Sunday, November 29, 2009

سياحة المآذن

كتب – عبدالرحمن مصطفى
تقول القصة أن القدر خيب ظن السلطان حسن حين أراد تشييد أربع مآذن فوق جامعه الشهير أمام قلعة الجبل فسقطت إحدى هذه المآذن أثناء بنائها وتسببت في مصرع المئات، فامتنع السلطان عن استكمال البناء وبقت مئذنتان فقط من أصل أربع.. رأى العامة في تلك الحادثة نذير شؤم يهدد بزوال ملك السلطان، وتحققت نبوءتهم فمات السلطان بعدها بثلاثة وثلاثين يوما. تلك القصة التي رواها المقريزي المؤرخ الشهير ونقلها عنه علماء الحملة الفرنسية في كتابهم وصف مصر تصور مكانة المئذنة قديما في مخيلة العامة كرمز للسلطان والحكم ودليل على الهيبة. وهو ما يدركه الآن السائحون الأجانب في زيارتهم المتعمدة إلى داخل مآذن القاهرة كي يواجهوا تلك الهيبة و يطلوا منها على القاهرة مدينة الألف مئذنة.
التنقل بين مآذن القاهرة يكشف عن مفارقات أهمها أن أغلب رواد المآذن الأثرية من الصاعدين على سلالمها الداخلية هم الزوار الأجانب حسبما أكد العاملون حول تلك المآذن، قد يكون الحظ أفضل في عطلة يوم الجمعة حيث تزيد فرص رؤية بعض المصريين هناك، محمد حسن طالب كلية التجارة اصطحب أخته الصغرى وقريبة لهما إلى أعلى سطح مسجد أحمد بن طولون على مسافة ليست بعيدة من جامع السلطان حسن، دخلوا سويا من باب أسفل المئذنة التي تكاد تكون منفصلة عن المسجد، و صعدوا كبقية الزوار درجات سلم يدور حول قاعدتها المكعبة حتى يصل الجميع إلى المنطقة التي يختار فيها الزائر إما أن يتجول فوق سطح المسجد أو أن يكمل طريقه داخل جسد المئذنة. محمد والذين معه امتنعوا عن استكمال المشوار إلى أعلى المئذنة كان هدفهم واضحا منذ البداية يقول : "شاهدت فيلما تسجيليا عن قصة بناء جامع ابن طولون وقررنا زيارة المكان، ربما لو كنت وحدي لصعدت المئذنة". لم تستفز هذه العبارة أخته أو قريبته للصعود، خاصة أنها مهمة تجنبها بعض السائحين الأجانب من كبار السن وأقدم عليها بعض الشباب الذي تخلفوا عن مجموعتهم لالتقاط بعض الصور من أعلى المئذنة.
يصف الأثريون مئذنة ابن طولون بالملوية و السبب يعرفه كل من حاول الصعود داخل جسد المئذنة، حيث يقابله سلم دائري ضيق يقود الزائر إلى مستوى أعلى يمكن من خلاله الراحة والتقاط الأنفاس ثم الصعود الأخير إلى أعلى نقطة في المئذنة .
