رحلة الصبر وطول البال
في المقهى المقابل لجراج الترام ومكتب الاشتراكات بحي محرم بك يجلس وائل قناوي إلى جوار سعيد سليمان في انتظار لحظة الانطلاق إلى رحلة الصبر في شوارع الاسكندرية، قد يختلفان في العمر وفارق الخبرة، لكن الزمالة وظروف العمل الواحدة جمعتهما فأذابت تلك الفوارق. تمر من أمامهما عربات ترام "البلد" بلونها الأصفر حيث تتفرع الخطوط في اتجاهات مختلفة على عكس ترام "الرمل" بلونه الأزرق الأكثر استقرارا فوق قضبانه، يقول وائل : "أعترف بأنه أصبح من الصعب الآن أن ينسجم البعض مع فكرة سير الترام في عكس طريق السيارات بتلك السرعة البطيئة، لكن لا سبيل الآن للتغيير". يحاول وائل الشاب الثلاثيني الذي بدأ عمله قبل 12 سنة سائقا في هذا الخط أن يوضح بهذه العبارة جزء من حياته اليومية التي يعيشها هناك، لم يعد يزعجه صوت العربات الترام التي تهز جدران المقهى من حوله. قبل عدة أشهر شهد هذا المكان احتجاجات بعض العاملين في ترام النزهة على انخفاض حوافزهم التي تتأثر تلقائيا بحجم إيرادات الترام، في تلك الفترة كان جزء من طريقهم معطلا بسبب الاصلاحات وهو ما انعكس على حوافزهم في النهاية، لكن سرعان ما هدأت النفوس بعد معالجة الإدارة لهذا الأمر، هذه القصة استوقفت زميله سعيد سليمان الذي يعمل محصلا للتذاكر منذ 43 سنة، يعلق قائلا : "الدخل الحقيقي لنا هو الحوافز التي تتحرك صعودا وهبوطا حسب إيراد الترام وبيع التذاكر"، تلك النقطة هي كلمة السر في حياة العاملين هنا، إلى جانب بعض التفاصيل الأخرى التي يشرحها سعيد قائلا: " يجب أن يتجاوز عدد أيام العمل 25 يوما في الشهر، إن قلت عن هذا الرقم تتدهور الحالة المالية بشكل حاد، على سبيل المثال فإن مقابل الوجبة اليومي يصبح جنيهان ونصف بدلا من خمسة جنيهات ونصف، وكذلك تقل قيمة النسبة التي يحصل عليها المحصل أو السائق من الإيراد"، يبتسم ثم يكمل حديثه قائلا: "ومن الواجب أن أعمل يومين جمعة على الأقل في الشهر.. كل تلك الظروف منهكة لرجل في السابعة والخمسين". يرى وائل الأمر بصورة أخرى تمثل وجهة نظر سائق يقضي نصف يومه في شوارع المدينة، ركز في حديثه على حالة العربات العتيقة وتكالب الناس على السائق في حالة وقوع حادث. يقول : "لا أحد يرحم السائق حين يقع حادث" ينهيان حديثهما مودعين المقهى ويتوجهان إلى الضفة الأخرى من الشارع أمام مكتب الاشتراكات، يشير وائل مبتسما إلى مكتب الاشتراكات قائلا : "أحد أسباب قلة الإيراد اليومي ازدياد الاقبال على الاشتراكات". أما سعيد فيقلقه أمر آخر لا يخفيه، قائلا : "أحد أصدقائي من العاملين في هيئة السكك الحديدية نال 100 ألف جنيه كمكافأة نهاية الخدمة، أما نحن فلا نصل إلى ربع هذا المبلغ". ينهى عبارته ويحين وقت توديع زميله الشاب، حيث لن يعملا سويا في هذا اليوم، هناك محصل آخر سيشارك وائل في رحلته.
