- حملات تهكم وتخوين ضد الحقوقيين والنشطاء
فى أسابيع قليلة تحولت «أسماء محمد» -تم تغيير الاسم بناء على رغبة المصدر- من العمل على قضايا مجتمعية تخص الصحة والسكن والبيئة إلى الاشتباك الكامل مع الأحداث، ضمن فريق من زملائها داخل المؤسسة الحقوقية التى تعمل بها، وذلك بعد تصاعد حدة الاشتباكات بين مؤيدى الرئيس السابق محمد مرسى وقوات الأمن منذ شهر يوليو الماضى.
«تقوم وظيفتى على التنسيق بين العمل الميدانى والباحثين بالمؤسسة من أجل
خدمة قضايا بعينها، لكننا انتقلنا سريعا إلى قضية المصابين والجرحى نتيجة
الاشتباكات المتتالية، فمن الصعب تماما العمل على قضايا السكن أو الصحة فى
الوقت الذى يخشى المواطن العادى على حياته وسلامته الجسدية». قد يتطلب
الأمر منها التوجه إلى أماكن الاشتباكات لجمع الشهادات، وهو ما فعلته عقب
أحداث الحرس الجمهورى التى أسفرت عن مقتل عشرات المواطنين، وكان الهدف من
وجودها هو مساندة المحامين بالمؤسسة فى عملهم، ومساندة أهالى الضحايا.
وفى أثناء الفترة المشحونة بالاستقطاب بين من يرفضون استخدام العنف ضد
المعتصمين فى ميدانى رابعة العدوية والنهضة ومن يرى ضرورة الضرب بقبضة
حديدية، كانت هناك شريحة من الحقوقيين يرفضون اللجوء إلى العنف، ما عرضهم
لانتقادات عنيفة والتشكيك فى وطنيتهم. وكانت تلك الانتقادات الحادة بارزة
فى عالم الإنترنت، ثم انتقلت سريعا إلى الإعلام التقليدى.
وهنا بدأت كلمتا «حقوقيين» و«نشطاء»، تتحول سريعا إلى «حكوكيين»
و«نوشتاء»، وذلك على سبيل السخرية من موقف تلك الشريحة من الحقوقيين التى
أدانت سقوط مئات القتلى فى الأسابيع الماضية، كما اتهمت تلك الشريحة بالجبن
والخيانة والانسحاب من الحرب على الإرهاب.. وبمتابعة هذا العالم قد يعتاد
زائر الإنترنت على مشهد الشاعر الشاب الذى يبدأ يومه على موقع تويتر بسب
أحد النشطاء الحقوقيين بشكل مباشر، أو أن تجد آخر قد طرح قائمة تدين أسماء
بعينها من العاملين فى مجال حقوق الانسان، خاصة من أعلنوا آراءهم الشخصية
على صفحاتهم من خلال شبكة فيس بوك الاجتماعية وعلى موقع تويتر.
ولم يعد يخفى بعض الحقوقيين ضيقهم من هذه الانتقادات الحادة، مثلما وصف
حسام بهجت مدير المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، قائلا فى حسابه على
تويتر: «توثيق العنف الطائفى بيجيب شتيمة الإسلاميين، وتوثيق قتل
الإسلاميين بيجيب شتيمة التانيين. ولو وثقت وأدنت الجريمتين برضو هتتشتم
عشان محايد». ضمن من تعرضوا لهذا العنف اللفظى الدكتورة عايدة سيف الدولة،
أحد مؤسسى مركز النديم للعلاج والتأهيل النفسى لضحايا العنف، ورغم ذلك تعلق
قائلة: «أعمل منذ أكثر من 20 سنة على الأهداف نفسها ولم يطرأ جديد فى
أسلوب عملنا كى نتلقى الشتائم وتهم الخيانة، إذ نعمل على رصد الانتهاكات
التى يتعرض لها المواطنون على يد السلطات، ومساعدة أهالى الضحايا فى الوصول
إلى ذويهم وغيرها من مهام إعادة التأهيل، لكننا لم نمر بمثل هذه الأزمة من
قبل».
