Thursday, December 15, 2016

الأسد ينفض غبار المعركة.. والمصير الغامض يهدد المستقبل بعد «تحرير حلب»

كتب - عبد الرحمن مصطفى

 خرج الرئيس السوري بشار الأسد، من وسط غبار معركة حلب ليلقي كلمة مصورة بدا فيها مبتسما، وأكثر هدوءا عن ذي قبل، واصفا “انتصار” القوات السورية على الفصائل المعارضة باللحظة التاريخية التي سيتوقف عندها الزمن ليدخل التاريخ «مرحلة ما بعد تحرير حلب»، بحسب وصفه.

تزامن بث فيديو الأسد عبر حساب الرئاسة السورية على تويتر مع عملية إجلاء آلاف المدنيين والمقاتلين من آخر معقل للمعارضة في حلب بعد اتفاق جرى لوقف إطلاق النار.

حلب

 

“ما يحدث اليوم هو كتابة تاريخ يكتبه كل مواطن سوري، لم تبدأ كتابته اليوم، بل بدأت من نحو 6 سنوات عندما بدأت الأزمة والحرب على سوريا”. هذه الكلمات الوائقة من الرئيس السوري، أخفت وضعا بائسا عاشته المدينة مؤخرا، دفعت لجنة تحقيق في جرائم الحرب تابعة للأمم المتحدة، أمس الأربعاء، إلى تحميل الحكومة السورية مسؤولية أساسية كي تمنع أي هجمات أو انتهاكات ضد حقوق الإنسان في حلب من قبل جنودها أو القوات المتحالفة معها. وهي الممارسات التي وصفتها الأمم المتحدة من قبل بأنها “تمثل على الأرجح جرائم حرب”.

انشغل الرئيس السوري بالنصر، وقال في ظهوره الأخير “أعتقد بعد تحرير حلب، سيقول التاريخ، لا السوري ولا الإقليمي فحسب، بل الدولي أيضا: قبل تحرير حلب وبعد تحرير حلب، كما قال من قبل مرحلة ما قبل سقوط الاتحاد السوفييتي، وبين الحربين العالميين”.

وفي جزء من حديثه عن تأثير نتائج معركة حلب على توازنات القوى في المستقبل، كثير من الصحة، إذ لن يحصد الأسد وحده غنائم الحرب، بقدر ما سيشاركه فيها حلفاء آخرون على رأسهم روسيا الاتحادية التي دعمت بشكل قوي القوات الحكومية، مع اتخاذ تدابير دبلوماسية تضمن تحقيق هذا النصر.


ويطرح ظهور بشار الأسد اليوم سؤالا حول حقيقة هذا “النصر”، في وقت أدان فيه المجتمع الدولي انتهاكات جرت ضد المدنيين في حلب، وأكدت فيه دول غربية كبرى، قبل أسبوع، أنه لن تكون هناك أي حصانة للأفراد المتورطين في جرائم حرب. داعين الأمم المتحدة لجمع الأدلة للمساعدة في مثول الأفراد أمام العدالة.

كذلك بدا موقف الرئيس السوري معزولا أمام الدبلوماسية العربية، إذ نددت دول  في اجتماع طارئ لجامعة الدول العربية، اليوم الخميس، باعتداءات جرت على مدنيين أثناء فرارهم من حلب.

وقال أحمد قطان مندوب السعودية أمام الاجتماع الذي عقد في القاهرة “نجتمع اليوم ونحن نشاهد بأعيننا حجم الدمار الهائل الذي أحدثه النظام السوري وحلفه، (…)، بل أمعنوا واستمروا في قتل الشعب السوري الشقيق بوحشية وبدون أي وازع ديني أو ضمير إنساني”.


حلب

أما جمعة مبارك الجنيبي، مندوب دولة الإمارات الدائم لدى الجامعة العربية، فقال “لا يمكن القول بأن قوات النظام السوري حققت انتصارا بتطهير بلد من سكانه بهذه الطريقة الوحشية، كما أنه لا يمكن تصور هذا الضعف الذي يعاني منه المجتمع الدولي بصمته على تلك الجرائم الإنسانية وجرائم الحرب التي ترتكب يوميا هناك”.

