تجعل الدين في مرمى النيران".
في محاولة لفهم الآخر ، لم يبتعد عن المسيرات و المظاهرات المتتالية ، حتى التي نادت بتطبيق الشريعة للتعرف على الطرف البعيد عن أفكاره، و لم يجد تفسيرات لكثير من أسئلته ، حول وضعية المسيحي في تصور المجتمع بعد تطبيق الشريعة ، خاصة بعد تبادل البعض آراء عن عدم قبول شهادة غير المسلم في القضاء . كل ذلك كان يدفع نحو محاولات متجددة للفهم : "في اعتصام وزارة الدفاع في إبريل الماضي ، قابلت سلفيين و حدثتهم عن الدولة من وجهة نظرهم ، وقيل لي أنهم يقبلون القوانين ، لكن التي لا تخالف الشريعة ، وحين سألت عن أمثلة، لم أجد إجابة .. ".
وصل هيرماس وغيره من الذين يتبنون فكرة علمانية الدولة إلى قناعة بأن يكون التشريع خاضعا لاحتياجات المجتمع ومطالبه ، و ألا يكون الدين وسيلة لتمرير قوانين لصالح فئات معينة ، أو على حساب آخرين ، و يوضح: "الأمر لا يتعلق فقط بالاسلام ، بل بقضية مثل الزواج والطلاق عبر الكنيسة للمسيحيين ، هناك من يرون أنه حق من حقوق الدولة و عليها أن تقوم وحدها بهذه المهمة دون شريك باسم الدين".
بعد الثورة، غاب لفظ "علمانية" لحساب تعبيرات جديدة مثل مدنية ، وليبرالية ، ومع سخونة الصراعات بين التيارات الدينية وغيرها عاد وصف "علماني" إلى الأضواء مرة أخرى، بما يحمله من وصم ، خاصة داخل التجمعات المغلقة على الانترنت. يقول  هيرماس عن ذلك : "ليس كل العلمانيين شيئا واحدا، و ليس كل الاسلاميين شيئا واحدا ، لكن هناك من الطرفين من انحط في الطعن على الآخر، فتجد العلماني الذي يرى في الاسلاميين من يريدون تزويج الفتيات في سن التاسعة ، و إسلامي يرى في العلمانيين رمزا للانحلال والعهر وأنهم معادون للأديان .. هذا ليس حقيقيا". و وسط الأحداث المتتالية والاشتباكات مع الأمن التي كان شاهدا عليها،  يغيب الجدل حول القضايا التي قامت من اجلها تلك الاشتباكات  .
كأي شاب يعتنق تلك الأفكار يؤمن هرماس بأن "لكل مقام مقال" ، فلا يفصح عن الكثير من أفكاره لكل من حوله، فتلك الأفكار سرعان ما تضع الشخص "العلماني" في تصنيف آخر كشخص معادي للاسلام .
  • برادعاوي
-         محمود علي
-         25 سنة
-         كيميائي بوزارة الصحة
يحمل محمود حقيبته مبرزا شعار حزب الدستور ، وقبلها كانت صورة الدكتور محمد البرادعي متصدرة الحقيبة إلى جوار شعار الحزب ، وطوال تلك الفترة كان يقابل بأسئلة في طريقه إلى العمل، حول صورة البرادعي ، وعن شعار الحزب ، "أحيانا ما كنت أتلقى هذا السؤال : هو البرادعي لسه في مصر ولا مسافر؟ ، وذلك بغرض التهكم". كانت فرصة له للاشتباك مع الواقع ، و فتح أبواب التواصل مع الآخرين، بل واجتذاب أعضاء جدد للحزب ، إذ يعمل محمود منسقا للعمل الجماهيري في مناطق العباسية و الظاهر وباب الشعرية بحزب الدستور، ومن هنا نضجت قناعته حول كيف يرى الآخرين، وخاصة غير المسيسين، وكذلك كيف يرونه. يقول محمود عن ذلك : "حين تنزل لعمل سلسلة بشرية ضد قرار غلق المحلات قبل الثانية صباحا، ستجد من يساندونك، لكن حين تهبط عليهم بمظاهرة أو وقفة احتجاجية ضد اللجنة التأسيسية لإعداد الدستور، فقد يشتبكوا معك بعنف". هذه القناعة لم تأت من فراغ، فطوال الفترة الماضية بعد الثورة، واجه محمود اتهامات واضحة وعبارات من نوعية "انت 6 إبريل !!"، "انتو عايزين تسقطوا الدولة !". وحين كان داعما للبرادعي في فترة ما قبل الثورة وبعدها كان ذلك بمثابة اتهام آخر . وحسبما يشرح الآن فإن تلك الصورة بدأت في التغير بعد أن بدأ العمل الحزبي، إذ كانت فكرة الحركة السياسية أو الثورية غير مفهومة لكثيرين، رغم أنها كانت إحدى نقاط القوى في أحزاب تأسست بعد الثورة .
مؤخرا، ومع تصاعد الموقف بعد ذكرى أحداث محمد محمود، عاد الاشتباك إلى ساحات الانترنت بين شباب التيار الديني وشباب التيار المدني. بدأ كل واحد يرسم صورة للآخر، ويروجها عبر صفحات الانترنت ، وأصبحت توجه اتهامات مباشرة إلى أنصار البرادعي وحمدين بالتفاهة ، والبعد عن قضايا الأمة... هنا لا ينقذ شاب "برادعاوي" مثل محمود سوى سيرته الشخصية، وثقة الآخرين به. ومثلما يتعرض "البرادعوية" للوصم، على الجانب الآخر تسدد الاتهامات إلى أبناء جماعة الإخوان بأنهم تابعين لقياداتهم ، و يرى محمود أن لكل شيء جذوره ، يعلق على ما يخص جماعة الاخوان المسلمين تحديدا : "التعامل مع أفراد جماعة الإخوان في عمل مشترك ، بدأ تدريجيا في إعطاء صورة سلبية ضخمها البعض ، فقد تعرضت أنا وأصدقائي لموقف محرج حين اعتمدنا على زملاء ينتمون إلى الإخوان المسلمين في تنظيم مسيرة بحي العباسية ضد نزول توفيق عكاشة هناك، وقبل الموعد بيوم واحد ، اعتذر الشباب الإخوان .. ونحن نعرف أن ذلك كان بسبب رفض القيادات .. هذه المواقف هي التي تدفع إلى رسم صورة سيئة".
حسب حديثه فإن كل تلك الصور التي نأخذها عن الآخرين ، ستنهار حين نتعامل سويا بفردية: "طوال فترة بعد الثورة كان الناس يتعاملون معي أنا وزملائي في العمل الجماهيري بثقة فينا، لو تعاملنا بشكل أكثر تحررا من تبعيتنا لشخص أو جماعة ، ستقترب المسافات بيننا بشكل أكبر". 
 
