عبدالرحمن مصطفى
تصوير- مجدي ابراهيم
فى المسافة بين تملك السكن وتأجيره كانت الأولوية لدى المصريين لفكرة التملك، حتى جاء العصر الحديث بتعقيداته ليفرض عليهم واقعا مختلفا، فمنذ آلاف السنين احتفظ الفلاح القديم بحقه فى منزل مستقل أشبه بالحصن الأخير الذى يحقق له إحساسا بالتملك حتى إن كان أجيرا فى أراضى الآخرين.
بيت الأحلام كما يصفه ت.ج.جيميز فى كتابه «الحياة أيام الفراعنة» هو أقرب إلى الفيللا، تحيط به الشوارع، وله حديقة وبركة، وطيور وأشجار، وهو ما يقع فى سلطة كبار العسكريين والكتبة، على عكس مساكن المتواضعين الذين قد يسكنون فى مساكن تصل المسافة بين بعضها إلى متر ونصف المتر فقط دون شوارع ممهدة، وعلى عكس ملكية الأراضى الزراعية التى قد تنزع أو تفتت بالوراثة ظل حق السكن مكفولا للجميع منذ تلك الفترات القديمة، سواء للمرأة أو الرجل.
يؤكد الدكتور محمد محيى الدين ــ أستاذ علم الاجتماع السكانى فى كلية الآداب بجامعة المنوفية ــ أن فكرة تملك السكن ظلت هى الأصل لدى المصريين حين كان النمط الريفى فى السكن هو السائد طوال العصور، ويضيف: «مازال هذا الواقع مستمرا فى الريف المصرى، لكن مع ازدياد معدلات التحضر وتضخم المدن الكبرى فى مصر بدأت فكرة الاستئجار تكون مطروحة بقوة».
فى العصور الإسلامية وما أعقبها فى الفترة المماليكية ــ العثمانية لم تطرأ تغييرات فارقة على علاقة المصريين بالسكن سوى فى ملاحظة يسجلها الدكتور عاصم الدسوقى، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر فى كلية الآداب بجامعة حلوان، إذ يوضح: «الظاهرة الأهم فى هذا المجال كانت فى المدن، وكانت الملكية مستقلة بطبيعة الحال، لكن ساد حس جماعى بين أصحاب الطوائف الدينية والمهنية، ليسكنوا الحوارى ذات الباب الواحد، لتصبح الورشة جزء عضويا من السكن وملكيته، ولم تكن فكرة الإيجار مطروحة بجدية سوى فى بدايات القرن الماضى».
بعد تطور شكل الدولة الحديثة فى عهد خلفاء محمد على ودخول قوانين تنظيمية وظهور الجاليات الأجنبية فى الحياة العملية، كان لابد من تطور فى علاقة المصرى بسكنه، خاصة بعد ظهور شركات الاستثمار العقارى التى أنشأت أحياء بأكملها، لكن المفارقة التى سجلها الدكتور عاصم الدسوقى فى كتابه «كبار ملاك الأراضى الزراعية ودورهم فى المجتمع المصرى» (دار الشروق/2007)، أن الزراعة ظلت هى المصدر الرئيسى للإنتاج لفئة كبار الملاك، ويعلق على هذا قائلا: «ظل كبار الملاك مرتبطين بالريف ونمط السكن والإنتاج هناك، وبعضهم أجر الفيللات فى العاصمة، لكن حقيقة الأمر أن الطبقة الوسطى فى المدن أثناء النصف الأول من القرن العشرين وقبل الثورة تحديدا كانت قد بدأت فى الانتقال بقوة لشكل الإيجار السكنى».
مجتمع المدينة فى تلك الفترة كان ينشط فى اتجاهات جديدة من النشاط الاقتصادى، وكان الأفندية ومن هم أدنى فى السلم الاجتماعى أكثر قبولا لفكرة التأجير، وهو ما اعتبره الدكتور محمد محيى الدين فرصة لتحقيق «الحراك المكانى»، لكن هذا الأمر كان له وجه آخر: «قبل ثورة 1952 كان من حق المالك أن يخلى الشقة من المستأجر، وهو ما تغير بعد الثورة بتحديد قيمة الإيجار وتخفيضها، وأصبح المستأجر أكثر ارتباطا بشقته وأوجد ذلك حالة من الغضب المكتوم بين المالك والمستأجر، حتى بدأنا مؤخرا فى الحديث عن قانون الإيجار الجديد لرفع قيمة الإيجار».
