الجميع ينتظر التغيير
من يطلق النار على ماضي الداخلية؟
كتب - عبدالرحمن مصطفى
«إن الصورة المزعجة التى ارتسمت فى وعى المواطنين عن رجل الشرطة جعلت هناك ميلا تلقائيا إلى وصف من يرتكب سلوكا عنيفا وغير لائق بأنه مثل ضابط الشرطة، بل إن رجل الشرطة نفسه إذا ارتكب سلوكا مذموما أو مخالفا للقانون لا يرجعه الآخرون إلى أخلاقياته أو إلى البيئة التى تربى فيها، بل إلى كونه فردا من أفراد الشرطة». هذه الصورة التى سجلتها الدكتورة بسمة عبدالعزيز فى كتابها (إغراء السلطة المطلقة، دار صفصافة، 2010)، قبل قيام ثورة 25 يناير، ما زالت مستمرة حتى الآن، إذ ما زال الإعلام التقليدى والانترنت معا يعرضان كمًا كبيرا من الغضب تجاه الشرطة سواء باتهامها بالتقاعس عن أداء مهامها أو بسبب استمرار تعسف بعض أفرادها حتى اليوم. من بين مئات الصفحات على الانترنت التى تتناول أداء الشرطة وتطور صورتها كتب مؤسسو صفحة وزارة الداخلية المصرية هذا العنوان: «يا ريت نفترض حسن النية فى الحديث بيننا».
لكن هذه العبارة المؤثرة لم تجد صدى لدى بعض المعلقين فتباينت التعليقات بين متعاطفة مع العنوان وأخرى من نوعية «طهر الجهاز أولا عشان نحس إنكم بالفعل تحبون هذا البلد ولا تحبون البدلة التى تستغل فى الإرهاب». ومنذ أن أنشئت الصفحة التى أسسها مجموعة من الضباط قبل تنحى الرئيس السابق مبارك بأيام ما زالت صورة الشرطى قبل 25 يناير مسيطرة على المشهد. يرى العميد السابق ــ محمود قطرى ــ بحكم خلفيته الشرطية أن الحل قادم من داخل جهاز الشرطة نفسه، إذ يقول: «الضابط لا يستطيع التخلص من ولائه للوزارة ولزملائه، أما الأهم فهو ولاء الشرطى للتعليمات، وهذا ما يجب الاعتماد عليه فى التعامل مع العاملين بالجهاز، كى يتغير أداء الشرطى بناء على هذه التعليمات الجديدة».
ما يذكره محمود قطرى يختلف عن وجهة نظر أخرى يقدمها الدكتور أحمد عبدالله ــ مدرس الطب النفسى بكلية طب جامعة الزقازيق- الذى يقول: «إذا لم تقبل وزارة الداخلية التعامل مع متخصصين من خارجها ستظل العقلية نفسها هى المسيطرة على جهاز الشرطة وأفراده». يذكر أحمد عبدالله هذا الرأى فى تعليقه على مصير مبادرة الصحة النفسية للشرطة والشعب التى تصدى لها مجموعة من الأطباء النفسيين أطلقوا على أنفسهم «نفسانيون من أجل الثورة»، ودعت المبادرة إلى عدد من التوصيات على رأسها: معالجة عقيدة وعقلية الاستعلاء الشرطى. ويضيف أحمد عبدالله: «ما حدث فى الفترة الماضية أنه كان هناك اختلال فى التعاقد القائم بين الشرطة والشعب أدى إلى تعسف من الجهاز الأمنى، أما ما يجب أن يحدث الآن هو أن تقبل الوزارة مشاركة المبادرات المدنية أو حتى جهة مثل المجلس القومى لحقوق الإنسان من أجل إعادة تشكيل ذلك التعاقد بين الشرطة والشعب، وألا يعتمد الأمر على الارتجال والضغط المتبادل بين الشعب والشرطة».. وتأتى فكرة التعاقد بين مؤسسة ترعى الأمن وأفراد الدولة كإحدى العلامات المهمة فى تطور الدولة الحديثة منذ نشأتها، إذ كانت الحالة المصرية قديما تعتمد على مجموعات بعينها فى المجتمع هى من تحتكر حمل السلاح على رأسها المماليك، وكانت حيازة السلاح آنذاك فى البيوت الكبيرة تصنع نوعا من التوازن فيما بينهم، بينما لا يشارك الشعب فى الرقابة على من يحمل السلاح. يرى الدكتور خالد فهمى ــ أستاذ ورئيس قسم التاريخ بالجامعة الأمريكية فى القاهرة ــ أن جهاز الشرطة فى النصف الأول من القرن الماضى كان فعالا فى مقاومة الجريمة، وكانت نبرة الفخر المؤسسى واضحة فى تلك الحقبة، ويعلق: «ما حدث فى ثورة 25 يناير هو محاولة لضبط المعايير للفئة التى تحتكر استخدام السلاح داخل الدولة وهى جهاز الشرطة». ويؤكد خالد فهمى فى كتاباته على أن عهد الرئيس السابق مبارك كان نقطة مهمة فى تغير أداء الشرطة وهو ما انعكس بالتالى على صورتها، إذ كان إعلان حالة الطوارئ فى العام 1981 سببا فى تغير أداء عمل الشرطة فى القبض والاحتجاز والتحقيق، وفى تجاوزات تمت تحت ادعاء مكافحة الإرهاب وامتدت إلى مظاهر أخرى مثل الاستعانة بمجرمين فى التحرى الجنائى.