  • اشتراكي ثوري
-         حازم شريف
-21 سنة
- طالب بالجامعة الألمانية

 "الاشتراكية انتهت ..جربناها أيام عبد الناصر وفشلت ، وسقط الاتحاد السوفيتي.. الشيوعية كفر وإلحاد ولا تصلح أفكارها لمجتمعنا"، هذه الاتهامات اعتاد حازم شريف أن يتلقاها و أن يتعامل معها جيدا في خطوات يحددها كالآتي: "أبدأ بالحوار و أوضح في حديثي أن الاشتراكية لا تتدخل في العقائد الدينية ، وأن الاشتراكي الثوري هو شخص له موقف واضح في دعم الطبقة العاملة، لأنه مؤمن بأن هذه الطبقة هي من تحرك التغيير في المجتمع". تلك الصورة المرسومة عن الاشتراكيين والشيوعيين تستند أحيانا إلى وجود زعماء في العالم من أبناء هذا الفكر السياسي كانوا ملحدين أو لا دينيين ، لكن ما يحاول حازم عمله في مثل هذه المواجهات أن يوضح أن الاشتراكية هي موقف سياسي مبني على أفكار ، و ليست موقف من الدين بشكل مباشر. و يقول : "أنا في بلد يحترم الدين ويعطيه دورا هاما في الحياة العامة، فكيف أدخل معركة خاسرة ، و أعزل نفسي عن مجتمعي ؟ ".
وسط ميدان التحرير، في جوار شوارع وسط البلد التي تجمعه ببعض الرفاق، يتشابه حديثه مع حديث الشباب المنخرطين في العمل السياسي ، ولا يختلف عنهم سوى حين يستخدم بعض المصطلحات"العلمية" في السياسة. وأثناء حديثه قرب مجمع التحرير، يراجع ما مر به من خبرات مع شباب التيارات الأخرى .. كيف يراهم ، و كيف يروه ؟
عند التعامل مع أبناء التيار الاسلامي، سواء في العمل الطلابي أو في أنشطة سياسية أخرى ، تزداد مساحة التوتر قليلا ، بسبب اختلاف القناعات ، لكن ذلك لا يمنع أن يتعاون الفريقان في نشاط مشترك مثل فعالية في أحداث غزة الأخيرة ، لكن يظل لكل منهما مشروعه و صورة للدولة التي يرغب بها. وبعد وصول الإخوان المسلمين إلى مراكز قيادية في السلطة، انتقل التوتر إلى الشريحة الطلابية، هذا ما حدث في ندوة القيادي الإخواني الدكتور محمد البلتاجي، في جامعة حلوان قبل أسابيع، حين انتهت بحدة متبادلة بين الطرفين، و صدامات أخرى وقعت في مناسبات أخرى متفرقة. اختار حازم طريق الاشتراكية الثورية بعد قراءات اطلع عليها قبل سنوات ، و لا يخفي انتقاده لكثير من أبناء التيار الاسلامي، عن عدم قدرتهم على نقد أدبياتهم ، و هو ما يثير نقاشا وجدلا أحيانا مع زملائه الاسلاميين الذين يوفرون له مساحة النقاش. "أنا حين أطلع على نقد متجدد للأفكار الاشتراكية ، أجد أن الزمان لم يتوقف عند كارل ماركس ، وهو ما لا أراه بشكل واضح لدي شريحة كبيرة من الاسلاميين ، في نقدهم لأدبياتهم".
هناك وجهة نظر أخرى يعرضها حازم تجمع الأحزاب الاسلامية والليبرالية في صورة واحدة، هذا ما يوضحه قائلا : "الأحزاب الليبرالية أكثر اهتماما بالطبقة الوسطى التقليدية - البرجوازية-ويبرز فيها دور رجال الأعمال وسطوتهم على السياسة ، هنا لا يوجد فرق بين حزب يجمع الاسلاميين ، وحزب ليبرالي ، هؤلاء جميعا ، يقفون في ناحية أخرى من القضية التي نناضل من أجلها ، وهي قضايا الطبقة العاملة ، وصنع حراك ، ثم وعي ، وبعدها الثورة، يعملون بطابع المؤسسات التجارية".
لا تمثل الاشتباكات التي تحدث الآن بين القوى السياسية المدنية والاسلامية ضغطا كبيرا على شاب مثل حازم، بل إن الصراع الذي دار خلال الأسابيع الماضية حول المادة الثانية من الدستور ، يصفه قائلا : "أرى شبابا كثرا ينخرطون في السياسة ، و ظهرت مجموعات هدفها فقط مواجهة الإخوان ، و يبدأون في العمل السياسي دون أفكار سياسية أو توجهات يتبناها ، ما أعتقده هنا أنه يجب أن يكون هناك فكر ومنطق ومنهج، يصنعها توجها دائما في العمل السياسي ، و ألا أستمد وجودي من مواقف طارئة".
ومن أجل أن يصل الفكر الاشتراكي إلى الآخرين ، أصبحت هناك قواعد على شاب مثل حازم أن يبديها ويعتنقها في أثناء العمل السياسي ، وعلى رأسها ألا يصطدم بقناعات المجتمع الراسخة ، وأن يدرك أن لكل مجتمع ظروفه الخاصة التي تنتج حلولا ووسائل مختلفة .

 

Saturday, November 3, 2012

البطالة.. سيف على رقاب المواطنين

  • مبادرات تبحث عن حلول.. ويتلاشى تأثيرها وسط الأحداث
•حركة «لكل العاطلين»: نضغط من أجل قضيتنا ومن أجل قضايا العاملين

كتب ــ عبدالرحمن مصطفى:

«البطالة ليست حكرا فقط على الخريجين الجدد الذين لم يجدوا عملا، بل قد تصيب من منعتهم الظروف عن العمل، ولا يجدون دعما». يصف هانى سالم تلك الحالة التى مر بها عدة مرات فى السنوات الأخيرة، يبلغ من العمر 35 سنة، متزوج ويعول، ويسكن فى محافظة بنى سويف. بدأ يواجه تلك الأزمات المتتالية حين تعرض التاكسى الذى يعمل عليه للسرقة فى الأشهر الأولى من الثورة، ودخل بعدها فى شراكة فاشلة فى سيارة نقل ثقيل، جعلته يخسر مبلغا كبيرا، وقضى فترة من التعطل.
 يشرح ذلك: «هذه حياتنا الآن، خاصة فى مجال النقل، وفى مجال عمل السائقين، فأنا الآن أعمل مع مقاول بناء، ونظرا لأن سوق البناء تمر بفترة كساد، فهو ما اضطر المقاول إلى تقليل عدد السائقين العاملين فى نقل مواد البناء».  فى مثل تلك الفترات من التعطل ليس أمام هانى وزملائه سوى استخدام علاقاتهم من أجل الوصول إلى فرصة عمل أخرى كسائقى ميكروباص أو تاكسى، وفى هذه الأثناء قد يسقطون فى فترة تعطل. يقول عن ذلك: «لدى اهتمام ووعى بمشكلة البطالة، لكننى مررت بتجربة سيئة حين حاولت المشاركة فى مبادرة لخدمة القضية».
كان هانى أحد الأفراد الذين اندمجوا فى مبادرة تبناها مدير إحدى الجمعيات التى ترفع شعار محاربة البطالة، وقامت الفكرة على أن يشارك الأعضاء، بمبالغ يسددونها إلى أحد زملائهم حتى يبدأ مشروعه، على أن يسدد لهم ما دفعوه فى وقت لاحق، وهكذا تدور دائرة العمل. يعلق هانى: «ما حدث هو أن التجربة قد فشلت، وتعرض مدير الجمعية للحبس بسبب إخفاقه فى إدارة أموال المشاركين، وأنا خسرت معه مبلغا، وغيرى خسر فرصة سفر إلى الخارج». يطمح هانى كغيره إلى الحصول على قرض بنكى يدير به مشروعه الخاص، وأن يجد إعانة نقابية أو إعانة من الدولة فى حالة تعطله.
ليست كل المبادرات مثل التى شارك بها هانى والتى انتهت تلك النهاية المأساوية، فهناك من اتخذوا الطابع الحركى فى التظاهر والاعتصام للضغط على الحكومة، محمد عبد الله منسق عام حركة «لكل العاطلين» التى تأسست قبل عامين تقريبا، نجح أفراد منها فى مقابلة مسئولين منهم وزيرا قوى عاملة سابقان ورئيس الوزراء السابق كمال الجنزورى، كما التقوا أحد مستشارى الرئيس محمد مرسى، لكن ذلك كله لم يسفر عن الكثير، يرى محمد عبد الله المنسق العام أن هناك مكاسب تحققت، إذ يقول: «طوال الفترة الماضية كانت المشاغل السياسية هى الواجهة لكل الأحداث، لذا كانت قضيتنا تائهة وسط الزحام، مثل كثير من القضايا الاجتماعية الأخرى، فأنا وزميلى خالد الهوارى وبقية الزملاء حين أسسنا الحركة كان هدفنا أكبر من مجرد تشغيلنا فى وظيفة، بل كان أملنا فى طرح المشكلة والمساهمة فى التغيير الذى بدأ فى 25 يناير ولم يكتمل بعد..».
تضامن مع الحركة مئات شاركوا فى عدة مظاهرات، ووقّع 6500 شخص على بيان تبنته الحركة لدعم القضية كما يوضح محمد عبد الله: «أغلب الأعضاء النشطين بلا وظيفة حاليا، ومنا من يعمل فى ظروف غير مستقرة، وفى أعمال مؤقتة». ومن مطالب الحركة أن يتم تطبيق قانون العمل على القطاع الخاص، حتى لا يتعرض العاملون به لمعاملة متعسفة تضيع حقوقهم، وتمنع حقهم فى الحصول على عقد وتأمينات مدفوعة،  كما تطالب الحركة بمنع تعيين أبناء العاملين فى قطاعات الدولة كحق اكتسبته بعض الشرائح فى المجتمع، كما تطالب الحركة بتوفير إعانة بطالة لمن فرضت عليه الظروف أن يتعطل من وظيفته.
قبل سنوات كانت هناك محاولات للحصول على «إعانة بطالة» حسب قانون التأمينات الاجتماعية عن طريق مكاتب العمل، ما حدث وقتها أن رفض الموظفون الحكوميون قبول مثل تلك الطلبات، وكان مركز الأرض لحقوق الإنسان أحد المتابعين لهذه القضية فى العام 2008، حين حاول بعض العمال والموظفين تحريك إجراءات الحصول على إعانة بطالة، ويرى كرم صابر مدير مركز الأرض أن الواقع اليوم مختلف حيث يجب أن يتوجه النضال أولا إلى حقوق العاملين قبل العاطلين قائلا: «هناك عمال لا يحصلون على حقوقهم المادية سواء من الدولة أو من أصحاب العمل، علينا أن نبدأ أولا بهذه القضايا، لأننا ما زلنا أمام دولة تميل إلى صف صاحب رأس المال على حساب العامل.. لذا علينا أن نحقق شيئا فى هذه القضايا وبعدها يمكننا أن نحشد من اجل مشكلة البطالة والبحث عن إعانة بطالة».
 فى الفترة الماضية ظهرت عدة محاولات لتأسيس نقابات للعاطلين، منها محاولة فى إبريل الماضى تحت اسم  «نقابة العاطلين المستقلة» بمدينة دكرنس فى محافظة الدقهلية، وتم التقدم بها لمكتب العمل بالمنصورة،  لتكون أول نقابة مستقلة للعاطلين فى مصر، وبلغ عدد أعضائها فى بداية تدشينها 100 عضو، وكان على رأس أهدافها تشغيل أعضائها فى وظائف حكومية، لكن المحاولة لم تسفر عن شىء. بينما تكررت نفس الفكرة قبل أسابيع قليلة ليتم تسجيل أول نقابة للعاطلين فى مصر بوزارة القوى العاملة وذلك بمبادرة من نشطاء فى مدينة الإسماعيلية، وتهدف هذه النقابة الأخيرة إلى خصم نسبة 1% من الأجر الشامل من كل العمال المصريين فى داخل مصر وخارجها لمصلحة صندوق النقابة، مع صرف إعانة للعاطلين. وتعرضت تلك المحاولات إلى انتقادات حول فكرة تكوين كيان نقابى يدافع عن فئة (العاطلين) التى لم تمتهن مهنة بعد، إذ إن هذه النقابة ليس أمامها صاحب عمل تواجهه لمصلحة حقوق العاملين، كذلك فإن تسجيل هذه النقابة لدى الأجهزة الحكومية يمنعها من التعرض للسياسة حسب اللوائح المعمول بها لأى جمعية أو كيان مؤسسى غير حزبى. وكانت هناك عدة محاولات سابقة على ذلك لإنشاء كيانات تضم العاطلين من أشهرها تأسيس رابطة «للعاطلين» فى عام 2006.
ويعود محمد عبد الله منسق عام حركة «لكل العاطلين» قائلا: «ما لا يشعر به البعض هو أننا نضغط، ونحاول الظهور فى الإعلام، ولقاء المسئولين، ليس فقط لحل مشاكلنا الشخصية، بل لاختبار النظام الحالى ومدى جديته، لذا على الجميع أن يتضامن معنا لحق العامل والعاطل سويا». تلقى محمد عبدالله منسق حركة لكل العاطلين وزملاؤه عروضا وظيفية فى وزارة المالية، بعد لقاء مع أحد الوزراء السابقين، وحين اتجهوا لاختبار مدى جدية العرض، فوجئوا بالموظفين هناك يمتنعون عن الاستجابة لتأشيرات الوزير، ويعلنون أنه لا توجد وظائف لديهم. «توجهنا ببلاغ إلى النائب العام ضد الرئيس محمد مرسى، لأنه وعد بتشغيل العاطلين، وهو ما لم يتحقق حتى الآن، وما زال لدينا المزيد». حسبما يؤكد منسق الحركة.
 
