كتب – عبدالرحمن مصطفى
رغم مرور عدة سنوات ما زال عمرو محمد السيد (26 سنة) محتفظا في ذاكرته بهذين التاريخين جيدا: 17 يوليو، 30 سبتمبر 2005، الأول هو يوم بدء رحلته الأولى في محاولة الهجرة إلى إيطاليا، والثاني هو يوم الإخفاق في إتمام نفس الرحلة. منذ ذلك الوقت حتى الآن ترفض أسرته فكرة تكرار التجربة مرة أخرى، أو حسب تعبيرهم : "لو بيرلسكوني جه بطيارة عشان ياخدك بنفسه على إيطاليا.. مش هتروح"، واكتفى بمتابعة أحوال المهاجرين والرضا بالواقع. يعيش عمرو السيد في قرية قلمشاه التي يقدر عدد سكانها بثلاثين ألف نسمة وتتبع مركز إطسا بمحافظة الفيوم إحدى أشهر المحافظات التي يتجه شبابها إلى الهجرة سرا إلى إيطاليا، لماذا إيطاليا ؟ يجيب عمرو: "كان في راسي وقتها نفسي السيناريو الذي نفذه آخرون، فإما أن تدخلني مافيا التهجير إلى إيطاليا وأعيش هناك، أو أن يتسلمني الصليب الأحمر كلاجئ هارب من إحدى مناطق الحروب ويتم الإنفاق عليّ أثناء إقامتي.. حتى أن ربان المركب التي قادتنا إلى إيطاليا في البحر ذكر لي أنني من الممكن أن أدخل المدرسة هناك وأتعلم لأن ملامحي كانت أصغر من سني".
في تلك الفترة كان عمرو في سن العشرين يدرس في كلية التربية بقسم اللغة الفرنسية، ووصل وقتها إلى قناعة بعدم جدوى التعليم الجامعي، وأن الهجرة هي المستقبل الحقيقي في ظل انعدام فرص العمل. يقول: "كان أمامي أيضا تجربة عمي الذي سبقني في الهجرة إلى إيطاليا بعام واحد فقط، ونجح في البقاء هناك لمدة ست سنوات من العمل". المفارقة التي يعيشها عمرو الآن هي أنه يقطن كعريس جديد في الطابق العلوي من شقة عمه الذي عاد إلى مصر مؤخرا محققا نموذج النجاح في إيطاليا. تذكر دراسة نشرت عام 2006 تحت عنوان "اتجاهات الشباب المصري حول الهجرة لأوروبا" وأجريت على عينة من شباب عدة محافظات مصرية أن حوالي 94% من عينة الدراسة حددوا دولة المهجر بناء على أحاديث الأصدقاء والأقارب، وكانت نسبة 61% من الشباب في ذلك الوقت قد اختارت إيطاليا كدولة هجرة مؤقتة، وهكذا كان عمرو أيضا.
لم يكن التيار وحده هو الذي دفع عمرو وأصدقاؤه إلى رحلة البحث عن إيطاليا بل واقع آخر.. فعلى مسافة عدة كيلومترات تقع قرية "تطون" الشهيرة كإحدى القرى الطاردة إلى إيطاليا، وطوال سنوات مضت راقب سكان القرى المجاورة ذلك التطور الذي أصاب تطون في غلاء أسعار الأراضي والعقارات إلى عشرة أضعاف، وارتفاع مستوى المعيشة وتغير طباع القرية الهادئة، وكانت إيطاليا هي كلمة السر، كما ان حالة الزهو التي تصيب بعض العائدين من هناك ما زالت تحرك غيرة الآخرين. الرحلة التي قطعها عمرو في 2005 لم تختلف عن التي قطعها عمه في العام السابق عليه، ولا عن الرحلات التي خاضها بعض أصدقاءه ومعارفه فيما بعد، ربما اختلفت الأسعار قليلا عن مبلغ 12000 جنيه الذي دفع عمرو نصفه على أمل أن يدفع النصف الآخر بعد إتمام العملية، بينما وصل المبلغ الآن إلى ما يقارب أربعة أضعاف هذا المبلغ. في 17 يوليو 2005 انطلق عمرو بجواز سفر سليم مباشرة إلى ليبيا بواسطة ميكروباص من الفيوم، يقول عمرو : "كنا أربعة، اثنان من الفيوم واثنان من طنطا، أقمنا في إحدى القرى الليبية ثم تركناها بعد يومين سريعا خشية الأمن، وانتقلنا إلى مكان آخر أقرب إلى مزرعة خاصة، حيث كنا نقيم في مكان محدد يلقب بالحوش، وتم تخزيننا هناك ". المكان الذي لا يزيد على ثلاث غرف وصالة توافد عليه من يأتي به مندوب التهريب، وبدأ عمرو مع مرور الوقت يشارك في استلام القادمين من مصر، وحين يسأله أحد في الشارع يقول : "أنا سائح من مصر !"