عبدالرحمن مصطفى
تصوير- هبة خليفة
قد لا يفصح المكان عن الكثير.. مجرد لافتة مدون عليها «ساحة أهل البيت» وفوقها اسم الحاجة زكية عبدالمطلب بدوى، من الصعب فهم أبعاد الموقع أو تفاصيله إلا بعد معرفة سيرة صاحبة الساحة وقصتها، هنا فى درب الطبلاوى بحى الجمالية. لايزال يتذكر البعض أنها كانت تطعم يوميا الفقراء وعابرى السبيل وتستضيف المريدين وأحباب أهل البيت، أما اليوم فتعمل ابنتها الحاجة نفيسة المهدى والحفيد أحمد محمود على إكمال ما بدأته صاحبة الساحة.
«كانت هناك إشارات مبكرة على شفافيتها وهو ما زادها تعلقا بأضرحة آل البيت، وأصبحت تأتى بصورة شبه يومية من بلدتها فى الدقهلية إلى القاهرة، حتى جاءتها رؤية صالحة دعتها فيها السيدة زينب للزيارة والإقامة إلى جوارها، فاعتزلت الدنيا وأقامت ساحة للذكر وإطعام الطعام».
تلخص الحاجة نفيسة قصة والدتها بهذه الكلمات التى تكاد تحاكى السير الشعبية لصوفيات وعارفات بالله توارين فى ظلال التاريخ ولم يبرز منهن سوى القليل من أمثال رابعة العدوية وعقيلات آل البيت. لاتزال الابنة تتذكر الشخصيات التى وفدت إلى هذا المكان من المشاهير الذين تحولت حياة بعضهم بكلمات طمأنة وعظات بسيطة، أما نشاطها الرئيسى إلى جانب العمل الخيرى فكان الذكر وتهيئة المكان لأصحاب الحضرة.
«امرأة تركت أهلها فى الريف فى بدايات القرن الماضى وأقامت هنا وتحملت مسئولية خدمة الناس على مدار 24 ساعة وأصبحت عليها مسئولية اجتماعية فى الإنصات إليهم فى كل وقت، رغم غلظة البعض. كل تلك الأمور أجدها اليوم منهكة لى ولوالدتى حين حاولنا استكمال مسيرة الشيخة زكية»، بهذه الكلمات يصف الحفيد أحمد حياة جدته الشيخة زكية التى توفيت فى العام 1983، بعض تفاصيل القصة تحمل الملامح التقليدية للمرأة الزاهدة المتصوفة التى ذاع صيتها بين الناس لكرمها وكراماتها، هذه الصورة بدأت فى الانحسار مع قلة استخدام تعبيرات من نوعية «العارفين بالله» وغيرها من الألفاظ، بعض العلماء ذوى الميول الصوفية جذبتهم قصة الشيخة زكية بعد أن عرفوها كزاهدة معتزلة للدنيا، من هؤلاء الشيخان الراحلان محمد متولى الشعراوى ومحمد صادق العدوى خطيب الجامع الأزهر، لكنها لم تكن عالمة مثلهما فى مجال الدين، ولم تحمل فلسفة أو إنتاجا أدبيا مثل الصوفيات الشهيرات، يعلق عليها حفيدها على هذه النقطة بقوله: «لم يكن يأتيها الناس طلبا للعلم، بل بحثا عن الخير والطمأنة التى تبثها الطاقة الروحية التى تملكها، ثم إن شيخنا أبا الحسن الشاذلى نفسه الذى تنتسب إليه طريقتنا الصوفية لم يترك كتبا، بقدر ما ترك مريدين».
نموذج الزاهدة الذى كانت تمثله الشيخة زكية قد يعيق ظهوره اليوم العديد من الأسباب على رأسها غياب هذا النموذج، فقد تلقت الشيخة زكية دعما من أسرتها التى لم تقف ضدها بل كان زهدها وعملها مع العامة والخاصة بدعم من زوجها وابن خالها الشيخ محمد المهدى، فهما ينتسبان إلى طريقة صوفية واحدة وإلى آل البيت. لم يكن الزوج مخيرا فى ذلك بل كان يتعامل مع ما تراه زوجته من رؤى ورغبات زاهدة على أنها يقين وحقيقة، حيث اعتزل هو الآخر حياة المدينة وعمل على الدعوة قرب قريته بأمر من شيخه.
