Sunday, January 2, 2011

على هامش العام الجديد

كتب – عبد الرحمن مصطفى

شجرة عيد الميلاد تبحث عن معجبيها

أمام محل لبيع الورود في حي المهندسين تصدرت شجرة عيد الميلاد المشهد على أمل إغراء الزبائن بشرائها، و داخل المحل لم يخف مديره ماهر التونسي تشاؤمه قائلا: "حاسس انه كمان سنتين مش هيبقى فيه شجرة كريسماس ولا احتفال بالسنة الجديدة". تلك النبرة المتشائمة سببها تناقص حجم مبيعات أشجار عيد الميلاد في السنوات الأخيرة، وهو ما يدركه شخص مثل ماهر دخل هذا المجال قبل 19 سنة، اليوم يخشى أن يكون المزاج العام قد أصبح أقل اهتماما بأجواء الاحتفالات وهو ما يمثل خطورة على هذا المجال بأكمله. أما الشجرة البارزة أمام محله فيرى أن سعرها معقولا، إذ تتراوح الأسعار بين 70 و 100 جنيه على عكس الحال قبل عدة سنوات حين كان يصل سعر الشجرة الواحدة من نفس الحجم إلى أربع أضعاف السعر الحالي. يعلق قائلا: "أتذكر قبل خمس سنوات فقط، كانت المحلات حولنا أكثر حرصا على تزيين واجهاتها بشجرة الكريسماس الطبيعية وفق الشروط التي حددها الحي وقتها، أما الآن فالوضع مخيب للآمال". أثناء حديثه يتوقف الكلام قليلا لينهي صفقة بيع شجرة عيد ميلاد إلى محل الكوافير المجاور، يتجه عامل في المحل لتزيين الشجرة بشكل روتيني على عكس حالة النشاط التي كانوا عليها قبل سنوات حين كانوا يرسلون أشجارا إلى فيلات وقصور على أطراف القاهرة، أما اليوم فهذه الشجرة أمام المحل هي واحدة ضمن عشرين شجرة سيجري بيعهم حتى الأسبوع الأول من يناير، في سنوات سابقة كان نفس المحل يبيع ضعف الكمية، لكن قواعد رأس السنة اختلفت تماما. يعلق سمير المليجي الذي يعمل في فرع آخر لنفس المحل قائلا: "اكتفينا بوضع أشجار عيد الميلاد أمام الفرع الرئيسي فقط، أعتقد أن المزاج العام الآن ابتعد عن أجواء الزينة والاحتفالات برأس السنة عن ذي قبل، كذلك فالأحوال الاقتصادية أصبحت تحد من الإنفاق في هذا المجال".
يكاد يتفق آخرون من العاملين في هذا المجال مع هذا الرأي، إلا أن أهم نقطة ركزوا عليها هي دخول أشجار عيد الميلاد البلاستيكية المستوردة من الصين إلى المنافسة معلنة التحدي لشجرة عيد الميلاد الطبيعية في هذه الفترة من العام.
أما أهم معاقل تجارة أشجار عيد الميلاد البلاستيكية فهو سوق درب البرابرة ناحية الموسكي، في هذه الناحية من السوق كان سيد رشاد مشغولا بشجرة متوسطة الطول مستقرة أمام المحل، والسعر 550 جنيه، يوضح: "معندناش شجر طبيعي .. كله صيني ولا فخر". في سوق درب البرابرة تظهر شجرة الكريسماس بشكل هامشي ومؤقت ضمن نشاط السوق، إذ يعتمد النشاط الرئيسي على بيع مستلزمات الأفراح والحفلات إلى جانب محلات النجف، لذا لا تتوقف نداءات متكررة من نوعية : "عايز حاجات السبوع يا برنس؟!". أما في المحلات التي تبيع شجر الزينة الطبيعي فلم يكترث أصحابها ببيع أشجار عيد الميلاد الطبيعية انصياعا لقواعد الاحتلال الصيني "البلاستيكي" للسوق، وداخل إحدى الحواري الجانبية من شارع البنداقة تراصت مجموعة من المحلات التي تبيع أشجار الزينة، لكن في الطابق الأول من عمارة مجاورة كان أحد كبار العاملين في هذا المجال، هناك وقف الحاج محمد ميرامار متابعا حركة البيع البطيئة في المحل. هنا يختلف الواقع تماما عن نوعية الأشجار الطبيعية التي يبيعها ماهر في محله بحي المهندسين، فهنا تباع الشجرة البلاستيكية مفككة إلى أجزاء ثم يتم تجميعها بمعرفة الزبون، السعر قد يتجاوز 500 جنيه لشجرة بطول 1.8 متر، مع إضافة حبال بلاستيكية مضيئة وكرات لامعة، وإضاءات