Monday, January 10, 2011

تاريخ الجنون.. من البيمارستان إلى المستشفى العام



كتب – عبد الرحمن مصطفى
قد تبدو مواقع مستشفيات الصحة النفسية والعقلية الحالية على الخريطة كجزء من حياة المدينة وليست معزولة مثلما كانت لحظة تأسيسها، لكن في حقيقة الأمر فإن هذه المواقع كانت خارج المجال السكني في لحظة تأسيسها. أحد أشهر هذه النماذج هو مستشفى العباسية للأمراض العقلية والنفسية، ولم يكن ذلك مصادفة بقدر ما هو تطور لصورة المريض العقلي والنفسي عبر التاريخ، وتحول بين احتواء المريض العقلي في العصور الإسلامية ثم عزله في العصر الحديث في أطراف المدينة.
ترى الدكتورة هدى السعدي- الأستاذ المساعد في قسم الحضارات العربية والإسلامية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة- أن الأعراف والتقاليد الأوروبية في النظرة إلى الجنون قد تغلغلت إلى مصر في نهايات القرن 19 ، وذلك في ضوء ظهور الطب النفسي الجديد وتحديث الدولة المصرية في ذلك الوقت، هذه التقاليد الأوروبية انعكست على الواقع المصري حتى اليوم، ومن أبرز هذه الانعكاسات هو اختيار موقع المستشفى. وفي بحثها المنشور تحت عنوان "تغير مفهوم الجنون وتأثيره على المرأة والمجتمع في مصر في نهاية القرن التاسع عشر"، ذكرت الدكتورة هدى السعدي أن النظرة السائدة عن المجانين قبل العصر الحديث غالبا ما اتسمت بالتسامح والقبول، ومع سيادة قواعد الدولة الحديثة في مصر وظهور الاحتلال البريطاني تغيرت تلك النظرة فأصبحت أكثر صرامة وبدأ استبعاد هذه الفئة من المجتمع. يتضح هذا التحول عند عقد مقارنة مع العصور الإسلامية حين كان البيمارستان (المستشفى) يتعامل مع "المجاذيب" ببساطة كجزء من نشاطه الطبي، وكانت تلك البيمارستانات متواجدة وسط الحياة في المدينة دون قلق، فمنذ إنشاء أول بيمارستان في عهد ابن طولون وهناك قسم مخصص لرعاية المجاذيب. بل حتى في عهد محمد علي الذي اعتبره البعض باني مصر الحديثة ومفتونا بلتجربة الغربية ظل التعامل على نفس الدرجة من الاحتواء للمجانين، وبرز ذلك حين أسس بيمارستان لعلاج المجانين في قلب القاهرة في ميدان الأزبكية، إذ تم تحويل مخزن على ميناء بولاق إلى مستشفى لعلاج المجانين، لكن تلك النظرة تغيرت فيما بعد.
في كتابه "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" (ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي - بيروت، 2006) لاحظ  المفكر الفرنسي -ميشيل فوكو- أنه مع بدايات العصر الحديث في أوروبا أثناء القرن 17 بدأ التعامل مع المجانين بطريقة مختلفة، إذ يقول عن ذلك القرن : "إنه اللحظة التي نظر فيها إلى الجنون باعتباره أفقا اجتماعيا للفقر وعدم القدرة على العمل، واستحالة الاندماج مع الغير، إنه اللحظة التي أصبح فيها الجنون جزءا من مشاكل المدينة". منذ تلك المرحلة ومع ازدياد وعي أوروبا بقيمة العقل والعلم، تم تكريس العزل لهذه الفئة المهمشة. وانتقلت تلك النظرة إلى مصر تدريجيا فرغم أن إنشاء مستشفى المجانين في حي الأزبكية في عهد محمد علي قد جاء بتوصيات من "كلوت بك" الطبيب الفرنسي الذي عهد إليه محمد علي بتنظيم الإدارة الصحية للجيش المصري إلا أنها ظلت وسط العاصمة، لكن العام 1883 كان نقطة فاصلة في هذه النظرة إلى "المجنون" إذ تأسست مستشفى الصحة النفسية بالعباسية ودخلت تحت رعاية الاحتلال الانجليزي لتعبر عن النظرة الغربية للجنون، فاختيرت في موقع بعيد عن العاصمة في صحراء الريدانية التي تحولت فيما بعد إلى حي العباسية، نسبة إلى حاكم مصر عباس حلمي الأولى (1848 - 1854). بل أقيمت محل سراي كان يملكها عباس حلمي في منطقة ذات هواء جاف يناسب حالته الصحية، وعلى نفس المنوال أقيمت مستشفى الخانكة في منطقة صحراوية يقطنها العربان على أطراف المدينة. وحسبما تذكر الدكتورة هدى السعدي فقد دخلت الأعراف الطبية الغربية على الخطاب الوطني في التعامل مع هذه الفئة. وتكفي نظرة إلى خريطة تواجد مستشفيات الصحة النفسية والعقلية وقت تأسيسها كي تكشف عن استمرار قواعد العصر الحديث في إقصاء هذه المستشفيات بعيدا عن المجتمع. ورغم تطور المدينة وتحول مواقع هذه المستشفيات مثل مستشفى العباسية أو الخانكة إلى جزء من المدينة، إلا أن العناوين الصحافية مؤخرا كشفت عن وصم تتعرض له هذه المستشفيات، وتعامل المجتمع معها كأمر واقع غير محبب. بدء من ضم مستشفى العباسية إلى قائمة المباني الأثرية مؤخرا بعد جدل أثير حول نقلها إلى مدينة بدر بعيدا عن القاهرة، أو في موقف آخر كشف فيه أهالي الخانكة عن رغبتهم في تغيير اسم منطقتهم بسبب ارتباطها باسم مستشفى "الخانكة" الذي يجلب عليهم إيذاء نفسيا. ووسط هذا الزحام يظل أغلب نزلاء هذه المستشفيات الموصومة على غير وعي بنظرة المجتمع إليهم على عكس حالهم في العصور الإسلامية، حين كان المجتمع لا يجد غضاضة في احتواء "المجانين" وسطهم دون حرج.

No comments:

Post a Comment