تقول ابنتها نفيسة المهدى: «كان يمكن ألا نراها لمدة عام ونصف، لكننا كنا متفهمين ذلك لأننا أبناء طريقة وعلمنا أنها من أهل الكرامات».
تصوير- هبة خليفة
قد لا يفصح المكان عن الكثير.. مجرد لافتة مدون عليها «ساحة أهل البيت» وفوقها اسم الحاجة زكية عبدالمطلب بدوى، من الصعب فهم أبعاد الموقع أو تفاصيله إلا بعد معرفة سيرة صاحبة الساحة وقصتها، هنا فى درب الطبلاوى بحى الجمالية. لايزال يتذكر البعض أنها كانت تطعم يوميا الفقراء وعابرى السبيل وتستضيف المريدين وأحباب أهل البيت، أما اليوم فتعمل ابنتها الحاجة نفيسة المهدى والحفيد أحمد محمود على إكمال ما بدأته صاحبة الساحة.
«كانت هناك إشارات مبكرة على شفافيتها وهو ما زادها تعلقا بأضرحة آل البيت، وأصبحت تأتى بصورة شبه يومية من بلدتها فى الدقهلية إلى القاهرة، حتى جاءتها رؤية صالحة دعتها فيها السيدة زينب للزيارة والإقامة إلى جوارها، فاعتزلت الدنيا وأقامت ساحة للذكر وإطعام الطعام».
تلخص الحاجة نفيسة قصة والدتها بهذه الكلمات التى تكاد تحاكى السير الشعبية لصوفيات وعارفات بالله توارين فى ظلال التاريخ ولم يبرز منهن سوى القليل من أمثال رابعة العدوية وعقيلات آل البيت. لاتزال الابنة تتذكر الشخصيات التى وفدت إلى هذا المكان من المشاهير الذين تحولت حياة بعضهم بكلمات طمأنة وعظات بسيطة، أما نشاطها الرئيسى إلى جانب العمل الخيرى فكان الذكر وتهيئة المكان لأصحاب الحضرة.
«امرأة تركت أهلها فى الريف فى بدايات القرن الماضى وأقامت هنا وتحملت مسئولية خدمة الناس على مدار 24 ساعة وأصبحت عليها مسئولية اجتماعية فى الإنصات إليهم فى كل وقت، رغم غلظة البعض. كل تلك الأمور أجدها اليوم منهكة لى ولوالدتى حين حاولنا استكمال مسيرة الشيخة زكية»، بهذه الكلمات يصف الحفيد أحمد حياة جدته الشيخة زكية التى توفيت فى العام 1983، بعض تفاصيل القصة تحمل الملامح التقليدية للمرأة الزاهدة المتصوفة التى ذاع صيتها بين الناس لكرمها وكراماتها، هذه الصورة بدأت فى الانحسار مع قلة استخدام تعبيرات من نوعية «العارفين بالله» وغيرها من الألفاظ، بعض العلماء ذوى الميول الصوفية جذبتهم قصة الشيخة زكية بعد أن عرفوها كزاهدة معتزلة للدنيا، من هؤلاء الشيخان الراحلان محمد متولى الشعراوى ومحمد صادق العدوى خطيب الجامع الأزهر، لكنها لم تكن عالمة مثلهما فى مجال الدين، ولم تحمل فلسفة أو إنتاجا أدبيا مثل الصوفيات الشهيرات، يعلق عليها حفيدها على هذه النقطة بقوله: «لم يكن يأتيها الناس طلبا للعلم، بل بحثا عن الخير والطمأنة التى تبثها الطاقة الروحية التى تملكها، ثم إن شيخنا أبا الحسن الشاذلى نفسه الذى تنتسب إليه طريقتنا الصوفية لم يترك كتبا، بقدر ما ترك مريدين».