سيواجه الرئيس السوري في المستقبل أزمة مع الانتهاكات التي جرت في مدينة حلب من أجل تحقيق ذلك “النصر”. كما يبقى أمامه أزمة في آلاف النازحين من حلب، وحالة الطوارئ التي دفعت الأمم المتحدة لتجهيز خطط طوارئ لاستقبال 100 ألف شخص في إدلب.

قد تبدو ملامح الرئيس السوري الواثقة في فيديو اليوم، أكثر تعبيرا عن النصر، لكنها قد لا تستمر على هذا المنوال في المستقبل، بعد أن تظهر نتائج أخرى أغفلها بشار الأسد من حساباته. ما يطرح بدوره تساؤلا عن المصير الغامض الذي يهدد مستقبل الأسد  بعد «تحرير حلب»، وهو ما ستكشف عنه مجريات الأحداث خلال الفترة الضبابية المقبلة  في تاريخ البلاد.

Wednesday, May 25, 2016

الصحافة السردية.. روح المحقق وقلم الروائي

 


عبدالرحمن مصطفى

وسط الركام الذي يحيط بنا بين عناوين مختصرة وتغطيات إخبارية كثيفة، تظل هناك حاجة لنوع من الكتابات يأخذنا بلغة رشيقة ومشوقة إلى تفاصيل أكثر وتفسيرات جديدة، حتى لو امتدت الكتابة عبر آلاف الكلمات للموضوع الواحد. هذا ما تقدمه "الصحافة السردية" كعنوان لتلك المساحة الجذابة التي يصعب الاستغناء عنها.

يمكن تعريف الصحافة السردية بأنها استخدام تقنيات الأدب القصصي لعرض المادة الصحفية المطولة، مع الالتزام بالعمق والدقة. وذلك استنادا لتعريف مؤسسة نيمان الداعمة للصحافة السردية.

تأتي البداية في ستينات القرن الماضي حين ظهرت ملامح تيار جديد في الكتابة الصحفية بين مجموعة من الشباب، اعتمدوا على العمل الميداني الشاق، وجمع المعلومات باحترافية ليصيغونها بشكل احترافي مشوق، وكرسوا فنا جديدا يقدم الحقائق بشكل إبداعي لا يعتمد على خيال المؤلف.

في عقد السبعينات، ظهر استخدام مصطلح "الصحافة الجديدة" في مقال للصحفي الأمريكي توم وولف ليعبرعن الصحافة السردية التي تستعين في إنتاجها بأدوات الأدب.

كيف تستعين الصحافة بأدوات الأدب؟ تجيب ماري فانوست الباحثة بالجامعة الكاثوليكية في لوفان ببلجيكا قائلة ضمن ورقة بحثية، إن الصحافة السردية تستعين بأدوات محسوبة على الأدب والإبداع، مثل استخدام الحبكة، والتشويق، والوصف، والصراعات، والشخصيات الدرامية، والحل.

هذه الأدوات ليست طارئة على لغة الكتاب والصحفيين، بل يميل الباحثون إلى التفتيش في جذور أقدم في العلاقة بين الأدب والصحافة تعود إلى القرن التاسع عشر، لكن تلك العلاقة ازداد تطورها مؤخرا، حتى شهد العام الماضي  انتصارا حقيقيا لمسيرة الصحفيين العاملين في الصحافة السردية، حين حصلت سفيتلانا ألكسيفيتش على جائزة نوبل للآداب. فهي صحفية من بيلاروسيا، احترفت الكتابة عن الجانب الإنساني من الأحداث الكبرى، مثل الحرب العالمية الثانية، وحرب الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، وكارثة انفجار المفاعل النووي "تشير نوبل"، إذ نقلت شهادات من حضروا تلك الأحداث، لترويها بأسلوب أدبي شيق، فتكتمل أمام القارئ صورة هذه الأحداث الكبرى. أو على حد تعبير الأمينة العامة للأكاديمية السويدية، عند الاعلان عن فوز سفيتلانا ألكسيفيتش: "في السنوات الثلاثين إلى الأربعين الأخيرة أجرت (سفيتلانا) مسحا للإنسان خلال المرحلة السوفييتية وما بعد هذه المرحلة. لكن الامر لا يتعلق بأحداث، بل بمشاعر".

