خيط واحد يكاد يجمعهم. الهدف الواضح، والحماس الشاب. توزعت أنشطتهم الدراسية بين من اهتم بتحقيق رغبة قديمة ومن سعى لخدمة قضية حياته ومن وجد المتعة فى المعرفة للمعرفة، جميعهم اخترقوا مجال الدراسات العليا الجامعية فى سن متقدمة تحقيقا لهدف يوقنون أنه قد حان موعد تنفيذه
متعة التعلم
تحتار سهام عبدالسلام بأى مجال دراسى تبدأ، كانت تخشى سرد كل مشوارها الدراسى الذى تراكم على مدار سنوات عمرها الواحدة والستين.. تشغلها الآن بروفات مسرحية جديدة موضحة أنها لم تبدأ فى مجال التمثيل إلا بعد الدراسة فى ورشة تدريبية اجتازتها قبل خمس سنوات.
بالنسبة إليها فالتعلم على مدار الحياة ليس مجرد متعة تعيشها فى كل تجربة، بل هو أيضا محاولة للتواصل مع المجتمع وخدمته بوسائل مختلفة، فى كل وسيلة اختارت مجالا دراسيا جديدا.. كان أولها الطب.
«لم يكن التفوق الدراسى هو الهاجس الأساسى أثناء نشأتى منذ الصغر، بل كان التعود على القراءة فى سن مبكرة، وحين أنهيت الدراسات العليا فى مجال طب الصناعات فى السبعينيات كان هذا ما يحركنى، إلى جانب دافع أهم هو خدمة المجتمع، لذا كانت الصدمة عنيفة حين تحولت إلى موظفة حكومية بشهادة الطب أؤدى مهام إدارية حسب قواعد التعيين».
مفارقات عديدة مرت بها خلال تلك الفترة، فبعد سنوات من المشاركة فى النشاط الثقافى والفنى الجامعى اقتصر بعضها على مشاركات خجولة، تقابل اليوم زملاء تلك المرحلة أثناء العروض المستقلة التى تشارك فيها فيندهشون من هذا التحول الجرىء. وبعد تجربة اضطرتها إلى ترك الطب فى المجال الحكومى احتراما لما تؤمن به عادت إلى الطب بعد سنوات بشكل جديد. «كان علىّ الرحيل عن الطب إلى حين.. بعيدا عن الإحباط».
فى تلك الأثناء اتجهت إلى أكاديمية الفنون فى منتصف الثمانينيات مستهدفة دبلومة النقد الفنى للطواف حول عشقها القديم للفن.
يحيط جدران شقتها الفسيحة كم هائل من الكتب، بعضها فى الفن والباقى فى جميع الفروع التى درستها ومجالات أخرى كثيرة. تقول: «عشق الكتاب والقراءة منذ الصغر أنمى بداخلى حب المعرفة بشكل عام، أتذكر فى عيد ميلادى السادس أنه قد أهدتنى والدتى مجموعة قصصية للأطفال لتنمية حب القراءة، أما الصحف فكانت ضيفا رئيسيا فى منزلنا، منذ ذلك الوقت كونت مكتبتى التى تحوى اليوم مئات الكتب».
تكمل بحماس كيف انتقلت إلى مجال آخر ينتصر لفكرة خدمة المجتمع من خلال تخصصها الأصلى كطبيبة، «فى التسعينيات شغلتنى قضية الختان، بالمصادفة قرأت إعلانا عن منحة لإحدى الجامعات الأمريكية، ولم يكن لدى استعدادا أن أترك مصر، والمفارقة أنه بعد مناقشة مع مسئولى المنحة أتاحوا لى الحصول على المنحة فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة فى سابقة لا تتكرر كثيرا، واخترت تخصص الأنثروبولوجيا الطبية حيث يختلط الطب ــ تخصصى الأصلى ــ بالعلوم الإنسانية، ونتيجة تميز بحث الماجستير أجريت دراسة أخرى بمنحة حول وعى المثقفين وعلاقته بقضية الختان».
لا تعتبر شهادة الماجستير التى نالتها فى الجامعة الأمريكية انتصارا للطب الذى أحبته أو انتقاما من تجربة بائسة مرت بها أثناء عملها كطبيبة فى القطاع الحكومى، كان ذلك مرتبطا بتنوع اهتماماتها وانخراطها فى منظمات حقوقية. أما حالة الرضا التى تعيشها اليوم فتضعها تحت عنوان «متعة التعلم».
وهو السبب الذى دفعها قبل سنوات قليلة إلى الحصول على دبلومة فى مجال الترجمة من قسم اللغة الإنجليزية فى جامعة القاهرة، كان الحصول على تلك الدبلومة بعد سنوات مارست فيها الترجمة بشكل محترف، تقول: «بعض المجالات تعتمد على المهارة والموهبة بشكل أساسى، وأنا خضت مجال الترجمة لسنوات طويلة، لكن لا أستطيع أن أنكر أن التعلم يضيف حرفية أعلى، ولن أنكر أيضا أن أحد أهم دوافعى هو أن أتتلمذ على يد الدكتور محمد عنانى الذى أعتبره مرجعا فى مجال الترجمة».
شهادات فى الطب والنقد الفنى والترجمة والتمثيل قد يعتبرها البعض كافية.. هى نفسها ذكرت فى بداية حديثها عبارة واضحة: «خلاص تبت». لكن تلك العبارة الضاحكة أتبعتها باستطراد يكشف عن أن المشوار لم ينته، إذ تقول: «ضمن أمنياتى تعلم اللغة الفرنسية والموسيقى». قد تكمل رحلة التعلم، وقد تنمى مهاراتها بشكل شخصى مثلما حدث حين تعلمت السباحة بعد الخمسين معاندة من يظن أنها أمور مقتصرة على الصغار.
