Tuesday, May 31, 2011

كل رجال الباشا - كتاب يواجه أسطورة محمـد عـلى وجيشـه



لا يَخفى على رواد ندوات الدكتور خالد فهمى رئيس قسم التاريخ بالجامعة الأمريكية بالقاهرة ــ تأثره بأطروحته الأولى عن جيش محمد على، التى حطم فيها أسطورة محمد على باشا وجيشه «الوطنى». وفى الطبعة الثانية من الكتاب الصادرة مؤخرا عن دار «الشروق» يصبح لهذه الأطروحة مذاق آخر، إذ تصبح القراءة عن تحطيم أسطورة محمد على أكثر إثارة فى زمن الثورة التى حطمت هى الأخرى أسطورة حاكم سابق استخدم دعايته وخلفيته العسكرية فى صنع أسطورته الخاصة. وبالمرور على فصول «كل رجال الباشا» تبدأ بعض القناعات فى التغير تدريجيا.. ليس فقط على مستوى موضوع الكتاب، بل أيضا ــ وهو الأهم ــ على مستوى رؤيتنا للتاريخ وكيف تم تقديمه لنا طوال العقود الماضية.
كتاب «كل رجال الباشا» هو ثمرة جهد عشر سنوات قضاها الكاتب مع موضوعه أثناء إعداد رسالة الدكتوراه فى جامعة أكسفورد البريطانية، وصدرت طبعته العربية الأولى عن دار الشروق فى عام 2001 بترجمة الدكتور شريف يونس أستاذ التاريخ بجامعة حلوان، ولم يخشَ خالد فهمى من أن يذكر أنه عجز عن إقامة علاقة مودة مع محمد على باشا، خاصة حين تيقن أن الفظائع التى ارتكبت فى عهده لم تكن بسبب «الحاشية الفاسدة، التى تحيط بالحاكم العادل»، بل كانت سياسات عامة قهرت السكان البسطاء كى يحقق محمد على أطماعه التوسعية. وتبرز لدى خالد فهمى قضيتان يمكن ملاحظتهما على مدى أكثر 450 صفحة، الأولى: هى اهتمامه بنقد الكتابات التاريخية التى كرست صورة عظيمة لمحمد على وعصره، أما الثانية: فهى البحث عن صوت المصرى المهمَّش من خلال دراسة مؤسسة الجيش والبحث عن الجندى المستضعف داخلها، معتمدا على فكرة «التأريخ من أسفل».
فى بداية مقدمة الطبعة العربية الثانية للكتاب يعرض فهمى حالة نموذجية للكتابات التاريخية المفخخة، التى تناولت عهد محمد على، ضاربا المثل برسالة من محمد على إلى أحد موظفيه أوردها أمين سامى باشا مؤلف كتاب «تقويم النيل»، وتم استخدام هذه الرسالة وقتها للتأكيد على فكرة «الحاكم المهموم بمصالح شعبه»، لكن خالد فهمى، الذى أطلع على أصل الرسالة المدونة بالتركية وجدها ذات معنى آخر تماما، بل وجد أنها تتضمن إهانات للمصريين. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل رصد فهمى أنه قد كان لتدخل الملك فؤاد الأول فى عملية التأريخ لجده الكبير وعملية الأرشفة أثرا على حركة الكتابة التاريخية فيما بعد، إذ تم اعتبار محمد على الكبير مؤسس مصر الحديثة.
كيف يصل خالد فهمى إلى صوت الجندى الغائب فى الوثائق التاريخية؟ كانت خطته تعتمد على أدوات كشفها مبكرا فى مقدمة الكتاب. إذ استعان أولا بالفيلسوف والمؤرخ الفرنسى ميشيل فوكو الذى لعب من قبل اللعبة نفسها مع التاريخ الأوروبى الحديث وتحديدا فى نقد مؤسسات الدولة الحديثة. لذا كانت المهمة واضحة أمام خالد فهمى فى نقده لمؤسسة الجيش وعلاقتها بالأفراد، كذلك استعان بمنهج «مجموعة دراسات التابع»، التى ركز مؤرخوها على دراسة من هم خارج النخبة السياسية، وهو منهج يصلح استخدامه فى حالتنا هنا مع جنود محمد على. تبقى قضية مهمة يطرحها خالد فهمى عن مدى وعى هؤلاء الجنود بفكرة الوطنية. بل فوق هذا يطرح سؤالا عن هل كان الباشا محمد على نفسه يؤسس جيشا وطنيا «مصريا» على اعتبار أنه يبنى دولة حديثة؟ هذه الفكرة الأخيرة كانت محركا لكثير من كتابات المؤرخين، الذين رأوا فى محمد على بانيا لمصر الحديثة مثل عبدالرحمن الرافعى الذى كتب فى كتابه «عصر محمد على» واصفا التجنيد فى الجيش بأنه «الدعامة الأولى التى شاد عليها كيان مصر المستقلة». لذا كان على خالد فهمى أن يشتبك مع هذه المسلمات التى راجت لعقود طويلة، أو حسب عبارة الدكتور شريف يونس ــ المترجم ــ فى مقدمته فإن «خالد فهمى يقوض جدرانا بأكملها من صرح النمط الوطنى السائد فى الكتابة التاريخية المصرية ومسلماتها». هذه الخطة تجعل لهذا الكتاب نوعا من الخصوصية، ورغم أن المؤلف يدرس أحوال جيش خاض حروبا ومعارك ضارية فإنه على القارئ ألا يتوقع قراءة مسلية عن فتوحات وانتصارات.. فالهدف هنا مختلف.

