Wednesday, February 24, 2010

رحلة البحث عن منحة

عبدالرحمن مصطفى
تصوير- مصطفى أحمد
الأشهر الأولى من كل عام أشبه بموسم تعلن فيه الجهات المختلفة عن شروطها بالنسبة للراغبين فى نيل منح التفرغ والدعم لمشروعاتهم الإبداعية والبحثية، ليست فترة لاقتناص مبالغ مالية كما قد يظن البعض، بل فرصة للبحث عن الاستقلال.

تضطر علياء مصدق أن تسافر بعيدا عن القاهرة لأكثر من ألف كيلومتر جنوب أسوان وأن تتوجه شرقا إلى مدينة السويس لجمع مادة بحثية من الأغانى الشعبية التى تستخدمها فى رسالتها للدكتوراه عن فترة حكم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، إلى جانب هذا فهى مضطرة مثل معظم الباحثين إلى شراء مراجع والقيام بزيارات إلى المكتبات والتردد على الجهات المختلفة للحصول على الوثائق اللازمة لدراستها.
كثيرون لم يكملوا مثل هذه الرحلات البحثية الشاقة متنازلين عن إتمام بحوثهم نتيجة إحساسهم بغموض المستقبل وتراكم العبء المالى للنفقات، لكن علياء ما زالت مستمرة وقد سجلت رسالتها للدكتوراه فى كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية الشهيرة دون أن تتحمل نفقات الدراسة، ولم يكن أمامها فى سبيل ذلك سوى الحصول على منحة دراسية.
تقول علياء مصدق: «هناك عدم اهتمام بالعلوم الاجتماعية بشكل عام، والمفارقة أنه رغم تزايد أعداد المقبلين على الدراسات العليا فهناك حالة من الإحباط لدى الباحثين نتيجة عدم وجود مجال عمل يحتوى تخصصاتهم، رغم أنها بحوث منهكة وأن هناك وسائل كثيرة للاستفادة منها فى تنمية المجتمع إذا انتبهنا لهذا».
فى حديثها تركز على باحثى العلوم الاجتماعية مثل التاريخ والاجتماع والفلسفة وغيرها، وليس هذا نتيجة انغلاقها على تخصصها فقط، بل لأن ذلك يعكس واقعا آخر فى مجال المنح البحثية، وهو أن الكثير من الجهات المانحة فى مصر وهيئات التبادل العلمى والشركات الكبرى تركز على تخصصات فى مجالات الإدارة والتكنولوجيا والتخصصات العلمية.
يتفق مع هذا الرأى الدكتور أحمد زايد ــ أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاهرة، وهو ما دفعه إلى إجراء تجربة داخل جامعة القاهرة فى مركز البحوث الاجتماعية لمحاولة تعويض من لم تتوافر لهم هذه المنح، يوضح الدكتور زايد: «الباحثون فى العلوم الاجتماعية مظلومون لعدة أسباب مثل عدم وجود دخل كاف وغياب المنح التى توفر لهم الاحتكاك بالخارج وما وصلت إليه أساليب البحث. نقيم هنا فى هذا المركز ورشا تدريبية ونمد الباحثين بمواد حديثة تفيدهم فى رسائلهم، لكن المفارقة أن الخدمات التى تقدمها الجامعة للباحثين لا يسعى إليها سوى قلة قليلة».
محاولات الجامعة المصرية لتطوير حال الباحث لم تقلل من حماس الباحثين عن المنح للالتحاق بجامعات أمريكية وأوروبية أكثر تطورا وانفتاحا، على جانب آخر فهناك معضلة يواجهها بعض هؤلاء الباحثين حين يجدون أن بعض الجهات المانحة لها أجندتها البحثية وتختار ما يتوافق معها، وهو ما يضيق الفرص أمام الباحث فى الحصول على مبلغ مالى يعينه على التفرغ، خاصة إذا عطل البحث حياته المهنية، تقول علياء: «قبل إعداد الدكتوراه بحثت لدى جهات مختلفة لتمويل بحثى ونفقات الجامعة فى الخارج، مثل البنك الدولى وجهات أجنبية أخرى، لكن شعرت أنى مقيدة بحساباتهم الخاصة، حتى توفرت أمامى منحة مصرية تقبل دعم الباحثين فى العلوم الاجتماعية هى منحة مؤسسة القلعة».