  •  مشاريع الخير فى مواجهة البطالة
تقدم الجمعيات الخيرية مشروعات تهدف بوضوح إلى التقليل من نسبة البطالة فى المجتمع المصرى من خلال مشروعات صغيرة تعمل فى مجالات مختلفة، وحسب دراسة لمركز المصريين للدراسات الاقتصادية، فإن المبالغ المالية التى تم التبرع بها للجمعيات الخيرية فى عام 2012 تبلغ نحو 5.5 مليار جنيه، لكن هذه الأموال لا تحقق فعالية فى تغيير حياة الفقراء، ولخصت الدراسة أسباب ذلك فى أن أصحابها لا يهتمون بمتابعة تلك الأموال وهل حقق إنفاقها الهدف منه أم لا.
وكانت دار الإفتاء المصرية قد أجازت إقامة مشاريع استثمارية وإنتاجية بأموال الزكاة والهبات والصدقات لتوفير فرص العمل للشباب. بعض الجمعيات الخيرية تعمل على ذلك بشكل مباشر فى شكل تمويل وتوجيه مشروعات صغيرة، وجمعيات أخرى تستغل البيانات المتاحة لديها عن أبناء الأسر المتعففة لديها، بهدف توظيفهم لدى من يرغب من الكفلاء المسجلين لدى الجمعية من المستثمرين وأصحاب الأعمال وغيرهم. يرى الدكتور مهدى القصاص -أستاذ علم الاجتماع المشارك بجامعة المنصورة أن الجمعيات الخيرية عليها دور فى تقليص الفجوة بين الفقراء والأغنياء، وإتاحة الفرصة للفقير فى أن يكسب قوت يومه، ويشعره بالأمل. ويضرب الدكتور مهدى القصاص مثلا بثمانى دول غربية نجحت فى بداية التسعينيات من القرن الماضى فى توظيف 11 مليون شخص عن طريق مثل هذه المؤسسات الخيرية، بما يمثل نسبة 20 % من معدل التوظيف فى تلك الدول.
  ويشرح فى دراسة منشورة العام 2010 على موقع المركز الدولى للأبحاث والدراسات أن أفضل طرق دعم العاطلين عبر المشاريع الصغيرة هى أن تطبق بنظام القرض الحسن، ونظام المشاركة المنتهية بالتمليك، ونظام التأجير المنتهى بالتمليك، بعيدا عن أى أعباء (فوائد) كالتى تقدمها البنوك.
  • فى أوروبا والدول المتقدمة يصرفون إعانات 

 يأتى تطبيق فكرةإعانة البطالة فى الدول الغربية امتدادا لمحاولات قديمة بدأت قبل أكثر من قرنين من الزمان، إذ يرجع المؤرخون الغربيون أصولها إلى تأمين البطالة الذى تم تطبيقه فى سويسرا فى العام 1789 عبر الاتحادات العمالية، وبدأت التجربة فى التكرار داخل عدة دول أوروبية، خاصة فى نهاية القرن 19 وبداية القرن العشرين، وظهرت نماذج لافتة فى نظم تقديم إعانات البطالة أو «تأمين البطالة» فى عدة دول من أهمها فى تلك الفترة كانت التجربة البلجيكية فى عام 1901.
وانتقل نفس هذا النظام إلى دول أخرى مثل الدنمرك وفنلندا وأيسلندا والسويد. وتعد بريطانيا من أوائل الدول التى طبقت نظام تأمين البطالة بشكل إلزامى على العاملين لديها فى العام 1911 ، ولم يتم الأخذ بهذه الفكرة سوى فى إيطاليا بعدها بثمانى سنوات، أما فى الولايات المتحدة الأمريكية فقد اتضحت ملامح هذا النظام فى العام 1932 إثر الانهيار الاقتصادى الذى عرف فى هذه الفترة باسم «الكساد العظيم»، حين تحول 25% من القوى العاملة فى ذلك الوقت إلى عاطلين.
 وتختلف حاليا شروط الحصول على إعانة البطالة من بلد لآخر ، ويشرح موقع europa.eu لدول الاتحاد الأوروبى ذلك الاختلاف داخل الدول الأعضاء، موضحا بأمثلة حية، منها: أن الشابة القادمة من الدنمرك، التى اختارت العيش والعمل فى دولة قبرص، بإمكانها التقديم للحصول على إعانة بطالة من السلطات القبرصية، لكنها ستفاجأ بأن الإعانة تدوم لمدة 156 يوما فقط، بينما تدوم إلى أربع سنوات فى بلدها الأصلى الدنمرك. وتوضح الدول المختلفة شروط وقيمة إعانات البطالة لديها ، وهو ما يبرز الاختلافات من بلد لآخر تبعا لحالتها الاقتصادية، على سبيل المثال فى فرنسا يشترط على مستحق الإعانة أن يكون قد عمل لمدة أربعة أشهر على الأقل ، و 28 - 36 شهرا لمن هم فوق الخمسين، ثم يسجل اسمه فى مركز العمل- Pôle emploi، على أن يثبت جديته فى البحث عن عمل طوال هذه المدة.
ويتوقف مبلغ الإعانة فى بعض الحالات أيضا على الحالة الاقتصادية والاجتماعية للمستحق. ففى بلد مثل ألمانيا يحصل على العاطل على مساعدة لمدة عام كامل بشرط أن يكون قد عمل فى وظيفة لمدة 360 يوما فى آخر ثلاث سنوات، على أن يحصل على 60% من دخله السابق، فى حين أن دولة مثل إسبانيا قد رفعت قيمة الاعانة من 400 يورو شهريا إلى 450 يورو فى أغسطس الماضى على أن تكون الأولوية فى الزيادة لمن يعولون غيرهم، وليس لهم مصدر دخل آخر.
ويقدر عدد العاطلين فى العالم بـ200 مليون حسب آخر أرقام منظمة العمل الدولية منهم 75 مليونا تحت سن 25 سنة. أما فى مصر فتبلغ نسبة البطالة 12.6%  أى 3.3 مليون عاطل، ويمثل الشباب فى الفئة العمرية بين (15- 29 سنة) نحو 77.5٪ من إجمالى العاطلين.  وكانت فكرة إعانة البطالة مطروحة فى عهد النظام السابق، إذ وعد رئيس الوزراء الأسبق أحمد نظيف بتفعيله ضمن قانون التأمينات الجديد آنذاك، كما طرحت فكرة إعانة البطالة فى العام الماضى مع إنشاء صندوق لإعانة البطالة وربطه بالتدريب.
PDF

