Thursday, April 29, 2010

الكابتن غزالي .. ذاكرة مدينة

لم تختلف حياته وحياة رجال المقاومة كثيرا عن حياة مدينتهم السويس، ورغم اشتباكهم مع الهموم الحالية فإن بعضهم سقط سهوا من ذاكرة الشباب، فأصبح مجرد اسم على لافتة شارع لا يعرف أحد من يكون، بل ويجهل سبب التسمية.
كتب - عبدالرحمن مصطفى
تصوير : أحمد عبداللطيف

الكابتن غزالى.. ذاكرة مدينة
قد لا يفهم الزائر الجديد طبيعة المكان أثناء الزيارة الأولى، متجر صغير مكدس بالكتب والرسومات، وعنوان كبير على الواجهة «الكابتن غزالى»، الجميع هنا فى هذه الناحية من مدينة السويس يعرف هذا الاسم جيدا.. فى الداخل يجلس الكابتن مطمئن البال، يتلقى التحيات المستمرة من المارة ولا يخلو الأمر من قفشة أو تعليق لرسم ابتسامات وضحكات من حوله، لم يبد انشغالا بتكريمه الأخير من محافظة السويس وقرارها إطلاق اسمه على أحد الشوارع الرئيسية بالمحافظة وإعادة طبع ديوانه الشعرى من هيئة قصور الثقافة، كان مشغولا بمن حوله.
«فى هذا المكان جلس مراسلون عسكريون بعضهم يقود اليوم صحفا كبيرة، ونام على هذه الأريكة الشاعر أمل دنقل أثناء تضامنه معنا فى السويس فى زمن الحرب.. هذا مرسمى القديم، آتى إليه بعد صلاة الظهر وأبقى مع الأصدقاء قليلا ثم أكمل يومى».
يشير الكابتن غزالى ــ أحد أعلام المدينة ورمز من رموز المقاومة الشعبية ــ إلى أرفف الكتب من حوله، موضحا أنه يعير بعضها لمن يحتاج دون حساب، كنوع من الخدمة العامة.. قد تخفى بساطته أحداث 82 سنة عاشها مشتبكا مع هموم السويس، بدءا من مشاكسة قوات الاحتلال البريطانى مع الفدائيين منذ عام 1946، ثم مع المقاومة الشعبية بعد حرب 67 مستخدما الشعر تارة والمواجهة المباشرة مع العدو تارة أخرى.. محافظا على روحه المتمردة حتى اليوم.
بعد ثورة 52 أصبح الكابتن غزالى ضمن تنظيمات الثورة كأمين للشباب، وهى المرحلة التى يصفها: «كنا نقول مصر أم الدنيا ولم نر سوى مصر.. بعد الثورة علمنا بأننا نستطيع أن نواجه الدنيا كلها». بعد هزيمة يونيو 67 كان ضمن قيادات المقاومة الشعبية، وتصدى لطرح فكرة «ولاد الأرض» التى تكونت من المشاركين فى العمل الحربى الميدانى، لنقل أجواء المقاومة وآمال النصر إلى بقية انحاء البلاد، ولم تختلف حياته وحياة رجال المقاومة كثيرا عن حياة مدينتهم السويس التى يولد فيها الأبطال وسط الحروب والمقاومة، مستمدين المدد من ذكرى البطل الأقدم سيدى الغريب صاحب المقام الأشهر فى المدينة الذى هلك غريبا فى حروب الفاطميين ضد القرامطة بعيدا عن بلده الأصلى.
«نشأت جوار الغريب حيث كانت السويس بمثابة عتبة من عتبات الرسول يفد إليها القادمون إلى الحجاز للحج، هناك سمعت فنونا متنوعة من مصريين وعرب وعجم.. وكثيرا ما شغلت نفسى بأصل موسيقانا فى السويس، وبالسر الذى يمكن أحد الأميين من حفظ قصائد فصحى. ولم أجد إجابة سوى أننا أبناء هذا المزيج الفريد».
رغم ذلك لا يخفى فى حديثه مزاجه الصعيدى الذى ورثه عن «أبنود» المدينة التى ولد بها عام 1928 بمحافظة قنا، وهو المزاج نفسه الذى انتقل إلى مدينة السويس عبر المهاجرين الجنوبيين الذين يمثلون نسبة غير هينة من السكان.. لتجربة السويسية مر بها أيضا الكابتن غزالى بصورة شخصية، فبعد حرب 67 كان يجتمع حوله الفدائيون، يغنون ويقترحون أفكارا يعبر عنها بالشعر، أما الألحان فهى مزيج من ثقافات هؤلاء الذين جمعتهم السويس.
يقول: «اخترنا اسم ولاد الأرض لهذه الفرقة الوليدة لترسيخ الحميمة التى جمعتنا». كانت تلك هى لحظات تأسيس أغانى المقاومة التى تحولت اليوم إلى جزء من تراث المدينة، أو حسب تعبيره «تحول ولاد الأرض إلى قصة لا تختلف عن قصة بهية ويس وسيرة أدهم الشرقاوى». اليوم تصدح فرقة بالاسم نفسه فى السويس يرعاها بعض ولاد الأرض القدامى من رفاق الكابتن غزالى.
«عين على الشباب»
فى مقره الحالى يلتقى الزائرون، أمامه شاب عشرينى يدعى عبد الرحمن، يعرض على الكابتن قصصا قصيرة يكتبها ويوجهه الكابتن دون مجاملة، يأتيه عامل المقهى المجاور مستأذنا فى استعارة كتاب يقرأه.. بعدها يدخل الكابتن فى جدال مع عبد الحميد يونس ــ أحد قدامى أعضاء حزب الوفد.. هذه الحياة المزدحمة تجعله يتقبل أى تكريم رسمى بهدوء وثقة، حتى إن كان التكريم بإطلاق اسمه على شارع رئيسى، يقول: «تهمنى العلاقة مع الناس والاحساس الحقيقى بالامتنان، أحيانا ما ألبى دعوة تكريم على بعد مئات الكيلومترات، فقط لأنها صادقة».
منذ الخمسينيات وهو يعمل فى مجال التثقيف السياسى للشباب، ولم يفقد هذا الحس حتى الآن «أثناء الحرب اتجهت إلى التعبير عن واقعنا كمقاومين وسوايسة بالغناء، وذلك لمحاولة إذابة العلاقة بينى وبين من حولى فى المعسكرات، وتلقى أفكارهم ومناقشتها وتحويلها إلى جملة موسيقية نتغنى بها».
