الاحد 22 نوفمبر 2009
عبد الرحمن مصطفى
أمام مجموعة من لعب الأطفال المتراصة فوق ملاءة قديمة يقف عصام محاولا إعادة تنظيم لعبه فى حركات قلقة، يبيع المسدس الرشاش والعربات البلاستيكية رديئة الصنع، لكنه استبقى لعبة واحدة أعلن بها عن نشاطه الصغير.
يشد الخيط القصير فينطلق الطوق البلاستيكى المضىء إلى أعلى عدة أمتار فيخطف أبصار المارة ويكررها دون ملل حتى إن قذفت الريح بطوقه بعيدا. لا ينادى ولا يزعق للفت الانتباه، فقط يقول لمن يسأله من المارة «دى بسبعة جنيه».
ملامحه الجادة ونبرة صوته القوية لم تمنعه من أن يرسم ابتسامة بريئة فى أثناء لعبه أمام «فرشته» فى ميدان العتبة. لكنه مجبر فى نفس الوقت على الانصياع لمجتمع الرجال من الباعة الجائلين الذى فرض قواعده عليه وعلى أقرانه من السن نفسها وأكسبهم أداء واحدا حين يقلدون جدية ورعونة من حولهم.
«أغلب اللى بيعدوا عليا بيسألوا ومش عايزين يشتروا، عشان كده المفروض السعر مينزلش إلا للزبون الجد اللى هيشترى، مش اللى جاى يعمل ناصح»، هكذا استعار نبرة التاجر المحترف حين يتحدث عن زبائنه. تقف أمامه امرأة فى جلباب أسود مع طفل صغير لم يتجاوز الرابعة فيتعامل معها بحسم مستعيرا صوتا غليظا كى يبرهن على أنه ليس مجرد طفل فى الثالثة عشرة من عمره، بل بائع لا يختلف كثيرا عن الذين من حوله.
عصام واحد من 2.8 مليون طفل عامل فى مصر توزعوا على الأقاليم المختلفة، لا يشغله ما صرح به قانون الطفل من «حظر تعريض الطفل عمدا لأى إيذاء بدنى ضار أو ممارسة ضارة أو غير مشروعة»، فقد رتب أولوياته بشكل حاسم منذ البداية.
«أهم حاجة لازم آخذ بالى منها هى الفرشة والحاجات اللى عليها وإنها متنقصش حاجة أو تأخذها البلدية، وكمان إنى أعرف أبيع الحاجة للزبون». فى سبيل ذلك كان عليه أن يواجه يوميا رجال شرطة المرافق حين ينظمون غاراتهم على الصفوف الأمامية من الباعة الجائلين، ويشير إلى الشوارع الجانبية من الميدان ويبدأ فى وصف الموقف «ما بيدخلوش جوا عشان البياعين هناك متفقين مع المحلات، بيخنقوا بس على اللى زيى أنا وبتاع الذرة والناس اللى بره على الشارع».
ما الذى قذف به إلى الشارع؟ حتى العام الماضى كان عصام مسجلا فى الصف الأول الإعدادى بمدرسة فى قريته التى تقع على أطراف محافظة الجيزة، لكنه تركها وقرر البقاء فى القاهرة «ماكنتش ماشى فى المدرسة وبعدين كان لازم اشتغل عشان أساعد فى البيت، ومفيش شغل عندنا».
يتدخل فى الحديث شاب فى أوائل العشرينيات أحاط عصام بذراعه وأوضح فيما بعد أنه «ماهر» ابن خالته الحاصل على دبلوم التجارة ويعمل على فرشة مجاورة على بعد أمتار من المكان، يعلق على سبب وجود عصام بعيدا عن الدراسة بقوله: «كان بيهرب من المدرسة ولما سقط أمه قالت ينزل يشتغل أحسن ما يبوظ».
كانت تجربة ماهر فى العمل نموذجا حاول عصام تقليده، فكان الخيار الوحيد أمام عصام أن يرافق ابن خالته فى عمله فى بيع الملابس لحساب أحد تجار العتبة، أما لعب الأطفال التى كانت أمامه فى ذلك اليوم فكانت محاولة من ابن خالته الذى استطاع إقناع تاجر للعب الأطفال من أن يساعد عصام فى أن يبيعها لحسابه..