Thursday, November 1, 2012

الخواتم تخفي أسرارها

 
عبدالرحمن مصطفى-مصر
في سوق الصاغة بحي الجمالية العتيق، يجلس صاحب المتجر مبرزاً أصابعه التي تحيط بها عدة خواتم فضية، تبدو أصابعه جزءاً من واجهة العرض؛ فهناك نسخ أخرى من خواتمه الشخصية في الواجهة الزجاجية للمتجر ضمن عشرات الخواتم المتنوعة، يشرح سر اختياره تلك التصميمات قائلاً: «يأتيني أحد التجار بتشكيلة من النماذج المتنوعة، وأختار أكثرها رواجاً لدى الزبائن». ليس لديه الكثير من المعلومات عن نقوش الخواتم أو غيرها من الحلي الفضية التي يعج بها متجره، يراها جميعاً «اجتهادات من مصممي الحلي».

تقع ورش صناعة الحلي داخل حارة الصالحية المجاورة على بعد أمتار من هذا المتجر، وفي أعلى الطابق الثاني من إحدى البنايات يجلس محمد خليل الصائغ المخضرم في حي الجمالية محاطاً بكثير من الحلي، بدأ حديثه موضحاً منهجه في العمل: «مهمتي إعطاء الوجه المصري للحلي الفضية، أي أنني آخذ شكل القالب المتعارف عليه عالمياً، ثم أضفي عليه نقوشاً مصرية خاصة». على أي أساس يختار نقوشه ؟ يحتاج الأمر إلى كثير من المحاولات لتشجيعه على الإفصاح بما لديه من أسرار الخواتم المنثورة أمامه. «يمكننا اعتبار الخاتم ملكاً على الحلي المختلفة، فهو الأبرز دائماً في الأيدي، ويحمل عدة وظائف قديمة، منها التبرك، وصيانة الصحة باستخدام أحجار معينة في فص الخاتم، ووظائف سحرية أخرى، لكن كل ذلك انحصر الآن في مهمة تكاد تكون الوحيدة، وهي طقس الزواج». تشرح ﺍﻟﺩﻜﺘﻭﺭﺓ ﺴﻌﺎﺩ ﻋﺜﻤﺎﻥ، ﺃﺴﺘﺎﺫ علم الاجتماع ﺒﻜﻠﻴﺔ ﺍﻟﺒﻨـﺎﺕ، جامعة ﻋﻴﻥ ﺸﻤﺱ، موقع الخاتم في ثقافة استخدام الحلي في مصر. ورغم هذا الرأي إلا أن الكتابات البحثية المهتمة بالحلي تتناول سيرة الخواتم في مساحات لا تقدمه كملك على الحلي مثلما هو متوقع، بل إن كثيراً من التجار لا يحملون معلومات كافية عن «موتيفات الخواتم» وصلتها بالموروث الثقافي المصري، وحسب أحاديثهم فإن إقبال الشباب على الإكسسوارات يرتبط بشكل عام بنجوم الغناء، بدءاً من سبحة تطوق عنق عمرو دياب، أو أخرى تحيط بمعصم محمد منير، أما الخواتم فإن قواعد السوق تجعل أكثرها بساطة هي أكثرها رواجاً، أما الفتيات فالأمر مختلف، إذ كانت المرأة قديماً تتزين ببعض الإكسسوارات لأهداف مختلفة مثل تعليق حجاب فضي (تميمة سحرية) على رأسها طلباً للشفاء، أما فتيات اليوم فتتجه بعضهن لشراء خواتم ذات استخدامات أخرى، حين يتحول فص الخاتم إلى وسيلة لطمأنة النفس والروح، وأحياناً ما ترتبط اختياراتهن بـأبراجهن الفلكية، أياً كان الحجر المستخدم مثل: العقيق، الياقوت، الزمرد، الفيروز..إلخ.

في ورشة صناعة الحلي يعمل الصنّاع بدأب شديد على تصميمات جاهزة، وأحياناً ما تكون بناء على طلب الزبون، وهو ما يوضحه صائغ الفضة محمد خليل قائلاً: «يأتيني أحدهم طالباً خاتماً فضياً منقوشاً بعبارة خاتم النبي: محمد.. رسول.. الله. في هذه الحالات أنقشه خصيصاً له، رغم أن ذلك ليس منتجاً أقدمه كل يوم». ليس لدى كل صائغي المجوهرات ذلك الوعي بخلفيات النقوش والرسوم المتواجدة على الخواتم والحلي، إذ يحتفظ محمد خليل بحلي تعود إلى أكثر من قرن مضى، «تلك النقوش تلهمنا في إبداع أفكار مختلفة، وهنا يتسلل الموروث الثقافي رويداً رويداً إلى خواتم حديثة الصنع، وبالتأكيد فإن الوظائف السحرية القديمة قد تضاءل الوعي بها تماماً، وانحسرت، وحتى ما أحتفظ به من حلي ريفية أو قاهرية قديمة أستعير منها النقوش فقط، ورغم علمي بمغزى بعض تلك النقوش القديمة بحكم القراءة والاهتمام، فإن أغلب الزبائن لن يعرفوا ذلك». حدثت نقلة في أشكال الحلي وعلى رأسها الخاتم منذ سنوات طويلة، إذ كان التركيز وقتها على استعارة النقوش المصرية القديمة، ثم ظهر تأثير الفن الإسلامي بعدها، وكذلك الطابع المصري الشعبي مؤخراً، ويتم ذلك باجتهاد من بعض المصممين الكبار في عالم الذهب والفضة.