فى مساحة أخرى داخل أكاديمية الشرطة تتشكل صورة الضابط مبكرا تحت ظروف وإجراءات خاصة، ذكر العميد السابق محمود قطرى بعضها فى كتابه الشهير «اعترافات ضابط شرطة فى مدينة الذئاب»، إذ يذكر أن بعض المواقف التى كانت تحدث داخل كلية الشرطة هدفها حسب عبارته: «تحويل الضباط إلى عبيد يهدفون إلى إرضاء سادتهم». ورغم ما دونه فى كتابه الصادر فى العام 2004 إلا أنه يجد اليوم أن بذرة الأمل فى جهاز الشرطة تتمثل فى أفراده وفى خلفياتهم الاجتماعية، ويقول: «ما أؤكده أن عملية اختيار أفراد جهاز الشرطة تتم على مستوى عال من الدقة، وهو ما يعد ميزة يجب استغلالها، إذ إن طلبة أكاديمية الشرطة ينتمون إلى أسر ذات مستوى طيب.. لكن المشكلة الآن فى التخلص من القيادات الفاسدة ذات العقليات القديمة». كانت إحدى أهم التوصيات التى تبنتها مبادرة الصحة النفسية للشرطة والشعب «تكوين لجنة متعددة التخصصات من خبراء الأمن وعلماء النفس وعلماء الاجتماع وقانونيين وناشطين فى حقوق الإنسان وذلك لمراجعة المناهج وطرق التدريس والتدريب بكلية الشرطة وتقديم مقترحاتها لإدارة الكلية»، لكن مسئولين بوزارة الداخلية اكتفوا بوعود فقط أن تكون الدراسة فى المرحلة القادمة أكثر تطورا، وهو ما يجعل الوضع باقيا على ما هو عليه حتى حين.
ترك محمد إبراهيم بلدته فى محافظة المنيا وجاء خصيصا كى يقيم مع عمه فى القاهرة بحثا عن وسيلة للالتحاق بأكاديمية الشرطة بعد أيام من فتح باب التسجيل على موقع الأكاديمية على الانترنت، وبدا متفائلا على عكس آخرين أظهروا قلقهم على مواقع الإنترنت، إذ كتب أحدهم على صفحة ائتلاف ضباط الشرطة الحر قائلا: «أنا دلوقتى فى ثالثة جامعة كلية الآداب وعاوز أقدم فى كلية الشرطة السنة دى.. هل ينفع أم لا..؟ لأننى حابب ادخل كلية الشرطة وأكون واحدا من أبنائها». تلقى صاحب هذه العبارة تعليقات استهجان إحداها: «ليه يابنى تعمل فى نفسك كدة، دى الناس بتدعى عليهم ربنا ينتقم منهم». مثل هذه التعليقات لا يهتم بها محمد إبراهيم. فحسبما يقول عمه المرافق له فى فترة التدريب فإن: «الصعيد له حسابات أخرى، إذ إن مهنة الشرطة ما زالت مثار فخر وما زال لصاحبها حضور قوى، رغم حالة الاستهانة التى قد يواجهون بها الآن». حسبما يؤكد مسئول التدريب فى أكاديمية التأهيل فإن إقبال الشباب لم يقل هذا العام عن الأعوام السابقة، لكن شابا آخر «بلديات محمد إبراهيم» من محافظة المنيا، يعرض وجهة نظر أخرى، قائلا: «أنا اخترت دخول الحربية لأن الأيام أثبتت أن المستقبل للجيش».