كانت المآذن قديما تسمى بالمنارات وذلك لأنها كانت تضاء ليلا بالقناديل لإرشاد المسافرين ليلا، أما اليوم فيمكن للزائر أن يتحسس أماكن هذه القناديل، وحول مئذنة ابن طولون اختار البعض تصوير القاهرة من زاوية تكشف مساحة كبيرة من حي السيدة زينب بمساكنه الفقيرة وآثاره العريقة. مئذنة ابن طولون هي أول مئذنة حقيقية في سماء القاهرة، أما جامع عمرو بن العاص أول جامع في مصر فقد أنشئت فوقه صوامع لإقامة الأذان ولم تكن مآذن حقيقية. ولم يقتصر استخدام المآذن على رفع الأذان وقت الصلاة، ففي أوقات أخرى كانت منصة لإذاعة البيانات الحكومية وإعلان الحاكم الجديد على العامة، وفي كتاب عجائب الآثار للمؤرخ عبدالرحمن الجبرتي تسجيل لعدد من عمليات إطلاق النار والنزاعات التي استخدمت فيها المآذن. وتكفي زيارة إلى مئذنة أخرى من نوع فريد في أعلى باب زويلة كي تؤكد لنا هذه الصورة الأخرى من استخدامات المآذن حيث مئذنتي جامع المؤيد شيخ. هناك يبدأ الصعود من باب في أسفل البوابة يجلس عليها أحد أفراد الأمن.. مهمته أن يقطع التذاكر للزوار مقابل جنيه واحد للمصريين وخمسة عشر جنيها لغير المصريين، يقول بفخر : "زارني هنا دبلوماسيون وسفراء أجانب في زيارات هادئة دون أن يدري بهم أحد، على رأسهم السفيرة الأمريكية الحالية، وكذلك السفير الأمريكي السابق، كانوا أهم من زار المئذنة والبوابة أثناء وجودي." . عدا ذلك فأغلب زواره المصريين من الطلبة القادمين في مهمة محددة هي البحث عن الجانب العملي في دراستهم سواء من طلاب الآثار أو العمارة. وتكاد تكون مئذنة المؤيد شيخ هي الوحيدة التي يقطع لها تذاكر زيارة و السبب هو خصوصيتها حيث أقيمت كامتداد لبرجي باب زويلة (بوابة المتولي)، بعيدا عن الشكل التقليدي لعلاقة المئذنة بالمسجد
السلطان مؤيد شيخ المحمودي جاء مصر عبدا وحبس في فترة داخل سجن مجاور لباب زويلة (بوابة المتولي) وحين تولى الحكم بنى مسجده مكان السجن الذي عذب فيه، ونظرا لوجود المئذنتين فوق سور له أغراض حربية، فعلى الزائر ألا يفاجأ أثناء رحلة الصعود بالعلامة الإرشادية التي ستقابله في أحد الأركان معلنة رسالة تحذير فريدة من نوعها عن أن هذا المكان كان يصب منه الزيت المغلي على رؤوس الأعداء، وقبل دخول الزائر إلى جسد المئذنة سيواجه بلافتة قاسية أخرى تقول "احذر السلم ضيق"، ولا يعلم فائدة هذا التحذير سوى من يكمل الرحلة داخل جسد المئذنة فوق سلم دائري ضيق جدا، ويصعد الزائر إلى المستوى الأول حيث يمكنه أخذ قسط من الراحة والتفكير في الاكتفاء والنزول دون إكمال المهمة. في تلك المرحلة الوسطى بإمكانه أن يرى علامة للذكرى الخالدة كتبها زائر يدعي أسامة لصديقته علا وكلاهما من الإسكندرية حسبما كتبا على جدران الأثر التاريخي في أعلى المئذنة كدليل على جرأتهما للصعود إلى هذا المكان.
الانتقال إلى مآذن جوامع أخرى قد لا يكلل بالنجاح بالنسبة للزوار المصريين، في جامع الحاكم بأمر الله أكد عمال المسجد ومسئولي الآثار الجالسين خارج المسجد على أن صعود منارة جامع الحاكم هو أمر ممنوع منعا باتا منذ سنوات لأعمال الترميم، لكن تلك التأكيدات القاطعة تكذبها صور السائحين التي رفعوها على موقع
picasawebلرفع الصور
ويظهر فيه أحد الزوار الأجانب في صورة له أعلى المسجد بالقرب من المئذنة، إلى جانب صورة أخرى أكثر طرافة أضافتها مستخدمة تدعى جوليا على حسابها التقطتها من داخل جسد المئذنة حسب وصفها ويظهر برفقتها أحد عمال المسجد الذين كانوا قد نفوا لي إمكانية الصعود إلى المئذنة أو سطح الجامع.
المئذنة التي اعتبرها العامة في عصور سابقة رمز السلطان والقوة تجذب اليوم السائحين الأجانب بقوة وتثير في رؤوسهم فكرة مواجهة رمز الإسلام، والاستمتاع بالنظر إلى مئات المآذن المجاورة، تلك الروح فيما يبدو جعلت تلك الزيارات وكأنها مقصورة على الأجانب، وهو ما يدركه العاملون في المساجد الأثرية، بعض السائحين سجلوا تجاربهم عن أن "البقشيش" هو الذي يوصل السائح إلى أعلى بعض المآذن، وهو ما انتقل ليصبح نصيحة وجهها أحدهم عبر قسم السفر في موقع ياهو. ويوضح أحد خدام جامع المرداني في منطقة الدرب الأحمر بأنه "مرن مع الزوار" لكنه في حقيقة الأمر كان أكثر مرونة مع الأجانب، فحسب تعبيره "أنا أعلم من أتى بهم إلى هنا"، بينما طلب مني تصريحا بالصعود إلى مئذنة المسجد أو كارنيها يثبت أني طالب أدرس الآثار.
