البعض يعـزف ليــلا هروبًـا مـن الإحبــاط والـملل
قبل الساعة التاسعة مساء بدقائق قليلة يبدأ الجميع فى الدخول إلى القاعة
الرئيسية فى مركز «مكان» للثقافة والفنون، تمهيدا لإغلاق البوابة الرئيسية
قبل موعد حظر التجول حسب التوقيت المحلى لمدينة القاهرة.
«الهدف من تواجدنا هنا هو كسر حالة الإحباط التى نعيشها بعد تسلسل
الأحداث فى الفترة الأخيرة بشكل درامى، نحاول أن نقاوم حالة الجمود التى
أصابت كافة الأنشطة الفنية والثقافية». العبارة للدكتور أحمد المغربى مدير
مركز «مكان» الذى جلس فى الطابق العلوى لتحضير أنشطة اليوم الذى يستمر حتى
الساعة السادسة صباحا. ويجتمع هنا عدد من الموسيقيين ارتبطوا بالمكان منذ
سنوات، وآخرون تقدموا بطلب المشاركة فى العزف معهم لأول مرة، وجاءوا اليوم
للتعرف على التجربة. بعض العازفين المتواجدين فى القاعة الرئيسية أصابهم ما
أصاب المراكز الثقافية والفنية والأماكن الترفيهية والسياحية، إذ تعطلت
هذه الشريحة من الموسيقيين تماما، وأغلب المتواجدين هنا جاءوا بحثا عما
افتقدوه فى الأسابيع الماضية من تعطل واحساس بالإحباط.
بعد التاسعة بنصف ساعة تقريبا، بدأ صوت آلة الساكسفون يملأ المكان
بتقاسيم شرقية خالصة، فى حين كان مهندس الصوت ينسق مع الجميع لضبط الأجهزة،
قابعا فى مكانه بالطابق العلوى، الذى يكشف مساحة المسرح بأكملها، ومن هذا
الموقع الكاشف تبدو حالة التفاهم التى تجمع الحاضرين سواء فى أثناء العمل
الموسيقى أوفى كافة الأحاديث الجانبية، حتى إن انتقلت إلى السياسة أحيانا.
«الفكرة كانت مبادرة فردية منى، لتجميع الموسيقيين والفنانين المرتبطين
بالمكان للعمل سويا بدلا من الجلوس فى المنزل». الحديث ما زال للدكتور أحمد
المغربى مدير مركز «مكان»، ولأن المركز يفسح المجال الأوسع للموسيقى
الشعبية والتراث، فقد كانت تركيبة الموسيقيين أغلبها من هذه الشريحة
الفنية.
عدد الحضور قد يتجاوز العشرين فردا بقليل، وبينما تنتقل التقاسيم
الشرقية من آلة الساكسفون إلى الترومبيت، كان أمين شاهين عازف الناى
والأرغول فى حوار جانبى مع المغنية الشابة هند الراوى عن تصورات لبقية
الليلة، ثم ينتقل قائلا: «أعرف الدكتور أحمد المغربى قبل عشر سنوات، كما
تربطنا بالمركز هنا عروض دورية، توقفت تماما بعد ازدياد أحداث العنف، ثم
فرض حظر التجول». كذلك كان الحال مع هند الراوى الفتاة العشرينية السمراء،
التى أفادها انخراطها فى أنشطة المركز لتعلم المزيد من الخبرة فى الغناء
الشعبى، ينهيان حديثهما ثم يهبطان أسفل وسط بقية الموسيقيين، ووسط اشتباك
أصوات الترومبيت والساكسفون والايقاع، يدور سؤال فى رأس الزائر لهذه
التجربة فى أول مرة، ما هو المنتج الذى يمكن أن يخرج من اجتماع هؤلاء
الفنانين حتى ينتهى الحظر؟
فى البداية بدأ الأمر خلال جلسة لتبادل العزف والارتجال، لكن الأمر تطور
فيما بعد إلى مشروع موسيقى، وتحولت تلك الجلسات إلى ورشة عمل، حتى يظهر
منتجا حقيقيا يسجل مزاج هؤلاء الموسيقيين فى وقت الحظر.