الطريق إلى النزهة
داخل الترام المتجه إلى النزهة يبدو وائل أكثر صمتا مع زميله المحصل أحمد إبراهيم، والأسباب واضحة فأمامه طريق مزدحم بالسيارات والعربات الكارو والدراجات، والركاب يزداد عددهم في الداخل، مع الوقت تنتقل أجواء التحمل والجلد إلى الركاب، في تلك الأجواء يبدو سؤالا من نوعية "لماذا تركب الترام رغم بطء سرعته؟" من الأسئلة السخيفة التي تثير ضجر البعض، وهو ما دعا أحد الركاب إلى رفض التعليق مكتفيا باستكمال رحلة التأمل في المجهول.. في ترام "الرمل" المجاور لطريق الكورنيش بعيدا عن ترام البلد ذكر أحد الركاب أنه يجد في الرحلة من محطة الرمل إلى باكوس حيث يقطن متعة خاصة دأب عليها منذ عشرات السنوات قضاها طالبا ثم معلما ثم مفتشا في التربية والتعليم، تلك الرؤية المختلفة لقضاء الوقت داخل عربة الترام لم تجذب الركاب في ترام البلد ذي اللون الأصفر، علق أحد الركاب ساخرا : "هل هناك متعة في الوقوف هكذا!؟ .. أنا لا أستخدم الترام أثناء توجهي إلى العمل صباحا، وحين أنهي عملي أحيانا ما أستخدمه إلى نقطة محددة حيث لا توجد وسيلة مواصلات أخرى، أنزل في محطة قريبة ثم أكمل مشواري بسيارات المشروع ". قبل أن يفترق وائل قناوي و سعيد سليمان كان حديثهما منصبا على أن الترام لم يعد هو وسيلة المواصلات الأساسية، سيارات المشروع – الميكروباص باللهجة السكندرية – زحفت حول خط الترام واجتذبت الزبائن، ولم يتبق من المحافظين على ركوب الترام سوى البسطاء وأصحاب المزاج الخاص أو من اضطرتهم الظروف إلى تحمله لمسافة قصيرة. راكب مسن يضع وصفا من عنده قائلا : "الترام هو عكاز العجوز" مستبعدا فكرة "التنطيط" في عربات الميكروباص، في تلك الأثناء كان وائل يضغط دواسة الجرس محاولا إفساح الطريق المزدحم بالسيارات، بينما كان زميله المحصل أحمد إبراهيم يحاول إقناع أحد الركاب بأن وائل لا يتباطأ في طريقه، لكن الراكب يغادر دون اقتناع.
يشير وائل إلى محطة"الوكالة" التي تمثل كارثة كبرى في طريقه، العاملون في مجال التجارة لن يلتفتوا إلى عربات الترام، يفرغ العمال حمولتهم دون اكتراث، في تلك المواقف قد يتلقى السائق والمحصل عبارة عنيفة من أحد الركاب، إحدى تلك العبارات دفعت المحصل أحمد إبراهيم إلى استرجاع قصة التحاقه بالعمل محصلا للتذاكر قائلا: "قبل أن أعمل في هذه المهنة جربت حظي في مجال السياحة، وكان عملا مربحا، لكني كنت أبحث عن العمل الحكومي الأكثر استقرارا، حيث المعاش والتأمين الصحي، وهو ما يجعلني مستمرا في هذه المهنة، كذلك فأنا لم يكن أمامي فرص كثير للعمل في تخصصي الأصلي كفني تكييفات". يحصل أحمد على مرتب أساسي لا يتجاوز 180 جنيها بعد العمل ستة عشر سنة في الهيئة العامة لنقل الركاب، قد يصل دخله إلى 800 جنيه في أفضل الأحوال، لكن هناك نقاط أخرى