يرى فرج فضه رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية بالمجلس الأعلى للآثار أن تفسير ما يحدث داخل المآذن هو أن بعض المآذن ليست من الكفاءة أن تتحمل زيارات السائحين لذا يتم حظر الصعود داخلها، عدا مآذن مثل جامع المؤيد شيخ فوق باب زويلة وجامع ابن طولون فيسمح بزيارتهما. في حين رفض التعليق على صور السائحين المتواجدين داخل منارة جامع الحاكم رغم رفض عمال المسجد السماح بالصعود إليها.

Sunday, November 22, 2009

عصام.. البائع الصغير

الاحد 22 نوفمبر 2009
عبد الرحمن مصطفى
أمام مجموعة من لعب الأطفال المتراصة فوق ملاءة قديمة يقف عصام محاولا إعادة تنظيم لعبه فى حركات قلقة، يبيع المسدس الرشاش والعربات البلاستيكية رديئة الصنع، لكنه استبقى لعبة واحدة أعلن بها عن نشاطه الصغير.
يشد الخيط القصير فينطلق الطوق البلاستيكى المضىء إلى أعلى عدة أمتار فيخطف أبصار المارة ويكررها دون ملل حتى إن قذفت الريح بطوقه بعيدا. لا ينادى ولا يزعق للفت الانتباه، فقط يقول لمن يسأله من المارة «دى بسبعة جنيه».
ملامحه الجادة ونبرة صوته القوية لم تمنعه من أن يرسم ابتسامة بريئة فى أثناء لعبه أمام «فرشته» فى ميدان العتبة. لكنه مجبر فى نفس الوقت على الانصياع لمجتمع الرجال من الباعة الجائلين الذى فرض قواعده عليه وعلى أقرانه من السن نفسها وأكسبهم أداء واحدا حين يقلدون جدية ورعونة من حولهم.
«أغلب اللى بيعدوا عليا بيسألوا ومش عايزين يشتروا، عشان كده المفروض السعر مينزلش إلا للزبون الجد اللى هيشترى، مش اللى جاى يعمل ناصح»، هكذا استعار نبرة التاجر المحترف حين يتحدث عن زبائنه. تقف أمامه امرأة فى جلباب أسود مع طفل صغير لم يتجاوز الرابعة فيتعامل معها بحسم مستعيرا صوتا غليظا كى يبرهن على أنه ليس مجرد طفل فى الثالثة عشرة من عمره، بل بائع لا يختلف كثيرا عن الذين من حوله.
عصام واحد من 2.8 مليون طفل عامل فى مصر توزعوا على الأقاليم المختلفة، لا يشغله ما صرح به قانون الطفل من «حظر تعريض الطفل عمدا لأى إيذاء بدنى ضار أو ممارسة ضارة أو غير مشروعة»، فقد رتب أولوياته بشكل حاسم منذ البداية.
«أهم حاجة لازم آخذ بالى منها هى الفرشة والحاجات اللى عليها وإنها متنقصش حاجة أو تأخذها البلدية، وكمان إنى أعرف أبيع الحاجة للزبون». فى سبيل ذلك كان عليه أن يواجه يوميا رجال شرطة المرافق حين ينظمون غاراتهم على الصفوف الأمامية من الباعة الجائلين، ويشير إلى الشوارع الجانبية من الميدان ويبدأ فى وصف الموقف «ما بيدخلوش جوا عشان البياعين هناك متفقين مع المحلات، بيخنقوا بس على اللى زيى أنا وبتاع الذرة والناس اللى بره على الشارع».
ما الذى قذف به إلى الشارع؟ حتى العام الماضى كان عصام مسجلا فى الصف الأول الإعدادى بمدرسة فى قريته التى تقع على أطراف محافظة الجيزة، لكنه تركها وقرر البقاء فى القاهرة «ماكنتش ماشى فى المدرسة وبعدين كان لازم اشتغل عشان أساعد فى البيت، ومفيش شغل عندنا».
يتدخل فى الحديث شاب فى أوائل العشرينيات أحاط عصام بذراعه وأوضح فيما بعد أنه «ماهر» ابن خالته الحاصل على دبلوم التجارة ويعمل على فرشة مجاورة على بعد أمتار من المكان، يعلق على سبب وجود عصام بعيدا عن الدراسة بقوله: «كان بيهرب من المدرسة ولما سقط أمه قالت ينزل يشتغل أحسن ما يبوظ».
