Tuesday, May 31, 2011

كل رجال الباشا - كتاب يواجه أسطورة محمـد عـلى وجيشـه



لا يَخفى على رواد ندوات الدكتور خالد فهمى رئيس قسم التاريخ بالجامعة الأمريكية بالقاهرة ــ تأثره بأطروحته الأولى عن جيش محمد على، التى حطم فيها أسطورة محمد على باشا وجيشه «الوطنى». وفى الطبعة الثانية من الكتاب الصادرة مؤخرا عن دار «الشروق» يصبح لهذه الأطروحة مذاق آخر، إذ تصبح القراءة عن تحطيم أسطورة محمد على أكثر إثارة فى زمن الثورة التى حطمت هى الأخرى أسطورة حاكم سابق استخدم دعايته وخلفيته العسكرية فى صنع أسطورته الخاصة. وبالمرور على فصول «كل رجال الباشا» تبدأ بعض القناعات فى التغير تدريجيا.. ليس فقط على مستوى موضوع الكتاب، بل أيضا ــ وهو الأهم ــ على مستوى رؤيتنا للتاريخ وكيف تم تقديمه لنا طوال العقود الماضية.
كتاب «كل رجال الباشا» هو ثمرة جهد عشر سنوات قضاها الكاتب مع موضوعه أثناء إعداد رسالة الدكتوراه فى جامعة أكسفورد البريطانية، وصدرت طبعته العربية الأولى عن دار الشروق فى عام 2001 بترجمة الدكتور شريف يونس أستاذ التاريخ بجامعة حلوان، ولم يخشَ خالد فهمى من أن يذكر أنه عجز عن إقامة علاقة مودة مع محمد على باشا، خاصة حين تيقن أن الفظائع التى ارتكبت فى عهده لم تكن بسبب «الحاشية الفاسدة، التى تحيط بالحاكم العادل»، بل كانت سياسات عامة قهرت السكان البسطاء كى يحقق محمد على أطماعه التوسعية. وتبرز لدى خالد فهمى قضيتان يمكن ملاحظتهما على مدى أكثر 450 صفحة، الأولى: هى اهتمامه بنقد الكتابات التاريخية التى كرست صورة عظيمة لمحمد على وعصره، أما الثانية: فهى البحث عن صوت المصرى المهمَّش من خلال دراسة مؤسسة الجيش والبحث عن الجندى المستضعف داخلها، معتمدا على فكرة «التأريخ من أسفل».
فى بداية مقدمة الطبعة العربية الثانية للكتاب يعرض فهمى حالة نموذجية للكتابات التاريخية المفخخة، التى تناولت عهد محمد على، ضاربا المثل برسالة من محمد على إلى أحد موظفيه أوردها أمين سامى باشا مؤلف كتاب «تقويم النيل»، وتم استخدام هذه الرسالة وقتها للتأكيد على فكرة «الحاكم المهموم بمصالح شعبه»، لكن خالد فهمى، الذى أطلع على أصل الرسالة المدونة بالتركية وجدها ذات معنى آخر تماما، بل وجد أنها تتضمن إهانات للمصريين. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل رصد فهمى أنه قد كان لتدخل الملك فؤاد الأول فى عملية التأريخ لجده الكبير وعملية الأرشفة أثرا على حركة الكتابة التاريخية فيما بعد، إذ تم اعتبار محمد على الكبير مؤسس مصر الحديثة.