تقول: «طوال تلك الخبرات مع التعلم فى مجالات مختلفة، كونت علاقات كانت بمثابة الكنز الذى ربحته».
أكبر باحث دكتوراه
فى نوفمبر من العام الماضى 2009 توجهت الكاميرات ووسائل الإعلام ناحية شيخ مسن فى الرابعة والتسعين من عمره وتابعت حركته البطيئة فى أثناء اعتلائه منصة إحدى قاعات كلية الحقوق بجامعة القاهرة لمناقشة رسالة دكتوراه تحت عنوان «الاحتساب على ذوى الجاه والسلطان».
كل العوامل كانت مثيرة للاهتمام، فإلى جانب أهمية الباحث ــ محمد فريد عبدالخالق ــ كأحد القيادات التاريخية لجماعة الإخوان المسلمين، وإلى جانب جاذبية الموضوع الذى يدرس موقف الإسلام من العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فقد كانت تجربة الحصول على درجة الدكتوراه بتقدير امتياز فى هذه السن أمرا جديرا بالمتابعة. أما البحث الذى تعطل لأكثر من ثلاثة عقود حين سجلها فى منتصف الستينات فقد توقف لأسباب عديدة على رأسها تكرار اعتقال الدكتور عبدالخالق والسفر إلى الخارج.
فى أثناء المناقشة لفت الدكتور محمد سليم العوا ــ أستاذ القانون وأحد المناقشين للرسالة ــ نظر الحضور إلى أن أكبر من حصل على الدكتوراه على مستوى العالم كان طالبا فى جامعة كمبردج فى سن 91، إلا أن البحث يكشف عن باحث آخر نالها من مدرسة لندن للدراسات اللاهوتية عن عمر يناهز 93 عاما، وهو ما يجعل محمد فريد عبدالخالق فى المرتبة الأعلى. تناقلت وسائل الإعلام أن هذه الخصوصية تدخله موسوعة جينيس للأرقام القياسية، بعد سنوات طويلة من التعطل.
يقول عادل عبدالباقى ــ سكرتير الدكتور محمد فريد عبدالخالق ــ إنه لم تكن هناك معوقات من جهة الجامعة فى أى وقت، مضيفا: «كان تكرار الاعتقال هو السبب الرئيسى، وظروفه السياسية الخاصة». ورغم إجماع الصحف على أن شيخ حاملى درجة الدكتوراه قد دخل موسوعة جينيس للأرقام السياسية إلا أن السكرتير الشخصى يوضح: «حتى الآن لم تتم إجراءات فعلية بهذا الخصوص».
رغم صعوبة التواصل مع الدكتور عبدالخالق نتيجة تقدم السن، إلا أن الحديث عن مشروع عمره أعاد إليه حماسه سريعا، لم يهتم بالأرقام القياسية بل ركز على موضوع بحثه، ملخصا إياه فى عبارة جامعة: «هذه القضية شغلتنى منذ سنوات طويلة، عن حق الرعية فى مراجعة الحاكم واحترام الإرادة السياسية لأفراد المجتمع، وفى الإسلام معالجة لهذه المسألة».
الرجل الذى قضى جل عمره ناشطا فى مجال الدعوة مشغولا بالشأن السياسى لم يخف طموحه فى إعادة طبع الرسالة لنشر نتائج بحثه، وعدم الاكتفاء بتوصية الجامعة طبع الرسالة على نفقتها وتبادلها مع جامعات العالم، سعيا وراء نشر جهده الذى تعطل لعقود.
العودة إلى الفلسفة
خلف مكتب مزدحم بالأوراق اختار اللواء منير شريف أن تكون جلسته المفضلة فى هذه المساحة من المنزل، حيث يعود بعد أداء الرياضة الصباحية إلى أوراقه وقراءاته التى زاد عليها مؤخرا أعباء الدراسة، يشير بيده إلى رزمة أوراق أمامه موضحا: «هذا آخر كتاب قمت بترجمته»، ثم يشير إلى دفاتر أخرى جواره قائلا: «أما هذه فهى كشاكيل المحاضرات الجامعية، مرتبة ومكتوبة بنظام ودقة». هذه الدفاتر شاهدة على التزامه وانضباطه فى حضور محاضرات السنة التمهيدية بقسم الفلسفة فى جامعة القاهرة، أما الآن فكل ما يحتاجه هو تجاوز هذه السنة لاستعادة حلمه القديم فى الحصول على دكتوراه فى الفلسفة.
«نشأت فى بيت يهتم بالشعر والموسيقى والقراءة، ومنذ مرحلة الدراسة الإعدادية وأنا حريص على قراءة المقالات الصحفية الرصينة، وبدأ ينمو بداخلى هذا السؤال الجدلى: لماذا تأخرنا وتقدم الغرب؟ ووجدت ضالتى فى دراسة الفلسفة، لكن كان علىّ أن أؤجل تلك الرغبة إلى حين».
لم تقبل الأسرة أن يلتحق ابنها بدراسة الفلسفة لأنها حسب تصورهم قد لا تؤمن مستقبله المهنى، وكان البديل هو الالتحاق بكلية الشرطة. اليوم يشعر الضابط المتقاعد بالرضا عن حياته الوظيفية التى أداها، وعلى جدار غرفة المكتب وسام ناله أثناء عمله فى الشرطة تجاوره شهادة أهم، هى ليسانس الآداب من قسم الفلسفة لعام 1970.
