Tuesday, December 19, 2006

زمن سعد الصغير

عبدالرحمن مصطفى
سعد الصغير... ما سر هذا المغني..؟ ما الذي يجعل أغانيه رائجة بين كاسيتات عربات الميكروباص والدراجات البخارية..؟ ولماذا أصبحت أغانيه ضيفا تقليديا على حفلات الأفراح وافتتاح المحلات وغيرها..؟! قد تجد أغنياته في أفراح الطبقات الغنية، أو على جهاز كمبيوتر شاب من أبناء الطبقة المتوسطة، أو على لسان أحد أبناء الطبقات الفقيرة وأصحاب الحرف، ورغم ذيوع أغانيه بين أوساط الشباب، إلا انه من الصعب اعتباره ظاهرة شبابية، بقدر ما هو ظاهرة اجتماعية.. ما سر هذه الظاهرة ودلالاتها الاجتماعية، وهل عبرت عن تغييرات اجتماعية في المجتمع المصري.. والقاهري على وجه الخصوص..؟!
زمن ولاد البلد
عندما ظهر المغني الشعبي "أحمد عدوية" على الساحة الغنائية أواخر الستينات لاقى انتقادات حادة حول نوعية أغانيه، ورغم ذلك كان "عدوية" يمثل ثقافة لها جذورها، وهي ثقافة "ابن البلد"، ابن المدينة، ولأجل ذلك لم يكن غريبا أن يقول الكاتب الراحل "نجيب محفوظ" ممتدحا صوته أن "عدوية" صوت يعبر عن الحارة المصرية، "نجيب محفوظ" ابن حي الجمالية العتيق والروائي العالمي الذي عبر عن الحارة المصرية القاهرية بما تحمله من عبق تاريخ ألف عام لم يكن وحده من امتدح هذا الصوت.. الموسيقار الراحل "محمد عبدالوهاب" ابن حي باب الشعرية العتيق هو الآخر اعترف بحسن أداء "عدوية"، حتى في مجال التمثيل علق الفنان "عادل إمام" ابن حي الدرب الأحمر – أحد أحياء القاهرة الفاطمية - ممتدحا فن "عدوية".
كل هؤلاء امتدحوا فنا عبـَّر عن روح القاهرة بميراثها الراسخ، وعبـَّر بوجه عام عن الفن الشعبي للمدينة، وكان هناك إلى جانب ذلك من يؤدي أيضا الفن الشعبي الريفي بصورته التقليدية .
غير أنه من الواضح أن "عدوية" كان آخر من عبـَّر عن ثقافة أولاد البلد.. أبناء المدينة، من خلال فن الغناء، ليترك مساحة يتقدم إليها فن جديد من نوع آخر.. يجمع بين فنون المدينة والريف معا.
زمن العشوائيات