بعيدا عن مهاراته المتعددة فى الشعر والرسم والخط العربى والموسيقى كان لقب كابتن هو ما يصاحبه حتى اليوم، حسب وصفه «كان للرياضيين تميزا فى المجتمع السويسى». وحتى الآن يفخر بهذا اللقب منذ أن حقق بطولة المملكة المصرية فى المصارعة قبل الثورة. يشير: «حين انظر اليوم إلى الشباب أحزن.. فرغم أنهم أكثر تعليما وأفضل صلة بالعالم عبر الانترنت إلى ما غير ذلك، بدأت ممارسة الرياضة فى الشارع وعيناى على الأندية الأجنبية التى احتكرت الرياضة فى مدينتنا، لم يكن لدى ملابس تدريب مثل التى تملأ مخازن الأندية الآن، وحين انتقلت إلى مجال التدريب فى الأندية المصرية التى أنشئت فيما بعد كان هؤلاء الأبطال الرياضيون هم نخبة المقاومة.. اليوم نفتقد الشخصية القيادية التى تحفز الشباب». أحد هؤلاء الشباب الذين يصفهم الكابتن غزالى سجل سؤالا: «من أفضل قيادى فى السويس؟» وذلك من خلال مجموعة على الفيس بوك بعنوان «السويس فقط Only Suez»، وأجاب غالبية الشباب بأن هذه الشخصية غائبة تماما اليوم!
فى تحركاته لا ينسى الكابتن غزالى دوره القديم وقلقه على مدينته، أحيانا يميل على بعض شباب الحى ويسألهم «لماذا تقفون هكذا على النواصى دون فائدة؟» وتأتيه الإجابة كالتالى: «شوف لنا شغل يا كابتن». يشعر بالغيرة تجاه أبناء بلده ويتذكر حين كان البحار يجد عملا بشهادة الابتدائية القديمة ويسافر بها إلى أنحاء العالم على ظهر سفينة.. لم يكن يعكر تلك الأيام سوى الاحتلال وسيطرة الأجانب على كل شىء. تقدر نسبة البطالة فى محافظة السويس بـ8.11% حسب تقرير التنمية البشرية الذى أعدته وزارة التنمية المحلية بالاشتراك مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائى عام 2008، كما يقع 10% من سكان المحافظة تحت خط الفقر. يضيف الكابتن غزالى: «فى الماضى لم يجلس على المقاهى وقت النهار سوى الغرباء، لكن الحال تغير، فى ظل هذه الحالة ليس فى سلطتى أن أنصح شابا سوى فى أمور مثل ترك السيجارة من يده، بحكم سنى». لفترة دامت سنوات بعد حرب 73 حوصر الكابتن غزالى فى مدينته، لم يتعامل مع الصحافة، ولم يشارك بفاعلية فى العمل العام نتيجة مواقفه المتعارضة مع سياسة عصر السادات خاصة بعد قرار فض تشكيلات المقاومة فى مارس 1973، وحين رفض تم إبعاده عن المدينة إلى بنها. بعدها اتخذ عمله طريقا آخر عبر لقاءات حرة مع محبيه، ومشاركات فى إعداد برنامج عن فنون القناة. ويذكر معلقا على فترة ما بعد الحرب: «المقاوم والفدائى لا يلقى بنفسه تحت عجلات الدبابة، بل يناور حتى يظل محافظا على نفسه». أشعاره لم تقتصر على الدعم المعنوى للجبهة الداخلية أو تقوية عزم المصريين، بل تعرضت لبعض الظواهر فى مصر، فرد على فيلم «خلى بالك من زوزو» الذى رأى فيه «ولاد الأرض» إلهاء عن المعركة، وكتب: «خلى بالك من زوزو.. واحكى حكاية مرمر، واللى يجيب سيرة الخلاص.. على بوزه يتجرجر»، وانتقد فى إحدى قصائده ظهور «شارع شواربى» وانتشار البضائع المهربة رغم سياسات التقشف قبل الحرب. ورغم مرور عقود طويلة على تلك الفترة لكنه ما زال يقاوم ما لا يوافق قناعاته. لم يكن الكابتن يعرف بماذا يجيب رفاقه حين يسألونه عن مستقبلهم بعد الحرب، تذكر ما قاله فى رثاء صديقه ــ مصطفى أبو هاشم ــ الذى ناضل ضد الانجليز وكان بطلا فى رياضة كمال الأجسام واختير عضوا فى منظمة سيناء العربية التى نفذت العديد من العمليات الفدائية خلف خطوط العدو فى سيناء، يقول الكابتن غزالى مجيبا بالشعر: «وكان لما يحكى لى أحلامه.. أو اللى شافه فى منامه، أضحك أنا.. وأقول إن شاء الله بعد النصر، يا هل ترى حتكونى فاكرانا يا مصر؟».
أثناء حديثه يتوقف ثم يجرى اتصالا بعبد المنعم قناوى ــ بطل قديم فى رياضتى الدراجات والرماية وأحد فدائيى منظمة سيناء العربية. يعمل الأخير منذ سنوات كسائق ميكروباص.. الواقع تغير تماما بعد أن عاد الجميع إلى قواعده، ولم يعد للأهالى ذلك الدور الذى مارسوه من قبل فى إدارة شئون المدينة والدفاع عن أرضهم تحت رعاية الدولة، واندمج المقاومون فى حياة تقليدية لا يميزها سوى طبيعتهم الخاصة التى لم يتنازلوا عنها. يقول كابتن غزالى: «الحديث عن الماضى ليس حنينا، بل أظن أن أبناء السويس القدامى تجمعهم رابطة واحدة وأظن أنهم أكثر حساسية لشأن مدينتهم عن غيرهم». لا تكفى زيارة واحدة لمعرفة ما شهده الكابتن غزالى من أحداث، ولا يكفى تكريم لتخليد ذاكرته، قد تلفت اللافتة التى تنوى محافظة السويس رفعها فى أحد الشوارع الرئيسية نظر شاب صغير أو مهاجر حديث وتدفعه إلى تتبع تجربة الكابتن غزالى، لكنها بالقطع لا توازى تجربة من عاشوا وغنوا لولاد الأرض، ومن تعلقوا بأشعاره.
يقول المقاوم الثمانينى: «أنا هنا فى مكانى لن أرحل، وأراهن على أن مصر ستكون أفضل فى المستقبل». ثم يكمل مازحا: «ستأتون بعد أربعين سنة إلىّ هنا وستعلمون أننى كنت على حق».

