في الوقت الذي تتجه فيه الأعين ناحية المدن الساحلية المطلة على البحرين الأحمر و المتوسط، تظل مدينة أسوان في أقصى جنوب مصر صبورة على الصيف وما يصاحبه من انخفاض في معدلات السياحة.. رغم ذلك تواجه المدينة قسوة الصيف بتحد. و داخل البيوت النوبية على أطراف المدينة و في حكايات تجار السوق تدور أحاديث ذات طابع خاص.
كتب - عبدالرحمن مصطفى
يمر محمد عبداللطيف جوار كورنيش مدينة أسوان محتميا بسيارته من حرارة الجو الحارقة، يشير إلى البواخر النيلية الطافية جوار الطريق متحدثا بضيق عن تأثير الصيف على نشاط المدينة وحركة السياحة، قد لا يعلم محمد أن مدينة أسوان قد سجلت في العام الماضي 2009 حسب تقديرات هيئة الأرصاد الجوية أعلى درجة حرارة في مصر وتحديدا في يوم السادس من إبريل حين بلغت درجة الحرارة العظمي 47 درجة مئوية، حين تذكر مثل هذه المعلومة هنا أمام أحد أهالي أسوان قد يشكك في الرقم مرجحا أنها تتجاوز ذلك بكثير، أما محمد فيقول : "لا يدرك حقيقة التحول الذي يطرأ على أسوان في الصيف سوى من زارها في الشتاء، أو من شهد عصور ازدهار السياحة قبل سنوات". حسب بيانات محافظة أسوان فإن الأرقام في السنوات الماضية تشير إلى هوة في أعداد السائحين عند المقارنة بين شهرين مثل فبراير ويوليو على سبيل المثال، وتكشف المقارنة عن أن الأعداد في الصيف تنخفض إلى الثلث تقريبا حسب أرقام العام 2008، يكمل محمد حديثه معلقا عن أنه انتقل قبل عدة أشهر إلى شركة الكهرباء هروبا من تقلبات العمل في السياحة حيث يعمل في نقل السائحين بمركبه الصغير في النيل بين البواخر العملاقة والمواقع السياحية على الشاطئ، يقول : "وجدت أن الاعتماد الكامل على السياحة ليس في صالحي"، يتلقى مكالمة من أحد زملائه يعرض عليه عملا لنقل فوج سياحي بمركبه، لكنه يبدي عدم الاهتمام، ثم ينطلق بسيارته إلى قريته النوبية "نجع المحطة" حيث ينتمي، هناك يختفي اسم محمد ويناديه الجميع بـاسم "حمادة"، يسير بين دروب القرية حيث تبرز مفارقات في الطريق إلى منزله، البعض اختار الجلوس على مصاطب المنازل، والبعض الآخر هرب من الحر تاركا دروب القرية خالية من السكان، أما المفارقة الأوضح فتظهر ظهور ذلك العدد القليل من المنازل ذات العمارة النوبية التقليدية ومنازل أخرى ذات طابع لا يختلف كثيرا عن بيوت مدينة أسوان. يشير "حمادة" إلى أحد المنازل القديمة التي صممت على الطراز النوبي القديم قائلا: "مثل هذه المنازل المبنية بالطوب الني كانت تساعد القباب فيها على موجهة حرارة الجو صيفا". المعلومة التي يذكرها "حمادة" استرعت انتباه الكثير من المعماريين وعلى رأسهم المعماري الشهير حسن فتحي الذي لفت نظره هذا النموذج الملائم للبيئة في البيت النوبي، حيث تعكس أسقف المنازل المصممة على شكل قباب أشعة الشمس، وتعمل فتحات تهوية في أسقفها على خفض درجة الحرارة و تجديد الهواء داخل المنزل، كذلك فاتجاهات بناء المنزل تراعي حركة الرياح في الشتاء والصيف، في منزل حمادة الذي بناه بيده "طوبة طوبة" كلما تجمع معه بعض المال، يظهر نمط معماري لا يكترث كثيرا بحر الصيف، ففي داخل المنزل تكييف صحراوي يعمل بالمياه وموفرا الكهرباء، ولم يعد تصميم المنزل هو الفيصل في مواجهة تقلبات الجو. إلا أنه لم يتخل عن بعض اللمسات النوبية في الديكور وطلاء المنزل. بعد صلاة الظهر في مسجد القرية يجتمع بعض الشباب والشيوخ على غير موعد أمام مبنى جمعية "نجع المحطة"، هناك جلس عم "حسّون" دون اهتمام بأشعة الشمس الساقطة على رؤوس الجميع، يتأمل مشهد المجموعة التي تكونت أسفل إحدى الأشجار للعب الورق وتبادل الأحاديث، يعلق عم "حسون" الذي جاوز عامه السبعين قائلا:"قبل ستين عاما لم تكن هناك مثل تلك الجلسات المختلطة التي تجمع الشيوخ مع الشباب". اليوم أصبح الشيخ المسن يلتمس العذر لأي شاب ينفخ الدخان جواره من ضيقه بالحياة، قد يبدو سؤالا ساذجا في مثل تلك الأوقات: "كيف تقضون فصل الصيف؟!"