، لكن مع مرور الأيام ثم الأسابيع بدأت الأجواء داخل "الحوش" تتوتر مع تزايد الأعداد وطول فترة "التخزين"، بدأ عمرو وقتها في تعلم أمور خاصة بالملاحة ومتابعة نشرات أخبار الطقس على أمل ظهور الوقت المناسب للإبحار، وبعد مرور أكثر من شهرين دون تسفير أحد، بدأ البعض يهدد المهربين بالعودة إلى مصر، يعلق عمرو : "في هذه المرة كنا على وشك الاشتباك مع المندوبين، خاصة أن الاتفاق كان مع أبناء الفيوم على أن ينفق الشاب على إقامته من جيبه على عكس أبناء بحري الذين دفعوا 25 ألف جنيه شاملة كل شيء". بعد ثورة المهاجرين كان يوم 29 سبتمبر هو الموعد الذي نقل فيه المهاجرون سرا عبر الساحل حيث تسلمهم أعضاء مافيا التهريب الليبية وانتقلوا إلى مركب صيد لا تتجاوز 12 مترا يقودها مصري من بلطيم وسط أكثر من 100 مهاجر سري، وكان الخوف الرئيسي من السقوط في قبضة البوليس الإيطالي في جزيرة لامبيدوزا نظرا لسمعتها في اتساع مراكز الإيواء بها للاجئين ثم ترحيلهم. حين يستدعي عمرو هذه التجربة الآن يحمد الله على نجاته وعودته سالما، ورغم أن له زملاء من فترة الجامعة اتجهوا إلى نفس التجربة في إيطاليا وجنوب أفريقيا كمهاجرين غير شرعيين ونجحوا، إلا تجربته كانت أكثر بؤسا. يقول عمرو : "مع ثورة البحر أصيب البعض بالوجوم وآخرون انهاروا تماما، وكان المشهد مروعا في المساء حين تتحول الأمواج إلى جبال تتحكم في الدفة، وزاد من بؤس الرحلة أن تعطلت بوصلة المركب واتجه الربان بالخطأ إلى جزيرة مالطة في اتجاه المعاكس حيث انتهت الرحلة هناك، وأغرق خفر السواحل المركب أمامنا". بعد معركة مع أمواج البحر يصفها عمرو ومعركة أخرى مع الربان الذي أراد عدم تسليم نفسه لخفر السواحل المالطيين، استقر الجميع في المعسكرات، يقول عمرو : "بعد أن وصلنا نفذت السيناريو الذي كانت سأتمه في إيطاليا، فقد كنا قد تخلينا عن جوازات سفرنا على الشاطي الليبي، فقلت في مالطا أنني فلسطيني على أمل أن أحصل على حق لجوء، لكن أخفقت بعد أن علمت أن مصيري هو السجن في تلك الحالة". عادت المجموعة إلى مصر عن طريق السفارة بعد أن شاهدت أهوالا أخرى داخل معسكر اللاجئين ومعارك مع اللاجئين الأفارقة هناك وتضاعف الإحساس بالهزيمة. قد تبدو القصة مسلية حين يرويها عمرو في منزله وفي خلفيته منازل القرية ومزارعها الخضراء، لكنه منذ ذلك الوقت ما زال مرتبكا بين واقع البقاء وفكرة الرحيل يقول : "بعض زملائي من الجامعة يعملون الآن عمالا وباعة في المحلات بأجر زهيد". يقول الجملة وهو محاط بتجارب العائدين من إيطاليا وتأثير اليورو في بلدة مثل "تطون" المجاورة، لديه قناعة أن الحياة في إيطاليا أفضل حيث شعار "الدين لله والوطن للجميع" حسب تعبيره، في إشارة منه إلى إحساس من خاضوا التجربة بالاحترام هناك رغم أنهم مهاجرين. عدا ذلك يحمد الله بعض من لم يهاجروا أنهم لم تطرأ عليهم تحولات مدينة تطون التي ابتعدت عن الطابع الريفي الهادئ وازداد صخبها نتيجة حركة الأموال الايطالية هناك .