كانت تجربة ماهر فى العمل نموذجا حاول عصام تقليده، فكان الخيار الوحيد أمام عصام أن يرافق ابن خالته فى عمله فى بيع الملابس لحساب أحد تجار العتبة، أما لعب الأطفال التى كانت أمامه فى ذلك اليوم فكانت محاولة من ابن خالته الذى استطاع إقناع تاجر للعب الأطفال من أن يساعد عصام فى أن يبيعها لحسابه..
وكلما رضى التاجر أن يعطيه بضاعة ضئيلة الحجم كالتى أمامه تكون تلك فرصة كى ينفرد عصام بعمله بعيدا عن ماهر.
لكن أجواء التحفظ كانت تحكم حديث كل منهما عن الأجر و طرق البيع إلا أن المشهد أبرز طفلا فى الثالثة عشرة يعمل تابعا لزميل أكبر سنا هو الذى يضمن له القدرة على الوجود فى هذا المكان. حيث لا يحتاج عصام إلى إعطاء ضمانات للتجار مقابل ترويج سلعهم أو التعامل المباشر معهم، فتعامله الوحيد مع ابن خالته الذى تكفل بهذه المهمة عنه، وذلك فى مقابل بعض الخشونة فى التعامل التى قد يوجهها ماهر إلى التاجر الصغير حتى إن كان ذلك بدافع «الهزار».
«اشتغلت قبل كده فى محل كشرى لمدة ست أشهر وكنت باخد 200 جنيه وبعدين واحد معايا طفشنى من الشغل بحجة إنى مليش لازمة فى المكان وأنه بيعمل شغلى، رغم إنى كنت بشتغل طول اليوم».
أعاد هذا الموقف عصام إلى العتبة مرة أخرى التى سيبقى فيها حتى حين.
وأصبح عليه أن يكون موجودا بدءا من العاشرة صباحا فى مكانه حتى غروب الشمس فى انتظار بيع ما لديه من لعب أو الوقوف إلى جوار ماهر ومساعدته فى البيع دون مكسب حقيقى، وهناك لا يجد متنفسا للتعبير عن طفولته إلا فى لحظة قصيرة يطير فيها طوقا بلاستيكيا أو لحظات مرح مع صديق من نفس سنه حينما ينزعان قناع الرجولة المصطنعة ليعودا إلى سنهما الحقيقية.
PDF

Thursday, November 19, 2009

صحفيون أون لاين .. الكيبورد قلمي والشاشة دفتري

الخميس 19 نوفمبر 2009
عبدالرحمن مصطفى
فى تمام التاسعة بتوقيت جرينيتش كان على الجميع أن يجلس خلف شاشة الكمبيوتر فى وقت واحد، أحدهم يجلس فى باريس خلف جهازه الخاص (اللابتوب)، أما زميلته الشابة ففى منزلها بإحدى ضواحى بيروت، فى حين يسجل زميلهما الثالث حضوره عبر هاتفه المحمول المتصل بالإنترنت، لينضموا إلى زملائهم المنتشرين بين البلدان والقارات المختلفة. أما الميعاد فهو اجتماع التحرير اليومى فى صحيفة إلكترونية، والمكان هو الإنترنت حيث يلتقون يوميا رغم بعد المسافات.
«فى مرة حضرت هذا الاجتماع عبر جهازى الشخصى من إحدى عربات القطار»، العبارة السابقة للكاتب الصحفى نبيل شرف الدين، أحد كهنة الصحافة الإلكترونية وصناعها، الذين عاشوا نمو التجربة منذ بدايتها فى التسعينيات. هو يفتخر اليوم بأنه هجر القلم والنوتة الصحفية التقليدية بعد أن اعتادت أصابعه على أزرار الكيبورد (لوحة المفاتيح) والتواصل عبر الشاشات. لا تخلو عباراته من زهو الانتصار حين يؤكد: «راهنت على الصحافة الإلكترونية فى فترة مبكرة منذ أكثر من عشر سنوات، فى تلك الفترة كان يولد أمامى أول مشروع حقيقى لصحيفة إلكترونية عربية ممثلا فى موقع «إيلاف الإخبارى»، ورغم أنى كنت أعرف السيد عثمان العمير كرئيس تحرير جريدة الشرق الأوسط اللندنية فإن علاقتى الحقيقية به بدأت عبر الإنترنت مع بداية تأسيسه «إيلاف»، كنت أقامر وقتها على تجربة غير مسبوقة ومنتج لم يتم اختباره من قبل».