تكاد تكون شروط المنح الدراسية متقاربة فى كثير من الجهات، حين يبدأ الباحث بمخاطبة الجامعة التى يريد إتمام دراسته بها، وفى حالة الدراسات العليا يتفق مع الجامعة فى الخارج على تفاصيل خطة بحث الماجستير أو الدكتوراه، وبعد موافقة الجامعة يقدم كل هذا فى مسابقة سنوية يتقدم لها المئات لنيل المنح الدراسية، وبالطبع عليه أن يوضح فى المقابلة مع لجنة المنحة أهمية موضوع بحثه ومدى استفادة المجتمع منه، ولذلك تشترط الكثير من المؤسسات اشتراك الباحث فى أنشطة مجتمعية كدليل ومؤشر على اهتمامه بقضايا مجتمعه.
فى هذه الفترة من العام تعيش ياسمين الضرغامى ــ المدير التنفيذى لمؤسسة القلعة للمنح الدراسية ــ زخم استقبال طلبات الحصول على منح المؤسسة، حاولت فى حديثها التأكيد أن الهدف من المؤسسة هو خدمة المجتمع، موضحة: «بعض التخصصات لا تدخل فى نطاق عمل الشركة الداعمة للمنح بأى شكل من الأشكال، مثل تخصصات التصوير السينمائى أو الإنثروبولوجى، لكن نشترط على الباحث أن يلتزم بالتفرغ الكامل لعمل دراسته العليا فى أفضل جامعة اختارها وأن يعود إلى مصر بعد إنهاء دراسته، فالهدف هو محاولة وقف هجرة العقول من البيئة الطاردة لهم فى مصر».
فى هذه الفترة يتساوى الجميع فى حصوله على دعم المؤسسة، سواء من خريجى الجامعة الأمريكية مثل علياء مصدق أو خريجى الجامعات الإقليمية وأبناء الريف. تضيف ياسمين الضرغامى: «فى تلك الفترة تقابل نماذج ذات طابع خاص، إحدى الباحثات على سبيل المثال من الحاصلات على المنحة كفيفة البصر، وقدمت ما يؤهلها للحصول على المنحة، خاصة أنها ستدرس موضوعا يهتم بقضيتها الشخصية».
ربما لا تسبب المنح المصرية ضغوطا على الحاصلين عليها مقارنة ببعض الجهات المانحة الأجنبية الأخرى، خاصة أن بعض هذه الجهات يتخذ منها مثقفون وأكاديميون موقفا لأسباب عديدة متعلقة بأجنداتها البحثية، ولم يعد سرا أن المنح الدراسية تحولت إلى وسيط سياسى بين الدول لدعم التشبيك بينها.
ففى خطاب الرئيس الأمريكى باراك أوباما تحت قبة جامعة القاهرة الصيف الماضى قال: «سوف نتوسع فى برامج التبادل ونرفع من عدد المنح الدراسية، مثل تلك التى أتت بوالدى إلى أمريكا»، هكذا داعب الرئيس الأمريكى حلم الهجرة عن طريق المنح الدراسية، ورغم هذا فإن مؤسسات عريقة فى مجال المنح الدراسية مثل فورد أو فولبرايت أصبحت تعانى من مشاكل أخرى بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية، أوضحها رئيس مؤسسة فورد بكلمات مؤثرة عن مقاومة آثار الأزمة وسعى المؤسسة لمواجهة حالة الانكماش الحالية. وسط تلك الأجواء تمثل المنحة فرصة للتفرغ دون قلق العبء المالى، وكأنها تمثل عنصر البقاء لبعض الباحثين.