ويوضح: «بعد عملى فى الشرطة اخترت العودة إلى الجامعة والدراسة فى قسم الفلسفة، وكان يلح علىّ السؤال القديم نفسه: لماذا نتأخر ويتقدم الآخرون؟ وعرضت على الدكتور إبراهيم بيومى مدكور بعد تخرجى مباشرة موضوعا لرسالة الماجستير عن نقد العقل العربى، وبعد مناقشات توصلنا إلى اختيار موضوع آخر يمهد له».
منذ تلك الفترة قبل أربعة عقود صدرت العديد من الكتابات حول «نقد العقل العربى» بعضها يحتفظ به فى مكتبته التى عمل على فهرستها بشكل احترافى، لكن تفاصيل حياة ضابط الشرطة خاصة حين ينتقل إلى أجهزة ذات طابع خاص قد تعيق تفرغه للبحث والدراسة، يعترف أنها حياة أكسبته اهتماما بتفاصيل الواقع والمجتمع، لكن الحقيقة الأخرى أنها تسببت فى منعه من دراسة الماجستير لوقت طويل!
أمام مكتبه شهادة أخرى نالها من أكاديمية الفنون فى النقد الفنى تحقيقا لشغف آخر بالسينما وولع مستمر بفكرة النقد، يقول: «بعد أن تركت الشرطة فى الثمانينيات انتقلت لعمل إدارى منهك فى إحدى الشركات،
هذه الدبلومة حصلت عليها فى المسافة الطويلة بين ترك رسالة الماجستير فى السبعينيات والعودة اليوم إلى الجامعة».
لم يدفعه فى هذا الطريق فقط الشغف العلمى بل زوجة رافقته لأكثر من ثلاثين سنة، ما زالت صورتها حتى اليوم معلقة فى المنزل رغم رحيلها وارتباطه بزوجة جديدة متفهمة، ورغم ذلك يقول: «أبنائى ليسوا على الدرجة نفسها من الاهتمام، ربما تكون ابنتى هى الأقرب إلى هذا الطريق».
مع العام 2005 كانت استراحة من الأعباء الوظيفية بعد تجربة العمل فى الشرطة وسنوات من العمل الإدارى التقليدى، عاد بعدها بقوة إلى مكتبته، فحسب قوله «الجلوس فى هذا الركن مع القراءة أفضل من تضييع الوقت فى جلسات النميمة بين المسنين». لم يكتف بهذا النشاط المحدود بل بدأ الدخول إلى مجال الترجمة، وأصدر ثلاث ترجمات عن المركز القومى للترجمة لكتب علمية مهتمة بنشأة الكون وفلسفة العلم، وبدأ فى عقد لقاءات أقرب إلى الصالون الثقافى فى منزله ليلتقى بأدباء وإعلاميين وعلماء.
وحين عاد مؤخرا إلى الجامعة فى سن السبعين، رأى عالما آخر غير الذى تركه فى السبعينيات: «المشهد كان صادما بالنسبة لى بين بؤس الطلبة، وتشتت أغلبهم فى طرقات المبانى وممرات الجامعة، الحياة الأكاديمية بشكل عام أصبحت أكثر ترهلا، لم تكن تلك هى الصورة نفسها التى أردت الالتحاق بها فى الماضى».
بين زملائه الصغار يجلس الطالب السبعينى مرتديا الجينز وقبعته الرياضية منصتا إلى محاضرات الأساتذة، يستطيع بمهارة الاندماج وسطهم بل الاطمئنان عليهم، متابعا تفاصيل عالمهم المختلف.
أحد الأبحاث التى يعمل عليها ضمن بحوث السنة التمهيدية يطمح أن يكون نواة أطروحة الماجستير حول حق الرعية فى مقاومة الاستبداد. وبين ازدحام مكتبه بالصور والشهادات والكتب لم تكن هناك لوحات كثيرة تحمل حكمة أو مقولة، ربما لو كان هناك مكان لمثل تلك اللوحة المفترضة، ستكون لوحة تحمل الحديث الشريف الذى ردده فى جلسته: «إذا قامت القيامة وفى يد أحدكم فسيلة فليغرسها».
كلمة السر: النوبة
يكاد يكون ملما بجميع تفاصيل المكان داخل النادى النوبى العام بميدان التحرير فى القاهرة، بدأ حديثه بعرض سريع للأنشطة ودور الجمعيات النوبية الفرعية المنتشرة فى أحياء العاصمة، لم تنجح ملامحه المسنة فى إخفاء روحه الشابة، كانت كلمة السر التى توقظ حماسه هى «النوبة».. حيث تنتمى الجذور والأصول، وهى الكلمة نفسها التى دفعته إلى استكمال دراسته فى سن السبعين.
قبل أربع سنوات انضم مصطفى عبدالقادر إلى طلبة المعهد العالى للفنون الشعبية التابع لأكاديمية الفنون، حسب تأكيداته لم يجد أى عوائق أو حرج فى تواجده وسط طلبة الدراسات العليا آنذاك، يعلق على ذلك مبتسما: «كنا دفعة مكونة من 12 طالبا كلهم من سن أولادى، مازلنا نتبادل علاقات الود والصداقة حتى الآن، لكن كان اختلافى عنهم هو هدفى الواضح منذ البداية، ففى كل بحث نقدمه كنت اختار موضوعا عن النوبة.. كنت ألعب فى ملعب لا ينافسنى فيه أحد».