يوضحها : "مرتباتنا تعتمد على إيراد الترام لذا تنخفض بصورة ملحوظة في مواسم الشتاء على سبيل المثال، فقد لا يصل محصل في سنوات خبرتي إلى مبلغ 600 جنيه، هذا إلى جانب ما يخصم من المرتب بسبب السلفيات والقروض". قد تكون مثل تلك المشاكل جوهرية في حياة أحمد إبراهيم وزملائه لكن هناك تفاصيل أخرى اعتاد عليها، مثل تكرار الوجوه التي تستقل الترام بشكل دائم، بعضها يكون مثيرا للضجر على عكس آخرين يلقون عليه التحية لأنه هو الآخر قد تحول إلى جزء من حياتهم، هناك تفاصيل أخرى لا ترضيه، يوضح ذلك : "أفتقد وعي بعض الركاب الذين لا يقدرون قيمة التذكرة التي في أيديهم، فبعيدا عن أن احتفاظهم بها هو أمر هام بالنسبة لي وقت التفتيش لكنها في ذات الوقت حقهم الذي عليهم الا يفرطوا فيه". ما يتحدث عنه أحمد إبراهيم من مشاهدات يومية لا تختلف كثيرا عن ملاحظات بعض العاملين في ترام الرمل الذي كان مستقلا بذاته حتى انضم إلى الهيئة العامة لنقل الركاب بمحافظة الاسكندرية، وحتى الآن يقع ترام الرمل تحت نفوذ إدارة مستقلة في الهيئة، وبينما تمتلك الهيئة في خط ترام الرمل الأفضل حالا من حيث نوعية المركبات وحالة الطريق 42 مركبة على خطين فقط، تدير الهيئة في ترام المدينة 119 مركبة تنتقل بين 15 خطا. أحد العاملين في ترام البلد ذي اللون الأصفر المميز ذكر أن هناك روح طبقية تظهر أحيانا حين يمر الترام الأصفر ناحية محطة الرمل لا يخفيها العاملون هناك تجاه أقرانهم. قد يجد سائق الترام الأصفر مضطرا إلى انتظار الترام الأزرق حتى ينطلق قبله.. الترام الأصفر أحيانا ما يعامل كضيف ثقيل في خط الرمل. في الطريق الذي قد يستغرق قرابة الساعة يتبادل وائل وزميله المحصل الحديث، يرفع يده لتحيه زميل قادم في الاتجاه المقابل، قد تطول الأوقات في بعض الأيام مثلما يشرح وائل : "شارع محرم بك على سبيل المثال يزدحم في أيام الخميس والجمعة والأحد في أوقات معينة بسبب وجود ستوديوهات التصوير ومحلات الكوافير التي تستقبل زبائنها من العرائس، وليس في يدي تجاوز الزفة ". في الشهر الماضي أعلن وزير النقل عن قرب إصدار قرار بإنشاء مترو أنفاق الاسكندرية، الفكرة التي تبدلت الأماكن المقترحة لتنفيذها لم تستقر بعد، لكنها في الغالب ستكون بعيدة عن شريط الترام الذي يسير عليه وائل و رفاقه، لا يشغل العاملون في الترام بالهم بهذا التصريح، كل قضيتهم هي العبور اليومي إلى نهاية الخط.. يشير وائل بيده إلى إحدى النقاط الضيقة أمام محطة مصر طريق ضيق يكاد يسمح بعبور الترام بسبب ازدحام الرصيف بمحلات الملابس وصخب الزبائن، يحافظ وائل على هدوء أعصابه محاولا السيطرة على ما هو خارج العربات تاركا مهمة السيطرة على ما هو داخل العربة لزميله المحصل مثلما اعتاد كليهما في كل يوم.
ما لم يقله الترام لركابه !