شوارع الأبطال.. غرباء في بلد الغريب
إلى جوار السوق الكبير في حي الأربعين بمدينة السويس لم تعرف الشابة ذات اللهجة الريفية اسم الكابتن غزالي، بدت مقطوعة الصلة تماما بهذه بحقبة المقاومة الشعبية أثناء الحرب، تساءلت : "هو لاعب كورة ؟!"، بدت إجابتها مثيرة للإستهجان لأي مواطن سويسي أصيل، لكن مبرر هذه الشابة الوحيد في نقص معلوماتها كان أنها ليست من مواليد السويس إذ انتقلت إليها قبل سنوات مع زوجها. وهي واحدة من سكان حي الأربعين الذي يمثل 50% من عدد سكان المدينة، بينما يقارب عدد سكان محافظة السويس نصف مليون مواطن.
محاولات الحديث معها حول قادة المقاومة الشعبية تبدو مثيرة للحرج، وتدفع إلى إعادة التفكير في جدوى تسمية الشوارع بأسماء الأبطال دون وسيلة تعريف بهم.
المشهد كان مختلفا حول جامع سيدي الغريب الأشهر في السويس، حيث محال تجارية قديمة تخصص أغلبها في بيع مخلفات السفن الراسية وأدوات الصيد، استهجن بعضهم بمرارة ألا يعرف سويسي رجلا مثل الكابتن غزالي، و أمام بوابة المسجد جلس عبدالعال منسي أمام متجره معلقا "فكرة التكريم وإطلاق إسم الكابتن غزالي على شارع فكرة جديرة بالاحترام، خاصة أنها جرت في حياته". كان عبدالعال طفلا حين اضطرت اسرته إلى ترك السويس في ذلك الوقت، لكن جاره الحاج أحمد حلمي بدر الذي شهد فترات الحرب والتهجير كان أحد العاملين الذين بقوا في المدينة لتسيير أمورها، أبدى حماسه قائلا : "كنت موظفا في التوكيلات البحرية ضمن من بقوا لإدارة المدينة، أحيانا كانت تأتي الغارات فنخرج بملابس النوم إلى القطار هروبا من القصف، لم يدعمنا أحد سوى رجال أمثال حافظ سلامة شيخ المقاومة، وغيرهم". يعود جاره عبدالعال ليوضح : "لا يدرك أهمية الكابتن غزالي وفرقة ولاد الأرض سوى من عاش تلك الفترة، حين كانت كلماتهم معبرة عما نريد قوله".
كلاهما اليوم يجلس في استرخاء تام في حي السويس الذي ينتمي إليه الكابتن غزالي، تفهما أن يكون هناك من ليس له صلة بهذه الحقبة من سكان المدينة، يقول الحاج أحمد حلمي بدر وهو يشير إلى مئذنة مسجد الغريب: "السويس لم تسمى بمدينة الغريب نسبة إلى سيدي الغريب فقط، بل لأنها مدينة الغرباء التي تحتضن القادمين وراء ارزاقهم".
سائق التاكسي الشاب الذي بدأ رحلته من أمام مسجد الغريب متوجها إلى أطراف حي السويس، لم يعرف اسم "الشهيد مصطفى أبو هاشم" أحد شهداء المقاومة الشعبية، تساءل : "من هو؟! هل تبحث عن أهله؟"، المفارقة انه أطلق مؤخرا اسم هذا الشهيد على شارع البرج المتفرع من شارع الجيش الرئيسي في المدينة. العاملون في مبان مجاورة للشارع لم يعرفوا تلك المعلومة، ولم يعرفوا هوية صاحب الشارع، وآخرون خلطوا بينه وبين أخيه عضو المجلس المحلي السابق إبراهيم أبو هاشم. و حتى اليوم يستخدم الاسم القديم للشارع "شارع البرج".
داخل أحد محلات الفيديوجيم في الشارع لم يعرف مدير المحل الشاب من هو صاحب الشارع، قال : "ليس لدي فكرة عن قصة مصطفى أبوهاشم، ربما يعرفه أحد كبار الحي". أشار إلى الحاج رضا العطيفي في محل مجاور لبيع الهدايا.. رجل أنهكه المرض رغم نجاته من شظايا دانات الاسرائيليين أثناء سنوات الحرب.
يقول الحاج العطيفي : "الشباب مشغولون عن تلك الشخصيات، وليس من سمع كمن رآى"، كان الحديث معه عن تجربة ولاد الأرض وذكرى شهداء المقاومة دافعا لأن يردد بعض أشعار الكابتن غزالي التي كانت شائعة وقتها بين من بقوا في السويس، واستمر في سرد تفاصيل سير الشهداء و عمليات يوم 24 أكتوبر حين اقتحمت القوات الاسرائيلية المدينة ونجحت المقاومة مع الأهالي في إفشال مخططهم.
يجلس الحاج العطيفي اليوم في متجره الصغير لقضاء وقته مستمتعا بتاريخ عائلته القديم في المدينة إلى جوار جاره الجديد "الشهيد مصطفى أبو هاشم" الذي زين اسمه لافتة على جدران عمارة مجاورة، حيث يمر العابرون فلا يرفعون أعينهم لتأمل الإسم أو البحث عن سيرة صاحبه.
حسب مصادر في محافظة السويس فإن المدينة تتميز بنشاط لجنة تسمية الشوارع التي تراعي تخليد أسماء شهداء الشرطة والجيش وشهداء المقاومة الشعبية وغيرهم من الشخصيات الوطنية الهامة إلى جانب أن المحافظة تنظم جولات لأبطال المقاومة الباقين بين المدارس أثناء احتفالات المدينة.
السمسمية في مساكن السوايسة
وسط مساكن شعبية ذات طراز واحد في حي كوبري القبة بالقاهرة هناك أحد عشر "بلوكا" سكنيا يحملون اسما مميزا عن بقية المساكن هو "مساكن السوايسة"، جاء هذا الاسم نتيجة استضافة هذه المساكن للمهاجرين من مدن قناة السويس فرارا من حرب 67، تلك المساكن ما هي إلا أحد الأماكن التي انتقل إليها المهجّرون مثل أماكن أخرى في شبرا الخيمة وإمبابة ومدينة نصر، وغيرها من المدن المصرية خارج العاصمة. في داخل واحد من هذه المساكن مكتب يحمل اسم "الجهيني للسيارات والعقارات" يديره محمود القط الذي يضع خلفه صورة تتصدر مكتبه وهو يعزف على آلة السمسمية الشهيرة، تبدو الصورة للوهلة الأولى مختلفة عن السياق من حوله، لكن أصل هذه المساكن قد يبرر هذا المشهد. يقول: "بعد الحرب تشتت السوايسة كل حسب اتجاه القطار الذي لحق به وقتها، جئنا إلى هنا قبل أكثر من أربعين سنة، وسكنا تلك المساكن التي لم تكن معدة لاستقبالنا ورفضنا تركها أثناء الحرب لعدم وجود البديل، أما اليوم فلم يتبق من كافة هذه الأسر المهجّرة سوى عدد قليل جدا يعد على أصابع اليدين ارتبطت أرزاقه بالمكان ولم يعودوا إلى السويس وتبدلت المساكن بسكان آخرين".
على بعد أمتار منه "سوبر ماركت أولاد يوسف السويسي" حيث استمر الجيل الثاني من المهاجرين السوايسة في القاهرة متابعا حياته، وفي الناحية الأخرى جمعية خدمات لأبناء مدينة السويس تأسست عام 1973 و تعمل اليوم في أنشطة خدمية مختلفة أهمها تعليم الكبار. في تلك الفترة التي ترك فيها أهالي السويس مدينتهم لم يكن البقاء خيارا مفضلا حتى من جانب الدولة، كانت الخطة الحكومية آنذاك تتجه نحو تهجير أغلب سكان المدينة وإبقاء حوالي 15 ألف مواطن لإدارة شؤونها الأساسية، وفي تلك الأثناء هاجر عشرات الآلاف إلى أماكن متفرقة في محافظات مصر منهم تلك المجموعة التي سكنت في كوبري القبة، يقول محمود الذي قارب اليوم على الخمسين: "حين أراد والدي العودة بعد الحرب إلى عمله السابق في الميناء لم توافق جهة عمله في قسم شرطة حدائق القبة رغم عودة أعمامي وبعض إخوتي وتعمير منازلنا هناك، لكن هذا لم يقطع صلتي بالمدينة".
محمود القط الذي نشأ في القاهرة اختار اليوم أن يجلس في أوقات السمر بين رفاقه وبيده السمسمية، لم يخف تأثره بتجربة "ولاد الأرض" وعشقه للكابتن غزالي وأغاني المقاومة، وفي جلسات خاصة مع الرفاق يحاول أن يحاكي أجواء السويس على أرض القاهرة. ويعلق على هذا : "بعيدا عن عملي أصدرت ألبوما متواضعا منذ فترة شاركت فيه مع مطربين شعبيين بالعزف على السمسمية". وعلى استحياء يشير إلى آلة السمسمية في غرفة مجاورة لمكتبه معتبرا إياها العلامة الوحيدة التي تعبر عن هويته الآن، وسط مساكن لم يعد للسوايسة فيها سوى حضور رمزي.