كيف يصل خالد فهمى إلى صوت الجندى الغائب فى الوثائق التاريخية؟ كانت خطته تعتمد على أدوات كشفها مبكرا فى مقدمة الكتاب. إذ استعان أولا بالفيلسوف والمؤرخ الفرنسى ميشيل فوكو الذى لعب من قبل اللعبة نفسها مع التاريخ الأوروبى الحديث وتحديدا فى نقد مؤسسات الدولة الحديثة. لذا كانت المهمة واضحة أمام خالد فهمى فى نقده لمؤسسة الجيش وعلاقتها بالأفراد، كذلك استعان بمنهج «مجموعة دراسات التابع»، التى ركز مؤرخوها على دراسة من هم خارج النخبة السياسية، وهو منهج يصلح استخدامه فى حالتنا هنا مع جنود محمد على. تبقى قضية مهمة يطرحها خالد فهمى عن مدى وعى هؤلاء الجنود بفكرة الوطنية. بل فوق هذا يطرح سؤالا عن هل كان الباشا محمد على نفسه يؤسس جيشا وطنيا «مصريا» على اعتبار أنه يبنى دولة حديثة؟ هذه الفكرة الأخيرة كانت محركا لكثير من كتابات المؤرخين، الذين رأوا فى محمد على بانيا لمصر الحديثة مثل عبدالرحمن الرافعى الذى كتب فى كتابه «عصر محمد على» واصفا التجنيد فى الجيش بأنه «الدعامة الأولى التى شاد عليها كيان مصر المستقلة». لذا كان على خالد فهمى أن يشتبك مع هذه المسلمات التى راجت لعقود طويلة، أو حسب عبارة الدكتور شريف يونس ــ المترجم ــ فى مقدمته فإن «خالد فهمى يقوض جدرانا بأكملها من صرح النمط الوطنى السائد فى الكتابة التاريخية المصرية ومسلماتها». هذه الخطة تجعل لهذا الكتاب نوعا من الخصوصية، ورغم أن المؤلف يدرس أحوال جيش خاض حروبا ومعارك ضارية فإنه على القارئ ألا يتوقع قراءة مسلية عن فتوحات وانتصارات.. فالهدف هنا مختلف.

مواجهة مع الباشا
يشعر القارئ فى بعض الأوقات أن محمد على قد اقتطع مساحات كبيرة من الكتاب قد توازى حضور جنوده، ورغم أن العنوان الكبير هو: كل رجال الباشا، فإن خالد فهمى استهدف محمد على بقوة، لذا كان العنوان الفرعى للكتاب أكثر واقعية وهو: محمد على وجيشه وبناء مصر الحديثة. وفى مسيرة المؤلف يبدأ بنقد الأسباب التى صاغها المؤرخون أثناء تفسيرهم لحملات جيش محمد على العسكرية إلى الجزيرة العربية والسودان واليونان وسوريا، ويعرض من خلال الوثائق التى توصل إليها وجها آخر للعمليات العسكرية حين يروى قصة ضابط هارب من المعركة، مقارنا كيف تم عرض نفس القصة فى كتاب لمؤرخ عسكرى مثل عبدالرحمن زكى ذكر أن ذلك اللواء «تاه فى الضباب» وهى الرواية الوطنية، التى تصر دوما على الحفاظ على الكبرياء العسكرى للجيش المصرى. وبعيدا عن التأريخ للضباط والقادة يبحث خالد فهمى فى كتابه عن الجندى المهمش، بادئا بعرض البدايات الأولى لإلحاق المصريين بجيش الباشا، وذلك ما تكشفه رسالة من محمد على إلى مدير مديرية جرجا آنذاك عن رغبة الوالى فى تجنيد سكان محليين لتغطية مشاكل جنوده الأتراك فى السودان، لم تكن النية إنشاء «جيش وطنى» لتحقيق طموحات الوطن والاستقلال، لكنها كانت أسبابا أخرى. ويستمر خالد فهمى فى خطته بحثا عن الجندى فى زحام الأحداث، من خلال رصد العلاقة بين المؤسسة العسكرية والفرد، ليكشف عن «فرد» مقهور يتحول إلى رقم فى ملفات المؤسسة، لا يدرك دوره فى طموحات الباشا الكبير، يحاول الهرب والفرار من «الجهادية» حتى إن اضطر إلى تشويه جسده، أو تحمل المرض والقهر وهو مكره. هذه النقطة الأخيرة تغاضى عنها كثير من مؤرخى الوطنية الذين رأوا فى محمد على رمزا لمشروعهم الوطنى. ولا يكتفى الكاتب بذلك بل يضع محمد على فى إطاره العثمانى كوالٍ جاء إلى الحكم على غير رغبة كاملة من السلطنة، واستمر فى ولايته محاولا الحفاظ عليها مطيعا للسلطنة أحيانا، وعاصيا لها فى أحيان أخرى، متأثرا بنجم تلك المرحلة نابليون بونابرت ذى السمعة العسكرية الشهيرة. وبعد رحلة فى الوثائق يرى خالد فهمى أنه لم يكن من طموحات محمد على باشا فى يوم من الأيام أن يؤسس دولة مصرية حرة مستقلة، لكنه أراد حكما أسريا يرثه أبناؤه من بعده.
