Wednesday, May 26, 2010

الغيط الأخير في القاهرة

بحزم وجدية تعمد سيد عثمان إظهار استعداده للموت فى سبيل تلك القطعة الزراعية المطلة على شارع فيصل الشهير بالقاهرة: «لن أتركها مهما حدث، جدى حكى لى بالتفصيل عن الحياة التى عاشها مرتبطا بهذه الأرض، ليس لدى استعداد الآن للابتعاد عنها».
تلك الأرض الزراعية يمر من أمامها الآلاف يوميا منشغلين بزحام الشارع دون الاهتمام بتلك المساحة الخضراء ذات الأسوار العالية إلى جوار شركة المطاحن على شارع فيصل، لكن موقعها المتميز دفع البعض إلى السؤال عن سبب بقائها حتى اليوم، خصوصا من يطمحون فى البناء على هذا الموقع المتميز الذى يقع على مسافة معقولة من ميدان الجيزة. بين السور المتهدم واللافتات العظيمة ممر ضيق يخترق المساحات الخضراء يستخدمه هواة اختصار الطرق، وفى نهاية تلك المشّاية عشة تجلس فيها الحاجة صباح عواض (63 سنة) حيث تبيع الخضراوات لزبائنها من أهالى الحى.أدوات عمل الشاى ــ وطهى الطعام أحيانا ــ جاهزة للعمل، ولا يقلقها سوى مصير تلك الأرض الزراعية. وتروى القصة كاملة: «كانت تلك الأرض ملكا لأحد الإنجليز فى فترة ما قبل الثورة، وكان والد زوجى يعمل بها حتى تحولت إلى تبعية الإصلاح الزراعى، وظللنا موجودين بها حتى أجرتها مدرسة الزراعة الثانوية بشارع الهرم، وظللنا كما نحن فى جوارها».يشير ابنها سيد إلى عمارة مجاورة حيث كان يسكن قائلا: «فى تلك الناحية ولد والدى قبل سبعين عاما، وكنا نضع أيدينا على مساحة تساوى أضعاف مساحة الأرض الزراعية المتبقية الآن». ما زالت الأم محتفظة فى ذاكرتها بأسماء عائلات الطالبية ــ حيث تقع الأرض حاليا ــ وقد تحولت أراضيهم اليوم إلى مساكن وعمارات تقليدية بعد نشوء حى فيصل كفرصة للاستثمار العقارى، تعلق على ذلك: «شارع فيصل نفسه كان ترع
ة تروى تلك المنطقة»، بينما يكمل ابنها سيد: «بعد ذلك أعد جدى طريقة أخرى للرى»، مشيرا إلى طلمبة المياه المجاورة لعشتهم.لا أحد منهما يعتقد أنه بالإمكان أن تذهب تلك الأرض بعيدا عن أيديهم، فالسائر على تلك المشاية يلاحظ عبارات كتبها سيد بالطلاء على السور المجاور للأرض حيث شركة المطاحن.. «احذر النصابين.. الأرض خاضعة لوضع اليد وتابعة للاصلاح الزراعى ومدرسة الزراعة».
وسط تلك الصورة المشوشة اختفت المعلومة التى أكدها مصدر فى هيئة الإصلاح الزراعى حين ذكر باقتضاب: «الأرض تابعة للإصلاح الزراعى وتم سحبها من مدرسة الزراعة التى كان يتدرب طلبتها فى تلك المساحة الخضراء، وتم تأجيرها مؤخرا لمدة 25 سنة قادمة لإحدى الشركات». أما الفقرة الأهم فهى عن أن تلك المساحة الخضراء لن تبقى كما هى، بل ستتحول إلى مشروع تجارى ملائم لما حولها من مساكن.هذه المعلومات يغفلها سيد وعائلته ويشكك فيها تماما وتصيبه بالذعر، فهم لم يتزحزحوا من مكانهم منذ عقود طويلة، كل ما هناك أن أشار سيد إلى مساحة فدان داخل تلك الأرض ذكر أنها تابعة له متراجعا عن تمسكه بها كلها، بينما جاور المساحات الأخرى طلاء آخر باسم جديد. «حتى لو عرضت علىّ أموال لترك الأرض لن أقبل».