، بعيدا عن قلقه وغضبه المكتوم من خمول حركة السياحة يعلق حمادة: "آخذ الأطفال واتجه إلى النادي – مركز الشباب- وأحيانا ما يكون الاستحمام في النيل هو الحل للهروب من هذه الأجواء". يتدخل عم "حسون" في الحديث معلقا : "علاقة النوبي بالنيل لم تختلف في أي جيل، ربما في الماضي كانت منازلنا أكثر بساطة ونواجه تغير الصيف والشتاء بتصميم بسيط، أما اليوم فمنازل القرية أصبح الدش والتكييف جزء منها". يعلل عم حسون انحسار وجود التصميم النوبي في البناء الملائم لطقس القرية أن ذلك ارتبط بحوادث السيول التي دفعت الناس إلى البيوت الإسمنتية التقليدية، ولأن الاسمنت يزيد من حرارة المنزل فأصبح التكييف ضروريا. يعلق حمادة على تلك العبارة قائلا : "في قرية غرب سهيل ستجد التصميمات النوبية أكثر عددا، حتى من يبني على طرز حديثة مختلفة يفعل ذلك خارج البيوت النوبية القديمة، خاصة أن تلك البيوت أصبحت مزارا للسائحين". في محافظة أسوان يمثل النوبيون نسبة 20% من السكان، ويجمع قريتي نجع المحطة وغرب سهيل أن سكانهما ينتميان إلى النوبيين من فرع "الكنوز"، كما أن كلا من القريتين انتقل إليها المهاجرون بعد مشروعات إنشاء خزان أسوان، ثم من توالت الهجرات إليهما بعد تعليته في عامي 1912 و 1933، لكن أجواء الصيف تختلف إلى حد كبير بين القريتين، خاصة في غرب سهيل .
إلى غرب سهيل
كان حمادة على موعد في اليوم التالي مع قرية غرب سهيل حيث زملاء العمل في السياحة وأبناء العمومة، يصاحبه في الزيارة صديقه الشاب محمد الحلفاوي عضو المجلس المحلي عن قرية "نجع المحطة" الذي تحدث في أثناء الرحلة عن مشاكل تعيشها القرية قائلا : "هناك أشياء بسيطة نبذلها مثل طلب أعمدة إنارة للقرية، لكن هناك مشاكل أكبر مثل عدم تملك سكان القرية لأراضيهم التي عاشوا عليها منذ تهجيرهم نتيجة إنشاء خزان أسوان وتعليته، كذلك عدم تعويض بعض من تعرضوا لهدم بيوتهم أثناء القيام بأعمال توسعة الطريق التي جرت قبل سنوات.. رغم وعود المسئولين". يحاول كلا من حمادة ومحمد الحلفاوي نسيان مشاكل قريتهم "نجع المحطة" أثناء توجههما إلى قرية غرب سهيل.. وعلى مشارف القرية يبدو الاختلاف واضحا مع ظهور الأفواج السياحية والجمال والبازارات السياحية، إلى جانب حركة "الفلوكات" الصغيرة على الشاطئ.. في المواسم التقليدية تستقبل القرية يوميا بين الألف والثلاثة ألاف زائر، ورغم قلة الأعداد الآن إلا أن الصيف الأسواني لم يتسبب في ركود الحال تماما، الأفواج السياحية جاءت مباشرة إلى غرب سهيل للاستمتاع بالسياحة البيئية حيث المنازل التي حافظت على تصميمها النوبي التقليدي، يوضح حمادة قائلا : "حتى من يبني منزلا على نمط حديث يبتعد بعيدا عن قلب القرية، هذا أحد مميزات المكان هنا". أمام أحد المنازل النوبية المطلة على النهر يخرج عم "ناصر" مستقبلا زواره، وداخل منزله الفسيح كان المشهد مختلفا، حيث المنزل النوبي التقليدي ذو الأسقف ذات القباب و الساحة الفسيحة والمصاطب. إلا أن كل