متنوعة. يقول محمد ميرامار: "أصبح الناس أكثر زهدا في شراء شجرة الكريسماس على عكس الماضي، فمن اشترى شجرة بلاستيكية في عام سيحتفظ بها إلى الأعوام التالية، والأخطر من هذا أننا في مصر قبل عشر سنوات كنا نصنع هذه الشجرة، لكن بعد الغزو الصيني الذي ازدهر قبل أكثر من خمس سنوات تغيرت القواعد تماما، وقلت المبيعات الآن إلى النصف مقارنة بالسنوات السابقة، بعد أن تشبع السوق". يعلم باعة أشجار الكريسماس البلاستيكية في سوق درب البرابرة وغيره أنهم الأسرع وصولا إلى المنازل، إذ أنهم يتركون المنافسة خالية أمام باعة الأشجار الطبيعية في الفنادق والمدارس وأصحاب المزاج الخاص. وبينما يشكو باعة الأشجار الطبيعية من انتشار الأشجار البلاستيكية، نجد أن باعة الأشجار البلاستيكية يشكون من أن زبونهم يأتي مرة واحدة لا تتكرر إلا بعد سنوات طويلة. خارج هذا الصراع عرض أحد الباعة في سوق درب البرابرة وجها أخر لعوامل الزهد في تجارة شجرة عيد الميلاد لأسباب شخصية أعلنها في أنه قرر الامتناع عن بيع شجرة عيد الميلاد "لأنها بدعة وليس لها أصل في الدين الإسلامي". مضيفا : "كنت أبيع زهرة بنت القنصل التي تزدهر تجارتها في هذه الفترة، وعلمت من زميلي المسيحي أنها رمز لعقائد تخالف عقائد الإسلام، وهو ما جعلني أمتنع عن بيعها". هذا الرأي الذي يعرضه البائع يحمل مفارقة كبيرة في أن صاحب المحل الذي يعمل فيه يبيع أشجار الكريسماس في الفرع الآخر للمحل، لكنه متصالح مع هذا تماما. وبعيدا عن أصحاب الأعمال والباعة فقد شهدت نهاية العام الماضي جدلا بسبب رأي ديني أعلنه من الدوحة الشيخ يوسف القرضاوى رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، إذ انتقد شراء المسلمين لشجرة الكريسماس واستخدامهم لها في تزيين واجهات محلاتهم واعتبر ذلك حراما شرعا.
وتعود جذور استخدام شجرة الكريسماس في احتفالات رأس السنة إلى أوروبا في العصور الوسطى تأثرا بعادة وثنية قديمة كانت لدى القبائل الجرمانية في أروربا ثم اتخذت طابعا مسيحيا فيما بعد، هذا الأصل يدركه جيدا ماهر التونسي مدير محل الورود في المهندسين، إذ كان قبل سنوات عديدة يستورد أشجارا كبيرة من هولندا وبلجيكا في طلبات خاصة من الفنادق والمدارس أثناء هذه الفترة من السنة، ويقول: "شجرة الكريسماس في الأصل ذات أصول أروربية، لكننا هنا في مصر نزرع شجرة التويا التي تشبهها تماما، وتباع في الأسواق أثناء احتفالات عيد الميلاد". يجلب ماهر أشجار التوية الطبيعية من محافظة المنوفية حيث تزرع في مشاتل خاصة ويتم توريدها إلى التجار مع بداية شهر ديسمبر، وفي السنوات السابقة كانت شجرة التوية (الشبيهة بشجرة عيد الميلاد) تزرع بأعداد أكبر حول القاهرة في صفط اللبن والمعتمدية والبراجيل ناحية الجيزة (محافظة 6 أكتوبر حاليا). وحتى الآن ما زالت منطقة البراجيل تزرع شجرة التوية لاستخدامها في احتفالات الكريسماس كل عام، هناك تتعد المشاتل التي تقدم أنواع الورود المختلفة، لكن يظل المشتل الأشهر هناك هو "مشتل البراجيل" التابع لهيئة العامة لنظافة وتجميل القاهرة، إذ يمتد لمساحة 75 فدانا تندس وسطها أشجار التوية على استحياء بين مئات الأنواع من الأشجار، يقول المهندس عبدالرحمن سيد مدير مشتل البراجيل:"بعض أصحاب المشاتل والأفراد العاديين يأتون إلى هنا بحثا عن أسعار أفضل، لكن على أرض الواقع فإن المشاتل التي تبيع شجرة عيد الميلاد على سبيل المثال في المنوفية تبيع بأسعار معقولة لأنها تعتمد على عمالة غير مدربة ومن الأطفال أحيانا، وهو ما ينعكس على سعر المنتج النهائي".