على مسافة غير بعيدة من حارة الصالحية، يقع الأرشيف القومي للمأثورات الشعبية، في بيت الخرزاتي المجاور لبيت السحيمي الشهير بالجمالية، وأمام جهاز للكمبيوتر تجلس الباحثة نورهان فوزي بادئة حديثها: «البحث عن الموروث الثقافي الذي يتناقله صناع الصاغة في ورش الجمالية المجاورة أشبه بالبحث عن إبرة في كوم قش، لم يعد هناك ذلك الوعي..». تفتح فيديو سجلته إحدى جامعات التراث لأحد المتصوفة وهو يتحدث عن سر خواتمه الكثيرة في يده، أحد تلك الخواتم يحمل نقشاً يقول: العاطي الوهاب، وآخر يحمل حجر الزمرد، ولديه آخر يحمل فصاً من العقيق، زاعماً أن تلك الفصوص تؤثر بالإيجاب على الحالة النفسية. ومنذ العهد المصري القديم كانت تلك الاستخدامات مطروحة إذ كان خاتم الجعران جالباً للحظ والفأل الحسن، ومن أشهر تلك الأنواع المرتبطة بطقوس خاصة، «خاتم الزار»، الذي ارتبط بعادة الزار، حيث يرتديه من يرغب في العلاج من المس أثناء الرقص العنيف على الموسيقى الصاخبة، مع خاتم آخر اسمه خاتم العبد، وثالث اسمه خاتم بجلاجل، وبعض الصناع في الريف المصري- حيث بقايا لطقوس الزار- لا يدركون تفاصيل الاستخدام، حسبما يوضح أحدهم في فيديو آخر داخل الأرشيف القومي للمأثورات الشعبية، وتعلق الباحثة سونيا ولي الدين «إن ما رصدته في عالم الحلي يشير إلى أن البيئات البكر ما زالت محتفظة بأفكارها عن الحلي»، توضح ذلك: «جلست في حلايب وشلاتين أتابع الصائغ هناك وهو يصنع خواتم عليها نقوش أقرب إلى تمائم لحفظ صاحبها، وكل قبيلة لها رموزها». في دراسة لها تحت عنوان: الحلي وأدوات الزينة عند نساء جنوب مصر، ترصد خواتم متعلقة بالزار، على رأسها خاتم مختوم من أعلى وفي رمزية، وكأنه مغلق على الجن الشرير. هذه الطقوس تنسحب اليوم أمام طابع جديد يغلف المجتمع المصري، تعلو فيه روح الأصولية الدينية، التي ترفض الشكل الطقوسي خارج الشعائر الإسلامية المعروفة، وهو ما يجعلها نماذج فنية خارج إطار التداول الشعبي. تعلق ﺍﻟﺩﻜﺘﻭﺭﺓ ﺴﻌﺎﺩ ﻋﺜﻤﺎﻥ، ﺃﺴﺘﺎﺫ علم الاجتماع موضحة: «لا شك أن ظروف المجتمع تفرض أحكامها على صناع الحلي بشكل عام، لكن الأمل باق في عودة الموروث الثقافي إلى الساحة، فهذا أمر معتاد في الدراسات الشعبية، حين تختفي طقوس لفترة ثم تعود في ظروف أخرى بعد إحيائها، والفيصل هنا هو درجة الوعي بالموروث الثقافي ومدى القدرة على إتاحته أمام الصناع».

Thursday, October 11, 2012

التهجير.. ضيف ثقيل على الخريطة القبطية



عبدالرحمن مصطفى

فى احتفالات أكتوبر باستاد القاهرة، أعلن الدكتور محمد مرسى رئيس الجمهورية: «العدوان على أقباط رفح، عدوان على كل مصرى، وعدوان علىَّ أنا بشكل شخصى». وذلك بعد ساعات قليلة من زيارته لسيناء وتكرار التهديدات إلى أقباط رفح. ولم يخف المعلقون قلقهم من أن تكون تلك الحادثة استكمالا لمسار جديد بدأ يضغط فى اتجاه عزل المسيحيين داخل تجمعات مغلقة. «الأزمة الآن أن هناك مجموعات متطرفة رأت فى صعود رئيس من التيار الإسلامى فرصة لخرق القانون، والتعبير عن ثقافة التمييز التى أصابت المجتمع المصرى قبل سنوات، وليس أدل على ذلك من أن تجد من أحرق الكتاب المقدس أمام السفارة الأمريكية فى حادثة فريدة، يعلن أمام الإعلام بعد إخلاء سبيله أنه أحرق كتابا محرفا، وأنه لا وجود للإنجيل على وجه الأرض.. فى إساءة جديدة!»، هكذا يعلق الدكتور عماد جاد الخبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية على الأحداث، ويصف صعود مصطلح «تهجير الأقباط» بأنه خطر قادم، ولا يستبعد أن يؤدى ذلك فى وقت من الأوقات إلى الدفع بالمسيحيين إلى التجمع فى مناطق جغرافية بعينها ابتعادا عن المجموعات المتطرفة والبحث عن الاحتماء بالجماعة الدينية. «بعض من تعرضوا للتضييق الطائفى، اتجهوا بالفعل إلى أحياء بها نسبة كبيرة من المسيحيين.. وهذا أمر مثير للقلق»، على حد قوله. لا يخفى أيضا اسحق إبراهيم، الباحث فى برنامج حرية الدين والمعتقد بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، أن تكرار هذه الحوادث القائمة على تهجير مسيحيين من مساكنهم قد بدأ يتخذ نمطا جديدا ظهر فى حادثتى العامرية فى مايو 2012 ودهشور فى أغسطس 2012، وحوادث أخرى سابقة حسبما يشرح: «لا توجد دراسات متوافرة الآن تؤكد أن هناك سعى من المسيحيين إلى التجمع فى أماكن بعينها، أو تفسر وجود أحياء أو قرى ذات كثافة مسيحية عالية عن غيرها من الأماكن. لكن ما تم رصده أن من تعرضوا للتضييق الطائفى فى الريف اتجهوا إلى المدن حيث العلاقات أقل تماسكا».
قديما عرفت المدينة فى العصور الإسلامية تجمعات مسيحية ويهودية فى أحياء وحوارى محددة، وذلك فى إطار منطق ساد وقتها فى السكن، حين كان يتجه أبناء الطوائف المهنية إلى السكن جوار ورشهم وأعمالهم، وأبناء القبائل فى حارات لهم، وكذلك أبناء الطوائف الدينية إلى السكن جوار دور عبادتهم، لذا عرف لفظ «حارة النصارى» فى عدة مواقع خلال تلك الحقبة وحتى فى العصر العثمانى، وذلك داخل القاهرة وخارجها. وتركز تجمع الأقباط فى القرن 18م ناحية بحيرة الأزبكية حيث انتقلت البطريركية إلى الأزبكية قبل أن تستقر البطريركية فى موقعها الحالى بالعباسية. «إن التجمعات المسيحية الحالية ناحية أحياء الفجالة والقللى والظاهر وشبرا هى امتداد طبيعى لذلك التمركز الذى كان موجود ناحية حى الأقباط فى الأزبكية فى القرن 18 حول الكاتدرائية القديمة». يفسر الدكتور محمد عفيفى رئيس قسم التاريخ بجامعة القاهرة أحد أسباب شهرة بعض الأحياء وعلى رأسها حى شبرا بوجود كثافة مسيحية. وكان قد أثير مؤخرا جدلا حول تعداد المسيحيين فى مصر، وتردد اسم حى شبرا على ألسنة مصادر كنسية مشككين فى الأرقام المذكورة حول تعداد المسيحيين واصفين إياها بأنها مناسبة لحى شبرا فى إشارة لسمعته بوجود كثافة مسيحية داخله. ويمثل هذا الحى نموذجا لانتقال تجمعات المسيحيين السكنية من عالم «حارة النصارى» القديم بالأزبكية إلى حى جديد فى النصف الثانى من القرن 19م. ويشرح الدكتور محمد عفيفى، أستاذ التاريخ الحديث بجامعة القاهرة : «لم يكن حى شبرا فقط امتدادا لتجمعات قبطية قديمة فى الأزبكية، بل سببا فى انتقال موظفى السكة الحديدية والبريد من الأقباط، وفى الوقت نفسه هاجر إلى الحى سكان جدد من مسلمى وجه بحرى عبر الكورنيش ومن الصعيد أيضا، كل هذا إلى جانب أقليات أجنبية يونانية وإيطالية وأرمينية وغيرها». هذه الحالة هى التى أعطت حى شبرا طابعا خاصا ما بين سمعته كحى يجمع كثافة سكانية مسيحية لافتة، لكنها غير منعزلة عن جوارها، ما جعله مادة درامية يستهلكها الإعلام والأدب فى التعبير عن التعايش. هل ينجح الساعون إلى إعادة عصر حارة النصارى فى سعيهم؟ يختم اسحق إبراهيم، الباحث فى المبادرة المصرية للحقوق الشخصية: «النتيجة الواضحة أمامنا الآن هو أن عدم تفعيل القانون واللجوء إلى الأساليب العرفية كثيرا ما تسبب فى ظلم المواطنين، خاصة أننا رأينا أن عمليات التهجير القسرى التى جرت كانت تجرى بشكل عقاب جماعى.. لذا لا حل سوى فى تطبيق العدالة بشكل قانونى يحترم حق كل مواطن».