فارق السن لم يمنع «الأستاذ» مصطفى من تبادل الكتب والملخصات الدراسية مع بقية زملائه من الشباب، قد تكون هيبة الزميل الأكبر سنا عاملا مساعدا فى صنع تلك الحالة من التوازن أو ربما هى جديته الواضحة.
طوال السنوات الماضية منذ تأسيس المعهد العالى للفنون الشعبية عام 1981 اعتمد على تقديم خدمة تعليمية تقتصر على طلبة الدراسات العليا مدتها عامان، حتى تبدل الموقف مؤخرا فى العام 2008، حين بدأ فى استقبال طلبة المرحلة الجامعية الأولى.. تلك الطبيعة أوجدت طلبة فى أعمار كبيرة. يوضح الدكتور ــ سميح شعلان ــ عميد المعهد وأحد الأساتذة المشرفين على رسالة الماجستير للباحث مصطفى عبدالقادر: «كان المعهد يقتصر على حملة المؤهلات الجامعية، أنا نفسى تخرجت فى كلية الآثار وعملت فى هيئة قصور الثقافة لأكثر من 11 سنة انتقلت بعدها إلى الكادر الأكاديمى فى المعهد، لذلك كبر السن لم يكن أبدا أمرا مستغربا لدينا».
لم يخف الدكتور شعلان أن كبر السن أحيانا ما يكون ميزة فى طلابه، إذ لا يشغل الباحث وقتها سوى موضوعه، فلا يتسرع أو يندفع لإنجازه ولا يشغله الطموح الأكاديمى».
فى حالة الأستاذ مصطفى تحديدا كان هناك عامل آخر يوضحه الدكتور شعلان: «تمسكت به لجديته وقربه من الموضوع الذى يعمل به».
فى حديثه لا يشغل مصطفى عبدالقادر نفسه بانطباعات الآخرين، بل يرى فى رسالة الماجستير تتويجا لاهتمام دام عقودا طويلة، من خلال نشاطه الثقافى فى جمعية أدندان ــ اسم القرية النوبية التى ينتمى إليها ــ حيث كان يفد عليه الباحثون العرب والأجانب كأحد حافظى التراث النوبى وأحد الذين شهدوا بأعينهم تجربة تهجير القرى النوبية عام 1964 قبيل افتتاح السد العالى جنوب أسوان.
بذاكرة واعية يعدد أسماء الباحثين العاملين فى تخصصه، ويعلق: «كل الباحثين الأجانب الذين مروا علينا فى الجمعيات النوبية ألاحظ بعد قراءة أعمالهم فجوة ما، سببها صعوبة توصيل المعانى عبر الترجمة. فهل لأن الباحث دكتور علينا أن نسلم بجميع أعماله؟ لو أعطانى الله عمرا سأعمل على الدكتوراه».
يستطيع الآن مصطفى عبدالقادر أن يشعر بالرضا، فرسالته ستحوى جزءا توثيقيا لهذا التراث، كما أسهم فى السابق من خلال جمعية أدندان النوبية فى حفظ هذا التراث عبر نقله إلى الفرق الغنائية التى تجد متنفسا لها الأفراح النوبية.
بعد تخرجه فى كلية التجارة عام 1967 اندمج داخل الحياة الوظيفية بدءا من مبنى ماسبيرو فى إدارة شئون الأفراد ثم أسفار إلى السعودية والإمارات، لكنه استغل وجوده داخل ماسبيرو فى المشاركة فى فقرة «من وحى النوبة» أثناء حقبتى الستينيات والسبعينيات من خلال راديو «صوت العرب».
وألف أغان نوبية عدا تلك التى يحفظها عن ظهر قلب، وفى العام 1988 حاول الالتحاق بنفس المعهد لكنه لم يكمل دراسته، ولا يخفى مرارته إذ يقول: «فى النهاية أنت مضطر إلى السعى وراء رزقك، وتأجيل طموحك قليلا». أحد خريجى هذه الدفعة التى تركها مصطفى عبدالقادر هو أستاذ مشرف على رسالته الحالية التى ينتظر مناقشتها خلال أيام.
يصعب تجاهل حماسه وهو يتحدث عن استكمال مشروعه، فبعد عامين من الدراسة الميدانية فى قرى التهجير التى نشأ بها بحثا عن «اختلاف مظاهر الزواج بين قبيلتى الكنوز والفاديجا النوبيتين» يخطط من الآن لفكرة الدكتوراه التى يشرحها: « تحدثت مع أساتذتى عن مشروعى البحثى الجديد حول تأثير التهجير على عادات النوبيين». الموضوع هو جزء من حياته، فقد عاش طفلا فى النوبة، وانتقل بعدها إلى الصعيد، ذلك الجزء الذى لا يفارقه رغم إقامته فى القاهرة.
تعريف
يتشابك مصطلح التعلم مدى الحياة
تحتار سهام عبدالسلام بأى مجال دراسى تبدأ، كانت تخشى سرد كل مشوارها الدراسى الذى تراكم على مدار سنوات عمرها الواحدة والستين.. تشغلها الآن بروفات مسرحية جديدة موضحة أنها لم تبدأ فى مجال التمثيل إلا بعد الدراسة فى ورشة تدريبية اجتازتها قبل خمس سنوات.
بالنسبة إليها فالتعلم على مدار الحياة ليس مجرد متعة تعيشها فى كل تجربة، بل هو أيضا محاولة للتواصل مع المجتمع وخدمته بوسائل مختلفة، فى كل وسيلة اختارت مجالا دراسيا جديدا.. كان أولها الطب.