بعد الانتهاء من قراءة «كل رجال الباشا» قد تعلق فى الأذهان أمثلة ساقها الكاتب تضيء علامات استفهام فى رأس القارئ، حتى أن كان قد أجاب عنها الكتاب فى صفحاته، مثل تمسك محمد على بالتحدث بالتركية دون تعلم العربية حتى وفاته أو إبقائه على الجنود المصريين «أولاد العرب» فى درجة أقل من ضباطه المتحدثين بالتركية، أو عن شعور الجندى المصرى وهو يواجه عسكر السلطان العثمانى «المسلمين» فى المعركة، هل كان ذلك جهاد فى سبيل الله أم فى سبيل الباشا؟ لقد كانت الراية التى يحملها الجند أثناء مواجهات محمد على مع السلطان العثمانى كاشفة لحقيقة الموقف، لم تكن راية إسلامية، ولا ذات صبغة مصرية وطنية، كانت راية عليها شعار واحد.. هو اسم الباشا، محمد على.

Thursday, May 19, 2011

الريف يريد تغيير النظام

الحياد والاستقلالية أهم أدوات المرحلة
كتب - عبدالرحمن مصطفى









الخريطة السياسية فى قرية الماى (محافظة المنوفية)، كما يرى عماد سمير (33 سنة)، بدأت تتغير فى اتجاه غير معلوم، ولا أحد فى العاصمة يهتم بما يحدث فى الريف على حد قوله: «أتعجب من انكباب قوى المجتمع المدنى فى القاهرة على توعية شرائح لديها وعى سياسى بالأساس تاركين خلفهم الريف يصارع ماضيه السياسى». يلقى عبارته فى أحد الكافيهات الشهيرة بمدينة شبين الكوم (محافظة المنوفية) التى تبعد عن قريته «الماى» 4 كيلومترات تقريبا. ثم يضيف: «بحكم عملى فى الهيئة العامة للتأمين والمعاشات كنت أتعامل أحيانا مع البسطاء واكتشفت غياب الوعى بحقوقهم إلى حد كبير، كما اكتشفت وصول نسبة الأمية فى قريتى إلى الربع، وفى بداية هذا العام فكرت فى تأسيس جمعية تحت اسم (وعى) ذات طابع تنموى، لكن زياراتى إلى ميدان التحرير فى فترة الثورة كشفت لى أن التاريخ يصنع بشكل آخر، وتحول مشروع الجمعية إلى (رابطة وعى) بقرية الماى». يأمل عماد ورفاقه فى أن يكون لـ(وعى) دور فى تغيير ملامح العملية السياسية فى قريتهم. يخرج من حقيبته منشورا أعدته الرابطة تحت عنوان «اختار صح ...تعيش صح» مكتوبا بلغة عامية توضح مهام عضو البرلمان وأسس اختياره، ويقول عماد: «الهدف أن تصل الفكرة بشكل جذاب». فى نهاية المنشور فقرة تحتوى على هذه العبارة «مش دى بلدنا، وده حقنا؟ ولا هانستنى تانى لحد ما نجيب بإيدينا شوية بلاليص يقعدوا فى مجلس الشعب؟!».