أنتجت الصحافة الإلكترونية فى ذلك الوقت الأدوات والوسائل، التى تدير العمل داخلها، واعتمد التواصل بين المحررين والمراسلين لسنوات طويلة على برنامج المحادثة عبر الإنترنت (الماسنجر). فى تلك الفترة كان الإنترنت يعيش ازدهار مواقع من نوعية المنتديات وغرف الدردشة والمواقع الثابتة قليلة التحديث، فكان تقديم عمل صحفى محترف بمثابة خدمة مثيرة للاهتمام. اليوم يرى نبيل شرف الدين أن مغامرته الأولى حققت له مكاسب عديدة. يذكرها: «قبل هذه التجربة لم يكن من السهل أن يعرفنى جمهور واسع من القراء داخل مصر وخارجها عبر الكتابة التقليدية فى الصحف الورقية التى عملت بها، الإنترنت والصحافة الإلكترونية اسهما فى صنع اسمى وتاريخى المهنى، كما صنعت جيلا كاملا سيظهر بقوة فيما بعد».
قد تبدو الصورة وردية للوهلة الأولى حسب حديث نبيل شرف الدين، إلا أن خلف العمل داخل مواقع الأخبار أعباء وجهد لا يشعر به فى الغالب قراء الإنترنت، أو حسب تعبيره «حرب الاستنزاف، التى يعيشها الصحفى فى هذا المجال». على سبيل المثال فقد موقع إيلاف اثنين من مديرى تحريره فى أثناء أداء عملهما، الذى يمتد لساعات طويلة من اليوم. ففى عام 2005 نعى وفائى دياب ــ اللبنانى الأصل ــ زميله المصرى محمود عطا الله، الذى توفى بعد ساعة واحدة من اجتماع التحرير اليومى، ولم يعلم السيد وفائى أنه بعد عام واحد من هذا الموقف سيلحق بزميله بعد أن يؤدى واجبه بإخلاص للتأكد من سير الأمور على ما يرام بين المحررين عبر الإنترنت.. كلاهما يكاد يكون قد توفى «أون لاين» حسب مصطلحات المهنة.
يقول شرف الدين: «منذ أن دخلت هذه الحياة تغير إيقاع حياتى تماما، لم أسلم من أمراض الجلوس خلف شاشة الكمبيوتر وزيادة الوزن الذى تغلبت عليها فيما بعد، وفى بدايات عهدى بالإنترنت لم أسلم أيضا من التكلفة الاقتصادية العالية حين كان الإنترنت ذا انتشار محدود وتكلفة عالية.. وبعض المصادر الصحفية لم تكن تتفهم طبيعة أن تكون الجريدة على الإنترنت، فكان البعض يبدى انزعاجه من هذا الأمر، وتغلبنا على هذا مع الوقت حتى إن بعضهم تواصل معنا بعد ذلك عبر الإنترنت».
أجواء العزلة التى تفرضها مراقبة شاشات الكمبيوتر ونشر الأخبار بعد الحصول عليها وتصوير أحداثها كانت منهكة للكثير من العاملين فى هذا المجال خاصة فى جريدة غير مصرية مقرها العاصمة اللندنية. حتى الآن يرى نبيل شرف الدين أننا لم نقدم تجربة مصرية رائدة فى مجال الصحافة الإلكترونية موضحا: «رغم ظهور بعض الصحف الإلكترونية الاحترافية، فإننى ما أزال أطمح إلى أبعد من هذا، خصوصا أن بعض الصحف الورقية اقتحمت المجال من منطلق يتعامل مع الموقع الإلكترونى للجريدة الورقية وكأنه دبوس الكرافته أو شىء من قبيل الكماليات».