بعد أكثر من ثلاثين سنة من العمل سائقا ومحصلا داخل عربات ترام الرمل، اختار محمد محمد عبد الحميد (58 سنة) العمل على هامش شريط ترام الرمل الشهير، المهنة : مفتاحجي، تمتد يده كل بضعة دقائق لسحب ذراع طويلة مثبتة في الأرض بقوة ليحدد مسار العربة القادمة حسب رقمها، يقول : "اخترت الشغلانة دي عشان أبعد عن وجع الدماغ"، تلك العبارة الحاسمة لخص بها معاناة عشرات السنوات التي شاركته فيها أسرته في تحملهم الضغط العصبي الذي كان يصيبه يوميا، يبدأ عمله في الساعة الثانية والنصف عصرا حتى الثانية صباحا، لكنه يعتبر ذلك "أرحم" من العمل داخل عربات الترام. كل شيء تغير من حوله وزاد من تعكر مزاجه الذي لم يخفيه أثناء حديثه، في بعض الأيام يؤنسه زميله السبعيني الذي ترك الخدمة ويأتي للجلوس إلى جواره متابعا مشهد الترام، يقول محمد عبد الحميد : " نوعية الراكب تغيرت وأصبحت أكثر شراسة، كثيرا ما كنت أواجه بمن يرفع صوته محتدا قائلا: انت متعرفش انت بتكلم مين؟، رغم أننا في وسيلة مواصلات لا تتجاوز قيمة أجرتها الخمسة وعشرون قرشا، اليوم تعاملاتي في أضيق الحدود". لم يشهد محمد عصور ازدهار الترام حين كانت تديره شركة خاصة يعمل فيها الخواجات، يتدخل زميله السبعيني معلقا : "أنا أيضا لم أشهد تلك الفترة، لكن شهدت في صباي فترة قبل التأميم وبعدها.. كانت الأجواء أكثر هدوءا". لم يتوافر لأي منهما فرصة الاستمتاع بقراءة تحولات المباني المحيطة بالمحطة الرئيسية (محطة الرمل) أو المباني الخلفية في حي المنشية، المقاهي التي كانت تستقبل في نهاية القرن قبل الماضي رواد البورصة تحولت اليوم إلى جزء من معالم المدينة، وتخلي أغلبها مع هجرة الأجانب في الخمسينيات عن (البار) الذي كان يعمل بكامل كفاءته في خدمة الأجانب من سكان المدينة.
في أي وقت يترك محمد عبد الحميد من يحدثه متجها إلى ذراع النقل ليحول الطريق أمام الترام القادم، في محطة بولكلي (إيزيس) اختار أن يختم حياته المهنية في إحدى المحطات التي تتفرع فيها خطوط الترام، مثلها مثل محطات أخرى كسبورتنج "الكبرى"، ومصطفى كامل، وسان ستيفانو، لكن أهم ما يميز هذه المحطة تحديدا هو أنها كانت نهاية أول خط ترام في مصر وإفريقيا حين تأسس في العام 1860، اليوم يتذكر محمد عبد الحميد تواريخ أقرب كانت تمثل أحداث هامة في حياته المهنية، يصف ذلك قائلا : "لن أنسي أحد أعياد عام 1980 بعد عام واحد من التحاقي بالعمل في ترام الرمل، وقع حادث لطفل مد جسده خارج شباك العربة فاصطدم بأحد الأعمدة الجانبية، ووجدت نفسي مسئولا عن الحادث أثناء عملي سائقا، هل مسؤوليتي حراسة الركاب؟!" لم يكن ذلك أخطر ما واجهه، أقسى ما واجهه وما زال يراه بحكم عمله اليوم خارج عربات الترام هو ركوب بعض الشباب على جانبي العربات، ووقوع عدد من الحوادث لم ينساها بسبب تهور بعض الشباب، يعلق على ذلك بشجاعة: "نحن بحاجة إلى شرطة خاصة بهذا المرفق تضبط مخالفات الركاب وصفاقة بعض الشباب". تلك الحالة التي تصيب بعض الركاب بالرعونة وحب الاستعراض كانت سببا في وصم الترام منذ نشأته الأولى بأنه أداة انفلات اجتماعي، فحسبما تروى سوزان عابد في مقال تحت عنوان "الترمواي.. عفريت يجوب شوارع المحروسة" (مجلة ذاكرة مصر المعاصرة-العدد الثاني .