خلطة سرية من البشر
كتب – عبد الرحمن مصطفى
بإمكان أحمد شاكر أن يرى عالما مصغرا في تلك المساحة المثلثة جوار ميدان التحرير بين نهاية شارعي طلعت حرب و التحرير، فأثناء جلوسه جوار كابل الكهرباء العملاق يتابع تنوعا غريبا من البشر، الصاعدون درجات سلم مترو الأنفاق يسلمون مهمة النزول لغيرهم، والجلابيب الريفية تتجاور مع الجينز الضيق، بينما يطل آكلو الفول بأعين فضولية على الجالسين داخل مطعم كنتاكي، السائحون والصعاليك متساوون في هذه المساحة الديمقراطية.. الجميع وقوف في انتظار شيء ما.. بالنسبة لأحمد فالأمر بسيط، لخصه في جملة: "متابعة البشر هنا تحرق الوقت".. وهو ما يسعى إليه أثناء انتظار بقية زملائه في كورس اللغة الانجليزية منخفض التكلفة الذي لا يبعد عن هذه المساحة سوى أمتار قليلة .
"هل سمعت عن مقهى إيزافيتش ؟" هذا السؤال وجب تكراره عدة مرات على أسماع أحمد وزملائه حتى يستوعبها أحدهم، ولم يعرف إجابته أحد، اليوم.. يكاد يكون مقهى إيزافيتش أحد مفردات الحنين لدى شريحة من المثقفين المفتونين بهذا المقهى حيث اجتمع الشعراء والأدباء تحت لافتة خواجة أجنبي ذو أصل يوغسلافي وميول يسارية، في نفس المقهى قيل أن الشاعر الراحل "أمل دنقل" قد ألقى أشعاره في العام 1971 على الطلبة المعتصمين في ميدان التحرير احتجاجا على سياسات الرئيس السادات.. "مين أمل دنقل؟" لم يكن لدى أحمد وأصدقائه فكرة عن هذه الذكريات البائدة، فالواقع أشد وضوحا أمامهم في هذا المثلث الأقرب إلى لوحة عجيبة تجمع الشواذ جنسيا والصم والبكم والسائحين وأولاد الشوارع وأولاد الذوات في مكان واحد دون سبب واضح سوى أنه ميدان التحرير أشهر ميادين القاهرة.
البناية التي تمثل أحد أضلاع هذا المثلث يحرسها بواب شاب ذي أصول جنوبية، استهجن اسم "إيزافيتش" ولم يعرف هو الآخر سوى الواقع الحالي، أما على أطراف البناية فهناك فئة مميزة من مواطني مثلث كنتاكي، هم مجموعة من الصم والبكم يديرون أحاديثهم الحماسية بلغة الإشارة في ركن خاص، صاحب الكشك المجاور داخل أحد ممرات العمارة لم يجد إجابة واضحة على سبب تواجدهم الدائم في هذا المكان، توجه إليهم ونقل إليهم مجموعة من الأسئلة بلغة الإشارة بدت ركيكة بالنسبة إليهم : "هل هناك مقهى قريب يجمعهم؟"، "هل هناك مركز أو جمعية هي السبب في تواجدهم في نفس المكان يوميا؟"، أجاب أحدهم وكان ذو قدرة على النطق البسيط، أنه لا يوجد سبب لتجمعهم سوى شهرة المكان واتساعه، واضاف بثقة: "هذا التجمع عفوي وغير مقصود، نتعرف فيه على أصدقاء جدد ونتحدث بصورة شبه يومية.. هذا كل شيء".
على بعد أمتار من دائرة الصم والبكم في نهاية مثلث كنتاكي، يقع مقهى وادي النيل، جار إيزافيتش القديم.. أمام المقهى يطل الحاج حسن عثمان - مدير المقهي - على عالم جديد لم يكن موجودا حين بدأ هذا المقهى عمله قبل أكثر من نصف قرن، يقول : "بإمكاني الآن أن أشير إلى كل شركة سياحة وإلى كل مطعم هنا في هذا المثلث وأخبرك بأصله وماذا كان وكيف أصبح !". هذه شركة للسياحة كانت محلا للأحذية، وأخرى كانت محل بقالة، أما كنتاكي فكان مطعما يملكه إيزافيتش بينما تحول مقهاه القديم حاليا إلى شركة سياحة، وأشار الحاج حسن إلى أبعد من هذا ناحية الجامعة الأمريكية حيث محلات الوجبات السريعة التي كانت محلات أسترا وعلى بابا الشهيرة.. كل شيء تغير منذ نهاية السبعينات بعد عصر الانفتاح، ومع دخول الثمانينات حدث تحول جذري انتعشت فيه شركات السياحة التي احتلت الميدان، وبعدها انتعشت مطاعم الوجبات السريعة، وتغيرت المعالم.
