Monday, August 15, 2011

الصوم في أعوام قلقة


رمضانات ساخنة

جولة بين عناوين الصحف في سنوات حاسمة مثل 1948، 1967، 1973 قد تبرز تشابها بين رمضان في تلك السنوات ورمضان بعد ثورة 25 يناير. إذ أنها سنوات يجمعها خيط واحد.. هو أنها سنوات قلقة، ألقت بطابعها على شهر الصوم
كتب – عبد الرحمن مصطفى


1948
بين أول رمضان بعد الثورة في عام 2011 ورمضان في عام 1948 ما يقارب 63 عاما، لا يلتقي الرمضانين سوى في أن أول أسبوع في كليهما قد شهد حدثا قد يضفي طابعا على الأسابيع التالية، إذ شهد الأسبوع الأول من رمضان الحالي فض اعتصام التحرير وبدء محاكمة مبارك ونجليه ليتوقع الجميع أن يكون هذا هو طابع رمضان في عام الثورة، أما العام 1948 ففي أول رمضان من عام 1367هـ الموافق 8 يوليو 1948 كان العنوان الرئيسي لجريدة الأهرام "الاستعداد لاستئناف القتال صباح غد"، لينبئ عن رمضان ساخن في ذلك العام بعد هدنة لم تستمر طويلا... فقد شهد العام 1948 بداية الحرب بين تحالف القوات العربية ضد الميلشيات الصهيونية في فلسطين، وهي المعارك التي وصفها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بأنها أقرب إلى بعثرة لجنودنا في الصحراء، وهو ما جعل أخبار القتال في فلسطين هي المسيطرة على الصحف في ذلك الوقت. وفي أجواء صيفية حارة استمرت الصحافة في عرض مشكلات مجتمعية أخرى كانت عنوانا لتلك الحقبة، مثل أزمة غلاء الايجارات والحاجة إلى بناء مساكن شعبية، لكن لم يزد توتر الصائمين في ذلك العام إلا بعد أن ظهرت الغارات الجوية في سماء القاهرة مع نهاية الأسبوع الأول من رمضان، وتزايدت حدة الأحداث مع وقوع عمليات تخريبية داخلية اتهمت الصحافة وقتها بعض اليهود الموالين للصهيونية، ولم يكتف بعضهم بهذا بل استهدفت مراكز تجارية شهيرة آنذاك مثل بنزايون وجاتينيو رغم إعلان إدارتا المتجرين عن موقفهما المناهض للجرائم الصهيونية في فلسطين. كل هذه الأحداث المقلقة في شهر الصوم خلقت حالة عامة يصفها الرئيس الأسبق محمد نجيب في مذكراته قائلا: "كانت مصر مشغولة بحرب يائسة، وبملك انحدر إلى درجة منحطة جدا". هذا التناقض بين الحرب البائسة والحاكم البائس، يمكن تتبعه من خلال أخبار المآدب الملكية التي كانت تقام للعامة أو للجنود المصابين من الحرب وكيف كان محرر الخبر آنذاك يجمل صورة الملك وجلساته بعبارة من نوعية: "وامتلأت الموائد بألوان الطعام الشهية" وأن "ضيوف الملك قد خرجوا من لديه في تمام الرضا والسعادة".
وعلى هامش تلك الحالة العامة لم تتوقف عجلة الانتاج في مجالات عديدة على رأسها السينما، بل استفزت نجما مثل أنور وجدي أن يطرح إعلانا ذكيا في الجريدة اليومية عن فيلمه الجديد فيكتب: إلى كل من تسمى سعاد.. حضرة المحترمة، بعد التحية، يسر شركة الأفلام المتحدة، دعوتك بمناسبة فيلم "طلاق سعاد هانم"، وسيعرض على سينما ريفولي، وعلى كل من تسمى سعاد أن تعرض ما يثبت شخصيتها ولها تذكرتين هدية. مثل هذه الأفكار الذكية كانت بمثابة حرب على المزاج العام لجمهور مشتت بين أخبار حرب فلسطين وصيام رمضان، ورغم وقوع غارات جوية على القاهرة وصدور تعليمات من محافظة القاهرة باطفاء الأنوار وقت الغارات، إلا أن مثل تلك الأجواء لم توقف أنشطة أخرى كانت أكثر ازدهارا، فتكفي مطالعة إعلانات الصحف في ذلك الوقت لتكشف أن هناك نشاطا آخر ازدهر وكان يعرض دعايته في الصحف اليومية مثل بيع مخلفات الحرب القادمة من فلسطين، وذلك في مفارقة أن الصحيفة المعلنة نفسها قد أعلنت عن حملات جمع تبرعات مادية من المواطنين لصالح الجنود المصريين . ولا ينتهي القلق بانتهاء شهر رمضان لعام 1948، بل يستمر بعد انتهاء الشهر الكريم.