«لم يكن التفوق الدراسى هو الهاجس الأساسى أثناء نشأتى منذ الصغر، بل كان التعود على القراءة فى سن مبكرة، وحين أنهيت الدراسات العليا فى مجال طب الصناعات فى السبعينيات كان هذا ما يحركنى، إلى جانب دافع أهم هو خدمة المجتمع، لذا كانت الصدمة عنيفة حين تحولت إلى موظفة حكومية بشهادة الطب أؤدى مهام إدارية حسب قواعد التعيين».
مفارقات عديدة مرت بها خلال تلك الفترة، فبعد سنوات من المشاركة فى النشاط الثقافى والفنى الجامعى اقتصر بعضها على مشاركات خجولة، تقابل اليوم زملاء تلك المرحلة أثناء العروض المستقلة التى تشارك فيها فيندهشون من هذا التحول الجرىء. وبعد تجربة اضطرتها إلى ترك الطب فى المجال الحكومى احتراما لما تؤمن به عادت إلى الطب بعد سنوات بشكل جديد. «كان علىّ الرحيل عن الطب إلى حين.. بعيدا عن الإحباط».
فى تلك الأثناء اتجهت إلى أكاديمية الفنون فى منتصف الثمانينيات مستهدفة دبلومة النقد الفنى للطواف حول عشقها القديم للفن.
يحيط جدران شقتها الفسيحة كم هائل من الكتب، بعضها فى الفن والباقى فى جميع الفروع التى درستها ومجالات أخرى كثيرة. تقول: «عشق الكتاب والقراءة منذ الصغر أنمى بداخلى حب المعرفة بشكل عام، أتذكر فى عيد ميلادى السادس أنه قد أهدتنى والدتى مجموعة قصصية للأطفال لتنمية حب القراءة، أما الصحف فكانت ضيفا رئيسيا فى منزلنا، منذ ذلك الوقت كونت مكتبتى التى تحوى اليوم مئات الكتب».
تكمل بحماس كيف انتقلت إلى مجال آخر ينتصر لفكرة خدمة المجتمع من خلال تخصصها الأصلى كطبيبة، «فى التسعينيات شغلتنى قضية الختان، بالمصادفة قرأت إعلانا عن منحة لإحدى الجامعات الأمريكية، ولم يكن لدى استعدادا أن أترك مصر، والمفارقة أنه بعد مناقشة مع مسئولى المنحة أتاحوا لى الحصول على المنحة فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة فى سابقة لا تتكرر كثيرا، واخترت تخصص الأنثروبولوجيا الطبية حيث يختلط الطب ــ تخصصى الأصلى ــ بالعلوم الإنسانية، ونتيجة تميز بحث الماجستير أجريت دراسة أخرى بمنحة حول وعى المثقفين وعلاقته بقضية الختان».
لا تعتبر شهادة الماجستير التى نالتها فى الجامعة الأمريكية انتصارا للطب الذى أحبته أو انتقاما من تجربة بائسة مرت بها أثناء عملها كطبيبة فى القطاع الحكومى، كان ذلك مرتبطا بتنوع اهتماماتها وانخراطها فى منظمات حقوقية. أما حالة الرضا التى تعيشها اليوم فتضعها تحت عنوان «متعة التعلم».
وهو السبب الذى دفعها قبل سنوات قليلة إلى الحصول على دبلومة فى مجال الترجمة من قسم اللغة الإنجليزية فى جامعة القاهرة، كان الحصول على تلك الدبلومة بعد سنوات مارست فيها الترجمة بشكل محترف، تقول: «بعض المجالات تعتمد على المهارة والموهبة بشكل أساسى، وأنا خضت مجال الترجمة لسنوات طويلة، لكن لا أستطيع أن أنكر أن التعلم يضيف حرفية أعلى، ولن أنكر أيضا أن أحد أهم دوافعى هو أن أتتلمذ على يد الدكتور محمد عنانى الذى أعتبره مرجعا فى مجال الترجمة».
شهادات فى الطب والنقد الفنى والترجمة والتمثيل قد يعتبرها البعض كافية.. هى نفسها ذكرت فى بداية حديثها عبارة واضحة: «خلاص تبت». لكن تلك العبارة الضاحكة أتبعتها باستطراد يكشف عن أن المشوار لم ينته، إذ تقول: «ضمن أمنياتى تعلم اللغة الفرنسية والموسيقى». قد تكمل رحلة التعلم، وقد تنمى مهاراتها بشكل شخصى مثلما حدث حين تعلمت السباحة بعد الخمسين معاندة من يظن أنها أمور مقتصرة على الصغار.
تقول: «طوال تلك الخبرات مع التعلم فى مجالات مختلفة، كونت علاقات كانت بمثابة الكنز الذى ربحته».
أكبر باحث دكتوراه
فى نوفمبر من العام الماضى 2009 توجهت الكاميرات ووسائل الإعلام ناحية شيخ مسن فى الرابعة والتسعين من عمره وتابعت حركته البطيئة فى أثناء اعتلائه منصة إحدى قاعات كلية الحقوق بجامعة القاهرة لمناقشة رسالة دكتوراه تحت عنوان «الاحتساب على ذوى الجاه والسلطان».
كل العوامل كانت مثيرة للاهتمام، فإلى جانب أهمية الباحث ــ محمد فريد عبدالخالق ــ كأحد القيادات التاريخية لجماعة الإخوان المسلمين، وإلى جانب جاذبية الموضوع الذى يدرس موقف الإسلام من العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فقد كانت تجربة الحصول على درجة الدكتوراه بتقدير امتياز فى هذه السن أمرا جديرا بالمتابعة. أما البحث الذى تعطل لأكثر من ثلاثة عقود حين سجلها فى منتصف الستينات فقد توقف لأسباب عديدة على رأسها تكرار اعتقال الدكتور عبدالخالق والسفر إلى الخارج.