ولع المواقع
الجيل الذى ارتبط بالإنترنت فى تلك الفترة هو الجيل الذى كان يودع دراسته الجامعية، إذ تحول إلى متنفس يرى منه العالم بعيون مختلفة.. وائل الغزاوى كان أحد هؤلاء الذين جذبهم صعود نجم الصحافة الإلكترونية وقرر فى العام 2004 أن ينتقل إليها بعد أن نال تدريبا فى مكتب إحدى الصحف الخليجية «الورقية» بالقاهرة. أجواء العمل كانت ذات طابع مؤسسى لأن الموقع الإخبارى، الذى عمل فيه كان تابعا لشركة كبيرة وتفاصيل العمل اعتمدت على مهاراته التحريرية أكثر من العمل الميدانى، لكنه فى العام التالى قرر الدخول إلى مجال الصحافة الورقية بالتوازى مع عمله فى الموقع الإخبارى، يقول: «كنت أبحث وقتها عن الوجود داخل صحفية ورقية تنقلنى إلى أجواء الوسط الصحفى التقليدى وخباياه، لكن بعد فترة اكتشفت أن ما أحصل عليه من أجر هو فى حقيقة الأمر.. أجر رمزى». يبتسم وائل حين يتذكر العبارة، التى قالها لمديرته تعليقا على ضعف أجره، ويضيف: «أصبح العمل غير مجد، وذلك فى الوقت الذى أتاحت فيه المواقع، التى كتبت بها مساحة أكبر وأفضل من الجريدة الورقية، فتحمست وسعيت إلى عمل تغطيات مصورة لحساب مواقع صحفية أتاحت لى الفرصة».
لا يخفى وائل تعرضه فى تلك المرحلة للرفض من بعض الفنانين حين كان يجرى تغطيات فنية لحساب أحد المواقع فحسب تعبيره «كان بعض الفنانين يرون فى المواقع الإلكترونية مرادفا للفضائحية والإباحية».
الاعتماد على الذات فى الصحافة الإلكترونية ربما يكون الشعار الأهم فى حياة من اختار هذا الطريق، خاصة حين لا يجد جريدة ذات سمعة تسانده فى عمله الميدانى أو حين يجد نفسه مضطرا إلى القيام بأدوار المراسل والمحرر والمصور والمراجع فى نفس الوقت، مر وائل بهذه التجربة حين عمل محررا لموقع إخبارى صغير تأسس على يديه، يقول: «بعض المواقع الإخبارية تؤسسها شركات تملك مساحات على الإنترنت، وبالتالى فهى ليست مؤسسات صحفية بالمعنى التقليدى، وهنا تكون مهمة الصحفى هى خلق موقع بإمكاناته الذاتية إلى جانب مجهود المتعاونين معه من الخارج، وهو ما يعوق الصحفى أحيانا حين لا يتفهم من حوله أهمية استخدام الهاتف بالنسبة إليه، أو ضرورة أن يكون حر الحركة بعيدا عن مواعيد العمل الرسمية، وما إلى ذلك من تفاصيل عمله».

المكتب المتحرك
تلك القيود دفعت به إلى فضاء الإنترنت بحثا عن زملائه من نفس المجال خارج الحدود، فكانت تجربة جديدة لم يعشها الكثيرون من العاملين فى الصحافة الإلكترونية، وهى العمل محررا دون مكتب، حين يتحول جهاز الكمبيوتر إلى مكتب متحرك، مقر العمل فى أى مكان، فى المنزل أو فى المطعم أو خارج القاهرة، لكن عليه أن يتواجد لعدد محدد من الساعات «أون لاين» كى يتواصل مع مديره القابع فى أمستردام بهولندا فى إدارة موقع متخصص فى الصحافة الفنية.
«العمل الحر من المنزل بعيدا عن المكاتب ليس مفهوما فى بلادنا، و دائما ما يلاحق بنظرات الريبة من الأصدقاء والجيران، قد تبدو فكرة عدم التقيد بمكتب والبعد عن الاحتكاك المباشر بالزملاء فكرة مبهرة فى البداية، إلا أن واقع الأمر أن مثل هذه الوظيفة تغير نمط الحياة تماما، فأداء العمل يصبح مسئولية الصحفى، التى لن يتحملها سواه، على عكس وجوده فى شركة أو مكتب لجريدة إلكترونية، حيث تتوزع المهام، ويتم تقدير الظروف فى حالة حدوث أعطال أو مشكلات فنية.. إدارة العمل ببيجامة النوم أو من المطعم قد تبدو طريفة، لكنها تخرج الصحفى من روح العمل التقليدية وتحتاج إلى نوع خاص من الأشخاص يستطيع أن يفصل بحدة بين وقت العمل وحياته الخاصة».
