Thursday, November 1, 2012

الخواتم تخفي أسرارها

 
عبدالرحمن مصطفى-مصر
في سوق الصاغة بحي الجمالية العتيق، يجلس صاحب المتجر مبرزاً أصابعه التي تحيط بها عدة خواتم فضية، تبدو أصابعه جزءاً من واجهة العرض؛ فهناك نسخ أخرى من خواتمه الشخصية في الواجهة الزجاجية للمتجر ضمن عشرات الخواتم المتنوعة، يشرح سر اختياره تلك التصميمات قائلاً: «يأتيني أحد التجار بتشكيلة من النماذج المتنوعة، وأختار أكثرها رواجاً لدى الزبائن». ليس لديه الكثير من المعلومات عن نقوش الخواتم أو غيرها من الحلي الفضية التي يعج بها متجره، يراها جميعاً «اجتهادات من مصممي الحلي».

تقع ورش صناعة الحلي داخل حارة الصالحية المجاورة على بعد أمتار من هذا المتجر، وفي أعلى الطابق الثاني من إحدى البنايات يجلس محمد خليل الصائغ المخضرم في حي الجمالية محاطاً بكثير من الحلي، بدأ حديثه موضحاً منهجه في العمل: «مهمتي إعطاء الوجه المصري للحلي الفضية، أي أنني آخذ شكل القالب المتعارف عليه عالمياً، ثم أضفي عليه نقوشاً مصرية خاصة». على أي أساس يختار نقوشه ؟ يحتاج الأمر إلى كثير من المحاولات لتشجيعه على الإفصاح بما لديه من أسرار الخواتم المنثورة أمامه. «يمكننا اعتبار الخاتم ملكاً على الحلي المختلفة، فهو الأبرز دائماً في الأيدي، ويحمل عدة وظائف قديمة، منها التبرك، وصيانة الصحة باستخدام أحجار معينة في فص الخاتم، ووظائف سحرية أخرى، لكن كل ذلك انحصر الآن في مهمة تكاد تكون الوحيدة، وهي طقس الزواج». تشرح ﺍﻟﺩﻜﺘﻭﺭﺓ ﺴﻌﺎﺩ ﻋﺜﻤﺎﻥ، ﺃﺴﺘﺎﺫ علم الاجتماع ﺒﻜﻠﻴﺔ ﺍﻟﺒﻨـﺎﺕ، جامعة ﻋﻴﻥ ﺸﻤﺱ، موقع الخاتم في ثقافة استخدام الحلي في مصر. ورغم هذا الرأي إلا أن الكتابات البحثية المهتمة بالحلي تتناول سيرة الخواتم في مساحات لا تقدمه كملك على الحلي مثلما هو متوقع، بل إن كثيراً من التجار لا يحملون معلومات كافية عن «موتيفات الخواتم» وصلتها بالموروث الثقافي المصري، وحسب أحاديثهم فإن إقبال الشباب على الإكسسوارات يرتبط بشكل عام بنجوم الغناء، بدءاً من سبحة تطوق عنق عمرو دياب، أو أخرى تحيط بمعصم محمد منير، أما الخواتم فإن قواعد السوق تجعل أكثرها بساطة هي أكثرها رواجاً، أما الفتيات فالأمر مختلف، إذ كانت المرأة قديماً تتزين ببعض الإكسسوارات لأهداف مختلفة مثل تعليق حجاب فضي (تميمة سحرية) على رأسها طلباً للشفاء، أما فتيات اليوم فتتجه بعضهن لشراء خواتم ذات استخدامات أخرى، حين يتحول فص الخاتم إلى وسيلة لطمأنة النفس والروح، وأحياناً ما ترتبط اختياراتهن بـأبراجهن الفلكية، أياً كان الحجر المستخدم مثل: العقيق، الياقوت، الزمرد، الفيروز..إلخ.