Wednesday, April 14, 2010

الدراسة بعد الـ 60.. متعة التعلم مدى الحياة

خيط واحد يكاد يجمعهم. الهدف الواضح، والحماس الشاب. توزعت أنشطتهم الدراسية بين من اهتم بتحقيق رغبة قديمة ومن سعى لخدمة قضية حياته ومن وجد المتعة فى المعرفة للمعرفة، جميعهم اخترقوا مجال الدراسات العليا الجامعية فى سن متقدمة تحقيقا لهدف يوقنون أنه قد حان موعد تنفيذه

متعة التعلم
تحتار سهام عبدالسلام بأى مجال دراسى تبدأ، كانت تخشى سرد كل مشوارها الدراسى الذى تراكم على مدار سنوات عمرها الواحدة والستين.. تشغلها الآن بروفات مسرحية جديدة موضحة أنها لم تبدأ فى مجال التمثيل إلا بعد الدراسة فى ورشة تدريبية اجتازتها قبل خمس سنوات.
بالنسبة إليها فالتعلم على مدار الحياة ليس مجرد متعة تعيشها فى كل تجربة، بل هو أيضا محاولة للتواصل مع المجتمع وخدمته بوسائل مختلفة، فى كل وسيلة اختارت مجالا دراسيا جديدا.. كان أولها الطب.
«لم يكن التفوق الدراسى هو الهاجس الأساسى أثناء نشأتى منذ الصغر، بل كان التعود على القراءة فى سن مبكرة، وحين أنهيت الدراسات العليا فى مجال طب الصناعات فى السبعينيات كان هذا ما يحركنى، إلى جانب دافع أهم هو خدمة المجتمع، لذا كانت الصدمة عنيفة حين تحولت إلى موظفة حكومية بشهادة الطب أؤدى مهام إدارية حسب قواعد التعيين».
مفارقات عديدة مرت بها خلال تلك الفترة، فبعد سنوات من المشاركة فى النشاط الثقافى والفنى الجامعى اقتصر بعضها على مشاركات خجولة، تقابل اليوم زملاء تلك المرحلة أثناء العروض المستقلة التى تشارك فيها فيندهشون من هذا التحول الجرىء. وبعد تجربة اضطرتها إلى ترك الطب فى المجال الحكومى احتراما لما تؤمن به عادت إلى الطب بعد سنوات بشكل جديد. «كان علىّ الرحيل عن الطب إلى حين.. بعيدا عن الإحباط».
فى تلك الأثناء اتجهت إلى أكاديمية الفنون فى منتصف الثمانينيات مستهدفة دبلومة النقد الفنى للطواف حول عشقها القديم للفن.
يحيط جدران شقتها الفسيحة كم هائل من الكتب، بعضها فى الفن والباقى فى جميع الفروع التى درستها ومجالات أخرى كثيرة. تقول: «عشق الكتاب والقراءة منذ الصغر أنمى بداخلى حب المعرفة بشكل عام، أتذكر فى عيد ميلادى السادس أنه قد أهدتنى والدتى مجموعة قصصية للأطفال لتنمية حب القراءة، أما الصحف فكانت ضيفا رئيسيا فى منزلنا، منذ ذلك الوقت كونت مكتبتى التى تحوى اليوم مئات الكتب».
تكمل بحماس كيف انتقلت إلى مجال آخر ينتصر لفكرة خدمة المجتمع من خلال تخصصها الأصلى كطبيبة، «فى التسعينيات شغلتنى قضية الختان، بالمصادفة قرأت إعلانا عن منحة لإحدى الجامعات الأمريكية، ولم يكن لدى استعدادا أن أترك مصر، والمفارقة أنه بعد مناقشة مع مسئولى المنحة أتاحوا لى الحصول على المنحة فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة فى سابقة لا تتكرر كثيرا، واخترت تخصص الأنثروبولوجيا الطبية حيث يختلط الطب ــ تخصصى الأصلى ــ بالعلوم الإنسانية، ونتيجة تميز بحث الماجستير أجريت دراسة أخرى بمنحة حول وعى المثقفين وعلاقته بقضية الختان».
لا تعتبر شهادة الماجستير التى نالتها فى الجامعة الأمريكية انتصارا للطب الذى أحبته أو انتقاما من تجربة بائسة مرت بها أثناء عملها كطبيبة فى القطاع الحكومى، كان ذلك مرتبطا بتنوع اهتماماتها وانخراطها فى منظمات حقوقية. أما حالة الرضا التى تعيشها اليوم فتضعها تحت عنوان «متعة التعلم».
وهو السبب الذى دفعها قبل سنوات قليلة إلى الحصول على دبلومة فى مجال الترجمة من قسم اللغة الإنجليزية فى جامعة القاهرة، كان الحصول على تلك الدبلومة بعد سنوات مارست فيها الترجمة بشكل محترف، تقول: «بعض المجالات تعتمد على المهارة والموهبة بشكل أساسى، وأنا خضت مجال الترجمة لسنوات طويلة، لكن لا أستطيع أن أنكر أن التعلم يضيف حرفية أعلى، ولن أنكر أيضا أن أحد أهم دوافعى هو أن أتتلمذ على يد الدكتور محمد عنانى الذى أعتبره مرجعا فى مجال الترجمة».
شهادات فى الطب والنقد الفنى والترجمة والتمثيل قد يعتبرها البعض كافية.. هى نفسها ذكرت فى بداية حديثها عبارة واضحة: «خلاص تبت». لكن تلك العبارة الضاحكة أتبعتها باستطراد يكشف عن أن المشوار لم ينته، إذ تقول: «ضمن أمنياتى تعلم اللغة الفرنسية والموسيقى». قد تكمل رحلة التعلم، وقد تنمى مهاراتها بشكل شخصى مثلما حدث حين تعلمت السباحة بعد الخمسين معاندة من يظن أنها أمور مقتصرة على الصغار.
تقول: «طوال تلك الخبرات مع التعلم فى مجالات مختلفة، كونت علاقات كانت بمثابة الكنز الذى ربحته».

أكبر باحث دكتوراه
فى نوفمبر من العام الماضى 2009 توجهت الكاميرات ووسائل الإعلام ناحية شيخ مسن فى الرابعة والتسعين من عمره وتابعت حركته البطيئة فى أثناء اعتلائه منصة إحدى قاعات كلية الحقوق بجامعة القاهرة لمناقشة رسالة دكتوراه تحت عنوان «الاحتساب على ذوى الجاه والسلطان».
كل العوامل كانت مثيرة للاهتمام، فإلى جانب أهمية الباحث ــ محمد فريد عبدالخالق ــ كأحد القيادات التاريخية لجماعة الإخوان المسلمين، وإلى جانب جاذبية الموضوع الذى يدرس موقف الإسلام من العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فقد كانت تجربة الحصول على درجة الدكتوراه بتقدير امتياز فى هذه السن أمرا جديرا بالمتابعة. أما البحث الذى تعطل لأكثر من ثلاثة عقود حين سجلها فى منتصف الستينات فقد توقف لأسباب عديدة على رأسها تكرار اعتقال الدكتور عبدالخالق والسفر إلى الخارج.
فى أثناء المناقشة لفت الدكتور محمد سليم العوا ــ أستاذ القانون وأحد المناقشين للرسالة ــ نظر الحضور إلى أن أكبر من حصل على الدكتوراه على مستوى العالم كان طالبا فى جامعة كمبردج فى سن 91، إلا أن البحث يكشف عن باحث آخر نالها من مدرسة لندن للدراسات اللاهوتية عن عمر يناهز 93 عاما، وهو ما يجعل محمد فريد عبدالخالق فى المرتبة الأعلى. تناقلت وسائل الإعلام أن هذه الخصوصية تدخله موسوعة جينيس للأرقام القياسية، بعد سنوات طويلة من التعطل.
يقول عادل عبدالباقى ــ سكرتير الدكتور محمد فريد عبدالخالق ــ إنه لم تكن هناك معوقات من جهة الجامعة فى أى وقت، مضيفا: «كان تكرار الاعتقال هو السبب الرئيسى، وظروفه السياسية الخاصة». ورغم إجماع الصحف على أن شيخ حاملى درجة الدكتوراه قد دخل موسوعة جينيس للأرقام السياسية إلا أن السكرتير الشخصى يوضح: «حتى الآن لم تتم إجراءات فعلية بهذا الخصوص».
رغم صعوبة التواصل مع الدكتور عبدالخالق نتيجة تقدم السن، إلا أن الحديث عن مشروع عمره أعاد إليه حماسه سريعا، لم يهتم بالأرقام القياسية بل ركز على موضوع بحثه، ملخصا إياه فى عبارة جامعة: «هذه القضية شغلتنى منذ سنوات طويلة، عن حق الرعية فى مراجعة الحاكم واحترام الإرادة السياسية لأفراد المجتمع، وفى الإسلام معالجة لهذه المسألة».
الرجل الذى قضى جل عمره ناشطا فى مجال الدعوة مشغولا بالشأن السياسى لم يخف طموحه فى إعادة طبع الرسالة لنشر نتائج بحثه، وعدم الاكتفاء بتوصية الجامعة طبع الرسالة على نفقتها وتبادلها مع جامعات العالم، سعيا وراء نشر جهده الذى تعطل لعقود.