مارس 2010) صاحب نشأة الترام ظهور قلق اجتماعي من تشجيع النساء على الخروج من المنزل واستغلال الشباب له كمكان لتحديد لقاءاتهم الغرامية، وهي الفئة التي لقبها البعض آنذاك "الشباب الترامي"، في محطة بولكلي حيث يعمل محمد عبد الحميد كانت نهاية خط أول ترام بدأ رحلته من محطة الرمل بعربات تجرها الخيول على قضبان، وفي عام 1863 كانت البداية الحقيقية لتشغيل خط الترام للجمهور خاصة مع استخدام القاطرة البخارية. الفترة الطويلة التي قضاها محمد عبد الحميد في حياته العملية هي قصيرة جدا في عمر الترام، لكن طرأت في السنوات الأخيرة مشاهد لم يكن ليراها احد من قبل حسبما يروي، أهمها ظهور فئة "أبناء الشوارع" بقوة في حياة العاملين في الترام، بعضهم يقيم في محطات بعينها، لكن الأمر قد يتجاوز ذلك بكثير، يقول : "يكفي أن أصف ما ارتكبه بعضهم قبل أيام في شجار استخدموا فيه النيران التي أصابت إحدى العربات وأفزعت الركاب، هذا إلى جانب محاولاتهم الدائمة لركوب الترام ومضايقة النساء ". تلك المواقف التي كان يتعرض لها يوميا ما زال على صلة بها بسبب تواصله الدائم بزملائه المارين بعرباتهم من أمامه حاملين له حكايات "أعداء الترام" ضدهم. على هامش هذا الخط حياة أخرى، أجانب الماضي قد استبدلوا بزوار الصيف و من جاءوا إلى المدينة المليونية لغرض ما، فاندمجت ذكرى ما قبل الثورة بما بعدها، يمكن تتبع ذلك بإشارات ما زالت موجودة حتى اليوم، فالمستشفى اليوناني التي أنشاها اليوناني ثيوخارى كوستيكا عام 1938 مـ كدليل على وجود يوناني راسخ في المدينة تحولت في الستينات إلى مستشفى جمال عبد الناصر، أما الترام الذي كان يحمل الخواجات والسكندريين إلى المستشفى اليوناني قد تبدل زبائنه، تتضح الصورة أكثر أمام مستشفى الشاطبي الجامعي على مسافة غير بعيدة من رصيف محطة الشبان المسلمين حيث تجلس مجموعات قادمة من محافظات مجاورة افترشوا الرصيف في انتظار دورهم للدخول، حيث لا يسمح إلا بزائر واحد حسبما يصف أحدهم. المدينة التي جذبت ألأجانب في بدايات القرن الماضي وكانوا سببا تطويرها أصبحت اليوم تستقبل حسب أرقام الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في العام 2008 حوالي 280 ألف مهاجر من المحافظات الأخرى جاء أغلبهم للعمل. الفارق بين هؤلاء وإسكندرية الأربعينات أن الأجانب كانوا ضمن المهاجرين إلى المدينة حسبما يذكر الدكتور محمد صبحي عبد الحكيم في كتابه (مدينة الإسكندرية - الهيئة المصرية للكتاب، 2007) فقد وصلت نسبة الأجانب عام 1947 إلى 7% من مجموع السكان بعد أن كانت تمثل ربع سكان المدينة في تعداد 1907، والحقيقة التي يؤكدها صبحي عبد الحكيم في دراسته هي انخفاض النسبة كان أحد أسبابه تجنس الأجانب بالجنسية المصرية، حتى أن اعتبرهم البعض مجرد "خواجات"، لكنهم عملوا في جميع المهن وضمنها العمل داخل عربات الترام.