Wednesday, September 26, 2012

القاهرة.. مدينة مستباحة

من الصعب على مواطن أن يلقى تحية الصباح على من يمر بهم، وهو يشعر أن هناك من يستبيح حقه. حين يطوف كالبهلوان فى شوارع المدينة تفاديا الصدام مع الباعة الجائلين الذى استقروا فى مساحات حيوية من الشارع، أو حين يرى فى طريقه شجارا تؤدب فيه مجموعة من المواطنين مواطنا آخر تسبب لهم فى مشكلة، وبعد تلك الرحلة اليومية قد يعود إلى منزله فيجد جار سوء انتهك حقه فى الخصوصية أو السكن أو الأمان بمخالفة فى البناء.
كلها أسباب وجيهة لفقدان ابتسامة الصباح، أما الأهم من ذلك فهو أن البطل فى كل تلك المواقف وغيرها هو الجسد، مدى حريته فى الحركة، أو ما يتعرض له من انتهاك، وهو ما يمثل انعكاسا لحالة مؤسسات الدولة ومدى فاعليتها بشكل عام. كتاب «المراقبة والمعاقبة» للمفكر الفرنسى ميشيل فوكو يطرح فرضية تقول إن العقوبات البدنية مثل التعذيب أو الحرق كانت ابنة العصور الوسطى، وأن العصر الحديث قد صنع شكلا جديدا للعقوبات يعتمد على التحكم فى جسد المذنب، إما من خلال السجن أو الأشغال العامة. وطوال السنوات الماضية كانت بعض مؤسسات الدولة تخرج عن هذا الإطار، إذ تكررت الاتهامات لمؤسسة مثل وزارة الداخلية أنها مازالت تمارس الطريقة القديمة نفسها فى التعامل مع المواطنين بالتعذيب والانتهاك الجسدى، لماذا؟ لا إجابة عن السؤال سوى أن هناك مؤسسات فى الدولة لم تدرك بعد أنها مؤسسة حديثة، وليست إقطاعيا أو سيدا على قرية يجلد من يخالفه.
ومؤخرا تكررت حوادث فى أعقاب الضعف الأمنى الذى ساد فى أثناء الفترة الانتقالية الماضية بعد الثورة، كأن نجد عقوبات بدنية متعسفة ضد بلطجية، يخرج فيها أهالى القرية ليمارسوا الحرق والتعذيب والتمثيل بجثث هؤلاء البلطجية، وكأن لسان حال هؤلاء الأهالى يقول: إن كان الأمن قد لجأ فى فترة سابقة إلى العقوبة البدنية داخل مقراته، فنحن قادرون على المهمة نفسها، وفى العلن. وهنا يشرح ميشيل فوكو من خلال الكتاب السابق أسباب ممارسة انتهاك الجسد فى التعذيب، مختصرا ذلك فى عبارة واحدة: «التعذيب لا يعيد العدالة إلى نصابها، بل يقوى السلطة». وهنا يصبح الخيار إما مؤسسة حديثة وعقوبات عادلة على الجميع، أو عقوبات بدنية قديمة على رأسها التعذيب والحرق، ووقتها لن تستطيع المؤسسات الأمنية أن تنافس قدرات الأهالى فى تطبيق العقوبات البدنية.
هذا المواطن البائس الذى يفتقد ابتسامة الصباح، أحيانا ما يضطر إلى المرور بإشغالات على الطريق تنتهك حقه فى السير بحــُرية، وفى هذه الجزئية تحديدا تتضح أكثر العلاقة بين المساحة المتاحة لأجساد المواطنين داخل المدينة، ومدى اتساعها أو تقلصها، بحالة مؤسسات الدولة ورؤيتها للمواطنين وحقوقهم فى الحركة والعمل.
فى فترة ما قبل الثورة كانت حملات رجال (البلدية) خلف الباعة الجائلين أشبه بإجراءات «رمزية» تفرض هيبة مؤسسات الدولة، حين يفر الباعة ببدنهم لساعات قليلة ثم يعودون كما كانوا قبلها تماما، أما (الحكومة) فتحمل غنائمها وأسلاب تلك المعركة الوهمية... والواقع الآن بعد ضعف الأداء الحكومى، أثناء الفترة الانتقالية الماضية، كان قرارا واضحا أعلنه الباعة عمليا، بعد أن غزوا مساحات واسعة من الشوارع فى مصر، رافعين شعار: نريد استباحة دائمة للشارع، وليست استباحة مؤقتة. هذا هو الصراع الدائر الآن، ولا تختلف الأوضاع كثيرا فى حالة البناء المخالف الذى يقدره مسئولون حكوميون بمئات الآلاف من المخالفات. قبل الثورة كان ذلك الحضور الرمزى لأجهزة الدولة يخفى حالة من التراخى والفساد الإدارى أوجدت مدنا كاملة قامت على المخالفة للقانون واستباحة أراضى الدولة والأراضى الخاصة. وهنا يتجلى نفس المنطق مرة أخرى من وجهة نظر المخالفين الذين لم يعودوا يطيقون ذلك الحضور الرمزى لمؤسسات الدولة، فيتكرر الموقف، باحثين عن استباحة دائمة وتقنين للأوضاع بدلا من التعامل القديم مع جهاز إدارى هش، والبذل من أجل موظف مرتش يصمت بالمال أو متخاذل لا يتحرك من مكتبه.
تلك الحالة من السعى لفرض قواعد الاستباحة، لم تعد تتجلى فقط فى الخروج على فكرة المؤسسة واستخدام أساليب قديمة مثل: التعذيب والعنف الجسدى، أو البيع والشراء فى الشارع والتضييق على حركة المواطنين فى الطريق العام، بل هو نمط تفكير امتد لأن يستبيح فى مرة أجساد الفتيات، وفى مرة مبنى حكومى وفى مرة ثالثة سفارة دولة أجنبية.