1967
ومن شهر رمضان في العام 1948 إلى العام 1967 مرورا برمضانات أخرى ساخنة في تلك الفترة المشحونة يرتفع سعر الصحيفة اليومية من 10 مليمات إلى 15 مليما. وفي أول يوم من شهر رمضان بعد هزيمة 67، يتصدر الصفحة الأولى من جريدة الأهرام إعلانا عن افتتاح فرع جديد لمحل جاتينيو، الذي كان هدفا لعمليات تخريبية في رمضان 1948، لكنه أصبح تحت التأميم وتابعا للشركة المصرية لتأثيث المنازل. ومع مرارة الهزيمة وبرد الشتاء تبدو عناوين الصحف أكثر برودة وجمودا، إذ تتصدر الصحف طوال الشهر عناوين أخبار خارجية مثل: استقلال اليمن الجنوبي أو محاولة الانقلاب العسكري في الجزائر أو انقلاب اليونان، ويتوارى صخب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قليلا عن عناوين الصفحة الأولى وتستمر أم كلثوم في حفلاتها لكن بهدف دعم المجهود الحربي. و في الأسبوع الأول من شهر رمضان في ذلك العام تقرر الحكومة المصرية فتح باب الهجرة إلى الخارج بعد مداولات دامت أكثر من شهرين، وذلك كي تتيح الفرصة لمن ضاق بهم العيش أن يهاجروا أو أن يعملوا في الخارج. وتبدو تلك الأجواء الخانقة غير مشجعة على إظهار مشاعر البهجة برمضان، إذ ما زالت المعركة مع العدو لم تنته، ورغم ذلك استمرت محاولات الاذاعة والتلفزيون في استعادة روح رمضان في برامج المنوعات، كأن تجد برنامجا يحمل عنوان "التحليلات الصوتية" للدكتور مصطفى محمود يحلل فيه صوت فايزة أحمد، وتكشف أيضا إعلانات الصحف اليومية عن استمرار عمل الكازينوهات والملاهي الليلية في رمضان خاصة قرب احتفالات رأس السنة، وذلك في تناقض مع إعلان إلغاء حفل الكنيسة الأرثوذكسية في ذلك العام. ووسط حالة التشتت العامة يلتفت المجتمع المصري في رمضان إلى ظاهرة جديدة هي الميكروجيب والميني جيب الذي اخترق الجامعات المصرية، وفي الصفحة الأخيرة من جريدة الأهرام ينشر الصحفي مرسي عطاالله بتاريخ 20 ديسمبر 1967 الموافق 19 من رمضان موضوعا تحت عنوان: هل يختفي الميني جيب ويوحد الزي في الجامعة؟ ويستمر الجدل حول تلك القضية الجديدة، بل و ينتقل إلى البرلمان، إذ طالب عضو مجلس شعب بعدم دخول الميني جيب والميكروجيب إلى الجامعات نهائيا. ولا ينتهي رمضان بأخبار سعيدة، إذ تستمر أجواء الهزيمة والتشتت لست سنوات أخرى حتى العام 1973.