أمور أخرى قد تشتت ذهن الصحفى فى مثل هذه المواقف، لعل أهمها غموض هوية من يتعامل معه الصحفى من زملاء أو مديرين خارج مصر، ومدى جدية صاحب الموقع الإخبارى و التزامه بأداء المرتبات بشكل منتظم. قد لا يرى القراء كل هذه الضغوط خلف ما يقرأونه من أخبار، خاصة حين يجد الصحفى فى هذا المجال نفسه دون مؤسسة أو نقابة تدافع عنه، تلك النقطة يكاد يكون وائل قد نسيها من ذاكرته، فنقابة الصحفيين ما زالت لا تسمح بدخول العاملين فى مجال الصحافة الإلكترونية عبر مؤسساتهم، ويقول: «الاتحادات التى أقيمت لضم كتاب الإنترنت، ووحدة الصحافة الإلكترونية، التى ظهرت ثم اختفت فى النقابة، كلها مشروعات غير واقعية، لكن دخول العاملين بالصحافة الإلكترونية إلى النقابة سيكون علامة فارقة فى تاريخها وفرصة لجيل مارس فنون الصحافة فى فضاء الإنترنت دون تقدير حقيقى». فى الوقت الذى وصل إليه وائل الغزاوى إلى تلك القناعات كان محمد غفارى قد قرر أن يبدأ حياته المهنية فى مجال الصحافة الإلكترونية بعد أن أنهى دراسته هذا العام.
ويبدو ولعه بالصحافة واضحا على حسابه فى موقع تويتر لتدوين الرسائل القصيرة، حيث يظهر مشغولا بمقارنات يعقدها بصورة مستمرة بين الصحف المختلفة فى تعاملها مع الأحداث، يعمل الآن فى جزء ذى صلة بأنشطة الكثير من المواقع الإلكترونية وهو مراقبة التعليقات، ويقول: «ليست تلك هى وظيفة أحلامى، أرغب فى التطور إلى ما هو أبعد من ذلك». يعمل محمد فى النسخة الانجليزية من موقع «إسلام أون لاين» حيث يراقب ساحات الحوار التى يفد إليها الغربيون والمتحدثون بالإنجليزية ويعمل على تفعيل وتنشيط الحوار إلى جانب مراقبة التعليقات، هذا إلى جانب تجربة خاضها فى موقع «الجزيرة توك»، الذى يستقطب المراسلين الهواة من العالم العربى. ويضيف: «ما زلت فى حاجة إلى أستاذ له خبرة يناقش أدائى، وهو ما افتقدته طوال الفترة الماضية».
محمد الذى يطمح فى فى العمل فى مجال الأخبار لا يشغل باله كثيرا بفكرة الانضمام إلى كيان نقابى يضم هذا المجتمع المتفرق بين ساحات الإنترنت، بل رأى أنه لن يجبر نفسه على الدخول إلى صحيفة ورقية لمجرد التمسح فى كيان مؤسسى تقليدى: «الاحتكاك بمراسلين وزملاء من خارج مصر، ومتابعة الصحف الغربية يوميا عبر الإنترنت أصبحت هوايتى المفضلة، وهى أمور جعلتنى أزهد فى الانضمام لجريدة ورقية لمجرد الاسم دون التفكير فى محتواها التحريرى».

قص ولصق
يرى الدكتور محمود علم الدين ــ رئيس قسم الصحافة بكلية الإعلام بجامعة القاهرة ــ أن التفكير فى مجتمع العاملين فى الصحافة الإلكترونية يجب أن ينصب أولا على المحتوى، الذى يقدمونه قبل التفكير فى كيان يضمهم ويقول: «ما زلنا فى مرحلة التعرف على مجال جديد هو الصحافة الإلكترونية، وعلى مدار السنوات العشر الماضية حدث تطور كبير أنتج صحفا إلكترونية ليست ذات أصل ورقى، لكن هذا لم يمنع من وجود ظواهر فى هذا المجال تجعل بعض المواقع الإخبارية غير خاضعة للشكل العلمى للصحيفة الإلكترونية، فنرى مساحات على الإنترنت تعتمد على القص واللصق من المواقع الأخرى دون وجود إدارة صحفية حقيقية».