تلك التفاصيل عن علاقة الصحافة بالأدب وما تنتجه الصحافة السردية قد تصنع تشوشا لدى القارئ، فما الخيط الفاصل بين الحقيقة والخيال؟ هذا السؤال عالجه قبل سنوات روي بيتر كلارك نائب رئيس معهد بوينتر للدراسات الإعلامية، ووجد الإجابة في عبارة بسيطة وبديهية، قائلا "على الصحفيين أن يكتبوا الحقيقة"، في إشارة إلى أن السرد هو أسلوب تقديم الحقائق التي توصل إليها الصحفي.

وفي صحف مثل نيويورك تايمز، نيويوركر، وأتلانتيك، أصبحت هناك مساحات واسعة لهذا النوع من الصحافة، الذي أصبح من المتعارف أنه لا يقل عن 1500 كلمة في الموضوع الواحد. بينما تتنوع الموضوعات لتغطي اهتمامات وقوالب مختلفة، مثل: الحوار، والسفر والرحلات، والتحقيقات الاستقصائية، والسيرة الذاتية، والعلوم، وغيرها من الموضوعات. وهنا تظهر الصحافة السردية كأداة وتقنية في الكتابة تستطيع التعامل مع كافة تلك التصنيفات. حيث يفيد القالب الروائي- والملحمي أحيانا- الذي تقدمه الصحافة السردية وأسلوبها الدرامي القصصي في تقديم صورة شاملة عن موضوعات تحمل جهدا بحثيا واستقصائيا كبيرا.

ومن خلال ما يقدمه محترفو الصحافة السردية من نصائح وإرشادات، تتضح ملامح هذا النوع من الصحافة بشكل أكبر. على سبيل المثال سجل المدرب ألبرتو سالسيدو راموس على موقع شبكة الصحفيين الدوليين "5 ملاحظات من أجل صحافة سردية أفضل" يمكن تلخيصها في: "الاستعانة بجهد استقصائي كبير قبل الكتابة- البداية القوية للموضوع – الالتزام بالحقائق- ألا يفرط الصحفي في إقحام نفسه داخل النص – التطوير الدائم لمهارات الكتابة".

أما الكاتبة الأمريكية كونستانس هال، التي قضت أكثر من 20 سنة في عالم الصحافة السردية، وقامت بالتدريس في جامعة هارفارد، فأوصت ببعض التقنيات المهمة التي لا يمكن الاستغناء عنها بسهولة.

منها: رسم مشاهد للقارئ أثناء الكتابة، وإحياء شخصيات الموضوع وإبراز ملامحها، والاعتماد على الحبكة، والتناقضات، والتشويق، والاهتمام بالصراعات الدرامية.

كم عدد الكلمات المطلوبة؟ المساحة مفتوحة حسب كم التفاصيل المشوقة، فقد نجد صحيفة مثل نيويورك تايمز تفرد مساحة لتحقيق يتجاوز 28 ألف كلمة على خمس حلقات، تنقلنا فيه الصحفية أندريا إليوت، تحت عنوان "الطفل الخفي" إلى عالم أطفال الشوارع، وهو ما استثمرته في إصدار كتاب عن القضية نفسها.

هذا التطور في مسار الصحافة السردية لم يمنع انتقادات متكررة عن وقوع بعض الصحفيين في فخ الانحياز للشخصيات أو القضايا التي يكتبون عنها، بسبب الهالة التي تضفيها الكتابة على شخصيات الموضوع، وهو ما جعل بعض الصحفيين يطلقون تحذيرات من الاهتمام بالسرد على حساب العمل الصحفي، على سبيل المثال، أطلق جيم جيراثي أحد الكتاب المحافظين الأمريكيين صرخة في مقال منشور بمجلة "ناشيونال ريفيو" تحت عنوان: "ماذا لو كانت الصحافة السردية في الإعلام مضرة لقضاياها؟" مستندا في ذلك إلى حادث شهير قتل فيه شاب أسود على يد رجل شرطة أمريكي، واتهم الكاتب الصحافة السردية بأنها وجهت الرأي العام نحو فرضية أن الحادث ناتج عن أسباب عنصرية، وحين لم تقتنع بذلك هيئة المحلفين، وقعت بلبلة لدى جمهور القراء.