هذا لم يمنع وجود التكييف داخل المكان، يعلق عم ناصر قائلا: "لم يكن الحال هكذا في البداية كان كل شيء مختلف.. في التسعينات جاءني أحد المرشدين مستأذنا في زيارة منزلي مع مجموعة من السائحين، وبعد أيام تكرر الأمر، وبدأ يتطور إلى اتفاق، ثم بدأ في تسديد النصائح إلى حول كيفية تطوير المنزل كي يكون صالحا لاستقبال السائحين الراغبين في التعرف على النوبيين، بدء من إعداد أكواب الشاي، حتى إضافة مصاطب للجلوس وتسقيف الحوش بسعف النخل، وتطورت الفكرة بالقرية وبدأت الجمال تظهر للسائحين، وتبرز البازارات على الطريق" . رغم هدوء صيف أسوان إلا أن هناك فئة من السائحين يعتمد عليها البعض في هذه الفترة وهم الأسبان والإيطاليين الذين يؤجرون منازلهم صيفا ويأتون إلى مصر في هذا التوقيت بأسعار الصيف الرخيصة. يأتي الكركديه البارد فيصب عم "ناصر" لضيوفه تاركا مساحة من الحديث لمحمد عبدالباسط الذي انضم إلى الجلسة وهو أحد مشاهير القرية، حيث يغني ويحفظ تاريخ النوبة كما أن له تأويلات كثيرة لبعض الكلمات والعبارات في العامية المصرية يعيدها إلى جذورها النوبية.. يعود السؤال إلى الظهور مرة أخرى في الجلسة: "كيف اختلف التعامل مع صيف أسوان على مدار هذه السنوات؟"، يجيب محمد عبدالباسط الذي جاوز الخامسة والستين قائلا : "هناك أشياء جربناها ولم تعد متواجدة اليوم مثل الاستمتاع بفيضان النيل، والصيد، والغطس أمام المنزل مباشرة"، يتدخل عم ناصر صاحب الضيافة مشيرا إلى باب منزله قائلا : "كانت المياه في وقت الفيضان تصل إلى الباب، كان بإمكاني اصطياد السمك من أمام المنزل، كان الخير يفيض حتى أننا كنا نعطي فائض الصيد لجيراننا". بعد إنشاء السد العالي اختلفت الطبيعة تماما، واختفى الفيضان الطائش واستبدل بصيف راكد، يضيف محمد عبدالباسط : "في الصيف هناك بعض الأكلات التي تتحدى حرارة الجو ولن تجدها إلا هنا في أسوان وتحديدا لدى النوبيين.. أشهر أنواع الطعام هو الـ (أب-ريه) قبل أن نعده كنا نبدل المياه بين كل زير وآخر للحفاظ على برودة المياه، هذه الأكلة بالذات كانت حلا رائعا في وقت الحر، عبارة عن خبز شبيه بالرقاق يغطس في مياه باردة مع ليمون وبلح وسكر، مع مشروب مثل قمر الدين.. ويكون كافيا عن الغداء". يعلق عم ناصر : "قل عمله الآن، لكنه ضيف عزيز في موائد رمضان". كان الحديث عن العادات النوبية قديما وكيف تغير بعضها سببا في الحديث عن النوبيين بصفة عامة، ربما شهد هذا الصيف عودة هذا الحديث من خلال مؤتمرات وتصريحات عن "القضية النوبية" مرة أخرى، لكن الجلسة لم تكن تحتمل مزيدا من السخونة.. فجأة يشير محمد عبدالباسط قائلا : "على فكرة.. نحن لم نتحدث بعد عن الفرح النوبي!؟".. كثرة الأفراح في الصيف إحدى اللحظات التي تنسى فيها أسوان وقرى النوبة ضجر الصيف، أما الفرح النوبي تحديدا فله طقوس خاصة قد تستمر لأسبوع حيث تعتمد في البداية على المرور بين دروب القرية ومنازلها لدعوة الجيران والأهل، وانتقال ليالي الاحتفال بين منزلي أهل العريس والعروس، مرورا بليلتي الحنة والزفاف حيث يستمر الغناء حتى الصباح. كل تلك الأجواء تغير من مزاج الصيف العكر.. يودع حمادة ورفاقه قرية غرب سهيل عائدا إلى نجع المحطة، لم يخلو طريق العودة من مفارقة أذاعها كاسيت سيارته لأغنية تحت عنوان "غرب سهيل"، أما المغني لم يكن سوى محمد عبدالباسط الذي كان يتحدث في منزل عم ناصر قبل قليل، دندن الشباب في السيارة مع الكاسيت معاندين الصيف وضجره.