ملكة.. كفر.. ملكة
خلف هذا الغيط الذى ينتج مزروعات بسيطة يقع «شارع العمدة» الذى لا يخفى الأصل القروى لتلك المنطقة المجاورة لكفر طهرمس. قرية الطالبية تحولت إلى محطة ومنطقة سكنية وكذلك كفر طهرمس. يدير سائق الميكروباص ظهره لشارعى فيصل والطالبية حيث الغيط الأخير، مناديا «ملكة.. كفر.. ملكة» متجها إلى شارع الملكة فى كفر طهرمس، هناك تعلو العمارات الحديثة لافتات من نوعية «شقة إيجار جديد»، ولم يبرر بهاء بعض تلك العمارات حالة الطريق السيئة.. حركة البناء لا يعطلها شىء، تتخللها بعض المساحات الخضراء الغامضة، الأسطى مصطفى «الميكانيكى» يشرف على إحداها. ذكر قصة مؤثرة عن وصية والده بأن يتمسك أبناؤه بهذه الأرض وألا يفرطوا فيها، وقال: «لسنا فى حاجة للمال، ونحن ورثة كثيرون»، وأشار إلى ساحة ركن السيارات المجاورة قائلا: «هذه الأرض كانت لخالى، لكنها بارت فحولها إلى ساحة سيارات»، ثم عاد إلى السيارة التى كان منكبا عليها مع صبيته. سخونة الأسعار فى متر الأرض هنا لا تصل بأى حال من الأحوال إلى سخونتها قرب شارع فيصل. هنا وصل متر الأرض فى بعض الأماكن إلى أكثر من 8 آلاف جنيه، بينما تصل إلى أربعة أضعافها فى شارع فيصل حسبما يردد السكان. أحد قدامى الساكنين فى كفر طهرمس شكك فى نية جاره الأسطى مصطفى الاحتفاظ بالأرض، وقال: «من المؤكد أنه سيبيعها، من سيزرع الآن وسط هذا العمران؟!».
بعض المساحات الأخرى كانت تابعة هى الأخرى لهيئة الإصلاح الزراعى التى حافظت عليها حتى الآن، أشار الرجل إلى بعض المبانى تحت الانشاء قائلا: «هذه العمارات أنشئت على أرض الإصلاح الزراعى، لكن فى يوم من الأيام أتى أحد الأشخاص مع الشرطة لتسلمها، وانتهى الأمر دون حسم». حسب قواعد وزارة الزراعة وهيئة الإصلاح الزراعى فبإمكان أحدهم أن يسترد أرضا كانت تملكها عائلته إن أثبت ذلك بحكم من المحكمة، أو أن ينال تعويضا ماليا عنها.. أما على أرض الواقع فلم يعد أحد هنا يتحدث عن الزراعة، لم تعد مطلبا لأحد، الكفر انتهى، وبيت العمدة أصبح ذكرى، وتحول كل شىء إلى جزء من العاصمة.كلما توغل السائر فى اتجاه شارع فيصل موليا ظهره لكفر طهرمس ومن خلفها صفط اللبن انعدمت المساحات الخضراء، عدا ذلك الغيط الأخير فى شارع فيصل حيث يجلس سيد عثمان فى ورشته متحفزا بعد أن زارت الشرطة الموقع قبل أسابيع قليلة فقط. وتحول الوضع إلى مزيد من التحفز بينه وبين حارس آخر يتبع الآن المستأجر الجديد.
الخواجة الإنجليزى الذى كان مالكا للأرض فى يوم من الأيام لم يتبق من زمنه سوى أهل سيد عثمان الباقين جوار الغيط الأخير فى شارع فيصل.. رغبات سيد الذى يطمح فى أن يكون له نصيب من تلك الأرض التى ارتبط بها أبيه رغم أنها تحت سلطة الإصلاح الزراعى فى الغالب لن تتحقق، حتى إن ظل متمسكا بذكرى جده وسلطته القديمة.