العودة إلى الفلسفة
خلف مكتب مزدحم بالأوراق اختار اللواء منير شريف أن تكون جلسته المفضلة فى هذه المساحة من المنزل، حيث يعود بعد أداء الرياضة الصباحية إلى أوراقه وقراءاته التى زاد عليها مؤخرا أعباء الدراسة، يشير بيده إلى رزمة أوراق أمامه موضحا: «هذا آخر كتاب قمت بترجمته»، ثم يشير إلى دفاتر أخرى جواره قائلا: «أما هذه فهى كشاكيل المحاضرات الجامعية، مرتبة ومكتوبة بنظام ودقة». هذه الدفاتر شاهدة على التزامه وانضباطه فى حضور محاضرات السنة التمهيدية بقسم الفلسفة فى جامعة القاهرة، أما الآن فكل ما يحتاجه هو تجاوز هذه السنة لاستعادة حلمه القديم فى الحصول على دكتوراه فى الفلسفة.
«نشأت فى بيت يهتم بالشعر والموسيقى والقراءة، ومنذ مرحلة الدراسة الإعدادية وأنا حريص على قراءة المقالات الصحفية الرصينة، وبدأ ينمو بداخلى هذا السؤال الجدلى: لماذا تأخرنا وتقدم الغرب؟ ووجدت ضالتى فى دراسة الفلسفة، لكن كان علىّ أن أؤجل تلك الرغبة إلى حين».
لم تقبل الأسرة أن يلتحق ابنها بدراسة الفلسفة لأنها حسب تصورهم قد لا تؤمن مستقبله المهنى، وكان البديل هو الالتحاق بكلية الشرطة. اليوم يشعر الضابط المتقاعد بالرضا عن حياته الوظيفية التى أداها، وعلى جدار غرفة المكتب وسام ناله أثناء عمله فى الشرطة تجاوره شهادة أهم، هى ليسانس الآداب من قسم الفلسفة لعام 1970.
ويوضح: «بعد عملى فى الشرطة اخترت العودة إلى الجامعة والدراسة فى قسم الفلسفة، وكان يلح علىّ السؤال القديم نفسه: لماذا نتأخر ويتقدم الآخرون؟ وعرضت على الدكتور إبراهيم بيومى مدكور بعد تخرجى مباشرة موضوعا لرسالة الماجستير عن نقد العقل العربى، وبعد مناقشات توصلنا إلى اختيار موضوع آخر يمهد له».
منذ تلك الفترة قبل أربعة عقود صدرت العديد من الكتابات حول «نقد العقل العربى» بعضها يحتفظ به فى مكتبته التى عمل على فهرستها بشكل احترافى، لكن تفاصيل حياة ضابط الشرطة خاصة حين ينتقل إلى أجهزة ذات طابع خاص قد تعيق تفرغه للبحث والدراسة، يعترف أنها حياة أكسبته اهتماما بتفاصيل الواقع والمجتمع، لكن الحقيقة الأخرى أنها تسببت فى منعه من دراسة الماجستير لوقت طويل!
أمام مكتبه شهادة أخرى نالها من أكاديمية الفنون فى النقد الفنى تحقيقا لشغف آخر بالسينما وولع مستمر بفكرة النقد، يقول: «بعد أن تركت الشرطة فى الثمانينيات انتقلت لعمل إدارى منهك فى إحدى الشركات،
هذه الدبلومة حصلت عليها فى المسافة الطويلة بين ترك رسالة الماجستير فى السبعينيات والعودة اليوم إلى الجامعة».
لم يدفعه فى هذا الطريق فقط الشغف العلمى بل زوجة رافقته لأكثر من ثلاثين سنة، ما زالت صورتها حتى اليوم معلقة فى المنزل رغم رحيلها وارتباطه بزوجة جديدة متفهمة، ورغم ذلك يقول: «أبنائى ليسوا على الدرجة نفسها من الاهتمام، ربما تكون ابنتى هى الأقرب إلى هذا الطريق».
مع العام 2005 كانت استراحة من الأعباء الوظيفية بعد تجربة العمل فى الشرطة وسنوات من العمل الإدارى التقليدى، عاد بعدها بقوة إلى مكتبته، فحسب قوله «الجلوس فى هذا الركن مع القراءة أفضل من تضييع الوقت فى جلسات النميمة بين المسنين». لم يكتف بهذا النشاط المحدود بل بدأ الدخول إلى مجال الترجمة، وأصدر ثلاث ترجمات عن المركز القومى للترجمة لكتب علمية مهتمة بنشأة الكون وفلسفة العلم، وبدأ فى عقد لقاءات أقرب إلى الصالون الثقافى فى منزله ليلتقى بأدباء وإعلاميين وعلماء.
وحين عاد مؤخرا إلى الجامعة فى سن السبعين، رأى عالما آخر غير الذى تركه فى السبعينيات: «المشهد كان صادما بالنسبة لى بين بؤس الطلبة، وتشتت أغلبهم فى طرقات المبانى وممرات الجامعة، الحياة الأكاديمية بشكل عام أصبحت أكثر ترهلا، لم تكن تلك هى الصورة نفسها التى أردت الالتحاق بها فى الماضى».
بين زملائه الصغار يجلس الطالب السبعينى مرتديا الجينز وقبعته الرياضية منصتا إلى محاضرات الأساتذة، يستطيع بمهارة الاندماج وسطهم بل الاطمئنان عليهم، متابعا تفاصيل عالمهم المختلف.
أحد الأبحاث التى يعمل عليها ضمن بحوث السنة التمهيدية يطمح أن يكون نواة أطروحة الماجستير حول حق الرعية فى مقاومة الاستبداد. وبين ازدحام مكتبه بالصور والشهادات والكتب لم تكن هناك لوحات كثيرة تحمل حكمة أو مقولة، ربما لو كان هناك مكان لمثل تلك اللوحة المفترضة، ستكون لوحة تحمل الحديث الشريف الذى ردده فى جلسته: «إذا قامت القيامة وفى يد أحدكم فسيلة فليغرسها».

كلمة السر: النوبة
يكاد يكون ملما بجميع تفاصيل المكان داخل النادى النوبى العام بميدان التحرير فى القاهرة، بدأ حديثه بعرض سريع للأنشطة ودور الجمعيات النوبية الفرعية المنتشرة فى أحياء العاصمة، لم تنجح ملامحه المسنة فى إخفاء روحه الشابة، كانت كلمة السر التى توقظ حماسه هى «النوبة».. حيث تنتمى الجذور والأصول، وهى الكلمة نفسها التى دفعته إلى استكمال دراسته فى سن السبعين.
قبل أربع سنوات انضم مصطفى عبدالقادر إلى طلبة المعهد العالى للفنون الشعبية التابع لأكاديمية الفنون، حسب تأكيداته لم يجد أى عوائق أو حرج فى تواجده وسط طلبة الدراسات العليا آنذاك، يعلق على ذلك مبتسما: «كنا دفعة مكونة من 12 طالبا كلهم من سن أولادى، مازلنا نتبادل علاقات الود والصداقة حتى الآن، لكن كان اختلافى عنهم هو هدفى الواضح منذ البداية، ففى كل بحث نقدمه كنت اختار موضوعا عن النوبة.. كنت ألعب فى ملعب لا ينافسنى فيه أحد».
فارق السن لم يمنع «الأستاذ» مصطفى من تبادل الكتب والملخصات الدراسية مع بقية زملائه من الشباب، قد تكون هيبة الزميل الأكبر سنا عاملا مساعدا فى صنع تلك الحالة من التوازن أو ربما هى جديته الواضحة.
طوال السنوات الماضية منذ تأسيس المعهد العالى للفنون الشعبية عام 1981 اعتمد على تقديم خدمة تعليمية تقتصر على طلبة الدراسات العليا مدتها عامان، حتى تبدل الموقف مؤخرا فى العام 2008، حين بدأ فى استقبال طلبة المرحلة الجامعية الأولى.. تلك الطبيعة أوجدت طلبة فى أعمار كبيرة. يوضح الدكتور ــ سميح شعلان ــ عميد المعهد وأحد الأساتذة المشرفين على رسالة الماجستير للباحث مصطفى عبدالقادر: «كان المعهد يقتصر على حملة المؤهلات الجامعية، أنا نفسى تخرجت فى كلية الآثار وعملت فى هيئة قصور الثقافة لأكثر من 11 سنة انتقلت بعدها إلى الكادر الأكاديمى فى المعهد، لذلك كبر السن لم يكن أبدا أمرا مستغربا لدينا».
لم يخف الدكتور شعلان أن كبر السن أحيانا ما يكون ميزة فى طلابه، إذ لا يشغل الباحث وقتها سوى موضوعه، فلا يتسرع أو يندفع لإنجازه ولا يشغله الطموح الأكاديمى».
فى حالة الأستاذ مصطفى تحديدا كان هناك عامل آخر يوضحه الدكتور شعلان: «تمسكت به لجديته وقربه من الموضوع الذى يعمل به».
فى حديثه لا يشغل مصطفى عبدالقادر نفسه بانطباعات الآخرين، بل يرى فى رسالة الماجستير تتويجا لاهتمام دام عقودا طويلة، من خلال نشاطه الثقافى فى جمعية أدندان ــ اسم القرية النوبية التى ينتمى إليها ــ حيث كان يفد عليه الباحثون العرب والأجانب كأحد حافظى التراث النوبى وأحد الذين شهدوا بأعينهم تجربة تهجير القرى النوبية عام 1964 قبيل افتتاح السد العالى جنوب أسوان.
بذاكرة واعية يعدد أسماء الباحثين العاملين فى تخصصه، ويعلق: «كل الباحثين الأجانب الذين مروا علينا فى الجمعيات النوبية ألاحظ بعد قراءة أعمالهم فجوة ما، سببها صعوبة توصيل المعانى عبر الترجمة. فهل لأن الباحث دكتور علينا أن نسلم بجميع أعماله؟ لو أعطانى الله عمرا سأعمل على الدكتوراه».
يستطيع الآن مصطفى عبدالقادر أن يشعر بالرضا، فرسالته ستحوى جزءا توثيقيا لهذا التراث، كما أسهم فى السابق من خلال جمعية أدندان النوبية فى حفظ هذا التراث عبر نقله إلى الفرق الغنائية التى تجد متنفسا لها الأفراح النوبية.
بعد تخرجه فى كلية التجارة عام 1967 اندمج داخل الحياة الوظيفية بدءا من مبنى ماسبيرو فى إدارة شئون الأفراد ثم أسفار إلى السعودية والإمارات، لكنه استغل وجوده داخل ماسبيرو فى المشاركة فى فقرة «من وحى النوبة» أثناء حقبتى الستينيات والسبعينيات من خلال راديو «صوت العرب».
وألف أغان نوبية عدا تلك التى يحفظها عن ظهر قلب، وفى العام 1988 حاول الالتحاق بنفس المعهد لكنه لم يكمل دراسته، ولا يخفى مرارته إذ يقول: «فى النهاية أنت مضطر إلى السعى وراء رزقك، وتأجيل طموحك قليلا». أحد خريجى هذه الدفعة التى تركها مصطفى عبدالقادر هو أستاذ مشرف على رسالته الحالية التى ينتظر مناقشتها خلال أيام.
يصعب تجاهل حماسه وهو يتحدث عن استكمال مشروعه، فبعد عامين من الدراسة الميدانية فى قرى التهجير التى نشأ بها بحثا عن «اختلاف مظاهر الزواج بين قبيلتى الكنوز والفاديجا النوبيتين» يخطط من الآن لفكرة الدكتوراه التى يشرحها: « تحدثت مع أساتذتى عن مشروعى البحثى الجديد حول تأثير التهجير على عادات النوبيين». الموضوع هو جزء من حياته، فقد عاش طفلا فى النوبة، وانتقل بعدها إلى الصعيد، ذلك الجزء الذى لا يفارقه رغم إقامته فى القاهرة.