نموذج الزاهدة الذى كانت تمثله الشيخة زكية قد يعيق ظهوره اليوم العديد من الأسباب على رأسها غياب هذا النموذج، فقد تلقت الشيخة زكية دعما من أسرتها التى لم تقف ضدها بل كان زهدها وعملها مع العامة والخاصة بدعم من زوجها وابن خالها الشيخ محمد المهدى، فهما ينتسبان إلى طريقة صوفية واحدة وإلى آل البيت. لم يكن الزوج مخيرا فى ذلك بل كان يتعامل مع ما تراه زوجته من رؤى ورغبات زاهدة على أنها يقين وحقيقة، حيث اعتزل هو الآخر حياة المدينة وعمل على الدعوة قرب قريته بأمر من شيخه.
تقول ابنتها نفيسة المهدى: «كان يمكن ألا نراها لمدة عام ونصف، لكننا كنا متفهمين ذلك لأننا أبناء طريقة وعلمنا أنها من أهل الكرامات».
راحتى يا إخوتى فى خلوتى
(رابعة العدوية)
(رابعة العدوية)
البحث فى التاريخ الإسلامى عن نموذج للمرأة الصوفية يكشف عن أن بعضهن كن صاحبات علم ورؤية ولسن مجرد زاهدات أو صاحبات كرامات لكنهن رغم ذلك توارين فى كتب التاريخ. ترى الدكتور أميمة أبو بكر ــ أستاذة الأدب الإنجليزى بجامعة القاهرة وإحدى المهتمات بإعادة قراءة تاريخ المرأة فى الإسلام ــ أننا نكاد لا نعرف من تاريخ الزاهدات والعابدات فى العصور الإسلامية سوى رابعة العدوية، فى حين أن الكثيرات منهن أذكين الجانب الروحى فى الحياة الدينية أثناء العصور الإسلامية، بل أثرن فى الفكر الصوفى بأفكارهن عن العلاقة بالله ورغم ذلك فقد همشتهن كتب التاريخ، حتى الكتب الحديثة التى تؤرخ لتاريخ المرأة فى الإسلام.
وفى ورقة بحثية لها تحت عنوان «قراءة فى تاريخ عابدات الإسلام» ترصد الدكتورة أميمة أبوبكر أسماء العديد من الزاهدات العابدات فى المجتمع الإسلامى وتذكر أن: «العابدات والزاهدات الأوائل استطعن أن يوجدن مساحة كبيرة من حرية الحركة والسفر والزيارة والتحرر من القيود التقليدية على حركة النساء، بل والتحرر السياسى والاقتصادى حين كن ينفقن على أنفسهن من العمل».
قديما حسبما تذكر الدكتورة أميمة أبوبكر كانت الأدوار الأسرية للمرأة الزاهدة لا تشكل قيمتهن الوحيدة فى الحياة، فالمرأة الناسكة ليست مجرد امرأة تابعة للرجل، بل كانت المتزوجات منهن ينظرن إلى رباط الزوجية على أنه مسئولية روحية وشركة فى العبادة.
ما من شك فى أن قصة مثل قصة الشيخة زكية تكاد تكون بارزة بشكل لافت لأنها تمزج بين الصورة الشعبية للعارفة بالله وجرأة المرأة الزاهدة فى الإسلام وإقدامها، فقد اختارت أن تنفق ميراثها على الخير، وبنت مسجدا لها وساحة فى قلب الصحراء الشرقية قبل وفاتها لخدمة العرب هناك بجوار مقام القطب الصوفى أبى الحسن الشاذلى، وهو ما خفف من وحشة المكان هناك الذى يرتاده آلاف المتصوفة من جميع الأقطار.