وكلما رضى التاجر أن يعطيه بضاعة ضئيلة الحجم كالتى أمامه تكون تلك فرصة كى ينفرد عصام بعمله بعيدا عن ماهر.
لكن أجواء التحفظ كانت تحكم حديث كل منهما عن الأجر و طرق البيع إلا أن المشهد أبرز طفلا فى الثالثة عشرة يعمل تابعا لزميل أكبر سنا هو الذى يضمن له القدرة على الوجود فى هذا المكان. حيث لا يحتاج عصام إلى إعطاء ضمانات للتجار مقابل ترويج سلعهم أو التعامل المباشر معهم، فتعامله الوحيد مع ابن خالته الذى تكفل بهذه المهمة عنه، وذلك فى مقابل بعض الخشونة فى التعامل التى قد يوجهها ماهر إلى التاجر الصغير حتى إن كان ذلك بدافع «الهزار».
«اشتغلت قبل كده فى محل كشرى لمدة ست أشهر وكنت باخد 200 جنيه وبعدين واحد معايا طفشنى من الشغل بحجة إنى مليش لازمة فى المكان وأنه بيعمل شغلى، رغم إنى كنت بشتغل طول اليوم».
أعاد هذا الموقف عصام إلى العتبة مرة أخرى التى سيبقى فيها حتى حين.
وأصبح عليه أن يكون موجودا بدءا من العاشرة صباحا فى مكانه حتى غروب الشمس فى انتظار بيع ما لديه من لعب أو الوقوف إلى جوار ماهر ومساعدته فى البيع دون مكسب حقيقى، وهناك لا يجد متنفسا للتعبير عن طفولته إلا فى لحظة قصيرة يطير فيها طوقا بلاستيكيا أو لحظات مرح مع صديق من نفس سنه حينما ينزعان قناع الرجولة المصطنعة ليعودا إلى سنهما الحقيقية.
PDF
عبد الرحمن مصطفى
أمام مجموعة من لعب الأطفال المتراصة فوق ملاءة قديمة يقف عصام محاولا إعادة تنظيم لعبه فى حركات قلقة، يبيع المسدس الرشاش والعربات البلاستيكية رديئة الصنع، لكنه استبقى لعبة واحدة أعلن بها عن نشاطه الصغير.
يشد الخيط القصير فينطلق الطوق البلاستيكى المضىء إلى أعلى عدة أمتار فيخطف أبصار المارة ويكررها دون ملل حتى إن قذفت الريح بطوقه بعيدا. لا ينادى ولا يزعق للفت الانتباه، فقط يقول لمن يسأله من المارة «دى بسبعة جنيه».
ملامحه الجادة ونبرة صوته القوية لم تمنعه من أن يرسم ابتسامة بريئة فى أثناء لعبه أمام «فرشته» فى ميدان العتبة. لكنه مجبر فى نفس الوقت على الانصياع لمجتمع الرجال من الباعة الجائلين الذى فرض قواعده عليه وعلى أقرانه من السن نفسها وأكسبهم أداء واحدا حين يقلدون جدية ورعونة من حولهم.
«أغلب اللى بيعدوا عليا بيسألوا ومش عايزين يشتروا، عشان كده المفروض السعر مينزلش إلا للزبون الجد اللى هيشترى، مش اللى جاى يعمل ناصح»، هكذا استعار نبرة التاجر المحترف حين يتحدث عن زبائنه. تقف أمامه امرأة فى جلباب أسود مع طفل صغير لم يتجاوز الرابعة فيتعامل معها بحسم مستعيرا صوتا غليظا كى يبرهن على أنه ليس مجرد طفل فى الثالثة عشرة من عمره، بل بائع لا يختلف كثيرا عن الذين من حوله.
عصام واحد من 2.8 مليون طفل عامل فى مصر توزعوا على الأقاليم المختلفة، لا يشغله ما صرح به قانون الطفل من «حظر تعريض الطفل عمدا لأى إيذاء بدنى ضار أو ممارسة ضارة أو غير مشروعة»، فقد رتب أولوياته بشكل حاسم منذ البداية.