هذا الشاب نفسه لم يخف قلقه من الروايات التى يسمعها فى بلدته عن شباب المجندين الذين التحقوا بالخدمة العسكرية ونقلوا له خبرات صعبة أثناء فترة تجنيدهم. ويعلق قائلا: «أخشى من التعرض لضغوط أو تعسف إذا تم قبولى فى الكلية الحربية».وحسب تصريحات اللواء أحمد البدرى ــ مدير أكاديمية الشرطة ــ فإن أكثر من 30 ألف طالب تقدموا هذا العام للالتحاق بالأكاديمية، وهو ما يمثل ضعفى عدد المتقدمين العام الماضى، إذ تقدم وقتها أكثر من 16ألف طالب. ولم يقتصر الأمر على خريجى الثانوية العامة بل ظهرت شريحة من خريجى كليات الحقوق أعربوا عن رغبتهم فى استعادة حلمهم القديم للالتحاق بأكاديمية الشرطة. وذلك بعد أن وعدت الحكومة المصرية قبل شهور بدراسة قبول خريجى كليات الحقوق داخل سلك الشرطة، وتكرار التوصيات بتفعيل هذه المبادرة.
مصطفى زكى خريج دفعة 2007 من كلية الحقوق بجامعة الإسكندرية كان أحد هؤلاء المطالبين، إذ تقدمت مجموعة من أصدقائه بفكرتهم إلى الدكتور عصام شرف، ويعلق على ذلك قائلا: «لم أنجح فى الالتحاق بكلية الشرطة أو سلك النيابة.. وأعمل الآن فى إحدى الشركات السياحية بمدينة شرم الشيخ». ترك مصطفى زكى رقم هاتفه فى إحدى المجموعات الإلكترونية على شبكة فيس بوك على أمل أن يتلقى مكالمة تبشره بميعاد تقديم أوراقه إلى أكاديمية الشرطة، وهو ما جعله يظن فى بداية المكالمة الهاتفية معه أنها البشرى التى ينتظرها، ويقول معلقا: «إذ ما فتح الباب أمام خريجى الحقوق سيتقدم الآلاف، لأن خريج الحقوق يتعرض لكثير من المشاق حتى يجد عملا مستقرا، لكن قطاع الشرطة يوفر العديد من المزايا على رأسها العمل المستقر».
وجهة نظر مصطفى زكى خريج الحقوق تتفق مع محمد إبراهيم الشاب فى مركز التأهيل للكليات العسكرية، إذ يرى كلاهما أن الشرطة عائدة لا محالة، لكن إبراهيم تحركه أبعاد أخرى عائلية، إذ إن له أقرباء من القيادات الشرطية الحالية استمروا فى خدمتهم بعد الثورة، أما عن جذوره الصعيدية فيقول: «تأكد أن القواعد فى الصعيد مختلفة، إذ لم تحدث مواجهات مع الشرطة بنفس القوى التى جرت فى مدن مثل الإسكندرية والقاهرة والسويس.. وما زالت العلاقات العائلية تدير الموقف مع الشرطة، وهو ما لا يشعرنى بالقلق».
من بين الفيديوهات الشهيرة على الانترنت فيديو عسكرى الأمن المركزى الذى يسأله بعض الضباط «حرب أكتوبر 1973 كانت سنة كام؟»، فيجيب عليهم بهلع: «والله ما أعرف يا باشا» هذا الفيديو شاهده العميد كمال سعيد ضمن أكثر من 100 ألف مشاهد اطلعوا على هذا الكليب، حسب موقع يوتيوب لتحميل لقطات الفيديو، ولم يشغل باله وقتها على عكس كثيرين من الشباب والمعلقين والحقوقيين الذين رأوا فيه امتهانا لمجند الشرطة، ويقول: «هذا الكليب مفتعل.. لكن الواقع أصعب من هذا وأحيانا ما كنت أضطر إلى اتخاذ سلوكيات ليست من طبعى ضد أفراد يعملون تحت يدى».