Sunday, September 23, 2012

الصراع على الأرض .. حقنا في المدينة

الدويقة ترفع شعار : احذروا غضب مــن ضاع حقه

عبدالرحمن مصطفى:
الأجواء هادئة داخل مكتب التسكين الرئيسى فى مدينة النهضة، مواطن يدفع المبلغ الشهرى لمحافظة القاهرة، وموظفون محاطون بالملفات والدفاتر، «اذهب إلى مكتب تسكين 3، هو الذى كان يتعامل مع متضررى المناطق المهددة بالإنهيار..» العبارة لأحد الموظفين، أما فى مكتب تسكين 3 على بعد 200 متر تقريبا، يشير على سيد ـ مدير المكتب ـ إلى ملفات على أرفف مجاورة قائلا: «هناك قائمة انتظار طويلة، لكننا لم نعد نقوم بتسكين مناطق الدويقة أو غيرها هنا فى النهضة». لم يكن الحال كذلك قبل عامين، بل كانت قوافل السكان تأتى فى حماية الأمن المركزى بعد الإخلاء حتى يستلموا شققهم هنا فى النهضة، وفى منطقة مجاورة لمكتب التسكين تقع مساكن معروفة باسم «المحتلة» أقام فيها مجموعة من المواطنين بعيدا عن المحافظة، طامحين فى تقنين أوضاعهم. يعلق مدير التسكين بمدينة النهضة قائلا: «لو أخرجتهم السلطات من تلك المساكن المحتلة، ربما يكون هناك فرصة لأصحاب قوائم الانتظار».
تبعد المسافة بين مدينة النهضة ومنطقة الشهبة قرب مساكن الحرفيين فى الدويقة حوالى 20 كم، وعلى مشارف الدويقة، تنتقل العربات المتهالكة من طريق الأتوستراد حتى نهاية مساكن الحرفيين بسرعة بطيئة، وفى أعلى تبة جبلية تقع الشهبة، وهى مصنفة لدى الدولة على أنها ضمن المناطق غير الآمنة وتنتظر الإزالة بأكملها.
تبدأ رحلة الوصول إلى منزل الحاج أبومصطفى بطريق صاعد إلى التبة ثم المرور فى ممرات تتسع لفرد واحد، أقرب إلى سلالم حجرية صنعها السكان، وفى حجرة ضيقة هى منزله الذى لا تصله المياه، يُخرج من جيبه قرار نيابة منشأة ناصر المحرر فى نوفمبر الماضى بشأن شكوى تقدم بها أهالى «الشهبة»، وينص القرار على: «تكليف رئيس الحى باستكمال الإجراءات اللازمة، والحصر المطلوب للسكان وتحديد إذا ما كانت المنطقة تمثل تهديدا للأرواح». على جدار الغرفة رقم مدون بالطباشير وضعه مسئول حصر السكان قبل مدة طويلة، «أخذوا أوراقنا وبياناتنا ولم نحصل على شقق، وليس هناك وعود حقيقية بأى شىء..». طوال الوقت يكرر الجالسون حول أبومصطفى عبارات تحمل الغضب والاستياء: «محدش حاسس بينا»، «فى ست أسر فى بيت واحد.. يرضى ربنا ده ؟!»، «إحنا لو معانا فلوس نقعد هنا ليه؟ المستفيد الوحيد هنا البلطجية!». يتدخل حنفى محمود أكثرهم صخبا وحماسا كى يوضح: «هناك فساد تسبب فى ضياع حقوقنا». يعمل حنفى بشكل متقطع فى مجال العمارة، وتوافرت له مؤخرا فرصة التواصل مع لجنة حقوق الإنسان بمجلس الشورى لنقل معاناة أبناء تلك المنطقة، من نماذج المعاناة التى يستعرضها أن تقوم السلطات بإخلاء إحدى العشش أو البيوت المتهالكة، وتقوم بالهدم دون تعويض. ويروى قصة أخته التى تعرض بيتها المتواضع إلى تشققات بسبب تنقيب عشوائى عن آثار من قبل أحد سكان المناطق المجاورة. جاء فى دراسة بعنوان «الحماية الجنائية للحيازة» للدكتور عماد الفقى ـ المحاضر فى القانون الجنائى ـ بعض التوصيات بشأن تغليظ العقوبات المقررة لجرائم الاعتداء على الحيازة، سواء كانت الاعتداءات من الأفراد العاديين أو الموظفين العموميين، وهو هنا يجرم أيضا عملية الإخلاء القسرى على يد الأمن التى تتم فى أغلب المناطق العشوائية، وصدرت تلك الدراسة عن مركز «شفافية» للدراسات المجتمعية والتدريب الإنمائى، الذى يتابع حالة سكان الشهبة. يعلق حسين متولى، مدير المركز: «فى البداية علينا أن نشير إلى مخطط القاهرة 2050، الذى يقوم على رؤية تعتمد على الاستثمارات المستقبلية، فى المناطق العشوائية مثل مناطق ماسبيرو ورملة بولاق، وفى هذه المواقف يتحول المواطن إلى جزء من خطة لا دور له فيها، خاصة فى حالة الإخلاء، ولدينا نموذج أرض حكر أبودومة فى روض الفرج التى أزيلت للمنفعة العامة، وحتى الآن لم ننتفع كمواطنين بهذه المنطقة، إنه منطق السلطة فى التعامل مع الأهالى».
السير بحذر بين الدروب الصاعدة فى منطقة الشهبة، تكشف عن بيوت وعشش أقرب إلى مكعبات حجرية، ضربت التشققات بعض جدرانها، والجميع هنا يدبر أمره فى توفير الكهرباء أو المياه أيا كانت الوسيلة. يشير حنفى محمود من أعلى التبة الجبلية إلى مساكن سوزان مبارك بالأسفل، ويعلق حسام على الشاب الثلاثينى قائلا: «طوال السنوات الماضية كانت أمامنا هذه المساكن، ولم نفكر فى احتلالها مع من خاضوا هذه التجربة بعد الثورة، لكن أن نكتشف أنه قد سكنها من ليس لهم حق، ونحن هنا نطل عليها دون أن نسكن.. هذا ظلم». يشكك عدد من السكان فى إجراءات التسكين التى تجريها المحافظة، وفى وجود فساد حكومى يسمح لغير المستحقين أن يسجلوا أسماءهم محل سكان الشهبة، ويضربون الأمثال بحالات أخلت السلطات منازلهم، وتركتهم فى العراء، ووصل غيرهم إلى المساكن المجاورة بواسطة الحكومة.
تمثل المناطق غير الآمنة للسكن حوالى 25% من المناطق العشوائية فى القاهرة، ورغم هذه النسبة إلا أن المسئولين يصرون على ردهم المعتاد بعد كل شكوى: «ليس هناك مساكن متوافرة !».
العالم فى الشهبة صغير ومحدود، فى مناطق مجاورة هناك من هم أيسر حالا من سكان هذه التبة، وإن كانوا فى بيوت شبيهة، وفى عالم صغير كهذا تتلاقى الوجوه فى مقاهى مساكن الحرفيين المجاورة، بين العاملين فى الحى والسكان، وبين المستضعف والبلطجى، وتظل النار تحت الرماد. «لو قامت ثورة تانية، هنبقى إحنا اللى وراها، عشان ناخد حقنا من البلد». يلقى حنفى محمود عبارته، وفى الخلفية من بعيد أبراج على بعد كيلومترات لأحياء أرقى وأوفر حظا. قد تتعرض هذه المنطقة إلى انهيارات فى أى وقت وقد تتعرض بعض المساكن المتشققة إلى انهيارات قد تردم أسفلها حضانة للأطفال ومساكن أخرى، ويحتمى بعض السكان هنا بالحكومة كدرع لوجوده فى المنطقة... يقول حنفى محمود: «عرضوا علىّ أكثر من مرة أن أحصل على سكن فى أكتوبر، أو أى مكان آخر، لكن رفضت أن أترك أهلى وأهرب وحدى». المصير المحتوم هنا إما انهيار صخرى نتيجة بناء جديد أو تنقيب عشوائى، أو الانتقال إلى سكن آخر لا يعلم محله أحد حتى الآن.