اليوم مع انتشار التعليم والعمل فى أوساط النساء ودخول تيارات دينية متعددة على الخط أعادت النظر فى التصوف بل اتخذت منه أحيانا موقفا عدائيا.. زادت الضغوط على المرأة الصوفية وأصبح من الصعب أن تظهر نماذج لامعة فى هذا المجال، خصوصا أن بعض اللوائح التنظيمية الحديثة تعيق تقدمها عن طريق تجمع مثل المجلس الأعلى للطرق الصوفية الذى لا يقبل عضوية النساء داخله.. السيدة ماجدة عيد ــ زوجة السيد محمد الشهاوى شيخ الطريقة الشهاوية ــ تقول إن اختلاف إيقاع الحياة هو الذى غيّب السيدات الصوفيات عن الساحة، وهو ما جعلنا لانزال متعلقين بسير الزاهدات الأوائل أو من حاولن السير على طريقهن. ربما لا تشعر السيدة ماجدة بمرارة بسبب مسألة العضوية تحديدا وتعتبر أن اقتصار عضوية المجلس الأعلى للطرق الصوفية على الرجال لا يحد من وجود المرأة الصوفية فى الحياة العامة، وهى تبرر ذلك بأن من يمتهن الصحافة ليس بالضرورة حاملا لعضوية نقابة الصحفيين. وترى المشاكل فى جوانب أخرى، تذكرها: «المرأة الصوفية اليوم كأى سيدة مصرية هى طالبة فى الجامعة أو تعمل فى مجالات متعددة وعليها إلى جانب ذلك أن تكون مصغية للجميع ومضيافة فى بيتها للمريدين خصوصا إن كانت زوجة شيخ الطريقة الذى عليه ألا يرد أحدا دون إجابة طلباته، فهى معه فى كل أنشطته تقريبا».
السيدة ماجدة عيد بادرت بفكرة تأسيس جمعية للمرأة الصوفية كى تضم بعض زوجات المشايخ والراغبات فى الالتحاق بها، وتلقت هذه الجمعية التى لاتزال تحت التأسيس نقدا عنيفا من بعض مشايخ الصوفية الرافضين للفكرة بدعوى أنها لا تتفق مع المنهج الصوفى التقليدى، لكنها هى وزميلاتها المتعاونات معها لا يخفين أن الإحساس بالخطر كان أحد أسباب ظهور فكرة الجمعية، مضيفة: «لا أنكر أن تقاعس الصوفيين عن الدعوة الإسلامية مقارنة بتيارات أخرى أكثر تشددا أو مسيسة قد دفع بالفتيات إلى هذه التيارات وكان بعضهن للأسف من الصوفيات. فلدى جماعة مثل الإخوان المسلمين نشاط قوى داخل الجامعة والشارع، وكذلك الدعوة الوهابية المتشددة لها منابرها التى تنفق عليها ببذخ، والمشكلة أن الطرق الصوفية تعمل بمجهودات أبنائها، وأصبحت حركتها أضيق على عكس فى الماضى حين كانت سببا فى نشر الإسلام بين البلدان المختلفة».
هذه الأعباء من ضمنها الحرب المعلنة من بعض المحسوبين على التيارات السلفية ضد الصوفية، وبعضهم يحمل إدانة للمرأة الصوفية نفسها، وهو ما لا تنكره السيدة ماجدة فى حديثها عن الصورة العالقة فى أذهان شريحة من المصريين والناتجة عن تصرفات بعض العامة من النساء اللاتى يندسون وسط الموالد ويظن هؤلاء أنهن متصوفات. وهنا أوجد غياب الصورة التى تمثل المرأة الصوفية فى المجتمع صورة أخرى أكثر ضبابية، وأصبح المجتمع متحيرا بين صورة تراثية لنساء مثل رابعة العدوية وصورة أخرى سلبية لبسطاء الموالد، وبين هذا وذاك مريدات تحكمهن قيود وقواعد داخل الطرق الصوفية، لذا كان لابد من نماذج جديدة تمثل شكلا جديدا مثل نموذج الدكتورة عبلة الكحلاوى ــ أستاذة الفقه بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الأزهر ــ التى تستخدم فى أحاديثها تعبيرات صوفية وعلى موقعها تصف نفسها بعبارات زاهدة مثل «العبد الفقير التى ترجو المغفرة والرحمة وحسن الخاتمة»، لكنها لا تقدم نفسها على أنها صوفية تقليدية، المفارقة أن الدكتورة عبلة الكحلاوى كانت إحدى من شهدن ساحة الشيخة الزكية فى صغرها بحكم نشأتها فى بيت الفنان محمد الكحلاوى الذى ختم حياته متعلقا بسير العارفين بالله وأقطاب الصوفية.. لكنها رغم هذه التفاصيل لايزال ظهورها الأهم فى المجتمع وعلى المستوى الإعلامى بشكل فردى وغير محسوب على تيار أو طريقة صوفية، بل كأكاديمية ووجه إعلامى مقبول.