تأتى إحدى ساكنات الشارع المجاور لشراء البرسيم لإطعام الحيوانات التى تربيها فوق سطح منزلها، تشير إلى أحد أركان «الغيط» قائلة: «بشترى من الحاج محمد عشان أقرب». رغم حديثها الجاد عن مشوارها شبه اليومى إلى هناك وتلك العلاقة الحميمة مع الغيط المجاور، إلا أن شباب الحى لم يبدوا مثل هذه الروح، كان الغيط بالنسبة إليهم مجرد علامة مميزة.. فقط.الحاج محمد نفسه قابل السؤال عن سر بقاء تلك المساحة الخضراء بابتسامة لعلمه أنه لا ينافسه أحد هنا سوى جيرانه فى الفدادين المجاورة التى تتبع ملكيات أخرى. يجلس باسترخاء جوار حجرة مبنية من الطوب النىء بها ما يلزمه من أدوات عمل الشاى، «رصة» كبيرة من الخضار، يقول بفخر: «هذه المساحة الخضراء هى الغيط الأخير فى القاهرة الكبرى، وأنا آخر جيل المزارعين فى الزاوية الحمرا، تسلمت المهمة من والدى ولا أظن أن أولادى وأحدهما خريج التجارة والآخر خريج الحقوق سيأتى هنا لمتابعة الأرض وزراعتها».الجميع هنا يعلمون جيدا أنهم مختلفون، فهم فوق تلك المساحة الخضراء بإمكانهم أن ينفصلوا تماما عما حولهم من تكدس المبانى وصخب عربات التوك توك، ليسوا فى حاجة إلى سور يحمى أراضيهم، لأنهم يعلمون أنها ستظل هكذا كما هى إلى أجل غير مسمى. قبل سنوات لم يكن الحاج محمد مختلفا عن أى قاهرى آخر يرتدى القميص والبنطلون حين كان عاملا فى شركة «بسكو مصر» لأكثر من ثلاثين عاما، أما اليوم بعد أن جاوز الخامسة والخمسين من عمره فقد يظن المار أنه مزارع تقليدى بجلبابه البسيط وجلسته الواثقة. تلك المساحة الخضراء الواقعة على أطراف حى الزاوية الحمراء خلف محطة كهرباء شمال القاهرة لها ظروف خاصة، حيث إنها تقع مجاورة لمصنع حربى فرض قواعد خاصة على المكان وهو ما يوضحه عبدالعزيز طلبة رئيس حى الزاوية الحمراء قائلا: «هذه المساحة الخضراء تخضع لقواعد خاصة أقرتها وزارتا الزراعة والدفاع، بحيث يحد المصنع حسب قواعد السلامة مساحات غير مسكونة، وهو ما أبقى هذا الغيط كما هو دون تغيير» ويستطرد نافيا: «الموضوع بعيد تماما عن الحى وإداراته المختلفة.. نظرا لخصوصية المكان».