الكثير من الأمثلة والتعليقات تؤكد على أهمية الجهد الصحفي وجمع المعلومات، ومن أهم ما قيل حول ذلك هو ما ذكره جاي تاليس الصحفي الأمريكي، الذي يعتبره البعض "الأب الروحي" للصحافة السردية، وهو كاتب البروفايل الأشهر عن المطرب الراحل فرانك سيناترا. إذ جمع خبرته في عبارات محددة كتبها عام 1970 بقوله: إن الصحافة السردية ليست خيالا، لكنها تُقرأ وكأنها إبداع، تعتمد على الحقائق دون غيرها. ويوصي الكاتب المخضرم الذي يتجاوز الآن عامه الرابع والثمانين بأهمية امتلاك الأدوات الصحفية، ولعب دور المخبر للوصول إلى حقائق ينسجها الصحفي بأسلوب شيق.

Sunday, May 8, 2016

الصحفيون والداخلية: مَن يقصف جبهة اﻵخر؟

تحركتُ يوم الأربعاء الماضي من أمام مبنى نقابة الصحفيين في وسط القاهرة، تاركًا خلفي طاقة إيجابية ملأت محيط النقابة، رغم الحصار المحكم لآلاف الصحفيين من رجال الأمن و”المواطنين الشرفاء”. انتهت الجمعية العمومية الطارئة للصحفيين وسط الهتافات والابتسامات والرضا، لكن بمجرد عبوري الجهة الأخرى من الطريق، استوقفني أحد المارة ليسأل عن وقوع اشتباكات بين الصحفيين والأمن، وحين أجبته بالنفي، استطرد: “ما هو ده إعلام (…) يعني هما عايزين إيه يعني؟”

تنتزعك مثل تلك المواقف البائسة من نشوة التفاؤل دون مقدمات، حين تفاجأ بأن ما تعتقد أنه معلوم بالضرورة، لا يعلمه كثيرون. وبعد توالي الأيام على صدور قرارات الجمعية العمومية الأخيرة، اتضح أن داخل الصحفيين أنفسهم، من لا يتبنى هذه القرارات بأكملها، بل إن النقابة نفسها تراجعت عن حماسها الذي ظهر في بياناتها النارية الأولى.


هذا المقال ليس عن هؤلاء الذين يفسدون لحظاتنا السعيدة، ويقطعون نشوتنا ويجهضون النجاحات الصغيرة التي نحققها، ولا عن المواطن التائه بين مبررات الأمن لاقتحام مقر نقابة الصحفيين للقبض على صحفيين مطلوب ضبطهما، وغضب الصحفيين لانتهاك “كرامتهم”.

فالسؤال الصادر بسلامة نية أحيانًا: “هي إيه القصة بالظبط؟”، لا بد أن يدرك الصحفيون أهميته، أن يحددوا إجابات شافية له، تجذب الرأي العام لقضيتهم التي تتجاوز واقعة اقتحام النقابة.

كان هذا سؤالًا ساذجًا، ويتلوه آخر بديهي: “لماذا احتشد آلاف الصحفيين هكذا داخل نقابتهم؟” حين يبحث القارئ العادي عن الإجابة، قد يُفاجأ بعبارات بليغة، من نوعية: “احتشد الصحفيون رفضًا للممارسات الأمنية الغاشمة”، أو “اجتمع الصحفيون دفاعًا عن كرامة المهنة”، أو”عقد الصحفيون جمعية عمومية حفاظًا على قدسية قلعة الحريات”، وكلها إجابات مُرضية جدًا وتعبر عن جزء كبير من الحقيقة. لكن، ونحن الآن في العصر الذي يردد فيه “إعلاميون” قصصًا عن مؤامرات الجيل الرابع والخامس من الحروب، ويتحدثون عن مؤامرات “الإعلام الفاسد”، هل تجدي هذه الجمل البليغة نفعًا وسط الأجواء التحريضية والضبابية؟