عفاريت الترام
الترام الذي اعتبره المصريون في بدايته عفريتا يجوب شوارع المحروسة يقابل اليوم بعفاريت بشرية، يشير محمد عبد الحميد إلى صبية اختاروا التعلق في العربة الأخيرة من الترام قائلا: "هؤلاء من أقصدهم.. كيف أتعامل معهم وليس لدي سلطة عليهم؟!". أثناء عمله محصلا قابل محمد عفاريت أخرى يقتحمون الترام في شلل ويضايقون المحصل. نفس الترام الذي تعاطف مع احتجاجات الوطنيين على إثر اندلاع ثورة 1919 وأعلن عماله الإضراب، يمر اليوم بعبارات احتجاجية من نوع آخر.. في الطريق إلى بولكلي حيث يقف محمد عبد الحميد، إحدى تلك العبارات كتبت على جدران مجاورة لشريط الترام بإمضاء "جمال الدولي" مشجع نادي الاتحاد السكندري الشهير الذي ملأ شوارع الإسكندرية في فترة من الفترات بعباراته الساخطة ضد السلطات، في هذه النقطة تحديدا كتب عبارة ضد إسرائيل، مثل تلك العبارات استقبلتها قد يجد الزائر عبارات شبيهة بها على جدران شواطئ الإسكندرية حيث يدعو بعضها إلى العفة وأخرى من نوعية:" لا تحلموا بعالم سعيد .. خلف كل قيصر يموت"، وقبل أسابيع قليلة شهدت ساحة القائد إبراهيم مظاهرات بسبب قتيل الإسكندرية الشاب خالد سعيد على مسافة قليلة من محطة الرمل الرئيسية، مثل تلك الأحداث "الطارئة" لا تشغل بال كثير من العاملين داخل عربات الترام بقدر ما تشغلهم الأحداث اليومية، يشير محمد عبد الحميد من موقعه الراسخ ناحية محطة الشبان المسلمين قائلا : "هناك محطات أصبحت تثير قلق العاملين، مثل الشبان المسلمين حيث مدرسة محمد علي التي يتكرر شغب طلابها وشجارهم هناك". في محطة الرمل الرئيسية عمل محمد في إحدى المهام الإدارية التي اعتزلها ابتعادا عن تعقيدات العمل اليومية.. هناك في محطة الرمل أجواء أفضل حيث العمارات الفخمة العتيقة بعيدا عن مشاكل الركاب والطلبة في موسم الدراسة، حديث محمد عبدالحميد عن تجاوزات الشباب في الترام تثير مفارقة في أن بداية هذا الخط في محطة الرمل تقع جدارية ضخمة عليها صورة فنان الشعب السكندري سيد درويش، إلى جانب رائدة التعليم نبوية موسى، أحد العاملين في الجوار لم يعرف من صاحبة الصورة. تبدو الصورة وكأن المرأة التي تعرضت للتضييق من رجعية المجتمع وسلطات الاحتلال البريطاني نتيجة سعيها للعمل في مجال التربية وإنشاء مدارس البنات ستظل في موقعها هذا شاهدة هي الأخرى على تطور حال المدينة وشبابها
في أي وقت يترك محمد عبد الحميد من يحدثه متجها إلى ذراع النقل ليحول الطريق أمام الترام القادم، في محطة بولكلي (إيزيس) اختار أن يختم حياته المهنية في إحدى المحطات التي تتفرع فيها خطوط الترام، مثلها مثل محطات أخرى كسبورتنج "الكبرى"، ومصطفى كامل، وسان ستيفانو، لكن أهم ما يميز هذه المحطة تحديدا هو أنها كانت نهاية أول خط ترام في مصر وإفريقيا حين تأسس في العام 1860، اليوم يتذكر محمد عبد الحميد تواريخ أقرب كانت تمثل أحداث هامة في حياته المهنية، يصف ذلك قائلا : "لن أنسي أحد أعياد عام 1980 بعد عام واحد من التحاقي بالعمل في ترام الرمل، وقع حادث لطفل مد جسده خارج شباك العربة فاصطدم بأحد الأعمدة الجانبية، ووجدت نفسي مسئولا عن الحادث أثناء عملي سائقا، هل مسؤوليتي حراسة الركاب؟!" لم يكن ذلك أخطر ما واجهه، أقسى ما واجهه وما زال يراه بحكم عمله اليوم خارج عربات الترام هو ركوب بعض الشباب على جانبي العربات، ووقوع عدد من الحوادث لم ينساها بسبب تهور بعض الشباب، يعلق على ذلك بشجاعة: "نحن بحاجة إلى شرطة خاصة بهذا المرفق تضبط مخالفات الركاب وصفاقة بعض الشباب". تلك الحالة التي تصيب بعض الركاب بالرعونة وحب الاستعراض كانت سببا في وصم الترام منذ نشأته الأولى بأنه أداة انفلات اجتماعي، فحسبما تروى سوزان عابد في مقال تحت عنوان "الترمواي.. عفريت يجوب شوارع المحروسة" (مجلة ذاكرة مصر المعاصرة-العدد الثاني .