الدكتور عمار على حسن ــ الباحث المهتم بالحركات الصوفية ــ يرى أن بزوغ نماذج لامعة من الصوفيات قديما كان سببه الرئيسى هو أن التصوف كان فرديا أو «جوانى»، ولا يخضع لطريقة أو هيكل تنظيمى ذكورى، وأن عودة نساء يحملن الحس الصوفى فى المجتمع مرة أخرى لن يقوم إلا عن نفس الطريق، ويقول: «أحيانا ما تبرز نماذج لشيخات صوفيات فى المناسبات الدينية والموالد، لكنهن لسن على مستوى القيادة ولا يمثلن عدد عضوات الطرق الصوفية والمريدات فيها، وحسب القانون 118 لسنة 1976 الذى ينظم عمل الطرق الصوفية فى مصر تنتقل مشيخة الطريقة بعد وفاة شيخها فى أقرب أقربائه الذكور، وهو ما أسهم فى إبعاد المرأة عن الصورة، كما أنه لا يمكن التعويل على أن ظهور جمعية تجمع الصوفيات سيشكل تغييرا كبيرا لأنها فى الواقع تضم زوجات المشايخ لكنه تطور إلى الأفضل خارج السياق التقليدى». ويزكى الدكتور عمار التوجه الصوفى الفردى الذى يرجح أنه قد يساعد فى تقديم نماذج لنساء بارزات فى المجتمع يحملن داخلهن هذا الحس الصوفى الذى يعتمد على أفكار وسلوكيات أكثر من أشكال تنظيمية.
وفى ورقة بحثية لها تحت عنوان «قراءة فى تاريخ عابدات الإسلام» ترصد الدكتورة أميمة أبوبكر أسماء العديد من الزاهدات العابدات فى المجتمع الإسلامى وتذكر أن: «العابدات والزاهدات الأوائل استطعن أن يوجدن مساحة كبيرة من حرية الحركة والسفر والزيارة والتحرر من القيود التقليدية على حركة النساء، بل والتحرر السياسى والاقتصادى حين كن ينفقن على أنفسهن من العمل».
قديما حسبما تذكر الدكتورة أميمة أبوبكر كانت الأدوار الأسرية للمرأة الزاهدة لا تشكل قيمتهن الوحيدة فى الحياة، فالمرأة الناسكة ليست مجرد امرأة تابعة للرجل، بل كانت المتزوجات منهن ينظرن إلى رباط الزوجية على أنه مسئولية روحية وشركة فى العبادة.
ما من شك فى أن قصة مثل قصة الشيخة زكية تكاد تكون بارزة بشكل لافت لأنها تمزج بين الصورة الشعبية للعارفة بالله وجرأة المرأة الزاهدة فى الإسلام وإقدامها، فقد اختارت أن تنفق ميراثها على الخير، وبنت مسجدا لها وساحة فى قلب الصحراء الشرقية قبل وفاتها لخدمة العرب هناك بجوار مقام القطب الصوفى أبى الحسن الشاذلى، وهو ما خفف من وحشة المكان هناك الذى يرتاده آلاف المتصوفة من جميع الأقطار.