عدسة حرة مستقلة
بعيدا عن تفاصيل العمل البحثي الأكاديمي ففي مجال آخر حيث يقف المخرج خلف الكاميرات لإخراج أفلام ذات طابع مختلف، قد يظن البعض أن مشكلة المخرج منتهية مع وجود جهة الإنتاج، لكن التفاصيل تكشف أوجه أخرى لمبدعون يبحثون عن فرصة للاستقلال وتحقيق أحلام خاصة.. أحد هؤلاء الشباب هو المخرج ياسر نعيم، يكاد الحديث لا ينقطع من حوله عن منح دعم مشروعات الأفلام وذلك حول الطاولات المجاورة له في مقهى سوق الحميدية حيث يجتمع عدد من المخرجين والممثلين الشباب بشكل عفوي هناك، لم يخف ياسر أنه ينتظر حاليا نتائج منحة تقدم لها لإخراج مشروعه، فقبل أسابيع تقدم بمشروع الفيلم بما يتضمنه هذا من ميزانية وتفاصيل خطة العمل، إلى جانب استمارة مكونة من 13 صفحة.. تهتم لجنة المنح بهذه التفاصيل، لكنها من المؤكد انها لا تعلم ما وراء قصص المتقدمين من أبعاد إنسانية واجهوها في سبيل تحقيق مشروعاتهم.
"أعمل في مجال إخراج الأفلام المستقلة و الوثائقية التي تعرض في المحطات الإخبارية، لكن طوال السنوات الماضية أسعى لصنع تجربتي الخاصة من خلال فكرة أعمل على تنفيذها منذ سنوات، لكن في النهاية هذا النوع من الأفلام غير التقليدي ما زال لم يعتد عليه الجمهور بشكل كاف، لذا فجهات الإنتاج تنحصر في جهات معينة، مثل المنتجين المنفذين الذين يعملون حسب اتفاق مع محطة فضائية ذات خط إخباري يعتمد على الأفلام الوثائقية، إلى جانب وجود بعض الجهات الإنتاجية الخاصة التي تمولها هيئات عالمية".
في كلا الحالتين الذين ذكرهما ياسر فالحرية ليست مطلقة، إما الخضوع لأجندة محطة فضائية ستشترى الفيلم، أو قواعد المنتجين وشروطهم، لكن ياسر يبحث عن الحرية الكاملة في إنتاج عمله حسبما يريد.
الجهات الحكومية ليست متاحة بسهولة ويسر، تكفي جلسة وسط عدد من مخرجي الأفلام المستقلة لتوضح أن الأمر ليس بهذه البساطة.
ينتمي هذا الجيل الذي يعيش المرحلة الثلاثينية من عمره بين جيل سبقه صنع شكلا للأفلام التسجيلية التقليدية التابعة للتلفزيون المصري، وجيل أصغر أصبحت التكنولوجيا لعبة في يده يصنع بها أفلاما بواسطة كاميرا المحمول بل والدخول في مسابقات والمنافسة فيها، لكن ما زال هذا الجيل يراهن على أن يحقق الجماهيرية التي تحققها الأفلام التجارية التي تستند إلى شركات الإنتاج العملاقة، مازال يراهن على أن الأدوات البسيطة، ومساندة هؤلاء الشباب لبعضهم ستصنع فارقا يراهن عليه ياسر وزملاؤه.. إذن لماذا المنحة؟ يوضح ياسر : "الحاجة إلى التفرغ الكامل والإنفاق بشكل متصل على المشروع دون توقف، والتعايش مع مصادر الفيلم، على سبيل المثال بدأت مشروعي الذي تقدمت به إلى الجهة المانحة منذ 2006، في قالب يخلط الدراما بالتسجيل، لكنه توقف لأسباب عديدة أغلبها انشغالي أنا وزميلي المشارك في إعداد الفيلم -رحمه الله- عن استكمال مشروعنا بسبب واقع تفاصيل عملنا في أماكن أخرى لإتاحة المال الذي ننفق به على مشروعنا".
التوقف عن استكمال العمل، قد يفقدك التواصل مع من يظهروا على الشاشة، بعضهم قد يسافر أو يرحل وتفقد أحد مصادر عملك، أما الجانب الأصعب أيضا في مسألة الحصول على منحة فهو الجهة المانحة، لا بد من أن يكون الاختيار من جهة ذات سمعة طيبة، حتى لا يخسر المشروع بسبب تشنيع الآخرين عليه.
يضيف ياسر: "في حياة كل منا عمل يجلب منه المال، وليس معنى هذا أنه لا يؤديه بإخلاص، لكن هناك عمل آخر يكون بمثابة مشروع، يمثل توجهات الشخص واختياراته وقناعاته، ويعبر عنه بشكل مباشر، هذا العمل يحتاج تفرغ وتمويل متصل، واستقلال كامل، وهدوء بال.. هذا ما أبحث عنه".