تعريف
يتشابك مصطلح التعلم مدى الحياة
Lifelong learning
مع مفاهيم أخرى متعلقة بتعليم الكبار فى مجال محو الأمية أو تنمية المهارات أثناء الحياة العملية، لكن يظل أهم ما يميز هذا المصطلح هو البعد عن التعليم النظامى التقليدى ليمتد على مدى عمر الفرد، وبدأت الكثير من الدول فى تنمية هذا الاتجاه، وفى اجتماع هيئة المجتمعات الأوروبية ببروكسل عام 2006 أعلنت الهيئة تعريفا للتعلم مدى الحياة على النحو التالى: «كل أشكال التعلم التى يمارسها البالغون بعد ترك مراحل التعليم الأولى وما يصاحبه من تدريب». وفى كتابه «تطوير المدرسين: تحدى التعلم مدى الحياة» دعا مؤلفه كريستوفر داى إلى أن ينمى المعلمون ذلك الحس لدى طلبتهم وإقناعهم بعدم الاكتفاء بدراساتهم التقليدية.
وفى ظل قواعد التنافسية التى تسيطر على سوق العمل بدأ هذا التيار يتسلل إلى داخل المؤسسات التعليمية المصرية فى مراكز التعليم المفتوح إلى جانب نشر مشروعات تنمية مهارات العاملين فى أماكن عملهم. ورغم أن المصطلح قد يبتعد عن صورة الطالب الكبير الذى يعود دارسا إلى الحياة الجامعية تحديدا لأسباب شخصية أو مهنية لكنه يطرح صورة أشمل، فالتعلم ليس مجرد شهادة بقدر ما هو تنمية للفرد.