كتب - عبدالرحمن مصطفى
يمر محمد عبداللطيف جوار كورنيش مدينة أسوان محتميا بسيارته من حرارة الجو الحارقة، يشير إلى البواخر النيلية الطافية جوار الطريق متحدثا بضيق عن تأثير الصيف على نشاط المدينة وحركة السياحة، قد لا يعلم محمد أن مدينة أسوان قد سجلت في العام الماضي 2009 حسب تقديرات هيئة الأرصاد الجوية أعلى درجة حرارة في مصر وتحديدا في يوم السادس من إبريل حين بلغت درجة الحرارة العظمي 47 درجة مئوية، حين تذكر مثل هذه المعلومة هنا أمام أحد أهالي أسوان قد يشكك في الرقم مرجحا أنها تتجاوز ذلك بكثير، أما محمد فيقول : "لا يدرك حقيقة التحول الذي يطرأ على أسوان في الصيف سوى من زارها في الشتاء، أو من شهد عصور ازدهار السياحة قبل سنوات". حسب بيانات محافظة أسوان فإن الأرقام في السنوات الماضية تشير إلى هوة في أعداد السائحين عند المقارنة بين شهرين مثل فبراير ويوليو على سبيل المثال، وتكشف المقارنة عن أن الأعداد في الصيف تنخفض إلى الثلث تقريبا حسب أرقام العام 2008، يكمل محمد حديثه معلقا عن أنه انتقل قبل عدة أشهر إلى شركة الكهرباء هروبا من تقلبات العمل في السياحة حيث يعمل في نقل السائحين بمركبه الصغير في النيل بين البواخر العملاقة والمواقع السياحية على الشاطئ، يقول : "وجدت أن الاعتماد الكامل على السياحة ليس في صالحي"، يتلقى مكالمة من أحد زملائه يعرض عليه عملا لنقل فوج سياحي بمركبه، لكنه يبدي عدم الاهتمام، ثم ينطلق بسيارته إلى قريته النوبية "نجع المحطة" حيث ينتمي، هناك يختفي اسم محمد ويناديه الجميع بـاسم "حمادة"، يسير بين دروب القرية حيث تبرز مفارقات في الطريق إلى منزله، البعض اختار الجلوس على مصاطب المنازل، والبعض الآخر هرب من الحر تاركا دروب القرية خالية من السكان، أما المفارقة الأوضح فتظهر ظهور ذلك العدد القليل من المنازل ذات العمارة النوبية التقليدية ومنازل أخرى ذات طابع لا يختلف كثيرا عن بيوت مدينة أسوان. يشير "حمادة" إلى أحد المنازل القديمة التي صممت على الطراز النوبي القديم قائلا: "مثل هذه المنازل المبنية بالطوب الني كانت تساعد القباب فيها على موجهة حرارة الجو صيفا". المعلومة التي يذكرها "حمادة" استرعت انتباه الكثير من المعماريين وعلى رأسهم المعماري الشهير حسن فتحي الذي لفت نظره هذا النموذج الملائم للبيئة في البيت النوبي، حيث تعكس أسقف المنازل المصممة على شكل قباب أشعة الشمس، وتعمل فتحات تهوية في أسقفها