وسط المشتل الفسيح انشغلت مجموعة من العمال الزراعيين في "تقليع" بعض أشجار التوية التي وصل بعضها إلى ارتفاع 4 أمتار، ويبلغ متوسط سعرها 150 جنيها. يوضح المهندس عبدالرحمن أن مهمة هذا المشتل بالأساس هي إرسال نباتات الزينة إلى المشاتل الفرعية وتزيين شوارع محافظة القاهرة والتشريفات الرسمية، أما شجرة التويا المرتبطة بمناسبة أعياد الميلاد فهذا هو موسمها، ويقول: "بعض الزبائن يأتون لشرائها من أجل تزيين حدائقهم رافضين استخدام الأشجار البلاستيكية، إذ نوزع المئات منها في هذه الفترة". تختلف الشجرة التي تباع هنا عن بقية الأشجار التي تباع في محلات بيع الورود والزهور، إذ تقوم تلك المحلات بوضع الشجرة في إناء به جبس وهو ما يجعل للشجرة عمر افتراضي ينتهي بعد شرائها بأسابيع، أو حسب تعبير أحد باعة محلات الورود هي "شجرة تيك أواي". أما الأشجار التي تباع في مشاتل مثل مشتل البراجيل فيتم تقديمها لزبون في الغالب سيعمل على إعادة زرعها من جديد، وبحكم عمله في هذا المجال لأكثر من 30 سنة يرى المهندس عبدالرحمن سيد مدير مشتل البراجيل الحكومي أن استخدام شجر الزينة في إناء به جبس هو قتل للأشجار، ويقول : "نحن هنا نزرع بأيدينا وأملنا أن نرى ما زرعناه في موقع أخر أيا كان في فيلا أو شارع أو حديقة منزل صغير". يقول عبارته ثم يتابع إلقاء الأوامر إلى العمال الزراعيين الذين كانوا قد نجحوا في اقتلاع شجرة تويا كبيرة متجهين بها إلى خارج الحقل غير منشغلين كثيرا بمجيء رأس السنة، عدا مجدي الذي يعمل هنا منذ 27 سنة، لأنه سيحتفل في 7 يناير القادم بعيد الميلاد المجيد، ما دفع أحد رفاقه في العمل ممازحا مدير المشتل في أن يمنحه مجدي شجرة تويا من أجل الاحتفال، لكن سرعان ما تختفي الابتسامات ويعود الجميع إلى عمله من جديد.

شاهد عيان: نصنع الرفاهية ولا نشارك فيها
لم يستطع أحمد إيهاب إخفاء علامات الإنهاك الواضحة على ملامحه بعد انتهاء وردية عمله في الفندق، يقول: "رأيت في هذه المهنة ما لم أره في مكان آخر.. يكفي ما يحدث في رأس السنة فقط وفي أفراح النخبة". قبل أسبوع على بدء احتفالات رأس السنة يعيش الفندق الفخم الذي يعمل فيه حالة من الاستنفار من أجل هذه الليلة، تلك الأجواء أعادته إلى ذكريات العام الماضي حين قضى ليلة رأس السنة في "خدمة الغرف" ورأى ما لم ينسه حتى الآن. في ذلك اليوم 31 ديسمبر من العام الماضي استمر عمله لمدة 12 ساعة متواصلة للتعامل مع ضغط أعداد الزبائن الذين توافدوا على الفندق وقاعة الاحتفالات في هذه الليلة، كانت الأمور تسير بشكل معقول حتى الساعة العاشرة مساء، لكن بعد بدء حفلة رأس السنة انقلبت الأوضاع رأسا على عقب، يقول أحمد واصفا تلك الحالة: "يتحول المشهد إلى فوضى منظمة، رجال الأمن يتحركون في كل اتجاه لمتابعة الزبائن السكارى في الطرقات، والمديرون يتابعون الموقف بقلق". الصورة التي يرسمها أحمد بحكم عمله في خدمة الغرف هي "لطبقة ثرية جدا"- حسب تعبيره – جاءت لتنفق أموالها على الترفيه ومعاقرة الخمر، يعلق قائلا: "كنت أرى بعض الزبائن مكومين في الطرقات بين الغرف وأحيانا ما يحملهم زملائي إلى الداخل حفاظا على مظهر المكان وهدوء الغرف". هذه النوعية من الزبائن تأتي إلى الفندق لقضاء ليلة رأس السنة فقط، أغلبهم من طلبة الجامعات الخاصة، جاءوا في مجموعات ليمتزجوا مع غيرهم من السائحين العرب وبقية النزلاء. بعضهم يدخل الحفلة مع مجموعة من رفاقه ثم يعود إلى غرفته مع صحبة أخرى، ومن الصعب فض الاشتباك أو التطفل على ما يحدث داخل الغرف، فالزبون دائما على حق.