***
«العشوائيات ليسـت عنوانـا واحـدًا لمشاكلنا»
  • 3 أسئلة إلى الدكتورة رباب الحسينى، أستاذ علم الاجتماع بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية حول المناطق العشوائية وطرق التعامل معها 
•إلى أى مدى يتسبب التجاور بين العشوائيات  والمناطق الأوفر حظا فى مشاكل مجتمعية وأمنية؟
 هؤلاء القاطنون فى المناطق العشوائية حاولوا حل مشكلاتهم فى السكن بطريقتهم الخاصة بعد عجز الدولة عن توفير حلولا لهم ولأسباب أخرى متعلقة بهجرة بعضهم من الريف إلى الحضر، ومن المؤكد أن هناك سؤالا يدور فى أذهانهم هو «لماذا لا أحصل على حقى مثل بقية المناطق الأفضل حالا؟»، هذا السؤال لم تترجم اجابته إلى اعتداءات من مناطق عشوائية على مناطق راقية، وذلك حسب ما تؤكده الدراسات فى السنوات الماضية، وتفسير هذا الأمر هو أن سكان المناطق العشوائية فى موقف ضعيف أمام الدولة والمجتمع، بسبب مخالفتهم القوانين فى البناء والسكن. الأمر الآخر هو أن الدراسات تكشف عن أن شريحة كبيرة من أبناء هذه المناطق هم من أبناء الطبقة الوسطى، فليس كل سكان العشوائيات فى حالة متردية اقتصاديا، ما يجعلهم غير مضطرين إلى التعدى على المناطق الراقية، لكن تبقى الخطورة فى ضعف الحالة الأمنية الحالية، وانتشار السلاح مع المواطنين دون ترخيص، وهو يجعلنا نخشى أن نرى تلك المحاولات فى المستقبل.
 • ما الضوابط المفيد فى عمليات نقل السكان فى حالات المساكن المهددة بالانهيار والعشوائية؟
 فكرة نقل السكان فى حد ذاتها ليست الحل الوحيد لأزمة العشوائيات، لأن ما يحدد هذا الأمر هو الدراسات الهندسية والعمرانية لتلك المناطق، والفيصل هنا هو سلامة السكان، كأن تتوافر ـ على سبيل المثال ـ مساحات تسمح بمرور عربات الإطفاء والأمن فى حالات الطوارئ. ويبقى أمر آخر لا يقل أهمية وهو وجوب استطلاع آراء السكان ومدى ارتباط محل سكنهم بمعيشتهم واقتصادهم، وهل بالإمكان تقنين أوضاعهم أم الأفضل إعادة توطينهم فى مناطقهم داخل مساكن أكثر تطورا.. تلك الأمور كلها يجب أن تخضع للدراسة أولا.
 • هل تبتعد خطط الدولة أحيانا عن واقع سكان المناطق العشوائية وطموحاتهم المستقبلية؟
 للأسف إحدى أكبر الأزمات التى تعانى منها هذه المناطق هو تعامل الدولة معها لفترة طويلة بمنطق أمنى، وقد بدأ هذا التوجه بعد مقتل الرئيس الراحل أنور السادات واكتشاف بؤر إرهابية فى مناطق ذات طابع عشوائى. الأمر الآخر الذى يعانى منه سكان هذه المناطق هو وصمها بأنها أوكار للجريمة، ما يجعلها عرضة للتعسف الحكومى، علما بأن الدراسات الجنائية تكشف عن واقع آخر، فعلى سبيل المثال هناك تواجد لتجارة المخدرات فى مناطق أوفر حظا ولا يتم وصمها مثلما هو الحال مع العشوائيات. ما أراه هنا هو أن الدور الحكومى ضعيف بشكل عام، وليس ذلك عن نقص فى الاموال أو القدرة على توفير بدائل، فهناك جهاز متخصص مثل صندوق تطوير العشوائيات أنشئ خصيصا للتعامل مع هذه القضية، لكن ما هى إنجازاته حتى الآن؟ الأزمة هنا فى الإدارة والإرادة معا.
***
       الخصوص وأبوحشيش: الاسم عشوائيات والقصة مختلفة
  • حكاية قرية زراعية تحولت إلى مدينة غير مخططة..وسيرة عزبة فى قلب العاصمة
  تبعد المسافة بين مدينة «الخصوص» شمال شرق القاهرة وعزبة أبوحشيش فى وسط العاصمة حوالى 11 كم، وكلاهما مصنف ضمن المناطق ذات التخطيط العشوائى، لكن ما يعيشه محمد شحاتة المحاسب الشاب فى مدينة الخصوص مختلف تماما عما يعيشه الشيخ محمد سيد أحد قدامى سكان عزبة أبوحشيش.
 قبل أكثر من 15 سنة كان بإمكان المحاسب الشاب محمد شحاتة أن يرى من شرفة منزله فى قرية «الخصوص» القديمة مساحات واسعة من المزارع الخضراء تنتهى بعيدا، قرب ترعة الإسماعيلية على بعد مئات الأمتار. هذا الواقع تغير اليوم إلى مساحات مزروعة بمبان سكنية تتراوح ارتفاعاتها بين 6 إلى 12 طابق، «يمكن للساكن فى شقته أن يسمع تفاصيل حياة جاره فى العمارة المقابلة بسبب ضيق الشوارع، عمارات سكنية مقبولة المظهر، لكنها بنيت فى فوضى وعلى غفلة أحيانا من الدولة أو بتواطؤ من موظفيها فى أحيان أخرى»، يصف محمد شحاتة الذى يعمل فى مجلس مدينة الخصوص ذلك المشهد أثناء عبوره إلى منزله فى شارع البنزينة (داير الناحية سابقا) حيث مازالت هناك بعض ملامح القرية البائدة فى بعض المساكن القديمة. ذلك التطور النهائى لمدينة الخصوص يشبه قصة أكثر من 70% من العشوائيات فى مصر المقامة على أراض زراعية، حسب أرقام المركز الوطنى لتخطيط استخدامات أراضى الدولة. أما فى عزبة أبوحشيش بحى حدائق القبة فالواقع يحمل تطورا آخر أكثر اختلافا، حيث يلاحظ المارة هناك أزمة فى المرور من أمام مدخل العزبة الرئيسى ناحية شارع بورسعيد فى غمرة بسبب تضخم تجارة الروبابيكيا والخردة على أطرافها، وأغلب العاملين فيها من المهاجرين حديثا خاصة من محافظة الفيوم، وهو ما يصيب شخصا مثل الشيخ محمد، الذى عاش فى العزبة منذ ميلاده قبل 57 سنة، بحالة من الغضب. «كان أهلنا فى الماضى من سكان العزبة يعملون فى المصانع المجاورة التى أغلق معظمها الآن، ومنذ سنوات طويلة هناك حديث لا ينتهى عن إزالة المنطقة، لكن لم يحدث شيئا».
 قد تتشابه بعض المشكلات بين منطقة قديمة مثل أبوحشيش ومنطقة أخرى مثل الخصوص فى مشهد برك المجارى والتكدس السكانى، لكن الصورة لا تتطابق أبدا، إذ تظل الأحداث أكثر كثافة فى أبوحشيش لصغر مساحتها (حوالى 20 فدان) فى مقابل (1200 فدان) هى مساحة الخصوص منها (1000 فدان) من البناء العشوائى، وبينما ظلت أبوحشيش منسية من محاولات التغيير الجذرى، تضخمت الخصوص حتى تحولت من قرية إلى مدينة فى العام 2006. «تنتمى جذور عائلتى إلى العتامنة فى مركز طما بمحافظة سوهاج، وهذه الناحية من عزبة أبوحشيش كانت معروفة بهم، وفى مدينة الخصوص هناك مساحات أيضا قطنها العتامنة أبناء عمومتى حين بدأ العمران هناك». تلك المفارقة يذكرها الشيخ محمد صاحب الحضور فى عزبة أبوحشيش حين يطرح اسم مدينة الخصوص أمامه كبديل سكنى، كثير من سكان عزبة أبوحشيش الذين يقدرون بـ120ألف نسمة ـ حسب آخر إحصاء حكومى ـ ليس لديهم القدرة المالية للانتفال إلى شقة أخرى فى مناطق من نوعية الخصوص أو غيرها، إذ تتكرر عبارات على ألسنة الشباب الجالس فى المنطقة مثل: «إن كان هناك من يستطيع مساندة المنطقة فى تطويرها أو دعم سكانها فعليه ألا يتأخر». تقع عزبة أبوحشيش على خطة الدولة فى مشروع القاهرة 2050 ومصنفة ضمن المناطق غير الآمنة، وقبل سنوات أجرى حصر للسكان، وكانت هناك وعود بأن يتم تطوير المنطقة وتسليم شقق جديدة للمتضررين أو تعويض مالى. «قمنا بمبادرة أن نقيم أكشاكا وسوقا بديلا ناحية السكة الحديد لتجار البيكيا والخردة، لكن لم يتجاوب معنا أحد من الحكومة، ولم يتحمس كثير من السكان». الجملة للشيخ محمد الذى وصل إلى قناعة مفادها أن المنطقة بأسرها فى حاجة إلى قرار حكومى واضح، يشرح ذلك: «قد لا يتفق أغلب المالكين هنا فى العزبة مع وجهة نظرى فى التعاون مع أى محاولة تطوير أو إزالة، لأنهم يريدون الاستفادة من مساكنهم وإعادة بناءها، أما حل الإزالة والنقل هو الأنسب للمستأجرين أو السكان الأكثر بؤسا.. أنا عن نفسى ورغم أننى مالك سأحشد للقرار الصائب للعزبة حتى إن كان فيه قرار بإزالة منزلى القديم.. المهم الصالح العام». يتم هذا الحديث الآن فى خلفية واقع جديد فى عزبة أبوحشيش بعد الثورة، وهو ازدياد موجة بناء العمارات الجديدة بعد هدم المساكن القديمة المتهالكة. ورغم ضعف هذه الموجة لكنها قد تعيق أى تطوير مستقبلى، إذ بنيت عمارات يتجاوز بعضها العشرة طوابق، كذلك فإن بعض رجال الحزب الوطنى السابق كانوا يتعاملون مع المنطقة على أنها كتلة تصويتية يمكن الضغط عليها فى المواسم الانتخابية، لذا تم تكريس الوضع على ما هو عليه.
هذا الواقع مختلف تماما عن منطقة مثل الخصوص، فمشاكلها أضخم وفى حاجة إلى تطوير يتناسب مع عدد سكانها الذى تجاوز المليون مواطن. يصف الوضع محمد شحاتة، الذى كان ممثلا لحملة أبوالفتوح فى الخصوص قبل أشهر، قائلا: «حركة بيع وتقسيم الأراضى أوجدت مجالا جديدا للعمل، وكذلك اعتمدت على حالة الفساد فى الفترة الماضية، وبعد الثورة أصبح هناك نوعا من التمادى فى تعلية الطوابق السكنية.. الجميع يتعامل بسياسة الأمر الواقع، وهو أمر مخيف إذا ما أردنا إزالة مخالفة أو تطوير للمنطقة».
موقف الوافدين حديثا على المنطقتين سواء عزبة أبوحشيش أو القرية العملاقة «الخصوص» هو ضعف المشاركة المجتمعية. فى أبوحشيش يعمل أغلبهم فى تجارة الخردة، تاركين المسؤولية الاجتماعية لأهالى العزبة الأصليين، وفى الخصوص رغم اتساع مساحات السكن، إلا أن الأجواء العائلية ما زالت ذات حضور هناك. ورغم ما تعانى منه الخصوص من وصم بسبب أزمة التعامل مع القمامة والصرف الصحى ومشكلة المياه، لكنها لم تتعرض للوصم الذى تعرضت له عزبة أبوحشيش فى حملات إعلامية تناولت العشوائيات من موقف يعتبر سكان عزبة أبوحشيش بؤرة إجرامية. هناك قد تجد شابا مصابا بقنبلة «المونة» فى يده أثناء شجار، أو آخر مصاب بخرطوش عرضا بسبب نزاعات بين التجار ناحية الشارع الرئيسى، ويدافع أحد الشباب عن ذلك قائلا: «أى منطقة شعبية كده.. احنا ماختلفناش كتير». يعلق الشيخ محمد موضحا: «تجار المخدرات هنا معروفين لدى الأمن، وليسوا شريحة واسعة كما يدعى الإعلام، اسم المنطقة ليس له صلة بالمخدرات، لكن اسم إحدى العائلات القديمة هنا.. كل ما نطلبه هو أن تنصت الحكومة لمبادراتنا، فنحن أدرى بشئون عزبتنا».
 PDF