على خفض درجة الحرارة و تجديد الهواء داخل المنزل، كذلك فاتجاهات بناء المنزل تراعي حركة الرياح في الشتاء والصيف، في منزل حمادة الذي بناه بيده "طوبة طوبة" كلما تجمع معه بعض المال، يظهر نمط معماري لا يكترث كثيرا بحر الصيف، ففي داخل المنزل تكييف صحراوي يعمل بالمياه وموفرا الكهرباء، ولم يعد تصميم المنزل هو الفيصل في مواجهة تقلبات الجو. إلا أنه لم يتخل عن بعض اللمسات النوبية في الديكور وطلاء المنزل. بعد صلاة الظهر في مسجد القرية يجتمع بعض الشباب والشيوخ على غير موعد أمام مبنى جمعية "نجع المحطة"، هناك جلس عم "حسّون" دون اهتمام بأشعة الشمس الساقطة على رؤوس الجميع، يتأمل مشهد المجموعة التي تكونت أسفل إحدى الأشجار للعب الورق وتبادل الأحاديث، يعلق عم "حسون" الذي جاوز عامه السبعين قائلا:"قبل ستين عاما لم تكن هناك مثل تلك الجلسات المختلطة التي تجمع الشيوخ مع الشباب". اليوم أصبح الشيخ المسن يلتمس العذر لأي شاب ينفخ الدخان جواره من ضيقه بالحياة، قد يبدو سؤالا ساذجا في مثل تلك الأوقات: "كيف تقضون فصل الصيف؟!"، بعيدا عن قلقه وغضبه المكتوم من خمول حركة السياحة يعلق حمادة: "آخذ الأطفال واتجه إلى النادي – مركز الشباب- وأحيانا ما يكون الاستحمام في النيل هو الحل للهروب من هذه الأجواء". يتدخل عم "حسون" في الحديث معلقا : "علاقة النوبي بالنيل لم تختلف في أي جيل، ربما في الماضي كانت منازلنا أكثر بساطة ونواجه تغير الصيف والشتاء بتصميم بسيط، أما اليوم فمنازل القرية أصبح الدش والتكييف جزء منها". يعلل عم حسون انحسار وجود التصميم النوبي في البناء الملائم لطقس القرية أن ذلك ارتبط بحوادث السيول التي دفعت الناس إلى البيوت الإسمنتية التقليدية، ولأن الاسمنت يزيد من حرارة المنزل فأصبح التكييف ضروريا. يعلق حمادة على تلك العبارة قائلا : "في قرية غرب سهيل ستجد التصميمات النوبية أكثر عددا، حتى من يبني على طرز حديثة مختلفة يفعل ذلك خارج البيوت النوبية القديمة، خاصة أن تلك البيوت أصبحت مزارا للسائحين". في محافظة أسوان يمثل النوبيون نسبة 20% من السكان، ويجمع قريتي نجع المحطة وغرب سهيل أن سكانهما ينتميان إلى النوبيين من فرع "الكنوز"، كما أن كلا من القريتين انتقل إليها المهاجرون بعد مشروعات إنشاء خزان أسوان، ثم من توالت الهجرات إليهما بعد تعليته في عامي 1912 و 1933، لكن أجواء الصيف تختلف إلى حد كبير بين القريتين، خاصة في غرب سهيل .