Thursday, April 1, 2010

السلطان أبو العلا ينادي أبناءه

من بولاق إلى النهضة والعكس
كتب – عبدالرحمن مصطفى
إلى جوار مسجد صغير في منطقة ماسبيرو على أطراف حي بولاق أبو العلا، يسند الحاج عبد العال غانم كرسيه إلى الحائط مستمتعا بوجوده بين الأهل والجيران، بيده عصا غليظة تدعم موقفه كرجل سبعيني ليس في قدرته تحمل المفاجآت، بإمكانه اليوم أن يرى من موقعه هذا أطلال منزله القديم وخرائب أخرى كانت منازل جيرانه القدامى.
"عدت إلى بولاق لأني لم أحتمل الإقامة في مدينة النهضة بعيدا عن عائلتي وجيراني، فلا أعرف أحد هناك، ولم آمن على نفسي من البلطجية ".
الحاج عبدالعال هو واحد من عشرات الأسر التي أعلنت محافظة القاهرة قبل أسابيع عن أنها استلمت شققها في مدينة النهضة عوضا عن هدم منازلهم الآيلة للسقوط، تلك المساكن يصنفها مسئولو الحي تحت بند "الخطورة الداهمة"، و ما زالت هناك المئات من الشقق التي وفرتها المحافظة في انتظار انتقال سكان هذه الناحية من بولاق إليها تمهيدا لإزالة منازلهم البائسة وتحويلها إلى أطلال مثلما تم مع من قبلهم.
قد تبدو الأمور بسيطة وتقليدية للوهلة الأولى، وأن هذه المساكن البديلة ستلقى قبولا لدى الأهالي، وانه من السهل أن يطووا صفحة بولاق من ذاكرتهم ويفتحوا صفحة جديدة مع مدينة النهضة القابعة على أطراف القاهرة. لكن الواقع مختلف تماما، تكفي جولة بين شوارع وحواري منطقة مثلث ماسبيرو المطلوب إزالتها ناحية ميدان الشهيد عبدالمنعم رياض كي تكشف عن وجه آخر للمسألة.. الجالسون هناك بين المنازل المتردية انفعلوا وتصدى بعضهم لاقتراح عناوين صحفية عن حالتهم : "لن نترك بولاق إلا جثثا هامدة"، "لا لهدم بولاق"، "حياتنا هنا.. فإلى أين نذهب؟"، هذه العبارات المتنوعة ذكرها الذين لم ينتقلوا بعد إلى مدينة النهضة وما زالوا في انتظار الإزالة، كان الرفض واضحا لفكرة الابتعاد عن الترابط العائلي ومصادر أرزاقهم التي استقروا فيها هنا.. الخطة البديلة للهروب من البقاء في مدينة النهضة هي التي فعلها الحاج عبدالعال، باع شقة المحافظة، وتحمل الرجل السبعيني تجربة الانتقال لسكن آخر على أمل أن يكون قريبا من أبنائه في بولاق، يقول : "بعت شقة المحافظة بمبلغ أقل من قيمتها، وانتقلت في البداية إلى بولاق الدكرور، ثم إلى كفر طهرمس ناحية شارع فيصل بحثا عن سكن أفضل، لكن معاشي الشهري لا يتجاوز الثمانين جنيها، واحتاج أنا وزوجتي إلى الخدمة، لذا آتي هنا للمبيت في منزل ابنتي الضيق في بولاق، وأستأنس بأهلي وأقربائي".
قصص من تركوا بولاق وانتقلوا إلى مدينة النهضة زادت الباقين في بولاق تمسكا بموقفهم في رفض أي شقة بديلة حتى إن كانت منازلهم آيلة للسقوط.. أبو وليد أحد القاطنين في بيت بدائي بنفس شارع محمد قاسم المطل على ميدان الشهيد عبدالمنعم رياض، يشير بيده إلى إحدى الخرائب التي تتوسط منزلين من نفس النمط البسيط، ويقول : " حين استلم أصحاب هذا المنزل المتهدم شقتهم في مدينة النهضة اكتشفوا أن عليهم أن يبدؤوا رحلة جديدة من إتمام السباكة والكهرباء والدهان وأمورا لا يقدرون عليها ماليا، واكتشفوا حياة أخرى غير التي في بولاق، وما زالوا يعانون".
في حالة أبو وليد لم يكن الاهتمام منصبا على الأمور المادية فقط، بل بفكرة التواصل الإنساني التي سيفقدها حين يترك منزله الآيل للسقوط، يضرب مثلا بحالة ابنه المعاق ذهنيا الذي جاوز الثلاثين حيث يساعده جيرانه في رعايته حتى أنهم يعيدونه إليه إذا ما ضل الطريق، يقول أبو وليد : "لن أجد هذا الدعم إذا ما انتقلت إلى النهضة.. في الصحراء".
الانتقال إلى سكن المحافظة في مدينة النهضة تحول إلى غول في أذهان بعض السكان هنا، خاصة مع الروايات التي يتبادلها المنتقلون حديثا وزوارهم من أهالي الحي، أحد سكان نفس الشارع يقسم أنه تعرض للسرقة أثناء زيارة والدته في مدينة النهضة.. ويرفض ترك بولاق وميزة السكن وسط القاهرة. بل وصل الحال بشخص مثل أبو وليد أن وقع تعهدا على نفسه بتحمل المسؤولية في حالة ما إذا تهدم العقار وتأذى أحد سكانه.. خاصة أن قبول الانتقال - حسب قوله - قد يدفعه إلى أن يبقى فترة بلا مأوى حتى يستلم شقته الجديدة وينهي إجراءاته.
في الأسابيع الماضية تبنت بعض الكتابات الصحفية حملة عن "بولاق التي تنهار"، و"أهالي العشوائيات الذين يقفون ضد تطوير منطقة ماسبيرو"، وهو ما يجعل تواجد أي صحفي داخل الحي أمرا مثيرا لخيبة الأمل لأنه يذكرهم بمصيرهم المحتوم، فمنذ أكثر من ثلاثة عقود طويلة والجميع يعرف أن المستقبل سيكون لإزالة هذه المنطقة الغنية التي يصل المتر فيها إلى حوالي 30 ألف جنيه، الخطة هي تطوير المنطقة كي تتواءم مع مشهد تبرز فيه مباني هيلتون رمسيس و ماسبيرو و وزارة الخارجية. ومنطقة مثلث ماسبيرو هي واحدة من عدة مناطق في حي بولاق من المتوقع إزالتها عاجلا أم آجلا، وذلك ضمن خطة تطوير القاهرة الكبري حتي 2050، التي يسعى أحد مشروعاتها إلى تطوير "الواجهة النيلية" و تحويل هذه المناطق إلى مركز سياحي وترفيهي وإداري وإنشاء أبراج إدارية وخدمية وسياحية بنسبة بناء لا تزيد عن 20% والباقي حدائق ومتنزهات. هذه القصص يعلمها جيدا بعض السكان، وتشعرهم بالمرارة، وما يزيد إحباطهم أن المنطقة في الأصل هي "أراضي حكر"، أي أن الساكن ليس مالكا للأرض، وإذا ما تهدم المنزل انتزعت منه الأرض، لذا لم يبتعد السكان كثيرا عن الحقيقة في تكرارهم الملح على عبارة "المنطقة متباعة"، فهناك شركات تعاقدت على تطوير المنطقة وإنشاء المشروعات بعد إزالة المساكن الآيلة للسقوط.
يعلم اللواء علي صدقي رئيس حي بولاق أبو العلا أن لهذه المنطقة خصوصية، وحسبما أكد هو فهو يعلم أيضا طموحات بعض السكان يقول : "بعض السكان يطمح في إنشاء مساكن على نفس الأرض مثل مساكن زينهم، لكن المتاح لي الآن هو مساكن النهضة".
سياسات الحي مع تزايد تسليط الأضواء على المنطقة أصابت البعض بالربكة، البعض بدا موافقا على فكرة الانتقال، وآخرون رفضوا رفضا عنيفا، وهناك من يطرح اقتراحات بديلة، لكن الحملة الإعلامية التي بدأت تضع بولاق داخل واجهة الإحداث والتركيز على أخبار نقل السكان و انهيار عقارات أصبحت تزيد البعض حنقا خاصة مع نشر الصحف مؤخرا دراسة أنهتها محافظة القاهرة مؤخرا في أعقاب انهيار أحد العقارات المجاورة لقسم الشرطة - انتقل سكانه أيضا إلى مساكن النهضة - ونشرت الدراسة في الصحف تحت عنوان : 29% من سكان بولاق أبوالعلا يستخدمون دورات مياه «مشتركة».. و35% يسكنون في شقق 10 أمتار. لكن رغم ذلك مازال هناك من يرفض الانتقال إلى مساكن مدينة النهضة التي أصبح من الواجب استطلاع أجوائها هناك.