فى الطريق إلى (الماى) يشرح طبيعة القوى السياسية هناك قائلا: «كانت أكبر قوة سياسية بيد الحزب الوطنى الديمقراطى المنحل، ثم من بعده الإخوان المسلمون.. أما أسس اختيار النائب فكانت تحددها أمور كثيرة.. على رأسها قدرة المرشح على التأثير على العائلات ذات القدرة التصويتية العالية». يقدر عدد سكان الماى حسب تقديرات الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء فى العام 2006 بـ 24 ألف نسمة، لكن تقديرات حديثة تعلو بالرقم من 45 إلى 60 ألف نسمة، وتقع قرية الماى ضمن دائرة البتانون الانتخابية، حيث يراهن كل مرشح برلمانى على اجتذاب أصوات الماى من أجل نيل كرسى البرلمان. وعلى عكس بعض قرى الريف الأخرى فإن الماى تختلف فى أنها لم تعش أجواء إقطاعية صاخبة قبل ثورة يوليو 52، وهو ما أوجد تقاربا بين مستوى العائلات هناك، وهو ما جعلها أيضا حالة نموذجية فى الفترة الناصرية حين أنشئت السينما والمسرح إكراما لقرية تكاد تكون خالية من الإقطاع. أما اليوم فقد تحول المسرح إلى «خرابة» تجتذب الشاردين.
على مقهى مجاور للمسرح القديم كان محمد عبدالسميع عبدالله ــ عضو اللجنة العامة لحزب الوفد بالمنوفية ــ ينتظر حسب الموعد.. ينتمى محمد إلى إحدى العائلات المؤثرة سياسيا فى القرية، إلا أن ذلك الأمر كان سببا فى غربته طوال السنوات الماضية، ويشرح ذلك قائلا: «عانى جيلى من الإحباط وعدم ممارسة السياسة فى الجامعة، وفى العام 2000 انضممت إلى حزب الوفد، لكن ذلك كان خارج سياق العائلة، إذ كان والدى على سبيل المثال عضوا فى الاتحاد الاشتراكى ثم من بعده عضوا فى الحزب الوطنى، وهكذا كانت ميول الكثير من العائلات». ينوى محمد عبدالسميع تأسيس مقر للوفد فى القرية مستندا إلى اختلاف الأجواء عن السابق، فبعد أن كان هناك استهجان لخروجه على الأغلبية، أصبحت اليوم هناك مساحة للنقاش وقبول الاختلاف بعد حل الحزب الوطنى. ويقول: «كان الأمر فى الماضى يصل إلى حد تدخل البعض فى طموحاتى السياسية تحت تأثير قوة الحزب الوطنى على العائلة وقتها.. وازداد الأمر حين انضممت إلى حزب الغد فى 2004 خصوصا حين قدت حملة أيمن نور الرئاسية فى 2005». حسب عبارته كان البعض فى القرية يعتبرونه «مجنونا» لتأييده مرشحا ضد مبارك. أما اليوم فبإمكانه إدارة حوار فى المناسبات الاجتماعية بصفته الوفدية بعد أن عاد إلى الوفد فى العام الماضى.
تلك الحالة الجديدة على القرية التى يستبشر بها محمد عبدالسميع وعماد سمير لايزال يصاحبها غموض قادم، خصوصا أن القواعد القديمة للعملية السياسية لم تتغير، وهناك شرائح كانت مؤيدة للحزب الوطنى ما زالت تتحسس الطريق، أحدهم على سبيل المثال هو فتحى مندور الذى كان أمينا للتنظيم عن الحزب الوطنى بالقرية، واليوم يتبرأ من ماضيه السياسى قائلا: «أنا نادم على مشاركتى فى يوم من الأيام داخل هذا الحزب... ربنا يسامحنى» .