إلى غرب سهيل
كان حمادة على موعد في اليوم التالي مع قرية غرب سهيل حيث زملاء العمل في السياحة وأبناء العمومة، يصاحبه في الزيارة صديقه الشاب محمد الحلفاوي عضو المجلس المحلي عن قرية "نجع المحطة" الذي تحدث في أثناء الرحلة عن مشاكل تعيشها القرية قائلا : "هناك أشياء بسيطة نبذلها مثل طلب أعمدة إنارة للقرية، لكن هناك مشاكل أكبر مثل عدم تملك سكان القرية لأراضيهم التي عاشوا عليها منذ تهجيرهم نتيجة إنشاء خزان أسوان وتعليته، كذلك عدم تعويض بعض من تعرضوا لهدم بيوتهم أثناء القيام بأعمال توسعة الطريق التي جرت قبل سنوات.. رغم وعود المسئولين". يحاول كلا من حمادة ومحمد الحلفاوي نسيان مشاكل قريتهم "نجع المحطة" أثناء توجههما إلى قرية غرب سهيل.. وعلى مشارف القرية يبدو الاختلاف واضحا مع ظهور الأفواج السياحية والجمال والبازارات السياحية، إلى جانب حركة "الفلوكات" الصغيرة على الشاطئ.. في المواسم التقليدية تستقبل القرية يوميا بين الألف والثلاثة ألاف زائر، ورغم قلة الأعداد الآن إلا أن الصيف الأسواني لم يتسبب في ركود الحال تماما، الأفواج السياحية جاءت مباشرة إلى غرب سهيل للاستمتاع بالسياحة البيئية حيث المنازل التي حافظت على تصميمها النوبي التقليدي، يوضح حمادة قائلا : "حتى من يبني منزلا على نمط حديث يبتعد بعيدا عن قلب القرية، هذا أحد مميزات المكان هنا". أمام أحد المنازل النوبية المطلة على النهر يخرج عم "ناصر" مستقبلا زواره، وداخل منزله الفسيح كان المشهد مختلفا، حيث المنزل النوبي التقليدي ذو الأسقف ذات القباب و الساحة الفسيحة والمصاطب. إلا أن كل هذا لم يمنع وجود التكييف داخل المكان، يعلق عم ناصر قائلا: "لم يكن الحال هكذا في البداية كان كل شيء مختلف.. في التسعينات جاءني أحد المرشدين مستأذنا في زيارة منزلي مع مجموعة من السائحين، وبعد أيام تكرر الأمر، وبدأ يتطور إلى اتفاق، ثم بدأ في تسديد النصائح إلى حول كيفية تطوير المنزل كي يكون صالحا لاستقبال السائحين الراغبين في التعرف على النوبيين، بدء من إعداد أكواب الشاي، حتى إضافة مصاطب للجلوس وتسقيف الحوش بسعف النخل، وتطورت الفكرة بالقرية وبدأت الجمال تظهر للسائحين، وتبرز البازارات على الطريق" . رغم هدوء صيف أسوان إلا أن هناك فئة من السائحين يعتمد عليها البعض في هذه الفترة وهم الأسبان والإيطاليين الذين يؤجرون منازلهم صيفا ويأتون إلى مصر في هذا التوقيت بأسعار الصيف الرخيصة. يأتي الكركديه البارد فيصب عم "ناصر" لضيوفه تاركا مساحة من الحديث لمحمد عبدالباسط الذي انضم إلى الجلسة وهو أحد مشاهير القرية، حيث يغني ويحفظ تاريخ النوبة كما أن له تأويلات كثيرة لبعض الكلمات والعبارات في العامية المصرية يعيدها إلى جذورها النوبية.. يعود السؤال إلى الظهور مرة أخرى في الجلسة: "كيف اختلف التعامل مع صيف أسوان على مدار هذه السنوات؟"، يجيب محمد عبدالباسط الذي جاوز الخامسة والستين قائلا : "هناك أشياء جربناها ولم تعد متواجدة اليوم مثل الاستمتاع بفيضان النيل، والصيد، والغطس أمام المنزل مباشرة"، يتدخل عم ناصر صاحب الضيافة مشيرا إلى باب منزله قائلا : "كانت المياه في وقت الفيضان تصل إلى الباب، كان بإمكاني اصطياد السمك من أمام المنزل، كان الخير يفيض حتى أننا كنا نعطي فائض الصيد لجيراننا". بعد إنشاء السد العالي اختلفت الطبيعة تماما، واختفى الفيضان الطائش واستبدل بصيف راكد، يضيف محمد عبدالباسط : "في الصيف هناك بعض الأكلات التي تتحدى حرارة الجو ولن تجدها إلا هنا في أسوان