الطريق إلى النهضة
تأخذ الرحلة من موقف عبدالمنعم رياض على بعد أمتار قليلة من أطراف بولاق ما بين الساعة والساعتين، قد تزيد حسب الحالة المرورية، وحين يستلم المهاجرون حديثا مساكنهم الجديدة يسيرون في موكب تحميه سيارات الشرطة وجنود الأمن حماية لمتاعهم من السرقة وتنفيذا للإجراءات الإدارية، المشهد مثير للفضول في مدينة نهضة حين وقفت السيارات أمام مكتب التسكين لإنهاء إجراءاتهم.. أما على أرض الواقع الجديد فلا شيء هنا يشبه المزاج البولاقي، الشوارع فسيحة وتفرق بين البلوكات على عكس الحواري الضيقة، بعض المساكن تحيط بها مساحات واسعة من الصحاري، كل شيء يدعو إلى القطيعة مع من حولك، قد ينتقل البولاقي إلى "بلوك" فيجاوره القادم من باب الشعرية أو الزاوية الحمراء أو الشرابية أو الدرب الأحمر.. تلك هي المناطق التي يتولاها مكتب تسكين (3) بمدينة النهضة الذي يستقبل البولاقيون أيضا.
لم تتضح معالم مدينة النهضة بشكل واضح حتى الآن، تعبير "المفارق" هو أشهر التعبيرات هنا في الإشارة إلى تقاطعات الشوارع، وبعيدا عن الميكروباصات التي تنقل ساكن النهضة إلى خارج المدينة، فقد غابت التاكسيات مفسحة المجال إلى السيارات النقل المغطاة التي تحولت إلى عربات نقل جماعي، بعضها حمل لافتات مرورية "نقل أسيوط"، وأخرى "نقل الشرقية".. وبعض السيارات الملاكي احتلت محل التاكسيات في المدينة.
"الحال الآن في النهضة أفضل بكثير عن 17 سنة مضت حين انتقلت إلى هنا من بولاق، اليوم حياتي استقرت عن ذي قبل" لم يعرف خالد السني من أين يبدأ قصة انتقاله من منطقة ماسبيرو قبل 17 سنة بعد الزلزال الشهير إلى مدينة النهضة، لم يخف المرارة أثناء حديثه، فما زال أهله يقطنون شارع الشيخ علي قرب ماسبيرو، أما هو فمشغول في عمله الحالي كسائق ميكروباص بين موقفي بولاق الدكرور في شارع السودان و مدينة النهضة، بعيدا عن بولاق وشارع الشيخ علي.
"كنت مجرد عريس جديد يستعد للاستقرار ويعمل في ورشة بنفس الشارع، وطلب الحي بعد الزلزال إزالة الدورين الثالث والرابع في منزلنا، وكان البديل هو شقة النهضة". لم يسانده أحد في هذه الرحلة، في البلوك الذي يسكن فيه تبدل السكان عدة مرات وبيعت الشقق، وأحيانا ما يجاوره الخبيث أو الطيب، أما المهمة الأصعب فكانت إعادة تجهيز شقته من سباكة وطلاء وكهرباء وغير ذلك، يقول : "على مدار كل تلك السنوات كنت أجهز الشقة مرحلة مرحلة".
لم تكن معارك خالد فقط مع تفاصيل الحياة الجديدة، بل مع ما حوله من غربة، دخل صراع ومعارك لمدة ثلاث سنوات مع من أرادوا إعلاء المسجد المجاور عدة أدوار وهو ما سيكشف حرمة منزله، تعرض لصراعات وتهديدات من الأعراب المجاورين، وهي أمور لم يكن ليراها في بولاق، ويصف ذلك : "في بولاق أعرف تاريخ كل شخص وأهله، وهناك مراعاة للكبير الذي يتدخل ليحسم الكثير من المشاكل، لكن هنا لم أجد سوى الاحتماء ببيتي، والبعد عن الجميع إلا في حدود العمل".
يعلم خالد أن ما قام به الآن ربما ما كان ينجزه لولا أنه بدأ في العشرينات حتى بدا اليوم مستقرا كرجل أربعيني يعمل من أجل أسرته. على عكس الحاج عبدالعال الذي كان مؤذن مسجد أل البيت في بولاق و يأتي بشكل شبه يومي كضيف للاستئناس بأهله وعشيرته الأقربين.
بيت أم أمينة
على عتبة بيت الحاجة أم أمينة خلف الوحدة الحزبية بشياخة شركس ببولاق تجمع بعض الأهالي للحديث عن جانب آخر لا يراه الداعون إلى تهجير السكان من الحي، محمد ياسر كان أكثرهم اندفاعا وصلابة، استعان بإشارات يده كثيرا أثناء تأكيداته أنه لن يرحل حتى إذا مات أمام منزله، ويوضح جانبا آخر : "لن أترك عملي من أجل شقة جديدة، وأؤكد لك أن سبب تمسك الناس هنا بالمكان أنهم يجدون الدعم المادي من أهل الخير والجمعيات.. فلا أحد ينام جائعا، وهناك تعاون وتقدير لحالة الفقير، ولا ينام أحد جوعانا، لن تجد هذا في مدينة مثل النهضة".
أثناء حديثه حاول رجل في جلباب بسيط أن يشاركهم الحديث، لكن الجميع حاول منعه بقوة، هو الحاج عبدالمحسن غريب من سكان شارع محمد قاسم.. اتضح أن السبب أنه أعلن رغبته في ترك بولاق، لكنه أجل خطة انتقاله لأن الحي يرغب في التنفيذ فورا، بينما هو لا يستطيع تشتيت أبناؤه أثناء الدراسة.
في تلك الحالة من التخبط بين من استسلم لشقة جديدة، ومن يريد البقاء حيث مصادر الخير، يتاجر السماسرة بهذه الأحلام، حيث يأتي السمسار الذي ينهي إجراءات تسلم الشقة مع الحي، مستغلا أن البولاقي لن يسكن في النهضة فيبيعها له السمسار بأي ثمن، ويعطيه نقدية، يعلق محمد ياسر : "الناس هنا غلابة، بعضهم أمسك آلاف الجنيهات لأول مرة في حياته، هذه هي نقطة الضعف".
ليست منطقة مثلث ماسبيرو فقط هي التي تعتمد شريحة من سكانها على تلقى المساعدات الخيرية، بل منازل أخرى تنتظر الازالة منها "سنتو" في رملة بولاق، على الجانب الآخر من مئذنة السلطان أبو العلا وعلى بعد مئات الأمتار من ميدان التحرير وماسبيرو، هناك مساكن أسوا حالا تستقر خلف برجي أركيديا والنايل تاورز، أحد معالم المكان هو "جمعية الخدمات الاجتماعية ببولاق" التي أسستها السيدة السويسرية إلزا ثابت في الأربعينات لتنمية حي بولاق، ثم انتقلت في عام 1975 إلى مقرها الحالي في رملة بولاق، وأصبح اسمها الشعبي هو "نادي جيهان" نسبة إلى السيدة جيهان السادات.
داخل الجمعية تظهر مفارقة واضحة، طابور طويل من الأطفال خرجوا لتوهم من الحضانة المجانية لسكان المنطقة، على عكس مشهد آخر لأطفال في الخارج من العاملين في الورش يفتقدون الإحساس بالطفولة، محاولات السيدة إلزا ثابت التي توفيت قبل عدة أعوام لم تضع هباء حسبما ترى برلنتي عبدالعزيز مديرة الجمعية، وتقول : "بعض الأهالي من تلك المناطق تعلموا حرف، إضافة إلى ما تقدمه الجمعية من دعم مباشر للأسر الفقيرة وكفالة اليتيم وغيرها".
أمام المبنى الرئيسي سيدات في جلاليب سوداء أتوا لنيل هذه المساعدات، كانت الحاجة نادية واحدة منهن قبل عدة سنوات فقط، لكنها اليوم ترتدي زي "الدادة" وتعمل داخل الجمعية، وهي إحدى سكان منطقة سنتو في بولاق التي تتشارك مع ماسبيرو في أن مبانيها تنتظر الإزالة، حيث يحيطها أقربائها من كل جانب.. تقول : "هنا عملي وعمل أبني، في الماضي كانت هناك عشش ودفع أحد رجال الأعمال مبالغ مالية لتشجيع الناس على الرحيل واختيار سكنهم، لكن فكرة التهجير إلى النهضة أو غيرها ليست واردة في ذهني أبدا، هنا ناس وطنت حياتهم وطوروا أنفسهم ووصل ببعضهم أن عمل في مشروعات صغيرة بالتعاون مع الجمعية من منزله.".
فكرة دفع التعويضات المباشرة ليست جديدة، وكانت مطروحة في منطقة مثلث ماسبيرو، لكن السكان لديهم اقتراحات أخرى، كمال عبدالوهاب الصحفي و أاحد سكان منطقة ماسبيرو، يسكن في منزل أفضل حالا يطل منه على شارع الجلاء قرب موقف الشهيد عبدالمنعم رياض، كان اقتراحه : "اعطوا الناس أموالا ودعوهم يختاروا السكن الذي يريدونه"، أما الحل الذي طرحه عدد من السكان أثناء تقديمهم عريضة ضد أي أعمال إزالة هو بناء مساكن في نفس الحي على غرار مساكن زينهم التي قامت واحتوت سكان العشش القدامى في السيدة زينب، لكن طموحات أهالي بولاق تبدو بعيدة جدا عن خطط الحكومة، وهو ما يصيبهم بالحنق خاصة حين يقارنون أنفسهم بالرأسمالية البولاقية المتمثلة في تجار سوق العصر ووكالة البلح الذين لا يصبهم شيء من هذا القلق، يسأل كمال عبدالوهاب : "وماذا إذا ما أزالوا منطقتنا المطلة على موقف عبد المنعم رياض، أليس هناك مساكن بسيطة أخرى داخل بولاق؟ لماذا لا يتحدث عنها أحد؟"، الاجابة تكمن في أن منطقتهم أرضي حكر قديمة، ولا يملكونها.
كل الطرق تشير إلى أن الانتماء البولاقي لا يزول بسهولة، سواء كان عند الحاج عبدالعال السبعيني الذي عاد بعد رحلة من الانتقالات إلى مجلسه في بولاق، أو لدى خالد السنى الذي اندمج في مدينة النهضة ولم تفارقه صورة الحي القديم الذي نشأ فيه، أو لدى أولئك الذين يدافعون عن موقفهم بعدم التنازل عن تواجدهم في بولاق، مستمدين المدد من السطان أبو العلا صاحب الجامع الشهير في بولاق الذي ظل في موقعه منذ مئات السنين يتلقى شكايا الأهالي، ويعاند الزمان.
ملحوظة: هناك اختلافات بسيطة بين المادة هنا والموضوع المنشور في الجريدة لأسباب تحريرية