ورغم تأكيده على أن الحزب قد كان بالفعل القوة الأولى داخل القرية فإن أغلب الأعضاء كانوا «يحملون كارنيه الحزب وليس لديهم أدنى انتماء له». وبحكم خبرته السياسية فى القرية يرى أن قواعد اللعبة السياسية لن تختلف كثيرا، ويشرح ذلك: «ربما يكون هناك 20% من الناخبين هم من سيختارون مرشحهم على أساس سليم، أما الباقون فستظل تحكمهم القواعد القديمة اعتمادا على علاقة المرشح بالعائلات، وما يقدمه من إنفاق على القرية.. بل أعتقد أن الإخوان المسلمين قادمون لأنهم أكثر قوة منظمة من العهد الماضى». اليوم ازداد عدد من ينوون ترشيح أنفسهم داخل القرية، وهناك من بدأ حملته مبكرا.. إذ تكفى نظرة حول المقهى الذى يجلس عليه عماد سمير ومحمد عبدالسميع لملاحظة تلك الدعاية من الآن. ينضم إلى الجلسة طالبا السنة النهائية فى كلية الهندسة أحمد عرفات وصديقه أحمد جمال. وكلاهما من زملاء عماد سمير فى رابطة «وعى» ذات الموقف السياسى الداعى للدولة المدنية، بمجرد مجيئهما استدعى الحديث عن الإخوان المسلمين فى القرية موقفا تعرضا له أثناء الاستفتاء الأخير، إذ وقع اشتباك طفيف فى مؤتمر نظمه الإخوان حول التعديلات الدستورية حين حاول المؤيديون لـ(لا) طرح وجهة نظرهم خوفا من تأثير الإخوان على الجماهير والزج بهم ناحية (نعم). يقول عماد سمير: «أحدهم وصفنا بأننا ثورة مضادة..رغم أننا كلنا شاركنا فى أحداث الثورة».

مدنية أم إسلامية؟
يمتاز نشاط التيار الإسلامى فى القرى بوجوده الملحوظ عبر النشاط الخدمى طوال العام، والتواصل الفعال مع الجماهير. لكن تظل هناك قواعد متشابكة داخل «الماى» لاختيار المرشح البرلمانى، منها أن يكون المرشح من أبناء القرية، وهنا قد يأتى الدعم الجماهيرى دون الاهتمام بفكرة الانتماء السياسى وهو ما أتى بعضو إخوانى فى انتخابات 2005 . ولدى طارق رجب ــ أحد إخوان قرية الماى ــ تعليقات حول مخاوف بعض المستقلين أو أنصار الوطنى القديم من ازدياد فرص الإخوان فى المستقبل إذ يقول: «ليس ذنب الإخوان أن فاعلياتهم تعمل طوال العام وليست فى المواسم الانتخابية فقط، أضف إلى هذا أن لدينا خطة عمل وحملات تثقيفية قادمة وأنشطة خدمية لقريتنا».
يزداد القلق لدى بعض الشرائح المثقفة فى القرية التى ازداد قلقها من تنامى قوة التيار الدينى وظهور عنف من بعض السلفيين فى المنوفية والقليوبية ضد الأضرحة الصوفية على سبيل المثال مؤخرا. وكلها تخوفات تزداد لدى شاب مثل عماد سمير الذى يسترجع كلمة لشيخ سلفى هو حازم شومان وصف الدولة المدنية فى إحدى خطبه بأنها: «يعنى أمك ما تلبسشى حجاب». لكن هذه التخوفات يراها طارق رجب المنتمى إلى الإخوان المسلمين أمرا مبالغا فيه قائلا: «ما الضرر أن تكون مرجعيتى دينية فى مقابل مرجعيته الماركسية أو الليبرالية!؟».يخرج أحمد عرفات، الشاب الذى لم يتجاوز 22 سنة، عن صمته طوال فترة جلوسه على المقهى كاشفا عن أنه ينتمى لأقلية نادرة من اليساريين فى قرية الماى، بل أنه عضو فى حزب التجمع من قبل الثورة. ويقول: «لا شك أنها غربة أن تكون ضمن أقلية فى مواجهة كتلة كبيرة مؤيدة للحزب الوطنى المنحل ووسط حضور للإخوان المسلمين». هنا.. يبتسم صديقه أحمد جمال الذى طالما عارضه فى انتمائه السياسى، لكن عرفات يكمل حديثه: «لا شك أن هناك صورة نمطية لليسارى فى القرية، مثل أنه شيوعى ضعيف الإيمان، خصوصا مع تحذيرات المشايخ على المنابر من الشيوعية طوال السنوات الماضية»، هذه الصورة رسمها أيضا ضعف الوجود الحزبى اليسارى فى القرية، وارتباط هذه الفئة بأجواء الثقافة وإخفاق بعضهم فى الوصول لكرسى المجلس مع سطوة الحزب الوطنى والتضييق الأمنى عليهم. أما الآن فحسبما يصف أحمد عرفات: «أصبحت لنا شرعية ــ كشباب ــ بعد نجاح الثورة، حتى فى التعامل مع عائلاتنا».