وتحديدا لدى النوبيين.. أشهر أنواع الطعام هو الـ (أب-ريه) قبل أن نعده كنا نبدل المياه بين كل زير وآخر للحفاظ على برودة المياه، هذه الأكلة بالذات كانت حلا رائعا في وقت الحر، عبارة عن خبز شبيه بالرقاق يغطس في مياه باردة مع ليمون وبلح وسكر، مع مشروب مثل قمر الدين.. ويكون كافيا عن الغداء". يعلق عم ناصر : "قل عمله الآن، لكنه ضيف عزيز في موائد رمضان". كان الحديث عن العادات النوبية قديما وكيف تغير بعضها سببا في الحديث عن النوبيين بصفة عامة، ربما شهد هذا الصيف عودة هذا الحديث من خلال مؤتمرات وتصريحات عن "القضية النوبية" مرة أخرى، لكن الجلسة لم تكن تحتمل مزيدا من السخونة.. فجأة يشير محمد عبدالباسط قائلا : "على فكرة.. نحن لم نتحدث بعد عن الفرح النوبي!؟".. كثرة الأفراح في الصيف إحدى اللحظات التي تنسى فيها أسوان وقرى النوبة ضجر الصيف، أما الفرح النوبي تحديدا فله طقوس خاصة قد تستمر لأسبوع حيث تعتمد في البداية على المرور بين دروب القرية ومنازلها لدعوة الجيران والأهل، وانتقال ليالي الاحتفال بين منزلي أهل العريس والعروس، مرورا بليلتي الحنة والزفاف حيث يستمر الغناء حتى الصباح. كل تلك الأجواء تغير من مزاج الصيف العكر.. يودع حمادة ورفاقه قرية غرب سهيل عائدا إلى نجع المحطة، لم يخلو طريق العودة من مفارقة أذاعها كاسيت سيارته لأغنية تحت عنوان "غرب سهيل"، أما المغني لم يكن سوى محمد عبدالباسط الذي كان يتحدث في منزل عم ناصر قبل قليل، دندن الشباب في السيارة مع الكاسيت معاندين الصيف وضجره.
الحرارة فوق الأربعين !
ليست مدينة أسوان هي المدينة الوحيدة التي انفردت بتسجيل أعلى درجات الحرارة في الصيف الماضي، بل نافستها حسب أرقام الهيئة العامة المصرية للأرصاد الجوية مدن أخرى خلال أشهر يونيو ويوليو وأغسطس وسبتمبر، حيث تصدرت القوائم مدينة الأقصر ولم تنتزع منها أسوان المركز الأول سوى في شهر أغسطس، أما أعلى درجة حرارة على الإطلاق سجلت في العام الماضي فقد كانت في شهر إبريل أثناء فصل الربيع، وحققتها أسوان حين وصلت إلى 47 درجة مئوية، ويفسر ذلك الدكتور علي قطب المتحدث الإعلامي باسم هيئة الأرصاد الجوية قائلا : "من المعلوم أن صيف الكرة الشمالي يسجل دائما أعلى درجات الحرارة خاصة في المنطقة العربية نظرا لطبيعتها الصحراوية، بل وأحيانا ما تسجل درجات حرارة مرتفعة في النصف الثاني من فصل الربيع نتيجة الموجات الخماسينية والحرارية القادمة من جبال أطلس القادمة من الغرب مرورا بمصر" . ويوضح الدكتور علي قطب أن درجة الحرارة ليست العنصر الوحيد المؤثر على الشعور بالحرارة، فهناك عوامل أخرى مثل ارتفاع الرطوبة وسرعة الرياح. على جانب آخر يشرح الدكتور جمال سعودي مدير مركز التحاليل الجوية الرئيسي كيف تتم عملية تسجيل معدل درجة الحرارة التي تتم في ظروف خاصة، ويقول : "في مصر حوالي 114 محطة، تتم عملية التسجيل في كشك خشبي يسمح بمرور الهواء من فتحات شيش، وتغطي أرضيته العشب حتى لا تنعكس حرارة الأرض مباشرة على الترمومتر، وتلك الظروف هي المتفق عليها عالميا وهي الأقرب للحياد". يوضح الدكتور جمال أن عدم اقتناع البعض بدرجة الحرارة المذكورة في نشرة الأخبار سببه أن الشعور يختلف من مكان لآخر، يوضح قائلا : "من يقيم في وادي أو شارع ضيق، يختلف عن آخر يجلس أمام النيل، كما أن تأثير الضغط الجوي ونسبة الرطوبة والرياح أمور تزيد من الشعور بالحرارة أو العكس، لذا يتم قياس درجة الحرارة في محطاتنا داخل ظروف محايدة .
PDF
No comments:
Post a Comment