فى أثناء المناقشة لفت الدكتور محمد سليم العوا ــ أستاذ القانون وأحد المناقشين للرسالة ــ نظر الحضور إلى أن أكبر من حصل على الدكتوراه على مستوى العالم كان طالبا فى جامعة كمبردج فى سن 91، إلا أن البحث يكشف عن باحث آخر نالها من مدرسة لندن للدراسات اللاهوتية عن عمر يناهز 93 عاما، وهو ما يجعل محمد فريد عبدالخالق فى المرتبة الأعلى. تناقلت وسائل الإعلام أن هذه الخصوصية تدخله موسوعة جينيس للأرقام القياسية، بعد سنوات طويلة من التعطل.
يقول عادل عبدالباقى ــ سكرتير الدكتور محمد فريد عبدالخالق ــ إنه لم تكن هناك معوقات من جهة الجامعة فى أى وقت، مضيفا: «كان تكرار الاعتقال هو السبب الرئيسى، وظروفه السياسية الخاصة». ورغم إجماع الصحف على أن شيخ حاملى درجة الدكتوراه قد دخل موسوعة جينيس للأرقام السياسية إلا أن السكرتير الشخصى يوضح: «حتى الآن لم تتم إجراءات فعلية بهذا الخصوص».
رغم صعوبة التواصل مع الدكتور عبدالخالق نتيجة تقدم السن، إلا أن الحديث عن مشروع عمره أعاد إليه حماسه سريعا، لم يهتم بالأرقام القياسية بل ركز على موضوع بحثه، ملخصا إياه فى عبارة جامعة: «هذه القضية شغلتنى منذ سنوات طويلة، عن حق الرعية فى مراجعة الحاكم واحترام الإرادة السياسية لأفراد المجتمع، وفى الإسلام معالجة لهذه المسألة».
الرجل الذى قضى جل عمره ناشطا فى مجال الدعوة مشغولا بالشأن السياسى لم يخف طموحه فى إعادة طبع الرسالة لنشر نتائج بحثه، وعدم الاكتفاء بتوصية الجامعة طبع الرسالة على نفقتها وتبادلها مع جامعات العالم، سعيا وراء نشر جهده الذى تعطل لعقود.
العودة إلى الفلسفة
خلف مكتب مزدحم بالأوراق اختار اللواء منير شريف أن تكون جلسته المفضلة فى هذه المساحة من المنزل، حيث يعود بعد أداء الرياضة الصباحية إلى أوراقه وقراءاته التى زاد عليها مؤخرا أعباء الدراسة، يشير بيده إلى رزمة أوراق أمامه موضحا: «هذا آخر كتاب قمت بترجمته»، ثم يشير إلى دفاتر أخرى جواره قائلا: «أما هذه فهى كشاكيل المحاضرات الجامعية، مرتبة ومكتوبة بنظام ودقة». هذه الدفاتر شاهدة على التزامه وانضباطه فى حضور محاضرات السنة التمهيدية بقسم الفلسفة فى جامعة القاهرة، أما الآن فكل ما يحتاجه هو تجاوز هذه السنة لاستعادة حلمه القديم فى الحصول على دكتوراه فى الفلسفة.
«نشأت فى بيت يهتم بالشعر والموسيقى والقراءة، ومنذ مرحلة الدراسة الإعدادية وأنا حريص على قراءة المقالات الصحفية الرصينة، وبدأ ينمو بداخلى هذا السؤال الجدلى: لماذا تأخرنا وتقدم الغرب؟ ووجدت ضالتى فى دراسة الفلسفة، لكن كان علىّ أن أؤجل تلك الرغبة إلى حين».
لم تقبل الأسرة أن يلتحق ابنها بدراسة الفلسفة لأنها حسب تصورهم قد لا تؤمن مستقبله المهنى، وكان البديل هو الالتحاق بكلية الشرطة. اليوم يشعر الضابط المتقاعد بالرضا عن حياته الوظيفية التى أداها، وعلى جدار غرفة المكتب وسام ناله أثناء عمله فى الشرطة تجاوره شهادة أهم، هى ليسانس الآداب من قسم الفلسفة لعام 1970.
ويوضح: «بعد عملى فى الشرطة اخترت العودة إلى الجامعة والدراسة فى قسم الفلسفة، وكان يلح علىّ السؤال القديم نفسه: لماذا نتأخر ويتقدم الآخرون؟ وعرضت على الدكتور إبراهيم بيومى مدكور بعد تخرجى مباشرة موضوعا لرسالة الماجستير عن نقد العقل العربى، وبعد مناقشات توصلنا إلى اختيار موضوع آخر يمهد له».
منذ تلك الفترة قبل أربعة عقود صدرت العديد من الكتابات حول «نقد العقل العربى» بعضها يحتفظ به فى مكتبته التى عمل على فهرستها بشكل احترافى، لكن تفاصيل حياة ضابط الشرطة خاصة حين ينتقل إلى أجهزة ذات طابع خاص قد تعيق تفرغه للبحث والدراسة، يعترف أنها حياة أكسبته اهتماما بتفاصيل الواقع والمجتمع، لكن الحقيقة الأخرى أنها تسببت فى منعه من دراسة الماجستير لوقت طويل!