رغم مرور عدة سنوات ما زال عمرو محمد السيد (26 سنة) محتفظا في ذاكرته بهذين التاريخين جيدا: 17 يوليو، 30 سبتمبر 2005، الأول هو يوم بدء رحلته الأولى في محاولة الهجرة إلى إيطاليا، والثاني هو يوم الإخفاق في إتمام نفس الرحلة. منذ ذلك الوقت حتى الآن ترفض أسرته فكرة تكرار التجربة مرة أخرى، أو حسب تعبيرهم : "لو بيرلسكوني جه بطيارة عشان ياخدك بنفسه على إيطاليا.. مش هتروح"، واكتفى بمتابعة أحوال المهاجرين والرضا بالواقع. يعيش عمرو السيد في قرية قلمشاه التي يقدر عدد سكانها بثلاثين ألف نسمة وتتبع مركز إطسا بمحافظة الفيوم إحدى أشهر المحافظات التي يتجه شبابها إلى الهجرة سرا إلى إيطاليا، لماذا إيطاليا ؟ يجيب عمرو: "كان في راسي وقتها نفسي السيناريو الذي نفذه آخرون، فإما أن تدخلني مافيا التهجير إلى إيطاليا وأعيش هناك، أو أن يتسلمني الصليب الأحمر كلاجئ هارب من إحدى مناطق الحروب ويتم الإنفاق عليّ أثناء إقامتي.. حتى أن ربان المركب التي قادتنا إلى إيطاليا في البحر ذكر لي أنني من الممكن أن أدخل المدرسة هناك وأتعلم لأن ملامحي كانت أصغر من سني".
في تلك الفترة كان عمرو في سن العشرين يدرس في كلية التربية بقسم اللغة الفرنسية، ووصل وقتها إلى قناعة بعدم جدوى التعليم الجامعي، وأن الهجرة هي المستقبل الحقيقي في ظل انعدام فرص العمل. يقول: "كان أمامي أيضا تجربة عمي الذي سبقني في الهجرة إلى إيطاليا بعام واحد فقط، ونجح في البقاء هناك لمدة ست سنوات من العمل". المفارقة التي يعيشها عمرو الآن هي أنه يقطن كعريس جديد في الطابق العلوي من شقة عمه الذي عاد إلى مصر مؤخرا محققا نموذج النجاح في إيطاليا. تذكر دراسة نشرت عام 2006 تحت عنوان "اتجاهات الشباب المصري حول الهجرة لأوروبا" وأجريت على عينة من شباب عدة محافظات مصرية أن حوالي 94% من عينة الدراسة حددوا دولة المهجر بناء على أحاديث الأصدقاء والأقارب، وكانت نسبة 61% من الشباب في ذلك الوقت قد اختارت إيطاليا كدولة هجرة مؤقتة، وهكذا كان عمرو أيضا.
لم يكن التيار وحده هو الذي دفع عمرو وأصدقاؤه إلى رحلة البحث عن إيطاليا بل واقع آخر.. فعلى مسافة عدة كيلومترات تقع قرية "تطون" الشهيرة كإحدى القرى الطاردة إلى إيطاليا، وطوال سنوات مضت راقب سكان القرى المجاورة ذلك التطور الذي أصاب تطون في غلاء أسعار الأراضي والعقارات إلى عشرة أضعاف، وارتفاع مستوى المعيشة وتغير طباع القرية الهادئة، وكانت إيطاليا هي كلمة السر، كما ان حالة الزهو التي تصيب بعض العائدين من هناك ما زالت تحرك غيرة الآخرين. الرحلة التي قطعها عمرو في 2005 لم تختلف عن التي قطعها عمه في العام السابق عليه، ولا عن الرحلات التي خاضها بعض أصدقاءه ومعارفه فيما بعد، ربما اختلفت الأسعار قليلا عن مبلغ 12000 جنيه الذي دفع عمرو نصفه على أمل أن يدفع النصف الآخر بعد إتمام العملية، بينما وصل المبلغ الآن إلى ما يقارب أربعة أضعاف هذا المبلغ. في 17 يوليو 2005 انطلق عمرو بجواز سفر سليم مباشرة إلى ليبيا بواسطة ميكروباص من الفيوم، يقول عمرو : "كنا أربعة، اثنان من الفيوم واثنان من طنطا، أقمنا في إحدى القرى الليبية ثم تركناها بعد يومين سريعا خشية الأمن، وانتقلنا إلى مكان آخر أقرب إلى مزرعة خاصة، حيث كنا نقيم في مكان محدد يلقب بالحوش، وتم تخزيننا هناك ". المكان الذي لا يزيد على ثلاث غرف وصالة توافد عليه من يأتي به مندوب التهريب، وبدأ عمرو مع مرور الوقت يشارك في استلام القادمين من مصر، وحين يسأله أحد في الشارع يقول : "أنا سائح من مصر !"