اليوم مع انتشار التعليم والعمل فى أوساط النساء ودخول تيارات دينية متعددة على الخط أعادت النظر فى التصوف بل اتخذت منه أحيانا موقفا عدائيا.. زادت الضغوط على المرأة الصوفية وأصبح من الصعب أن تظهر نماذج لامعة فى هذا المجال، خصوصا أن بعض اللوائح التنظيمية الحديثة تعيق تقدمها عن طريق تجمع مثل المجلس الأعلى للطرق الصوفية الذى لا يقبل عضوية النساء داخله.. السيدة ماجدة عيد ــ زوجة السيد محمد الشهاوى شيخ الطريقة الشهاوية ــ تقول إن اختلاف إيقاع الحياة هو الذى غيّب السيدات الصوفيات عن الساحة، وهو ما جعلنا لانزال متعلقين بسير الزاهدات الأوائل أو من حاولن السير على طريقهن. ربما لا تشعر السيدة ماجدة بمرارة بسبب مسألة العضوية تحديدا وتعتبر أن اقتصار عضوية المجلس الأعلى للطرق الصوفية على الرجال لا يحد من وجود المرأة الصوفية فى الحياة العامة، وهى تبرر ذلك بأن من يمتهن الصحافة ليس بالضرورة حاملا لعضوية نقابة الصحفيين. وترى المشاكل فى جوانب أخرى، تذكرها: «المرأة الصوفية اليوم كأى سيدة مصرية هى طالبة فى الجامعة أو تعمل فى مجالات متعددة وعليها إلى جانب ذلك أن تكون مصغية للجميع ومضيافة فى بيتها للمريدين خصوصا إن كانت زوجة شيخ الطريقة الذى عليه ألا يرد أحدا دون إجابة طلباته، فهى معه فى كل أنشطته تقريبا».
السيدة ماجدة عيد بادرت بفكرة تأسيس جمعية للمرأة الصوفية كى تضم بعض زوجات المشايخ والراغبات فى الالتحاق بها، وتلقت هذه الجمعية التى لاتزال تحت التأسيس نقدا عنيفا من بعض مشايخ الصوفية الرافضين للفكرة بدعوى أنها لا تتفق مع المنهج الصوفى التقليدى، لكنها هى وزميلاتها المتعاونات معها لا يخفين أن الإحساس بالخطر كان أحد أسباب ظهور فكرة الجمعية، مضيفة: «لا أنكر أن تقاعس الصوفيين عن الدعوة الإسلامية مقارنة بتيارات أخرى أكثر تشددا أو مسيسة قد دفع بالفتيات إلى هذه التيارات وكان بعضهن للأسف من الصوفيات. فلدى جماعة مثل الإخوان المسلمين نشاط قوى داخل الجامعة والشارع، وكذلك الدعوة الوهابية المتشددة لها منابرها التى تنفق عليها ببذخ، والمشكلة أن الطرق الصوفية تعمل بمجهودات أبنائها، وأصبحت حركتها أضيق على عكس فى الماضى حين كانت سببا فى نشر الإسلام بين البلدان المختلفة».