تفرغ الشعراء موضوع حساس جدا!
تفرغ المبدع قد يختلف قليلا عن تفرغ الباحث أو تفرغ المخرج المتمكن من أدواته رغم أن فى كل من هذين المجالين ابتكارا، إلا أن بعض المجالات الإبداعية مثل الشعر يكاد يكون قائما على التفرغ الذهنى.. هناك تفاصيل أخرى يرويها من حصلوا على منحة التفرغ فى هذا المجال، خاصة فى ظل ما يعتقده البعض بأن الشعر عليه أن يكون حرا من أى دعم وأن الشعراء أبدعوا فى السجون والرحلات الشاقة دون دعم من أحد.
فى العام 2008 تقدم الشاعر الشاب محمد طلبة للمرة الأولى مع زملائه إلى وزارة الثقافة المصرية للحصول على منحة التفرغ، ونجحوا فى الحصول على منح ذلك العام، يوضح من خلال تجربته: «ما لا يقدره البعض هو أن إنتاج الشعر يحتاج تفرغا ذهنيا بعيدا عن أعباء الحياة اليومية فى العمل وساعات الإجهاد فى المواصلات العامة، هناك أيضا جانب آخر قد لا يدركه البعض وهو أن إنتاج الشعر لا يأتى من فراغ، بل بعد قراءات تستحث الذهن على الإبداع وقراءات أخرى لتطوير المهارات اللغوية والنقدية، كل هذا يحتاج إلى تفرغ وعيش كريم».
على خلاف المنح الأخرى لم يكن محمد طلبة على دراية بتفاصيل كثيرة، سوى عرض فكرة ديوانه فى موعد الإعلان.. وفى مبنى تابع لوزارة الثقافة بحى الدقى القاهرى تقع الإدارة العامة لمنح التفرغ ورعاية الفنانين والأدباء، تشرح إيمان نجم مديرة هذه الإدارة القواعد المعمول بها فى قبول منح التفرغ: «فى هذه الفترة من كل عام تعلن مسابقة التفرغ فى عدة فروع إبداعية يتقدم لها المئات سنويا، لكن اللجنة المكونة من أساتذة أكاديميين برئاسة مقرر اللجنة الدكتور على أبوشادى تختار عددا معينا من أصحاب أفضل مشروعات حسب الميزانية المقررة فى كل عام، وعلى الحاصل على المشروع أن يسلم عمله بعد عام، وبالطبع يتم مراجعته من لجنة متابعة كل 3 أشهر».
الحاصلون على المنحة يقدمون موافقة من جهة العمل، والتفرغ يكون فى مقابل شهرى يبدأ من 850 جنيها، وحسب إيمان نجم فإن الشباب هم الفئات الأكثر إقبالا على هذه المنحة.. ورغم تعدد فروعها إلا أنها تكاد تكون الوحيدة فى مجال الشعر داخل مصر.
الشاعر والناقد محمد الفارس الذى أصدر أول دواوينه فى الستينيات كتب فى مجالات أخرى غير الشعر ومنها الرواية التى حصل بها على منحة تفرغ قبل عدة أعوام، لكنه مر بالمشكلة التى يمر بها بعض من لم يتكرر حصولهم على منح التفرغ مرة أخرى، وهى متعلقة بطبع عمل التفرغ، ويوضح: «بعد أن سلمت روايتى بعد سنة التفرغ قبل عدة أعوام، لم يتم طبعها، وكنت أرغب فى معرفة معايير الرفض، حتى أننى عرضت أن أعيد مبلغ التفرغ إن كانوا يرون أن عملى غير جيد أو إذا ما كان تفرغى غير مجد!».
محمد طلبة ــ الشاعر الشاب ــ هو الآخر شعر بالإحباط حين لم يقبل فى المنحة العام التالى لفوزه بها، وكتب شكوى لنفس الغرض، تعلق إيمان نجم مدير إدارة المنح: «التعامل مع المبدع أمر حساس جدا، لأنه ليس من السهل أن يقبل رفض اللجنة، ونحن نترك الأمور الفنية للجنة المنح المكونة من المتخصصين، وتعود إلى تقديرهم وهم لديهم الكفاءة فى ذلك، كذلك المنحة لا تلزم الوزارة بطبع جميع الأعمال، بل يتم نشر بعضها فى سلسلة إبداعات التفرغ مما تحدده اللجنة».
على قدر السعادة التى يمر بها الحاصل على المنحة وإحساسه بشىء من التكريم والرعاية والدعم إلا أن عدم تكرارها يدفع إلى محاولة التعرف على الأسباب وقليل من القلق، يقول محمد الفارس: «لنكن منصفين ونقول إن الشباب هم الأولى بهذه المنح على أمل أن يتخرج منهم أسماء جديدة، لكن أحيانا ما يحتاج من أفنى عمره فى العمل الشاق إلى جانب الإبداع أن يحصل على فترة تفرغ ومساندة، خاصة إذا ما كان هناك من يحصل على المنحة بشكل متكرر».
قد يظن البعض أن الإبداع لا يحتاج إلى دعم مالى أو تفرغ، على عكس تكاليف البحوث وإدارة مشروع سينمائى، لكن محمد طلبة يدافع عن هذا الحق قائلا: «تجارب الشعراء حملت معها ما يكفل لهم حياة كريمة، بدءا من رعاية الملوك للشعراء قديما، انتهاء برعاية المؤسسات، حتى الشعراء الحديثين مثل صلاح جاهين وغيرهم كانت لهم موارد دخل تكفيهم وتكفل لهم حق الإبداع، فدعم الإبداع ليس بدعة».