«أهم حاجة لازم آخذ بالى منها هى الفرشة والحاجات اللى عليها وإنها متنقصش حاجة أو تأخذها البلدية، وكمان إنى أعرف أبيع الحاجة للزبون». فى سبيل ذلك كان عليه أن يواجه يوميا رجال شرطة المرافق حين ينظمون غاراتهم على الصفوف الأمامية من الباعة الجائلين، ويشير إلى الشوارع الجانبية من الميدان ويبدأ فى وصف الموقف «ما بيدخلوش جوا عشان البياعين هناك متفقين مع المحلات، بيخنقوا بس على اللى زيى أنا وبتاع الذرة والناس اللى بره على الشارع».
ما الذى قذف به إلى الشارع؟ حتى العام الماضى كان عصام مسجلا فى الصف الأول الإعدادى بمدرسة فى قريته التى تقع على أطراف محافظة الجيزة، لكنه تركها وقرر البقاء فى القاهرة «ماكنتش ماشى فى المدرسة وبعدين كان لازم اشتغل عشان أساعد فى البيت، ومفيش شغل عندنا».
يتدخل فى الحديث شاب فى أوائل العشرينيات أحاط عصام بذراعه وأوضح فيما بعد أنه «ماهر» ابن خالته الحاصل على دبلوم التجارة ويعمل على فرشة مجاورة على بعد أمتار من المكان، يعلق على سبب وجود عصام بعيدا عن الدراسة بقوله: «كان بيهرب من المدرسة ولما سقط أمه قالت ينزل يشتغل أحسن ما يبوظ».
كانت تجربة ماهر فى العمل نموذجا حاول عصام تقليده، فكان الخيار الوحيد أمام عصام أن يرافق ابن خالته فى عمله فى بيع الملابس لحساب أحد تجار العتبة، أما لعب الأطفال التى كانت أمامه فى ذلك اليوم فكانت محاولة من ابن خالته الذى استطاع إقناع تاجر للعب الأطفال من أن يساعد عصام فى أن يبيعها لحسابه..
وكلما رضى التاجر أن يعطيه بضاعة ضئيلة الحجم كالتى أمامه تكون تلك فرصة كى ينفرد عصام بعمله بعيدا عن ماهر.
لكن أجواء التحفظ كانت تحكم حديث كل منهما عن الأجر و طرق البيع إلا أن المشهد أبرز طفلا فى الثالثة عشرة يعمل تابعا لزميل أكبر سنا هو الذى يضمن له القدرة على الوجود فى هذا المكان. حيث لا يحتاج عصام إلى إعطاء ضمانات للتجار مقابل ترويج سلعهم أو التعامل المباشر معهم، فتعامله الوحيد مع ابن خالته الذى تكفل بهذه المهمة عنه، وذلك فى مقابل بعض الخشونة فى التعامل التى قد يوجهها ماهر إلى التاجر الصغير حتى إن كان ذلك بدافع «الهزار».
«اشتغلت قبل كده فى محل كشرى لمدة ست أشهر وكنت باخد 200 جنيه وبعدين واحد معايا طفشنى من الشغل بحجة إنى مليش لازمة فى المكان وأنه بيعمل شغلى، رغم إنى كنت بشتغل طول اليوم».
أعاد هذا الموقف عصام إلى العتبة مرة أخرى التى سيبقى فيها حتى حين.
وأصبح عليه أن يكون موجودا بدءا من العاشرة صباحا فى مكانه حتى غروب الشمس فى انتظار بيع ما لديه من لعب أو الوقوف إلى جوار ماهر ومساعدته فى البيع دون مكسب حقيقى، وهناك لا يجد متنفسا للتعبير عن طفولته إلا فى لحظة قصيرة يطير فيها طوقا بلاستيكيا أو لحظات مرح مع صديق من نفس سنه حينما ينزعان قناع الرجولة المصطنعة ليعودا إلى سنهما الحقيقية.
No comments:
Post a Comment