يضرب مثلا بقصة أراد بها توضيح الحالة الذهنية لبعض أفراد الداخلية ذوى الثقافة البسيطة، إذ طلب من أحد أفراد الأمن التابعين له بعض الطعام الخاص حين أصيب باضطراب معوى، كانت الطلبات ببساطة هى نصف كيلو بقسماط، وجبن رومى، وزيتون أخضر، وبعد أن غاب فرد الأمن مدة طويلة كى يصل إلى محل بقالة قريب عاد بخبز «فينو» وجبن مطبوخ ومخلل، وهو ما لا يناسب مريضا فى حالته.. اليوم يروى هذه القصة وهو يضحك، لكن رد فعله وقتها كان مليئا بالعصبية دون التماس عذر الخلفية الريفية التى أدت إلى عدم فهم الفروق بين المعروض أمامه. ويعلق على ذلك قائلا: «كان يعمل معنا فعلا شباب لا يدركون الكثير من مظاهر المدنية حولهم»، لكن فى بعض الحالات كانت مثل تلك المواقف متعمدة من أفراد الأمن كنوع من المقاومة السلبية لأوامر الباشا... ويروى إحدى تلك القصص عن موقف حدث مع ضابط زميل له، حين قرر السائق أن يبتعد عن مهمته اليومية فى شراء الخضراوات لزوجة الضابط، وفعل ذلك بأن تعمد شراء أسوأ ما هو موجود فى السوق من منتجات حتى اكتشفت ذلك زوجة الضابط من البائع نفسه الذى كان يفاجأ يوميا بالسائق يمر عليه لشراء ما لا يصلح للطهى. يعلم كل الضباط أن مثل هذه المهام ليست من واجبات أفراد الشرطة أو العاملين فى الداخلية، وبحسب تعليقه: «من المؤكد أنها ليست من مهام عمله... لكن مافيهاش حاجة إذا عمل ده»... محاولات المقاومة السلبية التى يمارسها أفراد الأمن قد تأتى بتأثير عكسى من جانب الضباط الذين يعتبر كثير منهم ذلك نوعا من العصيان.
يضرب العميد كمال سعيد مثلا آخر كان يحدث فى إدارته قائلا: «كان رئيسى المباشر لديه كاميرات ترصد الممرات المؤدية إلى مكتبه، وكان يفاجأ بأننى الضابط الوحيد الذى يقف له العساكر ويؤدون له التحية دونا عن بقية زملائى».
حسبما يصف فإن السر ببساطة هو أنه كان يلكز سيقان العساكر بشكل موجع كلما مر وهو ما لم تظهره زاوية التصوير فى الكاميرات، وهو ما لم يدركه مديره إلا متأخرا، أما عن تبريره ذلك فيقول: «لم أهدف سوى تأكيد المسافات بينى وبينهم، فمثلما أحترم الرتبة الأكبر منى، على العساكر أيضا أن يقدموا لى الاحترام نفسه». أما هؤلاء العساكر المذعورون وأفراد الشرطة فأحيانا ما يقعون فى مواقف تعسة وقت تنفيذ الأوامر خشية غضب رؤسائهم، يعلق العميد السابق قائلا: «فى مرة اقتحم أحدهم مكتبى وأخبرنى أن مدير إدارتنا يريدنى فى مكتبه، ثم كررها بإلحاح فى مرة ثانية، وفى الثالثة ضرب بقبضته على مكتبى وقال: لو سمحت تيجى معايا دلوقت، الباشا قاللى مجيش من غيرك.. وبالطبع شعرت بإهانة، فأنا لست مقبوضا علىّ». فما كان من العميد السابق إلا وأن أصاب فرد الأمن بعدة لكمات متتالية حتى أسقطه على الأرض، ودخل فى جدل مع مدير الإدارة الذى جرأ فرد الأمن على ضابط، ودفعه إلى الحديث بهذه الطريقة. وحسب عبارته: «الضباط بيشيلوا بعض.. وطبعا المدير جاء فى صفى لأن اللى عملوه غلط». ويأتى هذا التكريس لحس الطاعة لدى أفراد الأمن أحيانا بنتائج مبالغ فيها مثل موقف حدث مع العميد كمال فى التسعينيات حين قرر سائقه أن يسير على قضبان المترو القديم ويدخل بالسيارة فى أحد الأنفاق لمجرد إرضائه والابتعاد به عن الزحام فى ذلك اليوم. يرى العميد السابق أن الحل لن يكون سوى فى دخول أفراد شرطة على درجة من الوعى والثقافة لضبط تلك العلاقة بين الضابط وبين من هم أدنى فى الدرجة، لأن تلك الفجوة الثقافية بين أفراد ذوى ثقافة ضعيفة وضباط الشرطة تصنع مشكلات وقد تدفع بالضابط إلى استخدم إجراءات وسلوكيات متعسفة، ويختم قائلا: «كفاية تعامل الضباط مع مشاكل المواطنين ومعتادى الإجرام، مش المفروض يكون عليهم عبء زائد من جوا الداخلية نفسها».
No comments:
Post a Comment