أمام مكتبه شهادة أخرى نالها من أكاديمية الفنون فى النقد الفنى تحقيقا لشغف آخر بالسينما وولع مستمر بفكرة النقد، يقول: «بعد أن تركت الشرطة فى الثمانينيات انتقلت لعمل إدارى منهك فى إحدى الشركات،
هذه الدبلومة حصلت عليها فى المسافة الطويلة بين ترك رسالة الماجستير فى السبعينيات والعودة اليوم إلى الجامعة».
لم يدفعه فى هذا الطريق فقط الشغف العلمى بل زوجة رافقته لأكثر من ثلاثين سنة، ما زالت صورتها حتى اليوم معلقة فى المنزل رغم رحيلها وارتباطه بزوجة جديدة متفهمة، ورغم ذلك يقول: «أبنائى ليسوا على الدرجة نفسها من الاهتمام، ربما تكون ابنتى هى الأقرب إلى هذا الطريق».
مع العام 2005 كانت استراحة من الأعباء الوظيفية بعد تجربة العمل فى الشرطة وسنوات من العمل الإدارى التقليدى، عاد بعدها بقوة إلى مكتبته، فحسب قوله «الجلوس فى هذا الركن مع القراءة أفضل من تضييع الوقت فى جلسات النميمة بين المسنين». لم يكتف بهذا النشاط المحدود بل بدأ الدخول إلى مجال الترجمة، وأصدر ثلاث ترجمات عن المركز القومى للترجمة لكتب علمية مهتمة بنشأة الكون وفلسفة العلم، وبدأ فى عقد لقاءات أقرب إلى الصالون الثقافى فى منزله ليلتقى بأدباء وإعلاميين وعلماء.
وحين عاد مؤخرا إلى الجامعة فى سن السبعين، رأى عالما آخر غير الذى تركه فى السبعينيات: «المشهد كان صادما بالنسبة لى بين بؤس الطلبة، وتشتت أغلبهم فى طرقات المبانى وممرات الجامعة، الحياة الأكاديمية بشكل عام أصبحت أكثر ترهلا، لم تكن تلك هى الصورة نفسها التى أردت الالتحاق بها فى الماضى».
بين زملائه الصغار يجلس الطالب السبعينى مرتديا الجينز وقبعته الرياضية منصتا إلى محاضرات الأساتذة، يستطيع بمهارة الاندماج وسطهم بل الاطمئنان عليهم، متابعا تفاصيل عالمهم المختلف.
أحد الأبحاث التى يعمل عليها ضمن بحوث السنة التمهيدية يطمح أن يكون نواة أطروحة الماجستير حول حق الرعية فى مقاومة الاستبداد. وبين ازدحام مكتبه بالصور والشهادات والكتب لم تكن هناك لوحات كثيرة تحمل حكمة أو مقولة، ربما لو كان هناك مكان لمثل تلك اللوحة المفترضة، ستكون لوحة تحمل الحديث الشريف الذى ردده فى جلسته: «إذا قامت القيامة وفى يد أحدكم فسيلة فليغرسها».
كلمة السر: النوبة
يكاد يكون ملما بجميع تفاصيل المكان داخل النادى النوبى العام بميدان التحرير فى القاهرة، بدأ حديثه بعرض سريع للأنشطة ودور الجمعيات النوبية الفرعية المنتشرة فى أحياء العاصمة، لم تنجح ملامحه المسنة فى إخفاء روحه الشابة، كانت كلمة السر التى توقظ حماسه هى «النوبة».. حيث تنتمى الجذور والأصول، وهى الكلمة نفسها التى دفعته إلى استكمال دراسته فى سن السبعين.
قبل أربع سنوات انضم مصطفى عبدالقادر إلى طلبة المعهد العالى للفنون الشعبية التابع لأكاديمية الفنون، حسب تأكيداته لم يجد أى عوائق أو حرج فى تواجده وسط طلبة الدراسات العليا آنذاك، يعلق على ذلك مبتسما: «كنا دفعة مكونة من 12 طالبا كلهم من سن أولادى، مازلنا نتبادل علاقات الود والصداقة حتى الآن، لكن كان اختلافى عنهم هو هدفى الواضح منذ البداية، ففى كل بحث نقدمه كنت اختار موضوعا عن النوبة.. كنت ألعب فى ملعب لا ينافسنى فيه أحد».
فارق السن لم يمنع «الأستاذ» مصطفى من تبادل الكتب والملخصات الدراسية مع بقية زملائه من الشباب، قد تكون هيبة الزميل الأكبر سنا عاملا مساعدا فى صنع تلك الحالة من التوازن أو ربما هى جديته الواضحة.
طوال السنوات الماضية منذ تأسيس المعهد العالى للفنون الشعبية عام 1981 اعتمد على تقديم خدمة تعليمية تقتصر على طلبة الدراسات العليا مدتها عامان، حتى تبدل الموقف مؤخرا فى العام 2008، حين بدأ فى استقبال طلبة المرحلة الجامعية الأولى.. تلك الطبيعة أوجدت طلبة فى أعمار كبيرة. يوضح الدكتور ــ سميح شعلان ــ عميد المعهد وأحد الأساتذة المشرفين على رسالة الماجستير للباحث مصطفى عبدالقادر: «كان المعهد يقتصر على حملة المؤهلات الجامعية، أنا نفسى تخرجت فى كلية الآثار وعملت فى هيئة قصور الثقافة لأكثر من 11 سنة انتقلت بعدها إلى الكادر الأكاديمى فى المعهد، لذلك كبر السن لم يكن أبدا أمرا مستغربا لدينا».
لم يخف الدكتور شعلان أن كبر السن أحيانا ما يكون ميزة فى طلابه، إذ لا يشغل الباحث وقتها سوى موضوعه، فلا يتسرع أو يندفع لإنجازه ولا يشغله الطموح الأكاديمى».