مارس 2010) صاحب نشأة الترام ظهور قلق اجتماعي من تشجيع النساء على الخروج من المنزل واستغلال الشباب له كمكان لتحديد لقاءاتهم الغرامية، وهي الفئة التي لقبها البعض آنذاك "الشباب الترامي"، في محطة بولكلي حيث يعمل محمد عبد الحميد كانت نهاية خط أول ترام بدأ رحلته من محطة الرمل بعربات تجرها الخيول على قضبان، وفي عام 1863 كانت البداية الحقيقية لتشغيل خط الترام للجمهور خاصة مع استخدام القاطرة البخارية. الفترة الطويلة التي قضاها محمد عبد الحميد في حياته العملية هي قصيرة جدا في عمر الترام، لكن طرأت في السنوات الأخيرة مشاهد لم يكن ليراها احد من قبل حسبما يروي، أهمها ظهور فئة "أبناء الشوارع" بقوة في حياة العاملين في الترام، بعضهم يقيم في محطات بعينها، لكن الأمر قد يتجاوز ذلك بكثير، يقول : "يكفي أن أصف ما ارتكبه بعضهم قبل أيام في شجار استخدموا فيه النيران التي أصابت إحدى العربات وأفزعت الركاب، هذا إلى جانب محاولاتهم الدائمة لركوب الترام ومضايقة النساء ". تلك المواقف التي كان يتعرض لها يوميا ما زال على صلة بها بسبب تواصله الدائم بزملائه المارين بعرباتهم من أمامه حاملين له حكايات "أعداء الترام" ضدهم. على هامش هذا الخط حياة أخرى، أجانب الماضي قد استبدلوا بزوار الصيف و من جاءوا إلى المدينة المليونية لغرض ما، فاندمجت ذكرى ما قبل الثورة بما بعدها، يمكن تتبع ذلك بإشارات ما زالت موجودة حتى اليوم، فالمستشفى اليوناني التي أنشاها اليوناني ثيوخارى كوستيكا عام 1938 مـ كدليل على وجود يوناني راسخ في المدينة تحولت في الستينات إلى مستشفى جمال عبد الناصر، أما الترام الذي كان يحمل الخواجات والسكندريين إلى المستشفى اليوناني قد تبدل زبائنه، تتضح الصورة أكثر أمام مستشفى الشاطبي الجامعي على مسافة غير بعيدة من رصيف محطة الشبان المسلمين حيث تجلس مجموعات قادمة من محافظات مجاورة افترشوا الرصيف في انتظار دورهم للدخول، حيث لا يسمح إلا بزائر واحد حسبما يصف أحدهم. المدينة التي جذبت ألأجانب في بدايات القرن الماضي وكانوا سببا تطويرها أصبحت اليوم تستقبل حسب أرقام الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في العام 2008 حوالي 280 ألف مهاجر من المحافظات الأخرى جاء أغلبهم للعمل. الفارق بين هؤلاء وإسكندرية الأربعينات أن الأجانب كانوا ضمن المهاجرين إلى المدينة حسبما يذكر الدكتور محمد صبحي عبد الحكيم في كتابه (مدينة الإسكندرية - الهيئة المصرية للكتاب، 2007) فقد وصلت نسبة الأجانب عام 1947 إلى 7% من مجموع السكان بعد أن كانت تمثل ربع سكان المدينة في تعداد 1907، والحقيقة التي يؤكدها صبحي عبد الحكيم في دراسته هي انخفاض النسبة كان أحد أسبابه تجنس الأجانب بالجنسية المصرية، حتى أن اعتبرهم البعض مجرد "خواجات"، لكنهم عملوا في جميع المهن وضمنها العمل داخل عربات الترام.