أمام كل شركة سياحة شاب ينادي على عروض شركته، يكاد يخطف المارة على أمل الحصول على مكافأة من الشركة، أما داخل مقهى وادي النيل فيكاد يكون المكان محافظا على تقاليد المقهى القديمة، المشروبات الروحية ممنوعة، و المشروبات الغازية ليس لها مكان.. ترك الحاج حسن المهمة للمقاهي والمطاعم المجاورة، وأمام جاره كنتاكي يجلس أبناء الشوارع في تقليد شبه رسمي يطلون عبر الزجاج على صدور الدجاج المتبلة وصدور الفتيات الجالسات بصحبة أصدقائهن بالداخل، يمسكون بأيدي المارة طلبا للطعام.. هكذا يحصلون على قوت يومهم.
يقول الحاج حسن: "كل شيء تغير حتى الزبائن.. المجتمع كله تغير"، ما زال يذكر زيارة نجيب محفوظ إلى مقهاه، وغيره من المثقفين، لكنه يقر أن أهم زبائنه منذ أن أنشئ المقهى هم السياح المتجولين بين المتحف وفنادقهم في وسط المدينة، يجلسون أمام الشيشة، ويطالعون قائمة المشروبات المكتوبة بالعربية والانجليزية على أمل تسهيل مهمة عمال المقهى، في الخارج ضيوف ثقال على مثلث كنتاكي، البعض يتعرض لهم بالعنف اللفظي والزجر على أمل رحيلهم، هم الشواذ جنسيا، في كتابه "بلد الولاد" الذي يتعرض لعالمهم، يشير المؤلف مصطفى فتحي من طرف بعيد إلى تجمعهم في مثلث كنتاكي، وبعيدا عن كتاب بلد الولاد، فهذه الفئة من سكان المثلث لا تهجر مكانها إلا حسب مزاجها، يتعرضون لمضايقات أثناء وقوفهم، وهو ما لم يخفيه أحمد شاكر وأصدقائه زوار ميدان التحرير، إذ أنهم لا يمانعون أبدا في إلقاء التعليقات الخفيفة على أبناء هذه الفئة، لكن الحاج حسن لم يخف ضيقه من وجودهم كواحد من أصحاب المحال التجارية هناك، واعتبرها إساءة للمكان، ويعلق : "في الماضي كان من يمر بميدان التحرير يعدل ملابسه تماشيا مع أناقة المكان وفخامته، أما اليوم فأصبح يجمع من هب ودب"، يتوقف قليلا ثم يكمل : " كانت هناك فئة تسمى الخرتية من النصابين يصطادون السائحين ويضللوهم، لكن انتهى وجودهم من الميدان بسبب نشاط الشرطة ضدهم، أما الشواذ فما زالوا يمرحون هنا".
كتب – عبد الرحمن مصطفى
بإمكان أحمد شاكر أن يرى عالما مصغرا في تلك المساحة المثلثة جوار ميدان التحرير بين نهاية شارعي طلعت حرب و التحرير، فأثناء جلوسه جوار كابل الكهرباء العملاق يتابع تنوعا غريبا من البشر، الصاعدون درجات سلم مترو الأنفاق يسلمون مهمة النزول لغيرهم، والجلابيب الريفية تتجاور مع الجينز الضيق، بينما يطل آكلو الفول بأعين فضولية على الجالسين داخل مطعم كنتاكي، السائحون والصعاليك متساوون في هذه المساحة الديمقراطية.. الجميع وقوف في انتظار شيء ما.. بالنسبة لأحمد فالأمر بسيط، لخصه في جملة: "متابعة البشر هنا تحرق الوقت".. وهو ما يسعى إليه أثناء انتظار بقية زملائه في كورس اللغة الانجليزية منخفض التكلفة الذي لا يبعد عن هذه المساحة سوى أمتار قليلة .
"هل سمعت عن مقهى إيزافيتش ؟" هذا السؤال وجب تكراره عدة مرات على أسماع أحمد وزملائه حتى يستوعبها أحدهم، ولم يعرف إجابته أحد، اليوم.. يكاد يكون مقهى إيزافيتش أحد مفردات الحنين لدى شريحة من المثقفين المفتونين بهذا المقهى حيث اجتمع الشعراء والأدباء تحت لافتة خواجة أجنبي ذو أصل يوغسلافي وميول يسارية، في نفس المقهى قيل أن الشاعر الراحل "أمل دنقل" قد ألقى أشعاره في العام 1971 على الطلبة المعتصمين في ميدان التحرير احتجاجا على سياسات الرئيس السادات.. "مين أمل دنقل؟" لم يكن لدى أحمد وأصدقائه فكرة عن هذه الذكريات البائدة، فالواقع أشد وضوحا أمامهم في هذا المثلث الأقرب إلى لوحة عجيبة تجمع الشواذ جنسيا والصم والبكم والسائحين وأولاد الشوارع وأولاد الذوات في مكان واحد دون سبب واضح سوى أنه ميدان التحرير أشهر ميادين القاهرة.