يتفق كل من الدكتور عاصم الدسوقى والدكتور محمد محيى الدين على أن عصر السادات كان نقطة مفصلية مع سياسة الانفتاح التى اتبعها، فأدى ذلك إلى انتقال رأس المال الزراعى ــ حسب تعبير د.عاصم الدسوقى ــ إلى مجال البناء فى العقارات، فزادت فرص التملك من جديد، خاصة مع عودة أموال العائدين من الخليج فى الثمانينيات.
فى حين يرصد د. محمد محيى الدين ما أدى إليه هذا التوجه الجديد فى ظل الأزمة السكنية فى السبعينيات وازدياد معدلات الهجرة من الريف إلى الحضر، شارحا أنه قد بدأ «ترييف المدينة» وهو ما أثر على شكل تملك السكن بوجود شكل «البيت العائلى» داخل العاصمة، واتجاه القادمين من الريف إلى تأجير شقق فى أماكن قريبة من بيئتهم الأصلية فى أحياء ذات أصل ريفى، على عكس «الحراك المكانى» القديم الذى كان يقوم به أبناء المدينة فى انتقالاتهم.
هذه الفوارق الواضحة التى كانت بين الأحياء الشعبية والراقية، وبين الريف والحضر، أذابتها الهجرة الداخلية وطورها ارتفاع مستوى التعليم فى فئات ورثت طبقة الأفندية القديمة، وأصبحت هناك حالات تصلح للدراسة يشير إليها الدكتور محمد محيى الدين مثل حيى بولاق والجمالية فى القاهرة اللذين تحولا من نمط السكن القديم حين كانا مستقرين لحوارى قامت على أساس الطائفة، ثم نشوء الطبقة الوسطى الأكثر تعلما، وأخيرا استقطاب الهجرات الريفية، ولكل فئة فلسفتها فى التملك والإيجار.
تصوير- مجدي ابراهيم
فى المسافة بين تملك السكن وتأجيره كانت الأولوية لدى المصريين لفكرة التملك، حتى جاء العصر الحديث بتعقيداته ليفرض عليهم واقعا مختلفا، فمنذ آلاف السنين احتفظ الفلاح القديم بحقه فى منزل مستقل أشبه بالحصن الأخير الذى يحقق له إحساسا بالتملك حتى إن كان أجيرا فى أراضى الآخرين.
بيت الأحلام كما يصفه ت.ج.جيميز فى كتابه «الحياة أيام الفراعنة» هو أقرب إلى الفيللا، تحيط به الشوارع، وله حديقة وبركة، وطيور وأشجار، وهو ما يقع فى سلطة كبار العسكريين والكتبة، على عكس مساكن المتواضعين الذين قد يسكنون فى مساكن تصل المسافة بين بعضها إلى متر ونصف المتر فقط دون شوارع ممهدة، وعلى عكس ملكية الأراضى الزراعية التى قد تنزع أو تفتت بالوراثة ظل حق السكن مكفولا للجميع منذ تلك الفترات القديمة، سواء للمرأة أو الرجل.
يؤكد الدكتور محمد محيى الدين ــ أستاذ علم الاجتماع السكانى فى كلية الآداب بجامعة المنوفية ــ أن فكرة تملك السكن ظلت هى الأصل لدى المصريين حين كان النمط الريفى فى السكن هو السائد طوال العصور، ويضيف: «مازال هذا الواقع مستمرا فى الريف المصرى، لكن مع ازدياد معدلات التحضر وتضخم المدن الكبرى فى مصر بدأت فكرة الاستئجار تكون مطروحة بقوة».