صخب الحديث عن المستقبل يشوش عليه صخب السيارات من حول المقهى ومقاطعة المارة للحديث، فى إحدى اللحظات الهادئة يقتنص أحمد جمال عضو رابطة «وعى» الفرصة لافتا إلى أمر خطير داخل القرية، ويقول: «أخطر ما قد نواجهه مستقبلا هو تفتيت الأصوات مع ازدياد عدد المرشحين وهو ما قد يأتى بعضو من الوجوه القديمة أيا كان انتماؤه وهو ما لا نرغب فيه.. كل طموحنا أن نرى وجها جديدا ندعمه، ويتبنى منطق المرحلة التى نعيشها». يصمت الجميع قليلا ثم يبدأ عماد سمير الأكبر سنا فى طرح مقترحات، مشيرا إلى تعاونه مع بعض القوى الشبيهة فى القاهرة مثل «رابطة الشباب التقدمى»، ويقول فى حماس: «نفكر فى صنع ملصقات تعتمد على الرسم لتوجيه رسائل إلى العامة عن أسس الاختيار السليم فى العملية الانتخابية».
العبارة لم تمنع أحمد جمال من العودة إلى نقطته الأولى مرة أخرى قائلا: «كل ما نخشاه هو أن نراهن كشباب مستقل على أحد المرشحين وندعمه ثم يخذلنا.. نحن مقدمون على مرحلة صعبة». على الرغم من أجواء القلق التى تسيطر على الجميع هنا فإن الجميع يترقب القادم على أمل تغيير ملامح العملية السياسية فى القرية.. أما عماد سمير فيختتم قائلا: «الريف هو البوابة الخلفية للسياسة فى مصر، فإن لم تحموا بوابة مصر الخلفية.. فعلى الدنيا السلام».







رحلة البحث عن المصري الجديد


يتابع محمود متعب المحاضرة بقلق على أمل الحصول على نتائج طيبة على المدى البعيد، يقول معلقا: "هذه هي المحاضرة الثانية لنا في بني سويف، والمرحلة القادمة من الحملة ستدار بأيدي أبناء بني سويف أنفسهم". محمود متعب هو أحد المتطوعين والمؤسسين في حملة الوعي السياسي التي اتخذت عنوان "مصري على باب الديمقراطية" حسب عنوان الحملة على شبكة فيسبوك الاجتماعية، أما تفاصيل هذا المشروع فتعتمد على إعطاء دورات سياسية على أيدي أكاديميين متخصصين ثم الاعتماد على المتدربين في نقل هذه المعرفة إلى شرائح اقل ثقافة في مجتمعاتهم، وذلك بعيدا عن توجيه الحضور أو فرض اختيارات سياسية عليهم. يكمل محمود شارحا: "التقيت بمجموعة من الشباب في ميدان التحرير وبدأنا هذا العمل بعد مناقشات حول الطريقة المثلى للحفاظ على مكتسبات الثورة، وكان هدفنا أيضا أن نصل إلى المحافظات خارج القاهرة، وحين تواصلنا مع كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، رحبوا بالفكرة.. وخرج مشروع المصري الجديد من مركز حوار الحضارات بالكلية ليتوجه إلى المحافظات خارج القاهرة". في داخل قاعة المحاضرة في الطابق الأخير من مستشفى بني سويف الجامعي كان الدكتور صالح الشيخ الأستاذ في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة يحاضر عن المفاهيم السياسية والدستور، ولم يخلو الأمر من قفشات أو تعليقات حماسية عند محاولة الربط بين ما يتلقاه المتدربين من