عفاريت الترام
الترام الذي اعتبره المصريون في بدايته عفريتا يجوب شوارع المحروسة يقابل اليوم بعفاريت بشرية، يشير محمد عبد الحميد إلى صبية اختاروا التعلق في العربة الأخيرة من الترام قائلا: "هؤلاء من أقصدهم.. كيف أتعامل معهم وليس لدي سلطة عليهم؟!". أثناء عمله محصلا قابل محمد عفاريت أخرى يقتحمون الترام في شلل ويضايقون المحصل. نفس الترام الذي تعاطف مع احتجاجات الوطنيين على إثر اندلاع ثورة 1919 وأعلن عماله الإضراب، يمر اليوم بعبارات احتجاجية من نوع آخر.. في الطريق إلى بولكلي حيث يقف محمد عبد الحميد، إحدى تلك العبارات كتبت على جدران مجاورة لشريط الترام بإمضاء "جمال الدولي" مشجع نادي الاتحاد السكندري الشهير الذي ملأ شوارع الإسكندرية في فترة من الفترات بعباراته الساخطة ضد السلطات، في هذه النقطة تحديدا كتب عبارة ضد إسرائيل، مثل تلك العبارات استقبلتها قد يجد الزائر عبارات شبيهة بها على جدران شواطئ الإسكندرية حيث يدعو بعضها إلى العفة وأخرى من نوعية:" لا تحلموا بعالم سعيد .. خلف كل قيصر يموت"، وقبل أسابيع قليلة شهدت ساحة القائد إبراهيم مظاهرات بسبب قتيل الإسكندرية الشاب خالد سعيد على مسافة قليلة من محطة الرمل الرئيسية، مثل تلك الأحداث "الطارئة" لا تشغل بال كثير من العاملين داخل عربات الترام بقدر ما تشغلهم الأحداث اليومية، يشير محمد عبد الحميد من موقعه الراسخ ناحية محطة الشبان المسلمين قائلا : "هناك محطات أصبحت تثير قلق العاملين، مثل الشبان المسلمين حيث مدرسة محمد علي التي يتكرر شغب طلابها وشجارهم هناك". في محطة الرمل الرئيسية عمل محمد في إحدى المهام الإدارية التي اعتزلها ابتعادا عن تعقيدات العمل اليومية.. هناك في محطة الرمل أجواء أفضل حيث العمارات الفخمة العتيقة بعيدا عن مشاكل الركاب والطلبة في موسم الدراسة، حديث محمد عبدالحميد عن تجاوزات الشباب في الترام تثير مفارقة في أن بداية هذا الخط في محطة الرمل تقع جدارية ضخمة عليها صورة فنان الشعب السكندري سيد درويش، إلى جانب رائدة التعليم نبوية موسى، أحد العاملين في الجوار لم يعرف من صاحبة الصورة. تبدو الصورة وكأن المرأة التي تعرضت للتضييق من رجعية المجتمع وسلطات الاحتلال البريطاني نتيجة سعيها للعمل في مجال التربية وإنشاء مدارس البنات ستظل في موقعها هذا شاهدة هي الأخرى على تطور حال المدينة وشبابها
No comments:
Post a Comment