لم يعد أحد يتذكر متى كتبت تلك العبارات على جدران مسجد حسان بن ثابت، المجاور لقصر القبة الجمهورى، فقد اعتادوا رؤيتها يوميا منذ 17 رمضان الماضى حين خرجت مظاهرات حاشدة للإسلاميين فى ذلك اليوم، من كتبها تحديدا ؟ «الجماعة السنِّية هما اللى كتبوها» هذا أقصى ما يقدمه الباعة المستندون بظهورهم إلى نفس الجدار، أما الكتابات نفسها فتستهدف الاساءة إلى الفريق عبد الفتاح السيسى، وزير الدفاع، وتمجيد الرئيس المعزول محمد مرسى، لكن كان هناك من له رأى آخر.. إذ قرر أحدهم مؤخرا تغيير المشهد قليلا، وجاء بدهان (رش) وشطب الاساءات الموجهة إلى الفريق السيسى باللون الأسود، ثم كتب تحتها عبارات دعم وتأييد له.
على بعد حوالى 200 متر من هذا المشهد يقع قصر القبة الجمهورى الذى تم طلاء جدرانه مؤخرا لإزالة الكتابات المسيئة من النوعية نفسها، وفى الجهة المقابلة للبوابة الرئيسية يتوزع عدد من عمال هيئة نظافة وتجميل القاهرة، بعضهم اعتاد على هذه المهمة منذ فترة: «أساس عملنا هو الجانب الميدانى، لذا نرصد بسهولة بعض الكتابات المسيئة والبذيئة على جدران منشآت عامة مثل القصر الجمهورى بالقبة، ومهمتنا إزالة تلك الكتابات». يعلق المهندس عمر منير ــ مدير فرع هيئة نظافة وتجميل القاهرة بحدائق القبة ــ على تلك الكتابات، حيث يقع مكتبه على مسافة غير بعيدة من رسومات جرافيتى على سور مترو الأنفاق المواجه لقصر القبة، ما زالت كما هى دون إزالة. ويقول رئيس هيئة نظافة وتجميل القاهرة، المهندس حافظ السعيد: «تعرضنا لانتقادات حين أزيلت رسومات الجرافيتى فى شارع محمد محمود العام الماضى، أما الآن فنحن لا نزيل رسومات الجرافيتى الفنية، إنما نزيل كتابات مهينة او بذيئة من على الجدران، أيا كان من يكتبها».
بعض المشاكل التى تواجه العاملين فى هيئة النظافة تزداد حين تكون تلك الكتابات فوق تمثال أو مبنى ذى طابع أثرى، حيث يتم إشراك أثريين وفنيين متخصصين فى مثل تلك الحالات.
ما زال السؤال مستمرا حول من يكتبون عبارات اعتادتها الأعين مثل : «CC قاتل»، أو «مرسى هو رئيسي». بعض هؤلاء كانوا يستغلون خروج المسيرات المؤيدة للرئيس السابق ويقومون بطلاء الكتابات السابقة على 30 يونيو بطلاء أبيض، ثم يكتبون فوقها كتابات جديدة تستهدف الفريق أول عبدالفتاح السيسى أو تأييد الرئيس السابق محمد مرسى. وبعيدا عن هؤلاء فهناك مجموعات شبابية تكونت فى اعتصامى رابعة العدوية ونهضة مصر، ونشطت مؤخرا بعد فض هذين الاعتصامين. من هذه المجموعات «حركة شباب 18» التى كانت قد اختارت أن تقيم أغلب فعالياتها داخل مترو الأنفاق، ويترك أعضاء الحركة خلفهم أحيانا كتابات على الجدران مثل : «لا للانقلاب»، أو «يسقط حكم العسكر»، وكتابات أخرى ضد الفريق عبدالفتاح السيسى أو رسم لكف رابعة الشهير. مؤسس هذه الحركة شاب فى الثانية والعشرين اسمه عبد الرحمن عاطف، تعرض للاعتقال قبل أيام أثناء وقفة كانت تجهزها الحركة داخل مترو الأنفاق، ثم أخلى سبيله، وذكر وقتها أن كتابات الحركة تستهدف فئات محددة، مثل قادة الجيش الذين يرى أنصار الرئيس السابق أنهم قاموا بانقلاب على الشرعية، كما تستهدف الرموز الوطنية التى شاركت فى دعم 30 يونيو، وقال : «نعم.. بعض الكتابات أو الشعارات تعتبر بالفعل إساءة، ولكن يجب أن نراها من وجهة نظر أخرى، هى وجهة نظر بعض الشباب المتحمس الذى يعبر عن غضبه بهذه الوسيلة». هذه بعض كلمات عبدالرحمن عارف مؤسس «حركة شباب 18» التى عاش أعضاؤها أجواء اعتصام رابعة وصعدوا على منصة اعتصام نهضة مصر قبل فضه بأيام.
سياسة وطائفية
أحيانا ما تتعدى الكتابات حد الاتهامات أو الانتقادات إلى السب أو التحريض، هذا ما تكرر على جدران الكثير من الكنائس التى تلقت نصيبا من كتابات طائفية على جدرانها. على سبيل المثال تعرضت كنيسة سانت فاتيما فى مصر الجديدة لكتابات طائفية، وتداول مستخدمو الانترنت صورا من قاموا بتشويهها على أمل القبض عليهم، وسجلت بعدها بيوم واحد نيرمين نجيب، إحدى رواد هذه الكنيسة شهادة لها تداولها آلاف من مستخدمى الانترنت ذكرت فيها : «دخلت الكنيسة وأنا حزينة على ما وصلنا إليه، وصليت إلى ربى من قلبى لمصر.. وبعد انتهاء الصلاة خرجت لأجد فتاة محجبة تدهن سور كنيستي!».