كثير من المناطق العشوائية في القاهرة إما أن تكون ذات جذور ريفية انتقل إليها العمران حديثا فأصبحت جزءا من المدينة، أو أن تكون مناطق زحف إليها سكان الريف، فاتخذت طابعا جديدا، لا هي تحمل الثقافة التقليدية للمدينة ولا تحمل ثقافة التقليدية للريف، وتقدر بعض الإحصاءات نسبة سكان العشوائيات بأنها تمثل ثمانية ملايين نسمة على مستوى الجمهورية.
في العشوائيات والأحياء الفقيرة هناك مغنون شعبيون قد ازدادوا نفوذا.. وعبـَّروا عن تلك الثقافة الجديدة، في أجواء تفخر بأصولها الريفية في سرادقات الأفراح وغيرها، لذا كان لابد أن يظهر لون فني جديد يعبر عن تلك الروح إرضاء لأبناء هذه الثقافة. "سعد الصغير" أحد هؤلاء الذين عبـَّروا عن تلك الروح الجديدة، كان طموحه حسبما أعلن أن يكون في البداية معروفا في القاهرة والإسكندرية، كان يفتخر بان سائقي الميكروباص هم أول من شجع غناءه، وتربى "الصغير" على موسيقى تلك المناطق حيث تختلط إيقاعات وموسيقى الأغاني الريفية التقليدية من أغاني الأفراح والذكر الديني مع الموسيقى الحديثة.. بدأ كعازف إيقاع في تلك الأفراح.. كان أحد هؤلاء الشباب الذين تراهم في الأفراح الشعبية مهمتهم توصيل التحيات عبر الميكروفون بين الحضور بصوته الصاخب، ويسخن أجواء الفرح، ويلقي القفشات، لا مانع من أن يحرج أحد الضيوف ممن يطمحون في إثارة الفوضى.. تلك المهنة الموجودة في الأفراح، أقرب لمهنة الـجوكي "D.J" في صالات الديسكوتيك رغم الفارق بين المهنتين . وتعد هذه الشخصية في الأفراح بؤرة اهتمام وملتفة للأنظار، حيث أن له مهمة أمنية في حفظ التوازن في الفرح، ومهمة ترفيهية حين يسعى لتسخين أجواء الحفلات.
مزيد من الغلظة
" الحمد لله أنا في منطقتي عضو مجلس شعب .. الناس كل يوم بتقصدنى عشان أحل لهم مشاكل أو أشوف حد منهم في أقسام الشرطة." هكذا تحدث سعد الصغير في أحد حواراته الصحفية وكأنه يحمل أعباء عضو مجلس الشعب أو عمدة القرية مبرزا أهميته بين أبناء منطقته. في مناطق تحل فيها المشاكل بعيدا عن السياق الطبيعي، وتقل فيها قبضة الحكومة المركزية، أحيانا ما تحل المشاكل بطرق أخرى، فتصبح صورة الشاب الفظ مفضلة لدى البعض، خصوصا في أوضاع اقتصادية واجتماعية سيئة، "سعد الصغير" الذي ظهر في أحد البرامج الفضائية الشهيرة، أفصح لمقدمة البرنامج "هالة سرحان" عن استخدامه للشتم داخل أجواء عمله كنوع من المرح وإضفاء حيوية على حياته.. ليعبر بذلك عن فئات قد تشعر بها في شوارع القاهرة، حين تخترق أذانك عبارات بذيئة أو تواجهك ممارسات تحوي نوعا من البلطجة تجاهك.. فلا عجب أن يكون "سعد الصغير" النجم المفضل لفئات تمارس هذه السلوكيات.أمر آخر.. عن ممارسة "الفهلوة" وخطف نجاحات الآخرين، كاستمرار في سلوك فرض القوة الآخذ في الانتشار في شوارع المدينة.. كان "سعد الصغير" أحد من عبـَّروا عن هذه النزعة بصورة فنية، عندما نقل جملا لحنية شهيرة أدتها إحدى الفرق الغنائية الشعبية تحت عنوان "المولد" وأضافها إلى أغاني فيلمه "لخمة راس"، وكرر نفس الموقف في فيلمه الأخير"عليا الطرب بالتلاتة" عندما استعان بأغنية "العنب.. العنب" عن أحد المطربين المغمورين، وأضاف إليها جملة غنائية عن مطربة شعبية تدعى "شفيقة"... وفي آخر لقاءات "سعد" التلفزيونية برر هذا التصرف بأن هذه الجمل هي في الأصل بدون مؤلف فهي كجمل فلكلورية تستخدم في الأفراح، ولم يبتعد "سعد" كثيرا عن الحقيقة، ففي أجواء الأفراح تغنى كل الأغاني، وتعزف كل الجمل ويتبادلها الجميع، إلا أن هذا لا يبرر خطف نجاحات آخرين ممن لم يستطيعوا الوصول إلى الإعلام، فيقدم نفسه بتلك الأعمال في الوسط الفني .
والملاحظ أن أغلب تلك الجمل أو الأعمال الموسيقية ذات ملمح غنائي ريفي، وأن ما مارسه سعد هو تكرارا لما يتم داخل أجواء مغنيي الأفراح عندما يتم إعادة غناء أغاني شهيرة على الطريقة الخاصة بأغاني الأفراح الشعبية مثلما سيفعل "سعد" في فيلم العيد القادم "قصة الحي الشعبي" مع إحدى أغنيات الراحلة أم كلثوم .
رجل هذا العصر
في وقت تحتاج فيه شريحة كبيرة من المجتمع المصري – والقاهري على وجه الخصوص – إلى من يمثلها فنيا ويعبر عن ثقافة جديدة هجينة تجمع بين ثقافتي المدينة والريف، كان "سعد الصغير" من يمثل هذه الثقافة فنيا عبر وسائل الإعلام المختلفة، ليعلن بذلك عن اضمحلال ثقافة ابن البلد القاهري التقليدية، وما تحمله معها من ميراث قرون طويلة .
جاء "سعد الصغير" ليقدم فنا اختلطت فيه فنون الريف مع الفن الشعبي التقليدي للمدينة، لم يخجل أن يكون فجا أو أن يرقص بابتذال مثلما يفعل الكثيرون في عشوائيات العاصمة، لم يستنكف أن يغني لـ"العيال البيئة الطحن"، كأنه يلعب على وتر اجتذاب شباب تلك الثقافة الجديدة الذين يحتشدون في الأعياد أمام صالات العرض السينمائية انتظارا لأفلامه، ولا مانع أن يمتعوا أبصارهم براقصة ترقص بصورة فجة هي الأخرى على أنغام "الصغير" مثلما اعتادوا أن يفعلوا في سرادقات الأفراح التقليدية .
يؤدي "سعد" دوره ليمثل متنفسا للشباب الذين وجدوا من يغني على الملأ في أحد أفلامه "للبيئة" أي الشباب متواضع الحال أبناء العشوائيات والأحياء الفقيرة الذين لم يعيشوا كشباب ريفي محافظ، ولا كأبناء مدينة تقليديين، ووجد هؤلاء في "سعد الصغير" شاب مثلهم يتحدث بفجاجة دون حرج، يخطف نجاحات آخرين بفهلوة يمارسها بعضهم في أعماله، ويبررها دون خجل.
ليس من العجيب أن تظل أغاني "سعد" هي المفضلة لدى تلك الفئات، وأن تتردد أغانيه في الورش والميكروباصات، وكاسيتات الدراجات البخارية، وغيرها... فهو قبل أن يكون ظاهرة غنائية هو ظاهرة اجتماعية.
قد يعتبر البعض ظهور تلك الثقافة إعلانا لوفاة ثقافة المدينة التقليدية وفنونها، وعلو شأن ثقافة أخرى هجينة تجمع بين ثقافتي الريف والحضر، لكن..يظل "سعد الصغير" أهم من قدم هذه الظاهرة الاجتماعية فنيا، ليجتذب حوله العديد من الشباب المتعاطفين معه من أبناء نفس الثقافة.