كتب – عبدالرحمن مصطفى
لم يبد صاحب محل بيع الموازين في شارع خان جعفر بحي الحسين اهتماما كبيرا بالحديث عن أصل التسمية، يحيط به عدد من الشوارع والآثار التي تحمل اسم "خان" و "وكالة"، اكتفى بعبارة مقتضبة: "خلاص مفيش حاجة متبقية غير الاسم بس، مفيش خان دلوقت هنا". لم يبتعد كثيرا عن الواقع عدا أنه ما زالت هناك أثار للخانات والوكالات متواجدة حوله في حي الجمالية والدرب الأحمر حتى اليوم. قبل مئات السنوات كانت أجواء العمل مختلفة تماما في هذا المكان، إذ كان الخان والوكالة هما عصب الحياة الاقتصادية في القاهرة. "الخان ليس فندقا تقليديا حسب المفهوم الحديث، بل مقر تجاري لاستلام الصفقات التجارية وتسويقها، في الأسفل أماكن للدواب وفناء مكشوف تتراص حوله المتاجر، وتباع السلع وسط هذا الصحن، أما في الأعلى فهناك المخازن ومساكن للتجار المغتربين". يوضح الدكتور حسين رمضان الأستاذ في كلية الآثار بجامعة القاهرة كيف كانت ملامح الصورة الأولى لفكرة الفندق التي اعتمدت بشكل أساسي على النشاط التجاري. سواء كان الاسم "خان"، أو "وكالة" أو "قيسارية". كما عرفت كلمة الفندق في العهد المملوكي حسبما ذكرها المؤرخ المقريزي في كتاب المواعظ والاعتبار (طبعة مكتبة مدبولي، 1997) الذي أرخ فيه للعديد من الخانات والوكالات والفنادق. كان أهمها خان الخليلي الذي تعود تسميته إلى الأمير المملوكي "جهاركس الخليلي". وحسبما تذكر الدكتورة نيللي حنا أستاذة التاريخ العثماني بالجامعة الأمريكية في كتاب "تجار القاهرة في العصر العثماني، مكتبة الأسرة، 2007" فإن إنشاء الوكالات والخانات هو أمر تصدى له العديد من كبار التجار كنوع من "الاستثمار في البنية الأساسية التي تدعم النشاط التجاري في المدينة"، وتعرضت في كتابها لنموذج إسماعيل أبو طاقية شاهبندر التجار في العصر العثماني، أما ما تبقى من سيرته فهو الشارع الذي يحمل اسمه حتى اليوم جوار سوق الصاغة.. "شارع خان أبو طاقية". إذ يقع على مسافة غير بعيدة من شارع خان جعفر السابق، أما في الداخل فيبدو شارع خان أبو طاقية أقرب إلى حارة ضيقة لا تعبر عن أجواء الماضي بسبب ازدحام المحلات اليوم بكثير من السلع المتعددة، بدء من الملابس انتهاء بالمشغولات الذهبية، يوضح الدكتور حسين رمضان هذا التغير قائلا : "لا يمكن مضاهاة الشوارع التي استضافت هذه الخانات بالواقع الآن، إذ كانت المواصلات تعتمد على الدواب، أما اليوم فكي نعرف العرض الأصلي لتلك الشوارع فعلينا البحث عن أثر مقابل يدلنا على عرض تلك الشوارع، وهو ما لا يتوافر في كل الحالات". منذ ذلك العصر حتى العصر الحديث تطورت فكرة الفندق، خاصة مع ظهور عصر محمد علي وسياسة الاحتكار وانشاء المصانع التي أثرت على فكرة ارتباط الورش بالوكالة والسوق بشكل مباشر، إلى جانب تغير وسائل المواصلات وشكل الحركة التجارية في مصر. تلك التغييرات اتخذت شكلا آخر رصده الكاتب الراحل نجيب محفوظ في كتاب (نجيب محفوظ صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته، مركز الأهرام للنشر، 1989) حين تحدث عن "خان جعفر" الذي عرف فيه السينما أثناء ارتياده سينما "الكلوب المصري" التي كانت ملحقة بفندق شهير آنذاك تأسس في بداية القرن الماضي، وهو ما يبرز اختلاف وظيفة الفنادق فيما بعد عن وظيفة الخان القديم الذي لم يعد يبحث أحد عن ذكراه. ورغم زوال بقايا تلك الحقب التاريخية إلا أن تسمية الخان ظلت ضيفة على مجال آخر هو الأدب، إذ ألف نجيب محفوظ نفسه رواية تحت اسم "خان الخليلي"، وحتى اليوم ما زال خان مسرور محفورا في حكايات ألف ليلة وليلة رغم هدمه قبل مئات السنين. وهو الذي وصفه المقريزي بفندق مسرور. ويرى الدكتور حسين رمضان أن سيرة الفنادق القديمة لم تزل تماما، ما زالت أسماء أصحابها تزين أسماء الشوارع والأحياء، وكذلك الحال مع الوكالات التجارية التي تحول بعضها إلى مراكز ثقافية مثل وكالة الغوري في حي الدرب الأحمر.
No comments:
Post a Comment