لم تعد تلك الأجواء تصدم أحمد إيهاب مثلما كانت صدمته في أول يوم عمل له داخل بار قاعة الحفلات في أحد الفنادق الكبرى، شارك وقتها في داخل فرح نجل عضو مجلس شعب ورجل أعمال شهير، ورأى شخصيات عامة لم يكن ليرها من قبل، ورأى بعضهم وهو منكب على كؤوس الخمر التي يقدمها لهم. يعلق قائلا: "كانت الفواتير أمامي، لقد تجاوز الفرح مليون جنيه..!" بعد هذه التجربة الأولى اتجه إلى العمل في خدمة الغرف حيث نوع مختلف من الضغوط النفسية التي لا يرها أحد. "تخيل أنك تمر على أربعين غرفة في اليوم، وعليك أن تقطع صلتك بالعالم ومشاكلك بمجرد وقوفك أمام باب الغرف، كي تؤدي دورا ما أمام النزيل، فإن كان في مزاج سيء عليك ألا تبتسم في وجهه وإلا اعتبرها سخرية منه، وان كان في مزاج مرح عليك مجاراته، وفي غرف السائحين العرب عليك ألا ترفع عينيك في وجه امرأة منقبة.. كل هذه الضغوط والتغييرات في زمن محدد لتوصيل الطلب، وإذا ما نسيت الخبز على سبيل فهي كارثة قد تتسبب في تعطيل الطلبات التالية لأن الطلبات تتم بالتوالي وليس بالتزامن، وكل شكوى يقابلها خصم، وفضيحة وسط الزملاء".
تلك الأجواء حسبما يصفها أحمد إيهاب تتخذ شكلا أكثر صخبا في ليلة رأس السنة، إذ عليه أن يقبض قيمة كل خدمة بشكل فوري لأن نسبة كبيرة من النزلاء سيقضون ليلتهم مخمورين لذا لا بد من أن يكون الحساب فوريا منعا لمشاكل التذكر والنسيان. يقول أحمد "هذه المهنة جعلتني أرى مفارقات غريبة، في مرة على سبيل المثال قدمت زجاجة شامبانيا لعروسين في ليلة زفافهما وكانت قيمة الزجاجة 9000 جنيه، في الوقت الذي أحصل على مرتب 900 جنيه شهريا، أما ثمن الإفطار الذي أقدمه قد يصل إلى 140 جنيها وأحيانا ما أقدم وجبة أسماك تصل إلى 1000 جنيه.. وكلها مفارقات وأسئلة أعيشها يوميا، تتجلى في يوم مثل رأس السنة".