PDF

Thursday, February 18, 2010

تاريخ من التملك والايجار

عبدالرحمن مصطفى
تصوير- مجدي ابراهيم

فى المسافة بين تملك السكن وتأجيره كانت الأولوية لدى المصريين لفكرة التملك، حتى جاء العصر الحديث بتعقيداته ليفرض عليهم واقعا مختلفا، فمنذ آلاف السنين احتفظ الفلاح القديم بحقه فى منزل مستقل أشبه بالحصن الأخير الذى يحقق له إحساسا بالتملك حتى إن كان أجيرا فى أراضى الآخرين.
بيت الأحلام كما يصفه ت.ج.جيميز فى كتابه «الحياة أيام الفراعنة» هو أقرب إلى الفيللا، تحيط به الشوارع، وله حديقة وبركة، وطيور وأشجار، وهو ما يقع فى سلطة كبار العسكريين والكتبة، على عكس مساكن المتواضعين الذين قد يسكنون فى مساكن تصل المسافة بين بعضها إلى متر ونصف المتر فقط دون شوارع ممهدة، وعلى عكس ملكية الأراضى الزراعية التى قد تنزع أو تفتت بالوراثة ظل حق السكن مكفولا للجميع منذ تلك الفترات القديمة، سواء للمرأة أو الرجل.
يؤكد الدكتور محمد محيى الدين ــ أستاذ علم الاجتماع السكانى فى كلية الآداب بجامعة المنوفية ــ أن فكرة تملك السكن ظلت هى الأصل لدى المصريين حين كان النمط الريفى فى السكن هو السائد طوال العصور، ويضيف: «مازال هذا الواقع مستمرا فى الريف المصرى، لكن مع ازدياد معدلات التحضر وتضخم المدن الكبرى فى مصر بدأت فكرة الاستئجار تكون مطروحة بقوة».
فى العصور الإسلامية وما أعقبها فى الفترة المماليكية ــ العثمانية لم تطرأ تغييرات فارقة على علاقة المصريين بالسكن سوى فى ملاحظة يسجلها الدكتور عاصم الدسوقى، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر فى كلية الآداب بجامعة حلوان، إذ يوضح: «الظاهرة الأهم فى هذا المجال كانت فى المدن، وكانت الملكية مستقلة بطبيعة الحال، لكن ساد حس جماعى بين أصحاب الطوائف الدينية والمهنية، ليسكنوا الحوارى ذات الباب الواحد، لتصبح الورشة جزء عضويا من السكن وملكيته، ولم تكن فكرة الإيجار مطروحة بجدية سوى فى بدايات القرن الماضى».
بعد تطور شكل الدولة الحديثة فى عهد خلفاء محمد على ودخول قوانين تنظيمية وظهور الجاليات الأجنبية فى الحياة العملية، كان لابد من تطور فى علاقة المصرى بسكنه، خاصة بعد ظهور شركات الاستثمار العقارى التى أنشأت أحياء بأكملها، لكن المفارقة التى سجلها الدكتور عاصم الدسوقى فى كتابه «كبار ملاك الأراضى الزراعية ودورهم فى المجتمع المصرى» (دار الشروق/2007)، أن الزراعة