البناية التي تمثل أحد أضلاع هذا المثلث يحرسها بواب شاب ذي أصول جنوبية، استهجن اسم "إيزافيتش" ولم يعرف هو الآخر سوى الواقع الحالي، أما على أطراف البناية فهناك فئة مميزة من مواطني مثلث كنتاكي، هم مجموعة من الصم والبكم يديرون أحاديثهم الحماسية بلغة الإشارة في ركن خاص، صاحب الكشك المجاور داخل أحد ممرات العمارة لم يجد إجابة واضحة على سبب تواجدهم الدائم في هذا المكان، توجه إليهم ونقل إليهم مجموعة من الأسئلة بلغة الإشارة بدت ركيكة بالنسبة إليهم : "هل هناك مقهى قريب يجمعهم؟"، "هل هناك مركز أو جمعية هي السبب في تواجدهم في نفس المكان يوميا؟"، أجاب أحدهم وكان ذو قدرة على النطق البسيط، أنه لا يوجد سبب لتجمعهم سوى شهرة المكان واتساعه، واضاف بثقة: "هذا التجمع عفوي وغير مقصود، نتعرف فيه على أصدقاء جدد ونتحدث بصورة شبه يومية.. هذا كل شيء".
على بعد أمتار من دائرة الصم والبكم في نهاية مثلث كنتاكي، يقع مقهى وادي النيل، جار إيزافيتش القديم.. أمام المقهى يطل الحاج حسن عثمان - مدير المقهي - على عالم جديد لم يكن موجودا حين بدأ هذا المقهى عمله قبل أكثر من نصف قرن، يقول : "بإمكاني الآن أن أشير إلى كل شركة سياحة وإلى كل مطعم هنا في هذا المثلث وأخبرك بأصله وماذا كان وكيف أصبح !". هذه شركة للسياحة كانت محلا للأحذية، وأخرى كانت محل بقالة، أما كنتاكي فكان مطعما يملكه إيزافيتش بينما تحول مقهاه القديم حاليا إلى شركة سياحة، وأشار الحاج حسن إلى أبعد من هذا ناحية الجامعة الأمريكية حيث محلات الوجبات السريعة التي كانت محلات أسترا وعلى بابا الشهيرة.. كل شيء تغير منذ نهاية السبعينات بعد عصر الانفتاح، ومع دخول الثمانينات حدث تحول جذري انتعشت فيه شركات السياحة التي احتلت الميدان، وبعدها انتعشت مطاعم الوجبات السريعة، وتغيرت المعالم.
أمام كل شركة سياحة شاب ينادي على عروض شركته، يكاد يخطف المارة على أمل الحصول على مكافأة من الشركة، أما داخل مقهى وادي النيل فيكاد يكون المكان محافظا على تقاليد المقهى القديمة، المشروبات الروحية ممنوعة، و المشروبات الغازية ليس لها مكان.. ترك الحاج حسن المهمة للمقاهي والمطاعم المجاورة، وأمام جاره كنتاكي يجلس أبناء الشوارع في تقليد شبه رسمي يطلون عبر الزجاج على صدور الدجاج المتبلة وصدور الفتيات الجالسات بصحبة أصدقائهن بالداخل، يمسكون بأيدي المارة طلبا للطعام.. هكذا يحصلون على قوت يومهم.
يقول الحاج حسن: "كل شيء تغير حتى الزبائن.. المجتمع كله تغير"، ما زال يذكر زيارة نجيب محفوظ إلى مقهاه، وغيره من المثقفين، لكنه يقر أن أهم زبائنه منذ أن أنشئ المقهى هم السياح المتجولين بين المتحف وفنادقهم في وسط المدينة، يجلسون أمام الشيشة، ويطالعون قائمة المشروبات المكتوبة بالعربية والانجليزية على أمل تسهيل مهمة عمال المقهى، في الخارج ضيوف ثقال على مثلث كنتاكي، البعض يتعرض لهم بالعنف اللفظي والزجر على أمل رحيلهم، هم الشواذ جنسيا، في كتابه "بلد الولاد" الذي يتعرض لعالمهم، يشير المؤلف مصطفى فتحي من طرف بعيد إلى تجمعهم في مثلث كنتاكي، وبعيدا عن كتاب بلد الولاد، فهذه الفئة من سكان المثلث لا تهجر مكانها إلا حسب مزاجها، يتعرضون لمضايقات أثناء وقوفهم، وهو ما لم يخفيه أحمد شاكر وأصدقائه زوار ميدان التحرير، إذ أنهم لا يمانعون أبدا في إلقاء التعليقات الخفيفة على أبناء هذه الفئة، لكن الحاج حسن لم يخف ضيقه من وجودهم كواحد من أصحاب المحال التجارية هناك، واعتبرها إساءة للمكان، ويعلق : "في الماضي كان من يمر بميدان التحرير يعدل ملابسه تماشيا مع أناقة المكان وفخامته، أما اليوم فأصبح يجمع من هب ودب"، يتوقف قليلا ثم يكمل : " كانت هناك فئة تسمى الخرتية من النصابين يصطادون السائحين ويضللوهم، لكن انتهى وجودهم من الميدان بسبب نشاط الشرطة ضدهم، أما الشواذ فما زالوا يمرحون هنا".
No comments:
Post a Comment