معلومات وما هو على أرض الواقع، ويعتمد المشروع في تعامله مع الحضور على نظام (TOT) أو تدريب المدربين، إذ يراهن منظمو الحملة على أن يتصدى الشباب الحاضر إلى تدشين حملات توعية سياسية في مناطقهم داخل بني سويف. ومن المخطط أن يصدر عن كلية الاقتصاد والعلوم السياسية كتيبا يساعد المدرب فيما بعد أثناء تعامله مع الجمهور فيما بعد. في هذه الأثناء يتابع الدكتور ياسر دياب أستاذ الكيمياء الحيوية في جامعة كأحد المنظمين لهذا النشاط. ويقول: "بعد الثورة تواصلت مع بعض شباب بني سويف عبر الفيسبوك، وبدأنا لقاءاتنا على أرض الواقع، وفي نفس الوقت لفتت نظري حملة المصري الجديد وإمكانية نقلها إلى بني سويف.. وقد كان، وآمل أن تنجح مثل هذه الحملات في منع عودة الحياة السياسية إلى ما كانت عليه من فساد واختيار غير واع لأعضاء البرلمان". وبمجرد أن بدأت فترة الاستراحة بين جزأي المحاضرة، انشغل الجميع في أحاديث جانبية خارج قاعة المحاضرة تكشف عن التنوع السياسي والاجتماعي للشباب الحاضر بين من يعمل إماما لمسجد، وشاب ذو ميول قومية لا يخفيها، وثالث ليبرالي.. ويجمعهم طموح أن يمارسوا التوعية السياسية في محافظتهم ومواجهة مجتمعاتهم وخصوصيتها. في هذه المحاضرة حاول أحد الحاضرين بدافع الفضول عرض وجهة نظره من وجهة نظره كإسلامي، بينما شهدت المحاضرة السابقة نقاشا حول الانتماء إلى القبيلة (لذوي الأصول العربية) وكيف يجب ألا يتعارض مع الالتزام بأسس نزيهة عند اختيار عضو البرلمان. المهندس إسلام فتحي الناشط في مدينة بني سويف أحد هؤلاء الذين سيواجهون نظاما قديما ينتظر التغيير، ويقول: "الهدف أن أوصل للناس رسالة حول مهام عضو البرلمان وأسس اختياره وما هو الدستور وغير ذلك على أمل التغيير إلى الأفضل" . يصمت قليلا ثم يعلق باسما: "ليس لدي مشكلة في الانتقال بتوكتوك بين القرى للتنويه عن ندوة للتوعية السياسية". يشارك الدكتور ياسر دياب معلقا على حالة يراها في القرية التي تنتمي إليه جذوره في بني سويف، ويقول: "المشكلة أن ترى الناس في القرية بعد حل الحزب الوطني وزوال تأثيره، ما زالوا يديرون أحاديثهم فيما بينهم حيث لا تصل إليهم المعلومات الكافية.. الجميع في حاجة إلى التحاور مع غيره في هذه المرحلة.. لأن أكبر خطر أن يعود نفس المرشحين بنفس طريقتهم وكأن شيئا لم يكن". في ختام اليوم يبدأ عرض خطة المرحلة الثانية من المشروع وتعتمد على تكوين فريق عمل بالمحافظة واختيار متدربين ذوي المهارات العالية كي يكونوا مدربين في المرحلة التالية ثم عمل أنشطة تعتمد على دراية المتطوعين بمجتمعاتهم.. وما أن ينته يوم العمل حتى يكمل كل متدرب بقية يومه محتفظا بعنوان كبير هو شعار المرحلة القادمة في التوعية وهو "التوعية الحيادية" على أمل التأثير في الآخرين وإصلاح الحياة السياسية في محافظته.