ظلت هى المصدر الرئيسى للإنتاج لفئة كبار الملاك، ويعلق على هذا قائلا: «ظل كبار الملاك مرتبطين بالريف ونمط السكن والإنتاج هناك، وبعضهم أجر الفيللات فى العاصمة، لكن حقيقة الأمر أن الطبقة الوسطى فى المدن أثناء النصف الأول من القرن العشرين وقبل الثورة تحديدا كانت قد بدأت فى الانتقال بقوة لشكل الإيجار السكنى».
مجتمع المدينة فى تلك الفترة كان ينشط فى اتجاهات جديدة من النشاط الاقتصادى، وكان الأفندية ومن هم أدنى فى السلم الاجتماعى أكثر قبولا لفكرة التأجير، وهو ما اعتبره الدكتور محمد محيى الدين فرصة لتحقيق «الحراك المكانى»، لكن هذا الأمر كان له وجه آخر: «قبل ثورة 1952 كان من حق المالك أن يخلى الشقة من المستأجر، وهو ما تغير بعد الثورة بتحديد قيمة الإيجار وتخفيضها، وأصبح المستأجر أكثر ارتباطا بشقته وأوجد ذلك حالة من الغضب المكتوم بين المالك والمستأجر، حتى بدأنا مؤخرا فى الحديث عن قانون الإيجار الجديد لرفع قيمة الإيجار».
يتفق كل من الدكتور عاصم الدسوقى والدكتور محمد محيى الدين على أن عصر السادات كان نقطة مفصلية مع سياسة الانفتاح التى اتبعها، فأدى ذلك إلى انتقال رأس المال الزراعى ــ حسب تعبير د.عاصم الدسوقى ــ إلى مجال البناء فى العقارات، فزادت فرص التملك من جديد، خاصة مع عودة أموال العائدين من الخليج فى الثمانينيات.
فى حين يرصد د. محمد محيى الدين ما أدى إليه هذا التوجه الجديد فى ظل الأزمة السكنية فى السبعينيات وازدياد معدلات الهجرة من الريف إلى الحضر، شارحا أنه قد بدأ «ترييف المدينة» وهو ما أثر على شكل تملك السكن بوجود شكل «البيت العائلى» داخل العاصمة، واتجاه القادمين من الريف إلى تأجير شقق فى أماكن قريبة من بيئتهم الأصلية فى أحياء ذات أصل ريفى، على عكس «الحراك المكانى» القديم الذى كان يقوم به أبناء المدينة فى انتقالاتهم.
هذه الفوارق الواضحة التى كانت بين الأحياء الشعبية والراقية، وبين الريف والحضر، أذابتها الهجرة الداخلية وطورها ارتفاع مستوى التعليم فى فئات ورثت طبقة الأفندية القديمة، وأصبحت هناك حالات تصلح للدراسة يشير إليها الدكتور محمد محيى الدين مثل حيى بولاق والجمالية فى القاهرة اللذين تحولا من نمط السكن القديم حين كانا مستقرين لحوارى قامت على أساس الطائفة، ثم نشوء الطبقة الوسطى الأكثر تعلما، وأخيرا استقطاب الهجرات الريفية، ولكل فئة فلسفتها فى التملك والإيجار.

