Tuesday, July 31, 2012

فوق المنبر.. إمام و خطيب



كتب – عبد الرحمن مصطفى

ما زال الشيخ الشاب يتذكر أول خطبة ألقاها بشكل احترافي في القاهرة، كانت في نفس المسجد الصغير الذي مازال يخطب فيه حتى الآن بشارع بستان الجيش في حي العباسية، "تصادف أن كانت أول خطبة لي في جمعة الرحيل 11-2 -2011 ، لذا لم يكن غريبا أن يكون موضوعها عن الظلم، وعاقبة الظالمين"، يتذكر الشيخ علاء أمين (22 سنة) الطالب بكلية الدعوة الإسلامية في جامعة الأزهر، هذا اليوم الذي اختار فيه أن يقيم في هذا المسجد أسفل إحدى العمارات، حيث سكن مناسب، وتدريب مبكر على مهنة المستقبل، يشرح ذلك : "إذا قمت بزيارة إلى كلية الدعوة الإسلامية ستجد أن نسبة القادمين من الأقاليم خارج القاهرة تقرب من 99% دون مبالغة، وهم مجبرون على الاغتراب، كذلك فنحن لا تتوافر لدينا فرصة ممارسة الخطابة بشكل احترافي أثناء الدراسة، عدا اختبارات الكلية التي تتم داخل قاعات المحاضرات، لذا أنا هنا في تدريب عملي حتى أتخرج، والجيد في الأمر أن رواد المسجد يدبرون لي نفقات تعينني على عملي". يحتفظ الشيخ علاء بعلاقات طيبة مع الشباب الذين أصبحوا أكثر تواجدا الآن في المسجد أثناء شهر رمضان، لكن ذلك لم يمنع إحساسه بالمفارقة التي عاشها حين انتقل من مركز الإبراهيمية في محافظة الشرقية إلى بيئة عمل مختلفة تماما في القاهرة، و يروي: "أتذكر أول تجربة في حياتي لإلقاء خطبة الجمعة، كنت في الصف الأول الثانوي، وشجعني المصلون على صعود المنبر بسبب مظهري الأزهري بعدما تأخر الإمام، تلك الهيبة وذلك الحضور لدى إمام المسجد والخطيب يتلاشيان هنا تماما في القاهرة، بل يضعف دور الإمام في الإصلاح بين الناس، و يختفي تبجيل المشايخ، وبعد الثورة ازدادت الأمور اختلافا".
في الشوارع القريبة من مسجد "بستان الجيش" ما زالت بقايا طلاء على الجدران تحمل اسم أحد شباب العباسية الذين قتلوا في مايو الماضي أثناء اشتباكات بين المعتصمين أمام وزارة الدفاع وبعض أهالي العباسية، خصوصية المكان دفعت خطيب المسجد أن يشتبك مع الواقع وهو مضطر، خاصة أن جامع النور في العباسية أيضا كان قد شهد صدامات وقتها بين إمام المسجد هناك وبعض المعتصمين، ويقول الشيخ علاء أمين : "كانت هناك حالة حداد في حي العباسية، لذا لم يكن هناك أي معنى لتناول موضوعات بعيدة عن الحدث، فكان موضوع الخطبة عن القتل وعقوبته في الإسلام" . لم يكن هذا الموقف هو الأول الذي اقتحمت فيه السياسة ساحة المسجد، إذ تعرض مرة لموقف محرج أثناء الاستفتاء على تعديل دستور في مارس من العام الماضي ، يقول: " فجأة قاطعني أحدهم أثناء الخطبة رغم أن هذا السلوك منهي عنه بشدة في الدين، وبدأ في اتهامي بأنني أروج ل(نعم) في استفتاء التعديلات الدستورية، وهذا موقف لم أكن لأتعرض له من قبل".