فى حالة الأستاذ مصطفى تحديدا كان هناك عامل آخر يوضحه الدكتور شعلان: «تمسكت به لجديته وقربه من الموضوع الذى يعمل به».
فى حديثه لا يشغل مصطفى عبدالقادر نفسه بانطباعات الآخرين، بل يرى فى رسالة الماجستير تتويجا لاهتمام دام عقودا طويلة، من خلال نشاطه الثقافى فى جمعية أدندان ــ اسم القرية النوبية التى ينتمى إليها ــ حيث كان يفد عليه الباحثون العرب والأجانب كأحد حافظى التراث النوبى وأحد الذين شهدوا بأعينهم تجربة تهجير القرى النوبية عام 1964 قبيل افتتاح السد العالى جنوب أسوان.
بذاكرة واعية يعدد أسماء الباحثين العاملين فى تخصصه، ويعلق: «كل الباحثين الأجانب الذين مروا علينا فى الجمعيات النوبية ألاحظ بعد قراءة أعمالهم فجوة ما، سببها صعوبة توصيل المعانى عبر الترجمة. فهل لأن الباحث دكتور علينا أن نسلم بجميع أعماله؟ لو أعطانى الله عمرا سأعمل على الدكتوراه».
يستطيع الآن مصطفى عبدالقادر أن يشعر بالرضا، فرسالته ستحوى جزءا توثيقيا لهذا التراث، كما أسهم فى السابق من خلال جمعية أدندان النوبية فى حفظ هذا التراث عبر نقله إلى الفرق الغنائية التى تجد متنفسا لها الأفراح النوبية.
بعد تخرجه فى كلية التجارة عام 1967 اندمج داخل الحياة الوظيفية بدءا من مبنى ماسبيرو فى إدارة شئون الأفراد ثم أسفار إلى السعودية والإمارات، لكنه استغل وجوده داخل ماسبيرو فى المشاركة فى فقرة «من وحى النوبة» أثناء حقبتى الستينيات والسبعينيات من خلال راديو «صوت العرب».
وألف أغان نوبية عدا تلك التى يحفظها عن ظهر قلب، وفى العام 1988 حاول الالتحاق بنفس المعهد لكنه لم يكمل دراسته، ولا يخفى مرارته إذ يقول: «فى النهاية أنت مضطر إلى السعى وراء رزقك، وتأجيل طموحك قليلا». أحد خريجى هذه الدفعة التى تركها مصطفى عبدالقادر هو أستاذ مشرف على رسالته الحالية التى ينتظر مناقشتها خلال أيام.
يصعب تجاهل حماسه وهو يتحدث عن استكمال مشروعه، فبعد عامين من الدراسة الميدانية فى قرى التهجير التى نشأ بها بحثا عن «اختلاف مظاهر الزواج بين قبيلتى الكنوز والفاديجا النوبيتين» يخطط من الآن لفكرة الدكتوراه التى يشرحها: « تحدثت مع أساتذتى عن مشروعى البحثى الجديد حول تأثير التهجير على عادات النوبيين». الموضوع هو جزء من حياته، فقد عاش طفلا فى النوبة، وانتقل بعدها إلى الصعيد، ذلك الجزء الذى لا يفارقه رغم إقامته فى القاهرة.
تعريف
يتشابك مصطلح التعلم مدى الحياة
Lifelong learning
مع مفاهيم أخرى متعلقة بتعليم الكبار فى مجال محو الأمية أو تنمية المهارات أثناء الحياة العملية، لكن يظل أهم ما يميز هذا المصطلح هو البعد عن التعليم النظامى التقليدى ليمتد على مدى عمر الفرد، وبدأت الكثير من الدول فى تنمية هذا الاتجاه، وفى اجتماع هيئة المجتمعات الأوروبية ببروكسل عام 2006 أعلنت الهيئة تعريفا للتعلم مدى الحياة على النحو التالى: «كل أشكال التعلم التى يمارسها البالغون بعد ترك مراحل التعليم الأولى وما يصاحبه من تدريب». وفى كتابه «تطوير المدرسين: تحدى التعلم مدى الحياة» دعا مؤلفه كريستوفر داى إلى أن ينمى المعلمون ذلك الحس لدى طلبتهم وإقناعهم بعدم الاكتفاء بدراساتهم التقليدية.
وفى ظل قواعد التنافسية التى تسيطر على سوق العمل بدأ هذا التيار يتسلل إلى داخل المؤسسات التعليمية المصرية فى مراكز التعليم المفتوح إلى جانب نشر مشروعات تنمية مهارات العاملين فى أماكن عملهم. ورغم أن المصطلح قد يبتعد عن صورة الطالب الكبير الذى يعود دارسا إلى الحياة الجامعية تحديدا لأسباب شخصية أو مهنية لكنه يطرح صورة أشمل، فالتعلم ليس مجرد شهادة بقدر ما هو تنمية للفرد.
وفى ظل قواعد التنافسية التى تسيطر على سوق العمل بدأ هذا التيار يتسلل إلى داخل المؤسسات التعليمية المصرية فى مراكز التعليم المفتوح إلى جانب نشر مشروعات تنمية مهارات العاملين فى أماكن عملهم. ورغم أن المصطلح قد يبتعد عن صورة الطالب الكبير الذى يعود دارسا إلى الحياة الجامعية تحديدا لأسباب شخصية أو مهنية لكنه يطرح صورة أشمل، فالتعلم ليس مجرد شهادة بقدر ما هو تنمية للفرد.
No comments:
Post a Comment