Saturday, February 6, 2010

تراجع نسبة المصريات اللاتي تعرضن للختان إلى ٩١٪

عبدالرحمن مصطفى
تصوير: هبة خليفة

«الشيخ قال إن ختان البنت سنة!.. طب مين اللى قال إنه ختان البنت مؤذى؟» هذه الأسئلة يتلقاها العاملون بالمجلس القومى للطفولة والأمومة على الخط الساخن 16000 الخاص بنجدة الطفل.
تذكر سارة فتحى ــ إحدى منسقات المشروع القومى لمناهضة ختان الإناث بالمجلس ــ أنها كانت تتلقى أسئلة كثيرة من هذه النوعية إلى جانب الأسئلة الطبية الأخرى، وتقول: «من خلال الخبرات السابقة فى المجال والتعامل المباشر مع الجمهور فى الخط الساخن أصبح واضحا لدينا أن إحدى أهم المعوقات التى تواجهنا بخصوص مشكلة الختان هى اعتقاد البعض أنها عادة دينية».
ورغم إعلان مفتى الجمهورية على جمعة قبل سنوات عن فتوى تفيد بأن ختان الإناث حرام شرعا، فإن هناك حالة من البلبلة تثيرها فتاوى أخرى وآراء دينية تزكى وتبيح ختان الإناث.
يعمل المشروع القومى لمناهضة ختان الإناث اليوم، الذى يتزامن مع الاحتفال العالمى بمناهضة ختان الإناث، فى مرحلته الثانية التى ستستمر حتى العام 2011 والتى تستند إلى آليات أخرى منها خط ساخن للمشورة الأسرية ووضع قضايا الختان ضمن عمل أوسع على ظاهرة العنف الأسرى.
وأظهر المسح السكانى الصحى لمصر الصادر عن وزارة الصحة العام الماضى أن نسبة السيدات فى الفئة العمرية من 15 إلى 49 عاما اللاتى تعرضن للختان هى 91 %، بينما كانت النسبة فى مسح عام 1995 قد وصلت إلى 97 % من السيدات فى نفس الفئة العمرية.
وتقول آمال عبدالهادى ــ عضو مجلس أمناء بمؤسسة المرأة الجديدة ــ إن بعض التجارب مثل تجربة قرية دير البرشا التى أعلنت تخليها عن تلك العادة فى أوائل التسعينيات نموذجا مهما يعطى بعض الدلائل والمؤشرات. وتضيف قائلة إنه: «من خلال تواجدى فى القرية فى ذلك الوقت لإجراء دراسة ميدانية وجدت أن هناك تأثيرا كبيرا من كبار القرية ورجال الدين على الناس، ما نحتاجه اليوم هو أن تظهر شخصيات قيادية ونجوم المجتمع ليعلنوا تخليهم عن تلك العادة، والتخلى عن الرفض الصامت للختان».
توضح آمال عبدالهادى أن هناك عدة موجات ظهرت تدافع عن حق الفتاة فى حماية جسدها منذ عشرينات القرن الماضى، لكن كانت الانتكاسة فى قانون عام 59 الذى منع ممارسة الختان داخل المستشفيات وزارة الصحة، مما جعلها متاحة فى العيادات الخاصة، بل ونقلها من فئات بسيطة مثل حلاق الصحة والداية إلى الطبيب الجراح مما جعل لها قبولا لدى بعض الفئات.
وحسب المسح الصحى الديمجرافى الصادر عن وزارة الصحة فى عام 1995 فإن نسبة 17 % من حالات الختان فى مصر جرت بواسطة الأطباء وارتفعت النسبة إلى 67 % عام 2005.
إلا أن ما يعتبره النشطاء نوعا من التقدم هو تجريم قانون الطفل لختان الإناث، وتقول سارة فتحى من المشروع القومى لمناهضة ختان الإناث: «المرحلة الثانية من المشروع هى التعريف بعواقب هذه الممارسة فى ضوء التجريم القانونى، إلا أن المشكلة التى واجهتنا أثناء تلقى بلاغات من الخط الساخن هو عدم توافر فكرة الضبط الجنائى، مما يجعل بعض هؤلاء الأطباء أو غيرهم يفلتون من العقوبة».