على الإنترنت يشير موقع «الزاوية الحمراء» إلى تلك المساحة الزراعية المتبقية بشكل لافت موضحا موقعها كأحد معالم الحى وجذوره كمنطقة زراعية كان أغلبها يقع تحت أملاك السيدة زينب هانم خاتون التى حولت الكثير من أملاكها إلى أوقاف، ووزعت كثيرا من أراضى المنطقة بعد الثورة على فلاحيها ضمن الإصلاح الزراعى.الأرض التى يشرف عليها الحاج محمد اليوم هى مربع صغير تجاوره قطع أخرى اختلفت ملكيتها بين ملكية خاصة، وأراضى الإصلاح الزراعى، وأراضٍ تابعة للمدرسة العبيدية التى أسستها أسرة يونانية الأصل اتخذت اسم «عبيد» وأوقفت الكثير من أملاكها وأراضيها على هذه المدرسة.على بعد عشرات الأمتار فى الطرف الآخر من «الغيط» عامل زراعى أكثر تحفظا، ليس مالكا ولكنه مزارع تنتمى جذوره هو الآخر إلى منطقة الزاوية القديمة. يأتيه البعض لشراء خضراوات زهيدة الثمن، يقول: «كان الحى قديما مقسما إلى ملكيات خاصة وأراضى أوقاف وكنا جميعا نعمل بالزراعة، لم تكن المنطقة قرية تحولت إلى جزء من العاصمة، بل أراض يزرعها مزارعو المنطقة». اكتفى المزارع المتحفظ بما قاله دون زيادة، ينتمى هو الآخر إلى منطقة «القصيرين» بالزاوية الحمراء تماما مثل الحاج محمد الذى يضيف: «الوضع كان مختلفا، كنا نعمل فى مزارع تكشف لنا المنطقة حتى حى الظاهر، وكان الإنجليز وقت الاحتلال يشترون مددهم من هذه المنطقة، وبعد حصولنا على الأراضى بعد الثورة ظللنا مزارعين، عائلتى كلها نشأت فى بيت ريفى بالزاوية يعمل أفراده فى الزراعة حتى تطور الحال، وكان انتقال أهالى عشش الترجمان فى نهاية السبعينيات إلى مساكن الزاوية إعلانا لنهاية طابعها الريفى إلى الأبد، حين كان الجميع قد باع أراضيه وتحولت المنطقة إلى حى شعبى».قد يقع الحاج محمد فى حيرة هو وجيرانه إذا ما تم تقرر لأى سبب السماح بالبناء فى تلك المساحة الخضراء حيث تفتت الملكية بين الورثة، ورغم استبعادهم حدوث هذا إلا أنهم يقدرون قيمة أراضيهم جيدا.يقول الحاج محمد: «هامش الربح من الأرض مرضى، لكنه ليس كبيرا»، يتحمل أيضا مسئولية المجىء بجرار زراعى من بهتيم فى موسم الحرث، وبعد اختفاء الترع التى تحولت إلى شوارع بنفس الاسم أصبح الاعتماد على مصدر مباشر من الماسورة العمومية.
قد يبدو مشهد الحاج محمد والذين معه كمشهد من عصر بائد ينعش ذاكرة القاهرة «الزراعية» التى اختفت اليوم، لكنهم لا يخفون فخرهم بقولهم «إحنا آخر جيل من مزارعى الزاوية!» .
فى كتاب «القاهرة» شبّه العالم المصرى الراحل الدكتور جمال حمدان مدينة القاهرة بقوارض الأرض الزراعية، مؤكدا أن المدينة تأكل أرضها. ويقترح محورا آخر فى عمليات التمدد والعمران باتجاه أحياء العباسية ومدينة نصر ومصر الجديدة حيث الأصل الصحراوى، بدلا من البناء على أراض زراعية وتحويل القرى الريفية إلى أحياء مدنية.تلك الدعوة التى تراعى أهمية المساحات الخضراء لم تكن الوحيدة من نوعها بهذا الشأن، بل صاحبتها دعوة رومانسية أخرى لأستاذ الجيولوجيا ــ الدكتور رشدى سعيد ــ الذى ردد كثيرا ضرورة تحويل وادى النيل إلى محمية زراعية مع نقل الحياة الصناعية ناحية المساحات الصحراوية المجاورة مقدما مشروعا محكما فى هذا الشأن.
مثل هذه الاقتراحات وغيرها من التوصيات التى تحذر من خطورة انحسار المساحات الخضراء فى مصر لم توقف الزحف العمرانى، إذ كشفت دراسة أجراها علماء الهيئة القومية للاستشعار عن بعد وعلوم الفضاء فى العام الماضى عن احتمال اختفاء المساحة الكلية للأراضى الزراعية المصرية بعد حوالى 60 عاما، وذلك إذا استمر التوسع العمرانى العشوائى بمعدلاته الحالية المرتفعة. حسب قواعد وزارة الزراعة فإنه من المحظور البناء خارج «الأحوزة العمرانية» المعتمدة للقرى والمدن.

No comments:

Post a Comment