«على فكرة أنا انتخبت مرسى!!» بهذه الجملة يبدأ إبراهيم عبدالبارى، عازف
الساكسفون الخمسينى، موضحا أنه كلما ارتفع سقف طموحاته، كان الواقع يؤثر
بشكل سلبى فى مهنته التى اختارها قبل أكثر من 30 سنة. «ربما أنا هنا بحكم
علاقتى القديمة بالمكان وما ينتجه من مشروعات فنية، اختلطنا فيها مع أنواع
موسيقية أخرى، لكن فى الحقيقة أنا أعمل أيضا مصاحبا لفنانين شعبيين فى
الكازينوهات السياحية بشارع الهرم، وكل هذا توقف تماما الآن». ينهى ابراهيم
عبدالبارى حديثه، ليأخذ استراحة من العزف تاركا المجال لآلات أخرى.
بعد الساعة العاشرة مساءً بقليل كان الجميع قد بدأ فى العزف الذى سيستمر
حتى السادسة صباحا... يبدأ الترومبيت، ثم الأرغول، وطبول فرقة مزاهر
للزار... جملة موسيقية تتكرر، وتعاد بشكل مختلف، وتتسارع الايقاعات، مع
الوقت.. كان آخر من جاءوا للمشاركة، طارق الأزهرى مع زميله عبدالله أبوذكرى
عازف آلة (الساز) الوترية، الشبيهة بالعود.
«كانت مغامرة أن نأت اليوم بعد ميعاد الحظر، لكن وصلنا فى وقت معقول»،
يتحدث طارق الذى يدرس آلة العود فى «بيت العود»، إلى جانب دراسته للحقوق.
كان من المفترض أن ينهى دراسته للعود فى هذا الشهر قبل ازدياد أحداث العنف
فى الشارع قبل أسابيع، وينتظر العودة فى سبتمبر القادم.
«حاولت مع أصدقاء من العازفين أن نجتمع فى شقة صديق لنا وقت الحظر حتى
نتدرب، لكن الأجواء كانت تزداد صعوبة، وحين سمعت بالفكرة هنا تقدمت بطلب
وبدأت فى التعاون مع بقية العازفين المشاركين فى الورشة».
لم يقتصر الأمر على مجرد المشاركة مثلما يشرح طارق، فعلى سبيل المثال،
صديقه الشاب عبد الله قد أتى بلحن من تأليفه أسمعه لبقية الفرقة حتى يبدأ
معهم التنويع عليه والخروج بمقطوعة موسيقية بمزاج الحظر.
استراحة منتصف الليل
قرب منتصف الليل، يأخذ الجميع استراحة، فى تلك الأثناء كان خميس البابلى
قد اختار استراحته أمام شاشات الكمبيوتر بجانب مهندس الصوت فى الطابق
العلوى. ينتقل من حديث إلى آخر، من قصة تعارفه على الراحل سامى البابلى
عازف الترومبيت الأول، الذى اقتبس اسمه، إلى الأعمال التى شارك فيها مع حسن
الأسمر وحكيم وعبد الباسط حمودة : «دى أول حفلة أحضرها من أسابيع وأعزف
وسط زمايلي». يستكمل خميس البابلى حديثه موضحا أهمية الاستراحة لعازف
الترومبيت بسبب اعتماده على النفس الطويل، والتحكم فى الشفاه. يتدخل
الدكتور المغربى بجملة: «عم خميس، عايزين منك جملة نشتغل عليها، وقول لبقية
الناس تحت هيتعاملوا معاها ازاي». هنا يحاول مدير المركز القيام بدوره
الأصلى فى إدارة هذه الورشة.
بدأت الأغانى تزداد حماسا مع مشاركة الفنان الجنوبى سيد الركابى مع هند
الراوى فى الغناء على إيقاعات شعبية، وقرب الساعة الواحدة، تبدأ هدنة أخرى
هى استراحة الطعام.. بعض الساندويتشات، ثم تتطوع هند بتقديم الشاى إلى
زملائها، بينما يبدو المشهد خارج مركز «مكان»، قرب ضريح سعد زغلول هادئا،
وكأن حفلة لم تقم على بُعد عشرات الأمتار.