الجانب الإيجابي في الأمر هو البقشيش الذي تقدمه هذه الفئة المتيسرة من الزبائن، وهنا يتم تجميع البقشيش وإعادة توزيعه على العاملين، أما ليلة رأس السنة فالمميز فيها هو رؤية مزيج متنوع من البشر على عكس التعامل العادي مع نزلاء الفندق، يعلق أحمد إيهاب: "بحكم تعاملي المباشر مع النزلاء في خدمة الغرف في العمل السابق مع جمهور المطاعم وقاعات الاحتفالات، لفت نظري شيء يتجلى في ليلة رأس السنة، هو انعدام الخشية لدى كثير من الشباب، فأنا عن نفسي أحيانا ما أشرب الخمر لكن لا أجاهر بها وأحيانا ما أراجع نفسي وأعلم أنها معصية، لكن ما أراه هناك هو غياب هذه الحسابات تماما بل أرى حالة من التفاخر". ما يذكره أحمد من ملاحظات أحيانا ما يكون الإحساس بها مضاعفا لدى فئة أخرى هي فئة عمال النظافة في الفندق، إذ يعيش بعضهم صراع القادم من بيئة ريفية محافظة، حتى أن بعضهم يرفض رفع زجاجات خمر فارغة أثناء تنظيفه الغرف تاركا المهمة لزميل غيره. وأثناء ليلة عمل صاخبة مثل ليلة رأس السنة قد يكتشف أحمد أنه ظل طوال ساعتين يمر بعربة الطلبات دون أن ينطق بكلمة، ويمر إلى جوار زميله الذي يدفع عربة طلبات أخرى بين الغرف ولا يتحدثان بسبب ضغط العمل وازدحام الغرف والحرص على قبض ثمن الفواتير فوريا من الزبائن في هذه الليلة المزدحمة، يقول أحمد : "ساعات بسأل نفسي أنا بتعب وابهدل نفسي عشان أكوٍّن نفسي وابتدي حياتي، دول مين اللي بيدفعوا المصاريف دي كلها؟؟!". في مرة أثناء فترة عمله في البار، أتاه أحدهم طالبا كأس كونياك يقدر بـ 250 جنيه كي يضع فيه سيجارا ضخما لمجرد الحصول على مذاق الكونياك.
بعد ليلة هستيرية من نوع ليلة رأس السنة، وبعد عمل إضافي حتى الصباح الباكر، يقف أحمد أمام خزانة الملابس، يرتدي ملابسه العادية مودعا الفندق.. ويعلق على ذلك قائلا: "لا أستطيع أن أتجه إلى المنزل مباشرة بعد ليلة عمل كهذه، أعتدت أن أجلس مع زملائي على مقهى مجاور لأعيد اكتشاف الحياة من جديد.". في الغالب هنا لا يتحدث الزملاء عن العمل، يحاولون التعرف من جديد على أنفسهم في بيئة أخرى، واستعادة هوياتهم الأصلية التي طمسها العمل الآلي في داخل الفندق. يقول أحمد : "أحيانا ما أنام فأحلم بمشاهد عشتها أثناء عملي في الفندق، خاصة أنك أحيانا ما تسمع قصصا غريبة من زملائك على فترات متباعدة تترك أثرا بداخلك مثل تعرض أحدهم لتحرش من نزيل أو نزيلة، وكيف تعامل مع الموقف".
حسب القواعد فكل موقف له وسيلة تصرف، واللباقة هي سيدة الموقف، لذا لا يكون المرء حرا إلا خارج الفندق، في شوارع المدينة.. حيث صخب من نوع آخر.

مع توديع عام مضى واستقبال آخر جديد يحاول البعض استعادة خبراته السابقة ومراجعة ما أنجزه فى الفترة الماضية، داخل المعتقل ليس هناك مجال لهذا الترف، بل هناك واقع آخر: «الأسئلة داخل المعتقل مختلفة تماما، إذ تعيش كأنك فى برزخ بين الحياة والموت، كل ما هو مهم ليس له أهمية، خاصة حين تكون معتقلا سياسيا لا تعرف متى يكون الخروج، وليس لديك نقاط فاصلة أو إحساس بتوالى الزمن»، هكذا يرى الناشط والروائى مسعد أبوفجر تجربة الاعتقال السياسى لمدة 30 شهرا أفرج عنه بعدها فى الصيف الماضى.شتان بين لحظة دخول العام الماضى 2010 واللحظة الحالية مع استقبال العام 2011، إذ يقضى حياته اليوم محاولا الاستمتاع بتفاصيل أخرى لم يدرك قيمتها أثناء فترة الاعتقال، منها ما ذكره: «أبحث عن الأشخاص الذين افتقدتهم فى السجن، استمتع بمشاهدة البحر ومتابعة صيانة سيارتى، الوقت الآن به حسابات أخرى، على عكس أوقات السجن حين كان أقصى طموحى أن أنام فأحلم بحلم جميل يخفف من وحشة الاعتقال».
فى غياهب المعتقلات أعداد غير محددة من المعتقلين تتراوح بين المئات حسب تصريحات مسئولين ذوى صلة بوزارة الداخلية بينما يرتفع الرقم إلى آلاف المعتقلين حسب تقديرات الحقوقيين، وجميعهم يقضون تلك الفترة بعيدا عن إحساس الانتقال من عام إلى عام أو غيرها من مناسبات مثل الأعياد.