جرعة سياسة

 ما رآه الشيخ الشاب علاء أمين في الفترة الماضية هي تجربة خاضها أئمة و مشايخ وفدوا قبله إلى القاهرة، أحدهم هو الشيخ أحمد عبد الظاهر – موجه أزهري بالمعاش- و يخطب الجمعة في مسجد تابع لإحدى الشركات الكبرى في حي الأميرية بالقاهرة، إذ وفد من محافظة سوهاج إلى القاهرة قبل أربعين سنة، كي يدرس الشريعة والقانون، ومنذ العام 78 اختار العمل في مجال التدريس الأزهري إلى جانب عمله كخطيب مقابل مكافأة شهرية من وزارة الأوقاف. على مدار تلك السنوات، تنقل بين عدد من المساجد داخل أحياء شعبية، و رصد تطورات حدثت داخل المساجد، يوضح: "عبر تلك السنوات من السبعينات حتى الآن رأيت كيف يتنامى دور الإعلام بشدة في التأثير على الناس، وكيف أصبح رواد المسجد ينقلون بعض القضايا الدينية المفتعلة مثل زواج الجارية، وقبلها إرضاع الكبير، وغير ذلك إلى المسجد، وفي جانب آخر تماما فقد ازدادت جرعة السياسة داخل المساجد بشكل لم يكن موجودا من قبل بسبب تراخي القبضة الأمنية مؤخرا". يتحول الخطيب أحيانا إلى صمام أمان يمنع اختطاف المنبر لحساب تيار أو صاحب مصلحة، على حد قوله: "بعد سنوات أصبحت ألقي خطبة الجمعة في مسجد تابع لشركة كبيرة، و يرتاده أيضا سكان المنطقة المجاورة، لذا من مهامي هنا ألا يستغل المنبر كوسيلة ضغط من أجل مطالب فئوية للعاملين في الشركة، أو أن يختطفه أحد المنتمين إلى تيار بعينه، وهو ما حدث من قبل حين فوجئت بمن يصعد إلى المنبر من نفسه دون استئذان وتسبب ذلك في مشكلة، وكان ذو ميول متطرفة". هذه المواقف التي يواجهها الشيخ أحمد عبد الظاهر الذي تجاوز 65 سنة، لم تنسيه نفس الملاحظة التي لاحظها الشيخ الشاب علاء أمين، حول اختلاف دور الخطيب من القرية إلى المدينة، إذ خطب الشيخ أحمد لأول مرة وهو في الصف الثالث الإعدادي في ستينات القرن الماضي بسوهاج، ويعلق قائلا: "كان للشيخ في القرية أدوارا مهمة، في الصلح بين الناس، وتوزيع الصدقات، أما الآن فالواقع مختلف، خاصة مع سيطرة الجمعيات على إدارة بعض المساجد، ومن سلبيات إدارة الجمعيات للمساجد، هو وقوع صراعات على إدارة الأموال داخل مجالس إدارات الجمعيات، ويتنافس البعض في السيطرة على شؤون المسجد كنوع من الوجاهة الاجتماعية، لذا اخترت لنفسي أن أمارس دورا اجتماعيا بشكل تطوعي، خاصة في مساعدة الفقراء، بعيدا عن المساجد الخاضعة لنفوذ أشخاص".
أما الجانب الفني المتعلق بالخطابة نفسها فيتفق كلا من الشيخ الشاب علاء، والشيخ أحمد الأكبر سنا، على أن ما يصنع الثقة على المنبر – حتى في سن صغير- هو الحصيلة العلمية، فكلما ازداد حضور النصوص في الذهن، كلما أسعف ذلك الخطيب، يعلق الشيخ أحمد عبد الظاهر قائلا: "في الثمانينات سافرت في إعارة إلى دولة اليمن، وهناك طالبتني إدارة المساجد أن أقرأ خطبة الجمعة من ورقة، واعترضت، وامتنعت عن الخطابة، إذ أؤمن أن من يفتقد الذهن الحاضر عليه ألا يكون خطيبا".
هاتين الحالتين رغم تباين عمريهما إلا أنهما لا يواجهان كم الضغوط التي يتعرض لها خطباء المساجد الكبرى، التي تحول بعضها إلى منصات لإطلاق المسيرات والمظاهرات، أحد أهم تلك المساجد هو مسجد مصطفى محمود في حي المهندسين، ومنذ جمعة الغضب يشهد الدكتور محمد قاسم المنسي - أستاذ الشريعة بكلية دار العلوم جامعة القاهرة - تسلل السياسة إلى ساحات الصلاة، وهو ما برز واضحا في خطبته الشهيرة يوم 28 -1 -2011 والمتاحة على موقع يوتيوب لتحميل لقطات الفيديو، حين حاول تهدئة الثوار في كلمته، مطالبا بنبذ العنف، ومراعيا حالة الغضب التي ذكر أنه كان آنذاك يلمسها بين الناس بشدة، وعلى مدار أكثر من عام ونصف لم يخلو الأمر من حوارات ساخنة بين الدكتور المنسي- خطيب مسجد مصطفى محمود- وبين بعض المتظاهرين، خاصة حين يجدون في خطبته دعوة إلى التهدئة، يعلق قائلا: "بالفعل حدثت حوارات جانبية بعد الصلاة مع شباب رأوا في كلماتي تهدئة، فأوضحت أنني أؤمن بأنه ليس على الخطيب أن يثير الثائر، بل أن يعمل على تهدئته من أجل مصلحة البلاد". لا يخفي الدكتور محمد قاسم المنسي رفضه لبعض الهتافات التي كانت تعقب مباشرة صلاة الجمعة مثل : "يسقط حكم العسكر"، عدا ذلك فيؤمن بأن على الخطيب أن يحقق معادلة هامة هي : ألا يسمح بتوظيف المسجد في خدمة السياسة. وحسبما يذكر فإن "هناك أزمة حقيقية في إدارة المساجد على مستوى الحكومة، و على مستوى الجمعيات التي تدير شؤون المساجد، في عدم قدرتهما على مراقبة كفاءة من يخطبون على المنابر، وهل يستغلوا المسجد في الترويج السياسي أم لا". ويتفق أغلب الفقهاء على شروط واجبة في الإمام والخطيب على رأسها: سعة العلم، وإجادة القرآن، والتفقه في الدين، وحسن الخلق، يضيف الدكتور محمد قاسم المنسي أستاذ الشريعة بكلية دار العلوم جامعة القاهرة صفات أخرى تلائم المرحلة التي نعيشها الآن ، وهي " الثبات النفسي وسعة العلم وكثرة الاطلاع ".

No comments:

Post a Comment