أحد الشباب الحاضرين يعزف أغنية أجنبية داخل الصالة الفسيحة، ويرتجل معه
سيد الركابى تنويعات موسيقية على طريقته الجنوبية. وقرب باب الخروج من
المركز، يقف الدكتور أحمد المغربى مازحا لمن حوله: «أنا حدودى خلف هذا
الباب، والحظر خارج هذا الباب.. لو تحركت خطوة إلى الخارج فليحاسبنى أحد».
تزداد حالة المرح مع الوقت، سواء للزوار فى أول مرة أو لمن يعرفون بعضهم
من قبل، وتختم الليلة بعرض بين فيلم كلاسيكى، والاستمرار فى الحديث
والغناء، حتى السادسة صباحا، فى ذلك التوقيت يبدأ الكثيرون يومهم، بينما
يتجه من كانوا فى «مكان» لإنهاء ليلة صاخبة وإحساس بأداء عملهم الذى تعودوه
لسنوات.
الغناء الثورى فى هدنة
على صفحة الفنان الشاب محمد محسن فى شبكة فيسبوك
الاجتماعية اعتذار مكتوب فى نفس اليوم الذى تم فيه فض اعتصامى «رابعة
العدوية» و«نهضة مصر»، يقول فيه: «نظرا للأحداث المؤسفة التى تمر بها
البلاد تم تأجيل حفل محسن اللى كان مفروض يتعمل الجمعة الجاية للمرة
الرابعة على التوالي! بنعتذر لكم للمرة الألف وإن شاء الله تُفرج وتتعوض
قريب».
كان محمد محسن أحد الأسماء التى برزت بشكل أكبر فى
الأجواء الثورية بسبب اختياراته لكلمات شعراء ثوريين، والتواجد فى كثير من
الفعاليات الثورية منذ 25 يناير 2011، ذلك التوضيح لم يعقبه أى تحديث حتى
الآن، وعلى عكس الصورة التقليدية التى كان يشارك فيها العديد من المغنين
والفرق الشابة داخل الاعتصامات المتتالية على مدار عامين ونصف، اختفى صوت
هؤلاء إلى أجل غير مسمى.. البعض يبدى إحساسه بالقلق، مثلما فعل المغنى
الشاب رامى عصام الذى كتب بيانا يعبر عن موقفه بشكل واضح، جاء فيه: «نحن
كثوار مستقلين لم نشترك فى هذه المعركة بسبب رفضنا للإخوان والعسكر
وخيانتهم للثورة.. نحن فقط ننتظر من سينتصر فى هذه المعركة حتى نعلم ضد من
سنناضل سواء كان عسكر أو إخوان، ولن نسمح لفلول النظام أن يعودوا إلا فوق
جثثنا».
فى هذه الأثناء تختفى المشاركة القوية للفنانين فى
الفعاليات السياسية بسبب انحصار الأحداث فى الاشتباكات بين الاسلاميين
والأمن، أو بين الاسلاميين والأهالى. وبعد أن كانت الأغانى مندمجة بالكلمات
والحضور فى فعاليات خطرة مثل أحداث محمد محمود وخلافه، لم يجد أعضاء فرقة
«اسكندريلا» سوى الحنين إلى زمن مشاركاتهم فى تلك الأحداث، إذ تعيد صفحتهم
نشر صور حفلة لهم فى اعتصام مجلس الوزراء من العام 2011، وهى الحفلة التى
غنوا فيها دون استخدام ميكروفونات أو تجهيزات صوتية تقليدية، فى حين كانت
آخر مشاركة غنائية لهم فى معرض «أدنبره» للكتاب بإسكتلندا، حيث ألقى أمين
حداد أشعاره عن الثورة، وكذلك فعلت الفرقة الغنائية بتقديم أغانيها
الشهيرة. هنا تقل درجة المقاومة لحظر التجول بسبب الأجواء السياسية
الضبابية، ولم تبتعد تلك الحالة كثيرا عن دول عربية أخرى من أشهرها لبنان،
إذ تعانى هذه الأخيرة من قلاقل سياسية ووقوع تفجيرات، ورغم ذلك أحيا مؤخرا
الفنان مارسيل خليفة حفلا غنائيا ببيروت، رغم القلق من تكرار التفجيرات
والنداءات بفرض حظر فى بعض الأماكن خشية التصعيد. أحد الأسباب التى دفعت
مارسيل خليفة إلى الغناء والدعوة إلى السلام أنه خاض تجارب أعنف مع الحرب
الأهلية اللبنانية التى دامت حوالى 16 سنة، وحصدت أرواح عشرات الآلاف.