في ورشة صناعة الحلي يعمل الصنّاع بدأب شديد على تصميمات جاهزة، وأحياناً ما تكون بناء على طلب الزبون، وهو ما يوضحه صائغ الفضة محمد خليل قائلاً: «يأتيني أحدهم طالباً خاتماً فضياً منقوشاً بعبارة خاتم النبي: محمد.. رسول.. الله. في هذه الحالات أنقشه خصيصاً له، رغم أن ذلك ليس منتجاً أقدمه كل يوم». ليس لدى كل صائغي المجوهرات ذلك الوعي بخلفيات النقوش والرسوم المتواجدة على الخواتم والحلي، إذ يحتفظ محمد خليل بحلي تعود إلى أكثر من قرن مضى، «تلك النقوش تلهمنا في إبداع أفكار مختلفة، وهنا يتسلل الموروث الثقافي رويداً رويداً إلى خواتم حديثة الصنع، وبالتأكيد فإن الوظائف السحرية القديمة قد تضاءل الوعي بها تماماً، وانحسرت، وحتى ما أحتفظ به من حلي ريفية أو قاهرية قديمة أستعير منها النقوش فقط، ورغم علمي بمغزى بعض تلك النقوش القديمة بحكم القراءة والاهتمام، فإن أغلب الزبائن لن يعرفوا ذلك». حدثت نقلة في أشكال الحلي وعلى رأسها الخاتم منذ سنوات طويلة، إذ كان التركيز وقتها على استعارة النقوش المصرية القديمة، ثم ظهر تأثير الفن الإسلامي بعدها، وكذلك الطابع المصري الشعبي مؤخراً، ويتم ذلك باجتهاد من بعض المصممين الكبار في عالم الذهب والفضة.

على مسافة غير بعيدة من حارة الصالحية، يقع الأرشيف القومي للمأثورات الشعبية، في بيت الخرزاتي المجاور لبيت السحيمي الشهير بالجمالية، وأمام جهاز للكمبيوتر تجلس الباحثة نورهان فوزي بادئة حديثها: «البحث عن الموروث الثقافي الذي يتناقله صناع الصاغة في ورش الجمالية المجاورة أشبه بالبحث عن إبرة في كوم قش، لم يعد هناك ذلك الوعي..». تفتح فيديو سجلته إحدى جامعات التراث لأحد المتصوفة وهو يتحدث عن سر خواتمه الكثيرة في يده، أحد تلك الخواتم يحمل نقشاً يقول: العاطي الوهاب، وآخر يحمل حجر الزمرد، ولديه آخر يحمل فصاً من العقيق، زاعماً أن تلك الفصوص تؤثر بالإيجاب على الحالة النفسية. ومنذ العهد المصري القديم كانت تلك الاستخدامات مطروحة إذ كان خاتم الجعران جالباً للحظ والفأل الحسن، ومن أشهر تلك الأنواع المرتبطة بطقوس خاصة، «خاتم الزار»، الذي ارتبط بعادة الزار، حيث يرتديه من يرغب في العلاج من المس أثناء الرقص العنيف على الموسيقى الصاخبة، مع خاتم آخر اسمه خاتم العبد، وثالث اسمه خاتم بجلاجل، وبعض الصناع في الريف المصري- حيث بقايا لطقوس الزار- لا يدركون تفاصيل الاستخدام، حسبما يوضح أحدهم في فيديو آخر داخل الأرشيف القومي للمأثورات الشعبية، وتعلق الباحثة سونيا ولي الدين «إن ما رصدته في عالم الحلي يشير إلى أن البيئات البكر ما زالت محتفظة بأفكارها عن الحلي»، توضح ذلك: «جلست في حلايب وشلاتين أتابع الصائغ هناك وهو يصنع خواتم عليها نقوش أقرب إلى تمائم لحفظ صاحبها، وكل قبيلة لها رموزها». في دراسة لها تحت عنوان: الحلي وأدوات الزينة عند نساء جنوب مصر، ترصد خواتم متعلقة بالزار، على رأسها خاتم مختوم من أعلى وفي رمزية، وكأنه مغلق على الجن الشرير. هذه الطقوس تنسحب اليوم أمام طابع جديد يغلف المجتمع المصري، تعلو فيه روح الأصولية الدينية، التي ترفض الشكل الطقوسي خارج الشعائر الإسلامية المعروفة، وهو ما يجعلها نماذج فنية خارج إطار التداول الشعبي. تعلق ﺍﻟﺩﻜﺘﻭﺭﺓ ﺴﻌﺎﺩ ﻋﺜﻤﺎﻥ، ﺃﺴﺘﺎﺫ علم الاجتماع موضحة: «لا شك أن ظروف المجتمع تفرض أحكامها على صناع الحلي بشكل عام، لكن الأمل باق في عودة الموروث الثقافي إلى الساحة، فهذا أمر معتاد في الدراسات الشعبية، حين تختفي طقوس لفترة ثم تعود في ظروف أخرى بعد إحيائها، والفيصل هنا هو درجة الوعي بالموروث الثقافي ومدى القدرة على إتاحته أمام الصناع».

No comments:

Post a Comment