لا يمكن إرجاع الأزمة الأخيرة بين نقابة الصحفيين ووزارة الداخلية فقط لواقعة الاقتحام الأمني لمقر النقابة، وما تبع ذلك من مطالبات صحفية بإقالة وزير الداخلية، فقد سبقت ذلك بأسبوع مسيرة إلى مكتب النائب العام لتقديم بلاغ في وزير الداخلية ضد انتهاكات تعرض لها صحفيون أثناء أداء عملهم في ذكرى تحرير سيناء.

وقبلها بأسابيع أعلن نقيب الصحفيين إلغاء قرار أمر ضبط وإحضار صادر ضد خالد البلشي رئيس لجنة الحريات بالنقابة، الذي كان يواجه عدة اتهامات.

كل تلك الضغوط وغيرها من معاناة أصحاب هذه المهنة، قد لا تمثل تهديدًا مباشرًا لبقية المواطنين، بل قد يرى بعضهم هذا الصراع على طريقة مباريات كرة القدم.. من أحرز الهدف الأول؟ وقد يُختصر المشهد في صراع بين الصحفيين والداخلية حول من يقصف جبهة الآخر، دون الالتفات إلى ركام الأزمات والمشاكل التي يواجهها الصحفيون يوميًا في عملهم، وبعضها يتعلق بوزارة الداخلية تحديدًا، وهو ما تجلى أخيرًا في قصة اقتحام النقابة.

دارت برأسي أفكار كثيرة مع بعض الزملاء، حول هذا الحماس الاحتفالي الذي جمع الصحفيين يوم الجمعية العمومية، وما إذا كانت قرارات الجمعية العمومية صدرت تحت تأثير هذا الحماس الزائد، دون التفكير في جدية الالتزام بقرارات نقابة الصحفيين.
***
حققت الجمعية العمومية الأخيرة مكسبًا كبيرًا في حشد آلاف الصحفيين حول مهنتهم، ونقلت روحًا جديدة إلى واجهات الصحف الورقية، كاستخدام صورة “نيجاتيف” لوزير الداخلية، بهدف إثارة تساؤلات القراء، واستخدام شعار جانبي موحد “لا لحظر النشر، لا لتقييد الصحافة”، وهي أفكار قريبة من ممارساتنا اليومية على شبكات التواصل الاجتماعي في استخدام الهاشتاج والبانر وغيرها من الأفكار. ربح الصحفيون محاولتهم الضغط على مجلس النواب كي يفيق من ركوده، وجذبه إلى قضية متعلقة بالحريات، كما حاولت النقابة قطع أي محاولة لتسديد اتهامات إليها بالاستقواء بالخارج ورفضها “أي تدخل أجنبي رسمي في شأن الصحافة المصرية” أو “استغلال أي جماعة أو تيار سياسي بتوظيف الأزمة الراهنة لصالحه”.

تلك بعض المكاسب الذي حققها الصحفيون عبر تلك الأزمة، لكن مع الوقت، لم تكن المكاسب في نفس وزن ما أعتقد أنه خسائر أو تراجع متصاعد في قضية الصحفيين.

في البداية ظهرت الأزمة للرأي العام وكأن القضية مجرد جدل حول مسألة الاقتحام الأمني لمقر نقابة الصحفيين، وهكذا بدا الأمر في صدر البيان الصادر عن نقابة الصحفيين يوم الأربعاء الماضي، وفي كثير من التعليقات الصحفية. بعدها بدأ انسحاب قيادات صحفية، أيًا كانت انتماءاتهم، من حالة الإجماع والحماس الزائد في الجمعية العمومية التاريخية الأسبوع الماضي، وبدأ التراجع يزداد متمثلًا في عدم تنفيذ بعض الصحف ما اتُفق عليه من تصعيد، كتلوين الصفحة الأولى باللون الأسود، وانتهى الأمر في بيان أخير صادر عن مجلس نقابة الصحفيين بعد توضيحات متتالية أن الصحفيين لم يطالبوا باعتذار الرئيس، وهذا نفسه موقف مؤسف، لأن النقابة كانت قد طلبت بالفعل في بيان واضح: “تقديم رئاسة الجمهورية اعتذارًا يحفظ كرامة الصحفيين ومهنتهم ونقابتهم”.