السمسمية تبحث عن مقاومة جديدة
فى الوقت الذى واجهت فيه بورسعيد حظرا للتجول وأعمال عنف
فى شهر يناير الماضى، كانت أغلب محافظات الجمهورية عدا مدن القناة تعيش
بصورة طبيعية، وفى تلك الفترة تعمدت مدن القناة وعلى رأسها بورسعيد اختراق
حظر التجول، وكانت الموسيقى وأغانى السمسمية إحدى أهم أدوات المقاومة ضد
الحظر آنذاك. أما اليوم، فالآية معكوسة، إذ انصاعت 14 محافظة لحظر التجول
دون مقاومة، بينما تعيش بورسعيد حرة من حظر التجول، لكن الصورة ليست وردية
تماما.
«أوقفنا حفلتنا الأسبوعية فى محافظة بورسعيد لمدة
أسبوعين بعد فض اعتصامى رابعة العدوية وميدان النهضة فى القاهرة، هناك حالة
من الارتباك أصابتنا جميعا، فالفن يحتاج إلى قدر معقول من الهدوء
والأمان». يتحدث هنا زكريا ابراهيم مؤسس فرقة الطنبورة البورسعيدية، ويوضح
كذلك صعوبة انتقال الفرقة إلى مسرح الضمة فى حى عابدين بالقاهرة الذى
اعتادوا إقامة حفلاتهم عليه، بسبب الحظر.
على مدار 25 سنة من عمل فرقة الطنبورة البورسعيدية
وغيرها من فرق السمسمية فى مدن القناة، كانت هناك مناسبات متجددة تشارك
فيها السمسمية بشكل وطنى، ارتباطا بموروث ما زال يعتنقه عازفو السمسمية منذ
أن كانت رفيقة لرجال المقاومة فى معارك مدن القناة ضد المحتلين، لذا ظهرت
السمسمية فى ميدان التحرير، وفى ميادين مدن القنال، لدعم ثورة 25 يناير.
وتجدد الأمر قبل 30 يونيو الماضى من مشاركات فى الميادين، بل وتأليف أغان
خاصة لهذه المناسبة ومن ذلك ما ألفه زكريا ابراهيم عن «تمرد». أما فى
الفترة التى كانت فيها بورسعيد تعانى من العزلة ومن المواجهات العنيفة مع
الأمن بعد صدور حكم إعدام لعدد من أهالى المدينة فى قضية قتل ألتراس أهلاوى
بإستاد بورسعيد، وهو ما اعتبره الأهالى تضحية بالمدينة إرضاء للألتراس.
بدأت أحداث بورسعيد يوم 26 يناير 2013 وفى تلك الأجواء المحمومة بالغضب، لم
ينصع أحد لحظر التجول، بل شاركت السمسمية فى مقاومة الحظر، وتبدلت كلمات
الكثير من الأغانى التراثية بكلمات ساخطة على حكم الرئيس المعزول محمد
مرسى. «فرقة الطنبورة على سبيل المثال ألفت أغنية عن يوم 26 يناير»، حسب
عبارة زكريا إبراهيم.
لماذا لم يبرز صوت السمسمية كأداة للمقاومة فى الفترة
الماضية؟ يوضح زكريا أن الصورة ليست واضحة، والهدف الذى يمكن أن تقوم ضده
السمسمية ما زال ضبابيا، «فكرت أنا وزميلى محسن العشرى أن نكتب عن هذه
الفترة، لكن علينا أن نصبر ونفهم»، يصمت قليلا ثم يضيف: «صعب تغنى وجنبك
ناس بتموت».
No comments:
Post a Comment