من بين الاتهامات المتداولة ضد الفرد الحقوقى أنه يتدخل فى الشأن
السياسى، وأن ما تقدمه المراكز من بيانات وشهادات قد تستخدم ضد مصلحة
البلاد، كما تشرح عايدة سيف الدولة: «التسييس يأتى من جانب المتحيزين، وفى
تفسيراتهم الخاصة، لأننا فى مركز النديم على سبيل المثال لم نقدم بيانات فى
أى وقت إلى حكومات خارجية، بل أحيانا ما نقدمها إلى الحكومة المصرية بهدف
الإصلاح، ولعل موقف كثير من الحقوقيين فى المطالبة بمحاكمة عادلة للرئيس
السابق مبارك، والمطالبة بمساءلة المشير طنطاوى والرئيس السابق مرسى عما
ارتكب فى عهدهم من انتهاكات يوضح أن الهدف هو حقوق الضحايا أيا كانوا وهو
نفس الموقف من السلطة الحالية». تتوقف سيف الدولة قليلا ثم تستطرد: «هناك
مراسلون أجانب كانوا شهودا على الكثير من الأحداث التى أسفرت عن قتلى، فكيف
يخشى البعض من الحقوقيين فى زمن تنتقل فيه المعلومات فى نفس اللحظة؟».
مشاكل شخصية
مثل تلك الضغوط أحيانا ما يصاحبها تجارب أشد قسوة حين يفاجئ الحقوقى
المستقل أو التابع لإحدى المؤسسات بأنه قد فقد أحد المقربين إليه وسط
الاشتباكات. تكرر المشهد نفسه، فى الأسابيع الماضية، على صفحات بعض النشطاء
والحقوقيين، حين يفاجئ أصدقاءه بمقتل أحد أقربائه داخل الاشتباكات.. بعضهم
يعلن ذلك، وآخرون يخفون، ومن ضمن ذلك الفريق الأخير كانت «أسماء» التى لم
تنزل إلى موقع الاشتباكات فى أحداث المنصة للقيام بمهمتها المعتادة لجمع
شهادات وغير ذلك، بل اتجهت إلى هناك وقتها للبحث عن أحد أقربائها الذى تعرض
لطلق نارى أثناء قيامه بإسعاف المصابين فى أثناء الأحداث، وتوفى هناك.
تلك الضغوط كثيرا ما تنعكس على الحياة الشخصية، اكتئاب، عصبية، إحباط،
حسبما تصف أسماء ذلك: «تتدخل الأسرة أحيانا وتطالبنى بترك هذا المجال،
لكنها قناعاتى الشخصية التى تجعلنى أكمل، بل بدأت تتسع لدى مساحة القلق من
أن تكون المرحلة الراهنة بداية لقتل مساحات المقاومة والمبادرة بشكل عام».
كانت أسماء، خريجة الهندسة، مشاركة على مدى الفترة الماضية بعد الثورة فى
مبادرات تطوعية كاملة لخدمة وتنمية المناطق العشوائية، واليوم تخشى أن
الهجمة الحالية على العمل الحقوقى، قد تتجاوز الأمر ويبدأ المجتمع فى
الوقوف ضد المبادرات الفردية والجماعية وتخوينها.
متطوعون من أجل المفقودين
استكمالا لمبادرات شبيهة كانت قد ظهرت
فى العامين الماضيين بعد أحداث ثورة 25 يناير، والهدف: تتبع المفقودين فى
الأحداث والاشتباكات المتتالية. ربط البعض توقيت ظهور الموقع بأن يكون
مؤسسوه على صلة باعتصام رابعة العدوية، إلا أن مصطفى ــ أحد مؤسسى الموقع-
ينكر ذلك بقوله: «نحن خمسة شباب قمنا بتأسيس الموقع والصفحة على فيس بوك،
وليس لنا أى انتماء سياسى، ومن يراجع قائمة المسجلين من المفقودين أو
المصابين فى الموقع سيلاحظ أيضا أنهم لا ينتمون إلى تيار بعينه، هم مصريون
فى النهاية، ولا يهمنا أن نعرف إلى أى طرف ينتمون».