فى كتابها «مذكراتى فى سجن النساء» (دار الآداب، 2008) استخدمت الكاتبة نوال السعداوى فقرة تعبر فيها عن فترة اعتقالها فى العام 1981 لمدة شهر، إذ قالت: «لا يموت الإنسان فى السجن من الجوع أو من الحر أو من البرد أو الضرب أو المرض أو الحشرات، لكنه قد يموت من الانتظار،الانتظار يحول الزمن إلى اللازمن، والشىء إلى اللا شىء، والمعنى إلى اللا معنى».
يرى أحمد سيف الإسلام حمد ــ المحامى الحقوقى ــ أن أكثر التجارب صعوبة للمعتقل هى إحساسه بالانعزال عن الحياة الاجتماعية وقطع الصلات بينه وبين أهله، وكان سيف الإسلام أحد من تبنوا قضية مسعد أبوفجر أثناء اعتقاله. يقول أحمد سيف الإسلام: «من خلال تعاملى مع هذا النوع من القضايا قابلت حالات قليلة أصيبت بانهيار عصبى حاد بسبب الإهانة والعزل التام داخل السجن، خاصة أن بعض السجون شديدة الحراسة لا تسمح بالخروج من الزنزانة إلا لدقائق.. لكن حالات الانهيار تلك تعد على أصابع اليد الواحدة». هذه الحياة القائمة على العزل عن المجتمع وكسر الإحساس بالزمن والتطور لم تهزم كثيرين، أحدهم هو المعتقل السابق عبدالمنعم منيب الذى قضى 14سنة فى المعتقلات المصرية حتى أفرج عنه فى 2007، يرى عبدالمنعم منيب أن المعتقل لا يهزم السجين إلا من يستسلم، فعلى مدار سنوات اعتقاله وعزلته تطورت التكنولوجيا بدءا من ظهور الهاتف المحمول وانتهاء بظهور الانترنت بقوة على الساحة، وهى تطورات ليس لها وجود بين جدران المعتقل، يعلق قائلا: «الأمر يختلف من شخص لآخر فى إدراك ما يحدث من تطورات والإحساس باختلاف الزمن، كل شىء يعود إلى فاعلية الشخص وحيويته، عن نفسى كنت أستغل كل فرصة للتعليم حتى إن كان ذلك عن طريق سؤال المعتقلين الجدد، حاولت استكمال دراستى العليا، بعض رفاق السجن نجحوا فى الحصول على الدكتوراه بينما أخفقت أنا فى استكمال دراستى العليا، إلا أننى عوضت ذلك بمجرد الإفراج عنى». نجح عبدالمنعم بعد خروجه بأسابيع فى تعلم الانترنت وأسس مدونة باسمه وعاد إلى الصحافة من جديد.
فى كتاب الناشط السياسى السيد يوسف «مذكرات معتقل سياسى» (الهيئة المصرية للكتاب، 1999) يذكر هذه الفقرة: «بينما يحتفل العالم بليلة رأس السنة وبداية السنة الجديدة 1959 انطلقت خفافيش الظلام وزوار الليل يطرقون آلاف الأبواب، يروعون الأطفال والأمهات والزوجات من نومهم لاختطاف المناضلين من أحضان أبنائهم وزوجاتهم والزج بهم فى غياهب السجون والمعتقلات»، هكذا يصور أحد معتقلى العهد الناصرى صورة نادرة انشغل فيها المعتقل باستقبال عام جديد بالخوف من مطاردات الأمن بعيدا عن أجواء يعيشها بقية العالم.
وتحت واقع استمرار الاعتقالات حتى اليوم، يرى المحامى أحمد سيف الإسلام الصورة بشكل آخر يحفظ ــ فى الحد الأدنى ــ بعض حقوق المعتقلين إذ يقول: «فى الأوضاع الطبيعية يجب توفير مراجع للباحثين فى السجون وتعميم المكتبات، وإتاحة ممارسة الهوايات والأنشطة، لكن هذه الأمور لا تتوافر فى جميع المعتقلات خاصة شديدة الحراسة التى يخرج فيها المعتقل من زنزانته لفترات قصيرة فى اليوم، وسط أجواء مهينة تكرس الإحساس بالعزل». هذه الأجواء شبهها مسعد أبوفجر بأنها حالة «أهل الكهف» لحظة خروجهم من نومهم الطويل. وفى هذه المسافة الضيقة بين عامين قد لا يدرك قيمتها سوى من شعر بغيابها مع كل عام يمر عليه فى السجن، حيث يغيب ترف الاستمتاع بمرور الزمن ومحاسبة النفس ومراجعة الذات.
PDF

No comments:

Post a Comment