فى العصور الإسلامية وما أعقبها فى الفترة المماليكية ــ العثمانية لم تطرأ تغييرات فارقة على علاقة المصريين بالسكن سوى فى ملاحظة يسجلها الدكتور عاصم الدسوقى، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر فى كلية الآداب بجامعة حلوان، إذ يوضح: «الظاهرة الأهم فى هذا المجال كانت فى المدن، وكانت الملكية مستقلة بطبيعة الحال، لكن ساد حس جماعى بين أصحاب الطوائف الدينية والمهنية، ليسكنوا الحوارى ذات الباب الواحد، لتصبح الورشة جزء عضويا من السكن وملكيته، ولم تكن فكرة الإيجار مطروحة بجدية سوى فى بدايات القرن الماضى».
بعد تطور شكل الدولة الحديثة فى عهد خلفاء محمد على ودخول قوانين تنظيمية وظهور الجاليات الأجنبية فى الحياة العملية، كان لابد من تطور فى علاقة المصرى بسكنه، خاصة بعد ظهور شركات الاستثمار العقارى التى أنشأت أحياء بأكملها، لكن المفارقة التى سجلها الدكتور عاصم الدسوقى فى كتابه «كبار ملاك الأراضى الزراعية ودورهم فى المجتمع المصرى» (دار الشروق/2007)، أن الزراعة ظلت هى المصدر الرئيسى للإنتاج لفئة كبار الملاك، ويعلق على هذا قائلا: «ظل كبار الملاك مرتبطين بالريف ونمط السكن والإنتاج هناك، وبعضهم أجر الفيللات فى العاصمة، لكن حقيقة الأمر أن الطبقة الوسطى فى المدن أثناء النصف الأول من القرن العشرين وقبل الثورة تحديدا كانت قد بدأت فى الانتقال بقوة لشكل الإيجار السكنى».
مجتمع المدينة فى تلك الفترة كان ينشط فى اتجاهات جديدة من النشاط الاقتصادى، وكان الأفندية ومن هم أدنى فى السلم الاجتماعى أكثر قبولا لفكرة التأجير، وهو ما اعتبره الدكتور محمد محيى الدين فرصة لتحقيق «الحراك المكانى»، لكن هذا الأمر كان له وجه آخر: «قبل ثورة 1952 كان من حق المالك أن يخلى الشقة من المستأجر، وهو ما تغير بعد الثورة بتحديد قيمة الإيجار وتخفيضها، وأصبح المستأجر أكثر ارتباطا بشقته وأوجد ذلك حالة من الغضب المكتوم بين المالك والمستأجر، حتى بدأنا مؤخرا فى الحديث عن قانون الإيجار الجديد لرفع قيمة الإيجار».
يتفق كل من الدكتور عاصم الدسوقى والدكتور محمد محيى الدين على أن عصر السادات كان نقطة مفصلية مع سياسة الانفتاح التى اتبعها، فأدى ذلك إلى انتقال رأس المال الزراعى ــ حسب تعبير د.عاصم الدسوقى ــ إلى مجال البناء فى العقارات، فزادت فرص التملك من جديد، خاصة مع عودة أموال العائدين من الخليج فى الثمانينيات.
فى حين يرصد د. محمد محيى الدين ما أدى إليه هذا التوجه الجديد فى ظل الأزمة السكنية فى السبعينيات وازدياد معدلات الهجرة من الريف إلى الحضر، شارحا أنه قد بدأ «ترييف المدينة» وهو ما أثر على شكل تملك السكن بوجود شكل «البيت العائلى» داخل العاصمة، واتجاه القادمين من الريف إلى تأجير شقق فى أماكن قريبة من بيئتهم الأصلية فى أحياء ذات أصل ريفى، على عكس «الحراك المكانى» القديم الذى كان يقوم به أبناء المدينة فى انتقالاتهم.
هذه الفوارق الواضحة التى كانت بين الأحياء الشعبية والراقية، وبين الريف والحضر، أذابتها الهجرة الداخلية وطورها ارتفاع مستوى التعليم فى فئات ورثت طبقة الأفندية القديمة، وأصبحت هناك حالات تصلح للدراسة يشير إليها الدكتور محمد محيى الدين مثل حيى بولاق والجمالية فى القاهرة اللذين تحولا من نمط السكن القديم حين كانا مستقرين لحوارى قامت على أساس الطائفة، ثم نشوء الطبقة الوسطى الأكثر تعلما، وأخيرا استقطاب الهجرات الريفية، ولكل فئة فلسفتها فى التملك والإيجار.
No comments:
Post a Comment