كان هذا هو الحل الوحيد الذى قدمته إحدى فتيات مصر الجديدة لمواجهة الموقف، بأن تعيد طلاء السور مرة أخرى لإزالة الكتابات الطائفية أو المسيئة.
«لا يمكن أن يدخل ما يحدث من تشويه الجدران الذى يتخذه الاسلاميون فى مقارنة مع رسومات الجرافيتى التى كنا نراها فى شارع محمد محمود، وغيره من الأماكن، فما يحدث الآن هو مجرد كتابات خالية من أى إبداع». هذا الرأى يتبناه الكاتب والفنان شريف عبدالمجيد الذى قضى شهورا من العام 2011 فى دراسة وتوثيق الجرافيتى بمصر، وجمع ذلك فى كتابين، ويستعد لإنتاج الثالث عن الجرافيتى قبل 30 يونيو. وفى رحلته لفتت نظره حالات النزاع التى كانت تنشب على الجدران، واتخذت شكلا تدريجيا بين جرافيتى فنى يبدعه شباب ذوو صلة بالثورة، وبين محاولات الطمس التى تبناها الاسلاميون، إذ يشرح شريف عبدالمجيد أن البدايات الأولى كانت فى مدينة الاسكندرية، حين بدأ بعض الشباب الاسلامى فى الكتابة على المربعات الخرسانية المتواجدة قرب البحر، فى عبارات مثل «أترضاه لأختك» و«جمالك فى عفافك».. وكان بعض المارة يكتبون ردودا ساخرة على هذه العبارات، ومع الوقت ازدادت مساحة الاشتباك حين كان بدأ الاسلاميون ــ حسبما يصف شريف عبدالمجيد ــ فى كتابة عبارات مجاورة للجرافيتى مثل «و ما النصر إلا من عند الله»، بينما كانت المرحلة الأخيرة هى مرحلة الاشتباك الكامل. حين تقدم الاسلاميون إلى شارع محمد محمود وطمسوا بعض الرسومات ووضعوا «شعار القاعدة» على جرافيتى شهير هناك.
«الحرب كانت تدريجية على الجدران»، حسبما يرى شريف عبدالمجيد. وهو يلخص الفرق بين ما يكتبه مؤيدو الرئيس السابق وبين ما يبدعه رسامو الجرافيتى فى قوله: «كان رسامو الجرافيتى يكتبون طوال الوقت، امسح وهارسم تانى، بينما يكتب الاخوان الآن: امسح وهاكتب تانى، فالموضوع بالنسبة لهم مجرد كتابة على الجدران، وليست رسما أو إبداعا».
بعض المجموعات المحسوبة على التيار الاسلامى تركت رسومات للجرافيتى فى عدة أماكن، ولها طابع قريب من جرافيتى مجموعات الألتراس الرياضية، مثل حركة «أحرار» التى ما زالت رسوماتها متاحة فى عدة أماكن حتى يومنا هذا.
من الشعب وإلى الشعب
هل المستقبل فى المرحلة القادمة لجدران تحمل كتابات حادة تتم إزالتها كل فترة، مقابل انسحاب رسومات الجرافيتى الفنية؟ بعض الفنانين تحدثوا فى الفترة الماضية بعد 30 يونيو عن أن الجرافيتى فن مرتبط بالأزمات، وآخرون رأوا أن هناك حالة انسحاب للجرافيتى الفنى بسبب ارتباك الرؤية الحالية.
«لم ننسحب من العمل، لكن ربما نريد الظهور بصورة جديدة كفنانين فى المرحلة القادمة»، هذا ما يقوله رسام الجرافيتى الفنان عمار أبو بكر فى تعليقه عن ضعف حركة الجرافيتى فى الفترة الماضية لصالح جدران داعمة للرئيس السابق محمد مرسى. ويضيف أن ما يراه من عبارات حادة أو عفوية على الجدران من أبناء التيار الاسلامى أو مؤيدى الرئيس السابق هى أيضا «جرافيتي»، ويشرح ذلك قائلا: «كانت هناك كتابات شبيهة قبل 30 يونيو مثل «الإخوان خرفان» وغيرها من العبارات التى يمكن للبعض اعتبارها مسيئة، لكن فى النهاية الجرافيتى هو استخدام الجدران من الشعب وإلى الشعب، بأدوات المواطنين على اختلاف أفكارهم، كما أن الكتابة بهذه الصورة فعل تلقائى يكشف صاحبها أمام الجميع».
من وجهة نظر عمار أبو بكر، الذى اشتهر بالعمل مع مجموعات الشباب على رسم الجرافيتى فى شارع محمد محمود، أن استغلال الجدران بهذا الشكل هو امتداد لمحاولة السطو على الثورة ومحاولات استخدام أدواتها وشعاراتها. وهو ما اتضح بشكل كبير فى استخدام اللونين الأصفر والأسود الذى كان يستخدم فى شعارات حملة «لا للمحاكمات العسكرية»، وإعادة استخدامه فى شعار «كف رابعة».
لا يقلق عمار ورفاقه من شدة القبضة الأمنية فى الفترة الحالية، إذ أنهم يعتنقون فكرة غايتها أن الجرافيتى هو إبداع الناس وبأدواتهم، وحتى إن تمت إزالته ففى النهاية ستكون الرسالة قد وصلت، أما أكثر ما يطمئنهم هو أنهم لم يؤيدوا مرسى فى يوم من الأيام، ولم يدعموا 30 يونيو، ليكونوا أحرارا من أى أعباء أو انحياز.
No comments:
Post a Comment