مصير التوعية في متاهات السياسة


يرى الدكتور مصطفى كامل السيد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة أن التوعية السياسية في الريف لن تغير مزاجه الانتخابي ضد مرشحين قدامى أو لصالح مرشحين جدد، فحتى مع تغير ملامح الخريطة السياسية بعد سقوط الحزب الوطني سيظل المعيار الأساسي هو مصالح الناخب. هذا الرأي لا يختلف كثيرا عما يعتقده أحمد عبدالعليم المدرب في مجالي التنمية وحقوق الإنسان، إذ يقول: "ليس من المتوقع أن تتغير القواعد القديمة للعملية السياسية تماما.. على سبيل المثال فيمكن ملاحظة وجود نسبة كبيرة تريد بالفعل تغيير الواقع السياسي تماشيا مع حالة الثورة، لكن على جانب آخر نكتشف أن بعض أعضاء الحزب الوطني المنحل والوجوه البرلمانية القديمة تحاول ركوب الموجة والعودة من جديدة وهو ما لاحظناه في بعض المحافظات". ورغم هذا الترقب الذي يعيشه العاملون في مجال التدريب والتوعية إلا أن هناك بعض الملامح الجديدة لم تكن متواجدة من قبل، إذ يصف أحمد عبدالعليم الأجواء قبل الثورة بأنها كانت خانقة على بعض أنشطته، للدرجة التي كان يقلق المتدربون من موضوعات مثل أساليب الاحتجاج والمقاومة والضغط، خوفا من فكرة الاعتصام والمظاهرة وغيرهما. أما اليوم فيقول: "بعد تجربة في التدريب على التوعية بعد الثورة، لمست استعدادا وتسامحا من المتدربين للحديث عن أساليب الاحتجاج والضغط والمقاومة، في أجواء أقل حذرا من قبل.. لكن ما نحتاجه اليوم هو أساليب مبتكرة ومختلفة عن الفترة الماضية، بحيث نبتعد قليلا عن أداء المحاضرة والندوة". تلك الأجواء الجديدة على عالم التوعية السياسية أدت إلى نتائج جديدة لم تكن لتحدث من قبل مثل أن تقام ندوة للتوعية السياسية في جمعية خيرية مثل "رسالة"، وهو ما يؤكد معتزبالله محمد مدير الدعاية في الجمعية بأنه كان من الصعب حدوث ذلك في السابق، لكن الحدث فرض نفسه وعقدت أول ورشة توعية سياسية على يد معتزبالله نفسه قبيل الاستفتاء الأخير، ويقول:"كان الهدف مناقشة مفاهيم عامة عن الدستور وبعض المفاهيم السياسية، ولم يكن الهدف بأي حال توجيه الحاضرين لأن أغلبهم من الشباب الواعي، لكنهم يفتقدون الوعي السياسي تحديدا". وينوى معتزبالله نقل فكرة التوعية السياسية إلى فروع أخرى خارج القاهرة في الشرقية والمنصورة، وبعد أن كانت بعض الأقلام تتهم العمل الخيري بأنه مهرب من السياسة، بدأت السياسة في التواجد داخل مساحات أخرى، ويعلق معتزبالله قائلا: "لا أعتقد أن اهتمام الشباب بالسياسة سيؤثر على اهتمامهم بالعمل الخيري أو التطوعي.. فكلاهما مطلوب". وكانت دراسة صادرة عن مجلس الوزراء المصري قد أشارت في العام 2009 إلى أن نسبة الشباب المتطوع في العمل الخيري لا تتجاوز 3%. ويعود الدكتور مصطفى كامل السيد معلقا على إمكانية تغيير ملامح العملية السياسية في الريف قائلا: "كل ما نراهن عليه في المستقبل أن تؤثر حملات التوعية السياسية في تغيير نمط التصويت، وليس من المفترض أن يحدث تغييرا جذريا بسبب رواج الحس الثورة الحالي، ستظل هناك حسابات مؤثرة في العملية الانتخابية مثل الروابط العائلية، وكاريزما المرشح الانتخابي، والخدمات التي يقدمها.. فتقدم الحزب الوطني في السابق لم يكن سببه الانتماء والولاء للحزب بقدر ما كان بسبب تغليب المصالح إضافة إلى عامل التزوير". وحسبما يرى الدكتور مصطفى كامل السيد، فإن نضج الناخب ووعيه في لحظة الاختيار هو المكسب الحقيقي من عمليات التوعية لكنها يحدث على مدى بعيد.