، لكن مع مرور الأيام ثم الأسابيع بدأت الأجواء داخل "الحوش" تتوتر مع تزايد الأعداد وطول فترة "التخزين"، بدأ عمرو وقتها في تعلم أمور خاصة بالملاحة ومتابعة نشرات أخبار الطقس على أمل ظهور الوقت المناسب للإبحار، وبعد مرور أكثر من شهرين دون تسفير أحد، بدأ البعض يهدد المهربين بالعودة إلى مصر، يعلق عمرو : "في هذه المرة كنا على وشك الاشتباك مع المندوبين، خاصة أن الاتفاق كان مع أبناء الفيوم على أن ينفق الشاب على إقامته من جيبه على عكس أبناء بحري الذين دفعوا 25 ألف جنيه شاملة كل شيء". بعد ثورة المهاجرين كان يوم 29 سبتمبر هو الموعد الذي نقل فيه المهاجرون سرا عبر الساحل حيث تسلمهم أعضاء مافيا التهريب الليبية وانتقلوا إلى مركب صيد لا تتجاوز 12 مترا يقودها مصري من بلطيم وسط أكثر من 100 مهاجر سري، وكان الخوف الرئيسي من السقوط في قبضة البوليس الإيطالي في جزيرة لامبيدوزا نظرا لسمعتها في اتساع مراكز الإيواء بها للاجئين ثم ترحيلهم. حين يستدعي عمرو هذه التجربة الآن يحمد الله على نجاته وعودته سالما، ورغم أن له زملاء من فترة الجامعة اتجهوا إلى نفس التجربة في إيطاليا وجنوب أفريقيا كمهاجرين غير شرعيين ونجحوا، إلا تجربته كانت أكثر بؤسا. يقول عمرو : "مع ثورة البحر أصيب البعض بالوجوم وآخرون انهاروا تماما، وكان المشهد مروعا في المساء حين تتحول الأمواج إلى جبال تتحكم في الدفة، وزاد من بؤس الرحلة أن تعطلت بوصلة المركب واتجه الربان بالخطأ إلى جزيرة مالطة في اتجاه المعاكس حيث انتهت الرحلة هناك، وأغرق خفر السواحل المركب أمامنا". بعد معركة مع أمواج البحر يصفها عمرو ومعركة أخرى مع الربان الذي أراد عدم تسليم نفسه لخفر السواحل المالطيين، استقر الجميع في المعسكرات، يقول عمرو : "بعد أن وصلنا نفذت السيناريو الذي كانت سأتمه في إيطاليا، فقد كنا قد تخلينا عن جوازات سفرنا على الشاطي الليبي، فقلت في مالطا أنني فلسطيني على أمل أن أحصل على حق لجوء، لكن أخفقت بعد أن علمت أن مصيري هو السجن في تلك الحالة". عادت المجموعة إلى مصر عن طريق السفارة بعد أن شاهدت أهوالا أخرى داخل معسكر اللاجئين ومعارك مع اللاجئين الأفارقة هناك وتضاعف الإحساس بالهزيمة. قد تبدو القصة مسلية حين يرويها عمرو في منزله وفي خلفيته منازل القرية ومزارعها الخضراء، لكنه منذ ذلك الوقت ما زال مرتبكا بين واقع البقاء وفكرة الرحيل يقول : "بعض زملائي من الجامعة يعملون الآن عمالا وباعة في المحلات بأجر زهيد". يقول الجملة وهو محاط بتجارب العائدين من إيطاليا وتأثير اليورو في بلدة مثل "تطون" المجاورة، لديه قناعة أن الحياة في إيطاليا أفضل حيث شعار "الدين لله والوطن للجميع" حسب تعبيره، في إشارة منه إلى إحساس من خاضوا التجربة بالاحترام هناك رغم أنهم مهاجرين. عدا ذلك يحمد الله بعض من لم يهاجروا أنهم لم تطرأ عليهم تحولات مدينة تطون التي ابتعدت عن الطابع الريفي الهادئ وازداد صخبها نتيجة حركة الأموال الايطالية هناك .
No comments:
Post a Comment