هذا التسلسل في الأحداث، كان يصاحبه دائمًا سؤال من الرأي العام “ما القصة؟”


هناك من هم أكثر مني احترافًا في الشأن النقابي وفي قضايا الحريات، فـ”مَن أنا لأقول لكم ما أقول لكم”، لكن إذا عدنا إلى أزمة مشابهة جرت قبل أشهر بين الأطباء ووزارة الداخلية، سنجد أن الأمور كانت مختلفة بعض الشيء.

أعتقد أن إجابة سؤال “ما القصة؟” كانت أكثر وضوحًا في أزمة الأطباء منها في أزمة الصحفيين الحالية. ففي رأيي الشخصي أن نقابة الأطباء نجحت وقتها في تصدير قضية أبعد من قصة اعتداء الشرطة على أطباء أثناء تأدية عملهم، إذ استغل الأطباء الفرصة وطرحوا على الرأي العام أزماتهم اليومية في العمل، وضغطوا من أجل لفت الأنظار إلى معاناتهم، وأشاروا إلى أن التقصير الأمني جزء من أزمات يواجهونها في عملهم.
***
يواجه الصحفيون تضييقات ورقابة أصبحت تصيب كثيرين بالارتباك، خشية الاضطرار إلى سحب أعداد الجريدة من الأسواق كما حدث مع عدد من الإصدارات، أو مواجهة اتهامات بالعمالة، وما إلى ذلك من مظاهر التضييق.

وفقًا لأرقام التقرير السنوي لمجلس نقابة الصحفيين في مارس 2016، فإن “هناك نحو 29 زميلًا رهن الاحتجاز في قضايا متنوعة، من بينهما قضايا تتعلق بمهنتهم، سواء على ذمة المحاكمة أو محكومين بأحكام غير نهائية، أو باتة أو من دون توجيه أي اتهامات إليهم، وبين هؤلاء من تجاوز احتجازه الحد الأقصى للحبس الاحتياطي”.

هناك مشاهد يومية بائسة في عالم الصحافة، يكاد يتضاءل أمامها مشهد اقتحام النقابة، ولابد أن تتصدر هذه الأزمات المشهد بصورة أكبر في المرحلة المقبلة، بمعنى أن يدرك القراء جيدًا ماذا يخسر المجتمع إذا خسرت الصحافة جراء ضغوط أجهزة الدولة على الإعلام.

أقول هذا خشية أن تتحول الأزمة الحالية إلى حرب حول مَن يقصف جبهة مَن، الداخلية أم نقابة الصحفيين، أو أن ينتهي الأمر إلى ترضية “عرفية” بين الطرفين.

لذا فإن التركيز على الضرر الواقع على المهنة وما يسببه ذلك من ضرر على المجتمع، قد ينقل القضية إلى مساحة أخرى، يبدو فيها مشهد الاقتحام الأمني مجرد حادث في واقع بائس يهدد ويربك العاملين في مجال نقل المعلومات إلى المجتمع.

***
حين يسألني أحدهم:” ما قصة النقابة والداخلية؟” هل أخبره أن الأزمة أني صحفي وعلي راسي ريشة، كما فعل أغلبنا غاضبًا لكرامته على صفحات التواصل الاجتماعي؟ هل أخبره أن قصة النقابة والداخلية تتلخص في أن الأمن تخطى الحواجز واخترق “قدسية النقابة”؟

نحن جميعًا أدرى بأن هناك فواجع أكبر تحدث في هذا البلد. ولعلنا في حاجة إلى مزيد من الشرح والتفسير لقرائنا بخصوص ما يحدث للمهنة وما تواجهه من أخطار، وكيف سيؤثر ذلك على المنتج المقدَّم إلى هؤلاء القراء في المستقبل، وماذا سيخسر القراء إذا خسروا الصحافة.