يضم الموقع الإلكترونى قائمة لأكثر من 500 مواطن، ويتواجد فى أغلب فترات
اليوم من 100 إلى 200 زائر بسبب الحالة الراهنة وازدياد الاشتباكات وفرض
حظر التجول. وفى أسفل الصفحة الرئيسة بالموقع يخلى المؤسسون مسئوليتهم
بعبارة: «الموقع عمل تطوعى مبنى على المشاركة من المستخدمين ونحن غير
مسئولين عن المعلومات التى بداخله»، إذ ليس لديهم من وسيلة للتأكد من
البيانات سوى مراجعة التقارير والبيانات الحقوقية، وكذلك بما يقدمه مستخدمو
الموقع من بيانات الاتصال.
«فى الحقيقة لا نسجل الحالات التى يصل فيها أحد الأهالى إلى قتيل أو
مفقود عن طريق الموقع، بل أضفنا خاصية حذف المفقودين، على سبيل تحديث
البيانات»، هذا ما يوضحه مصطفى ــ أحد مؤسسى الموقع ــ خاصة أن البعض لم
يختفِ فى أثناء اشتباكات، بل فى مواقف أخرى مثل «العودة من كورس للغة
الإنجليزية»، «أو زيارة أحد الأصدقاء»، لذا تطمح هذه المجموعة الشابة التى
يدرس أعضاؤها الحاسب الآلى بكلية الهندسة أن يستمر الموقع فى نشاطه حتى بعد
هدوء الأحداث.
تزيد فى هذه التجربة مساحة العمل العفوى والتطوعى، وهناك نوع آخر من
المبادرات أكثر عفوية، إذ يقوم على الجهد الفردى بشكل كامل، هذا ما يوضحه
محمد منصور (29 سنة) الذى تطوع قبل عامين بجمع قوائم للمفقودين فى أحداث
ثورة 25 يناير وما بعدها من اشتباكات. ثم كرر الأمر نفسه مؤخرا معتمدا على
مصادر متنوعة مثل صفحات فيس بوك والبيانات التى توفرها المراكز الحقوقية
على الإنترنت، دون تواصل مباشر معها. وفى ذات الوقت لم يكن على صلة باعتصام
رابعة العدوية أو النهضة، بل كان على حد تعبيره له موقف معادى من وجود
جماعة الإخوان فى السلطة، «لكن هذا لا يمنع من المساعدة فى هذه الأزمة التى
أصابت مصر».
فى عام 2011 أصدر مجلس الوزراء تقريرا وصل فيه عدد المفقودين حتى مارس
2011 إلى 1200 شخص. وفى ظل ضعف الأداء الحكومى فى متابعة هذا الملف ظهرت
أشهر مبادرة من نوعها عام 2012 تحت اسم «هنلاقيهم»، على يد مجموعة من
المتطوعين. وبعد شهور من العمل توصلت المبادرة إلى أن أغلب المفقودين الذين
مازالوا على قيد الحياة كانوا محتجزين بشكل قسرى فى سجون الدولة.
«بعد الأحداث الأخيرة عملنا من جديد على القضية نفسها، نجمع البيانات من
المنظمات والمستشفيات والمشرحة، ونتلقى على أرقام الهواتف المعلنة أو عبر
الإنترنت بلاغات ونطابق البيانات مع بعضها حتى نصل إلى الحالة المفقودة».
تشرح شيماء ياسين ــ أحد مؤسسى المبادرة ــ إنهم أحيانا ما يتعرضون لمواقف
تزيد من ضيقهم، مثلما حدث مؤخرا حين توصلوا إلى أحد المواطنين الذين تم
الإبلاغ عنهم، وبعد التواصل مع أهله وإبلاغهم أنه محتجز لدى الأمن، تعرض
للقتل فى حادث مصرع 38 من أنصار الرئيس السابق داخل سيارة ترحيلات.
«مش كل مفقود توفى»، حسبما تؤكد شيماء، لذا فهم يلاحقون الأمل الذى لا
ينفذ لدى الأهالى فى الوصول إلى المفقودين. ومؤخرا حاول أفراد المجموعة
إشراك متطوعين جدد معهم بسبب كثافة الأحداث والاشتباكات، لكن تظل الأوضاع
الأمنية أكثر تضييقا عليهم، خاصة بعد فرض حظر التجول.
No comments:
Post a Comment