ويضيف الدكتور محمود علم الدين أنه يجب التفريق بين نوعين من ممارسى الصحافة الإلكترونية، الأول يمثله العاملون فى صحف ورقية تقليدية يديرون مواقع هذه الصحف، أما النوع الثانى فهم العاملون فى صحف ومواقع لا تعمل سوى فى الصحافة الإلكترونية، وهؤلاء بإمكانهم تشكيل نواة اتحاد للصحافة الإلكترونية مع مراعاة أن كثيرا منهم ليس متفرغا فقط للعمل بالصحافة، وهذه مشكلة لأن التعريف الذى ارتضيناه فى مصر وتتفق معنا فيه دولة فرنسا يعرف الصحفى بأنه «شخص مهنته الأصلية والوحيدة هى الصحافة»، وذلك لضمان ألا يكون له مصالح أخرى تتعارض مع عمله الصحفى، وهى أمور قد تغيب عن فئات من العاملين فى الصحافة الإلكترونية، وكذلك المدونون، الذى أدى منهم كثيرون دورا مهما فيما عرف بالصحافة الشعبية وتغطياتهم لأحداث مهمة عبر الإنترنت، إلا أنهم غير متفرغين للصحافة.
قد لا يبدى بعض العاملين فى الصحافة الإلكترونية اهتماما كبيرا بفكرة الانتماء إلى الكيانات المؤسسية الكبيرة بقدر اهتمامهم بتفاصيل عملهم الشخصى، فانتماؤهم الأكبر الذى لا يخفى على أحد للإنترنت، التى فتحت أمامهم بابا لم يكن ليفتح من قبل، وكونوا من خلاله علاقات من نوع جديد فى عالم افتراضى ولمسوا التفاعل المباشر مع القراء، حتى وصل بعضهم إلى اعتبار الصحافة الإلكترونية خطرا حقيقيا على الصحافة التقليدية، أو حسب كلمات الكاتب الصحفى نبيل شرف الدين «الحصول على الأخبار بضربة على لوحة مفاتيح الكمبيوتر أسهل وأرخص بكثير من شراء الصحف الورقية يوميا».
-------
الصحافة الإلكترونية Online Journalism
فى شكلها الأبسط هى إنتاج المواد الصحافية ونشرها عبر الإنترنت، وظهرت البدايات الأولى للصحف الإلكترونية فى الولايات المتحدة الأمريكية مع نمو استخدام الإنترنت فى أوائل التسعينيات، وذلك من خلال مواقع مبكرة مثل سى. إن. إن، وشيكاجو أون لاين الصادرة عن شيكاجو تريبيون. وفى العالم العربى كانت جريدة «إيلاف» هى أول جريدة إلكترونية صادرة بالعربية تراعى قواعد الإدارة الصحفية، وصدرت رسميا فى عام 2001 من لندن بعد أعداد تجريبية قبلها بسنوات.
وفى مصر كانت البوابات الإلكترونية هى المدخل لاحتضان العمل الصحفى الإخبارى فى فترة مبكرة على الإنترنت فى مواقع مثل «مصراوى» و«محيط» و«إسلام أون لاين».

الصحافة الشعبيةCitizen Journalism
ارتبط مفهوم الصحافة الشعبية فى مصر بالمدونات الإلكترونية وقدرتها على اختراق مواقع الحدث واستخدام آلياتها الحديثة من كاميرات رقمية مع عدم التقيد بحواجز العمل الصحفى التقليدى، ونجحت فى الكشف عن قضايا لم تصل إليها الصحافة التقليدية مثل حوادث التعذيب فى أقسام الشرطة وتغطية أحداث الفتنة الطائفية فى الإسكندرية بمحرم بك عام 2005، والعديد من المظاهرات السياسية. أمدت أيضا الصحافة الشعبية العديد من الفضائيات ووكالات الأنباء بصور ولقطات التقطها مدونون ونشطاء على الإنترنت. ويصنف البعض الصحافة الشعبية (التى تشمل الفيس بوك والمنتديات) كأحد وجوه الإعلام البديل بعيدا عن الإعلام التقليدى الذى ترعاه المؤسسات التقليدية.
مواطن الإنترنت Netizen
هو الشخص المشترك فى أنشطة لا تتوافر إلا فى بيئة الإنترنت وتجمعاتها الخاصة، حيث يتفاعل داخل هذه المجموعات الاجتماعية ويتلقى وجهات النظر ويعيد إنتاجها. ومن أهم الوسائط التى يستخدمها مواطنو الإنترنت هى المدونات، ومواقع تحميل الملفات الإلكترونية والبريد الإلكترونى ومواقع الدردشة.