مواجهة مع الباشا
يشعر القارئ فى بعض الأوقات أن محمد على قد اقتطع مساحات كبيرة من الكتاب قد توازى حضور جنوده، ورغم أن العنوان الكبير هو: كل رجال الباشا، فإن خالد فهمى استهدف محمد على بقوة، لذا كان العنوان الفرعى للكتاب أكثر واقعية وهو: محمد على وجيشه وبناء مصر الحديثة. وفى مسيرة المؤلف يبدأ بنقد الأسباب التى صاغها المؤرخون أثناء تفسيرهم لحملات جيش محمد على العسكرية إلى الجزيرة العربية والسودان واليونان وسوريا، ويعرض من خلال الوثائق التى توصل إليها وجها آخر للعمليات العسكرية حين يروى قصة ضابط هارب من المعركة، مقارنا كيف تم عرض نفس القصة فى كتاب لمؤرخ عسكرى مثل عبدالرحمن زكى ذكر أن ذلك اللواء «تاه فى الضباب» وهى الرواية الوطنية، التى تصر دوما على الحفاظ على الكبرياء العسكرى للجيش المصرى. وبعيدا عن التأريخ للضباط والقادة يبحث خالد فهمى فى كتابه عن الجندى المهمش، بادئا بعرض البدايات الأولى لإلحاق المصريين بجيش الباشا، وذلك ما تكشفه رسالة من محمد على إلى مدير مديرية جرجا آنذاك عن رغبة الوالى فى تجنيد سكان محليين لتغطية مشاكل جنوده الأتراك فى السودان، لم تكن النية إنشاء «جيش وطنى» لتحقيق طموحات الوطن والاستقلال، لكنها كانت أسبابا أخرى. ويستمر خالد فهمى فى خطته بحثا عن الجندى فى زحام الأحداث، من خلال رصد العلاقة بين المؤسسة العسكرية والفرد، ليكشف عن «فرد» مقهور يتحول إلى رقم فى ملفات المؤسسة، لا يدرك دوره فى طموحات الباشا الكبير، يحاول الهرب والفرار من «الجهادية» حتى إن اضطر إلى تشويه جسده، أو تحمل المرض والقهر وهو مكره. هذه النقطة الأخيرة تغاضى عنها كثير من مؤرخى الوطنية الذين رأوا فى محمد على رمزا لمشروعهم الوطنى. ولا يكتفى الكاتب بذلك بل يضع محمد على فى إطاره العثمانى كوالٍ جاء إلى الحكم على غير رغبة كاملة من السلطنة، واستمر فى ولايته محاولا الحفاظ عليها مطيعا للسلطنة أحيانا، وعاصيا لها فى أحيان أخرى، متأثرا بنجم تلك المرحلة نابليون بونابرت ذى السمعة العسكرية الشهيرة. وبعد رحلة فى الوثائق يرى خالد فهمى أنه لم يكن من طموحات محمد على باشا فى يوم من الأيام أن يؤسس دولة مصرية حرة مستقلة، لكنه أراد حكما أسريا يرثه أبناؤه من بعده.
بعد الانتهاء من قراءة «كل رجال الباشا» قد تعلق فى الأذهان أمثلة ساقها الكاتب تضيء علامات استفهام فى رأس القارئ، حتى أن كان قد أجاب عنها الكتاب فى صفحاته، مثل تمسك محمد على بالتحدث بالتركية دون تعلم العربية حتى وفاته أو إبقائه على الجنود المصريين «أولاد العرب» فى درجة أقل من ضباطه المتحدثين بالتركية، أو عن شعور الجندى المصرى وهو يواجه عسكر السلطان العثمانى «المسلمين» فى المعركة، هل كان ذلك جهاد فى سبيل الله أم فى سبيل الباشا؟ لقد كانت الراية التى يحملها الجند أثناء مواجهات محمد على مع السلطان العثمانى كاشفة لحقيقة الموقف، لم تكن راية إسلامية، ولا ذات صبغة مصرية وطنية، كانت راية عليها شعار واحد.. هو اسم الباشا، محمد على.

No comments:

Post a Comment