1973
بدأ أول أيام شهر رمضان من العام 1973 في السابع والعشرين من سبتمبر أثناء موجة حارة عانى منها المصريون أثناء صيامهم ولم تنته إلا في 30 سبتمبر - رابع أيام شهر رمضان- وذلك بعد يوم واحد من بدء الدراسة في البلاد. أي أن المصريين استقبلوا الموسم الدراسي متزامنا مع موسم رمضان لتتحمل الأسر تكاليف الموسمين قبل انتهاء الشهر والحصول على المرتبات. ومنذ اليوم الأول في هذا الشهر الكريم يبرز الرئيس السابق السادات بشكل أكبر في عناوين الصحف والأخبار بما يدل على وجود حراك أكبر على مستويات عديدة، إذ يفتتح الشهر الكريم بإحياء ذكرى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر عبر العديد من المنابر السياسية، كما أذاع الرئيس السادات خطابا بهذه المناسبة. أما عن الأجواء الرمضانية فقد بدت واضحة في الأيام العشرة الأولى من الشهر، إذ استمرت الملاهي الليلية في دعايتها في الصحف، واستمر المغنون في حفلاتهم، وفي الجريدة اليومية يجد القارئ إعلانا عن مسرحية فريد شوقي الجديدة "نيام نيام" دون قلق من أجواء رمضان أو الموسم الدراسي. أما صلاح جاهين فيرسم كاريكاتيره في جريدة الأهرام بتاريخ 2 أكتوبر الموافق 6 رمضان عن الهوس بالتلفزيون في رمضان راسما طفل يسأل والدته : ـ "ماما .. هو قبل ما يخترعوا التلفزيون، كان فيه رمضان؟" وكأنه يشير إلى حالة الانجذاب التي كان يعيشها الجميع مع أجواء الترفيه الرمضانية قبل حرب أكتوبر.
وقبل بدء العمليات العسكرية بيومين يـُنشر الخبر الشهير في يوم 4 أكتوبر الموافق 8 رمضان عن: آخر موعد لتقديم العسكريين للعمرة، ضمن خطة الخداع الاستراتيجي قبل الحرب، أما الجنود على جبهة القتال فلم يعرف أغلبهم بما سيحدث قريبا من عمليات عسكرية حاسمة، إلا حين وجهت إليهم أوامر بالإفطار مبكرا في 5 أكتوبر، أما صحف السادس من أكتوبر/العاشر من رمضان فاكتفت بالإشارة إلى "توتر في جبهات القتال"، بينما يرسم صلاح جاهين كاريكاتيره عن "طابور الجمعية" متضامنا مع معاناة المواطن المصري في رمضان في الحصول على حاجاته الأساسية، خاصة مع وجود من استغلوا ظروف المواطنين لحساب السوق السوداء. ولا يتغير طابع الأحداث إلا بعد السابع من أكتوبر مع إعلان عبور القوات المصرية للقناة، واجتياز خط بارليف، وهي اللحظات التي لم يصدقها بعض المصريين في البداية واتجهوا إلى الاذاعات الغربية للتأكد من حقيقة الموقف. وفي تلك الفترة ومنذ النصف الثاني من شهر رمضان بدأت أجواء الحرب تزحف على حياة المصريين، وبدأت إدارة الدفاع المدني تكرر تعليماتها بضرورة: عدم إضاء الأنوار وقت سماع صفارة الانذار، وطلاء زجاج النوافذ، والاحتفاظ بأكياس الرمل والمياه لحالات الطواريء، وغيرها من التعليمات التي حفظها المصريون على مدار حروب عديدة خاضوها طوال القرن الماضي. ومع تسلسل الأحداث وعرض صور ولقاءات مع الأسرى الإسرائيليين بدأ المزاج العام يتبدل، إذ أوقفت المسرحيات التابعة للقطاع الخاص عملها وبدأ بعض الفنانين في عمل أنشطة متصلة بأجواء الحرب، وتلاشي الطابع الرمضاني تدريجيا من أخبار الصحف مع إيقاف العمل بالمدارس. وقبل عيد الفطر بيومين فقط اضطرت مدينة السويس إلى القتال في رمضان في صف القوات المسلحة المصرية . لينتهى الشهر الكريم في أجواء خاصة احتفظ بها المصريون في ذاكرتهم إلى اليوم. وتستمر الرمضانات بعدها ولا ينافسها في الأجواء القلقة سوى رمضان الثورة في العام 2011.

مع الفرنسيس والانجليز
رمضان في زمن الاحتلال
في فبراير 1799 مـ شهدت القاهرة أول رمضان في ظل الاحتلال الفرنسي، وهو أول احتلال أجنبي كامل في العصر الحديث.. في بداية الشهر اجتمع نابليون بونابرت بالمشايخ وقادة القاهرة في ذلك الوقت وأوصل إليهم أنه قد وجه ضربات مؤلمة للمماليك في الصعيد وأنه متوجه شرقا إلى غزة لإتمام مهمته، لم يكن المصريون يدركون آنذاك هل سيتغير طابع احتفالهم الرمضاني في ذلك العام أم لا؟ أو حسبما ذكر عبدالرحمن الجبرتي في كتابه عجائب الآثار في التراجم والأخبار، فإن المصريون كانوا على حذر من الفرنسيين أثناء رمضان خشية غضبهم إذ يقول : "أهل مصر كانوا على عادتهم في بدعهم التي كانوا عليها وانكمشوا عن بعضها خوفا من الفرنسيس فلما تدرجوا فيها وأطلق لهم الفرنساوية القيد .. رجعوا إليها" ، إذ عاش المصريون بقية الشهر بتلقائية رغم بعض المنغصات في حوادث كانت تحمل ملمحا طائفيا بين المسلمين والمسيحيين نتيجة السياسات الخاطئة في تلك الفترة، وفيما يبدو أن بعض الشرائح من المجتمع المصري استغلت شهر رمضان و تلك الفترة المميزة من السنة لتحقيق تواصل أكبر مع الفرنسيين، إذ يضيف الجبرتي في وصفه: "إن الفرنساوية صاروا يدعون أعيان الناس والمشايخ والتجار للإفطار والسحور، ويعملون لهم الولائم ويقدمون لهم الموائد ،...، ويتولى ذلك الطباخون والفراشون من المسلمين حتى يطمئنوا".
وبعد رحيل الحملة الفرنسية عن مصر مرت سنوات طويلة دون احتلال أجنبي سوى مع مجيء الاحتلال الانجليزي لمصر في العام 1882، وتزامنت البدايات الأولى للاحتلال قبل شهر رمضان بأيام قليلة، حين تم قصف الإسكندرية بالمدافع الانجليزية في 11 يوليو 1882، وكانت مصر قبلها تعيش أجواء قلقة في أعقاب التغييرات التي أعقبت ظهور أحمد عرابي في المشهد السياسي، إذ شهد الشهر السابق على رمضان في ذلك العام توابع حادث الإسكندرية الشهير بين المالطيين (الرعايا الانجليز) والمصريين، وهو ما هدد مبكرا بتدخلات أجنبية في البلاد و توقعات بوقوع الحرب ونزوح الأجانب عن المدينة، وفي اليوم الأول من رمضان (1299 هـ) تحديدا أعلن أحمد عرابي تخوين الخديوي توفيق لموالاته الجيش الانجليزي المعتدي. وبدأ الاستعداد للحرب في كفر الدوار بعد سقوط مدينة الإسكندرية في يد الانجليز وتخريبها .. في تلك الفترة قضى المصريون رمضانا عصيبا، فرغم تأييد العديد من كبار شخصيات المجتمع لأحمد عرابي إلا أن المصريين تلقوا في نفس الشهر (7 أغسطس 1882/23 رمضان 1299هـ) منشورا من الخديوي يتهم عرابي بالعصيان وأنه سبب تخريب الإسكندرية، بل و دعا المصريين إلى التخلي عن عرابي تماما. وانتهى شهر رمضان في ذلك العام بعيد لم يفرح فيه المصريون، إذ لم يمض سوى أسابيع قليلة على سقوط المدن المصرية بأيدي الانجليز حتى سقطت العاصمة القاهرة، ليبدأ عهد جديد من الاحتلال.
pdf

No comments:

Post a Comment