هذه الأعباء من ضمنها الحرب المعلنة من بعض المحسوبين على التيارات السلفية ضد الصوفية، وبعضهم يحمل إدانة للمرأة الصوفية نفسها، وهو ما لا تنكره السيدة ماجدة فى حديثها عن الصورة العالقة فى أذهان شريحة من المصريين والناتجة عن تصرفات بعض العامة من النساء اللاتى يندسون وسط الموالد ويظن هؤلاء أنهن متصوفات. وهنا أوجد غياب الصورة التى تمثل المرأة الصوفية فى المجتمع صورة أخرى أكثر ضبابية، وأصبح المجتمع متحيرا بين صورة تراثية لنساء مثل رابعة العدوية وصورة أخرى سلبية لبسطاء الموالد، وبين هذا وذاك مريدات تحكمهن قيود وقواعد داخل الطرق الصوفية، لذا كان لابد من نماذج جديدة تمثل شكلا جديدا مثل نموذج الدكتورة عبلة الكحلاوى ــ أستاذة الفقه بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الأزهر ــ التى تستخدم فى أحاديثها تعبيرات صوفية وعلى موقعها تصف نفسها بعبارات زاهدة مثل «العبد الفقير التى ترجو المغفرة والرحمة وحسن الخاتمة»، لكنها لا تقدم نفسها على أنها صوفية تقليدية، المفارقة أن الدكتورة عبلة الكحلاوى كانت إحدى من شهدن ساحة الشيخة الزكية فى صغرها بحكم نشأتها فى بيت الفنان محمد الكحلاوى الذى ختم حياته متعلقا بسير العارفين بالله وأقطاب الصوفية.. لكنها رغم هذه التفاصيل لايزال ظهورها الأهم فى المجتمع وعلى المستوى الإعلامى بشكل فردى وغير محسوب على تيار أو طريقة صوفية، بل كأكاديمية ووجه إعلامى مقبول.
الدكتور عمار على حسن ــ الباحث المهتم بالحركات الصوفية ــ يرى أن بزوغ نماذج لامعة من الصوفيات قديما كان سببه الرئيسى هو أن التصوف كان فرديا أو «جوانى»، ولا يخضع لطريقة أو هيكل تنظيمى ذكورى، وأن عودة نساء يحملن الحس الصوفى فى المجتمع مرة أخرى لن يقوم إلا عن نفس الطريق، ويقول: «أحيانا ما تبرز نماذج لشيخات صوفيات فى المناسبات الدينية والموالد، لكنهن لسن على مستوى القيادة ولا يمثلن عدد عضوات الطرق الصوفية والمريدات فيها، وحسب القانون 118 لسنة 1976 الذى ينظم عمل الطرق الصوفية فى مصر تنتقل مشيخة الطريقة بعد وفاة شيخها فى أقرب أقربائه الذكور، وهو ما أسهم فى إبعاد المرأة عن الصورة، كما أنه لا يمكن التعويل على أن ظهور جمعية تجمع الصوفيات سيشكل تغييرا كبيرا لأنها فى الواقع تضم زوجات المشايخ لكنه تطور إلى الأفضل خارج السياق التقليدى». ويزكى الدكتور عمار التوجه الصوفى الفردى الذى يرجح أنه قد يساعد فى تقديم نماذج لنساء بارزات فى المجتمع يحملن داخلهن هذا الحس الصوفى الذى يعتمد على أفكار وسلوكيات أكثر من أشكال تنظيمية.
العارف يرى المعرفة ولا يرانى
(المواقف والمخاطبات، للنفرى)
(المواقف والمخاطبات، للنفرى)
بعض الفتيات اخترن هذا الطريق بالفعل للابتعاد عن التفاصيل المربكة التى أصبحت تحيط التدين بشكل عام فى المجتمع، فانتقلن بالدين إلى مساحتهن الخاصة فى علاقة خاصة بينهن وبين الله بعيدا عن التصنيفات وتقييم الآخرين. حنان محفوظ هى فنانة تشكيلية تعيش هذه الحالة حتى يظنها البعض للوهلة الأولى فتاة صوفية، لكنها تجيب مباشرة: «أنا مش صوفية»، وذلك رفضا للتصنيف لكنها فى الحقيقة لا تخفى أن لديها ذلك الحس الذى لا ترغب فى أن يتحول إلى انتماء لطريقة أو اندماج فى مبالغات يعتنقها البعض. تقول: «ذلك الحس لاحظته فى جميع الأديان حتى الأديان الشرقية، الأمر بالنسبة لى هو مشاهدات تربطنى أكثر بالسماء والخالق، كأن أرى فى الأمطار رسالة من السماء تدعونا إلى أن نكون على صلة أكثر بالله، فى حين قد يرى فيها صديق آخر أنها سبب فى الأوحال وإعاقة لحركة الناس».
فى حفلات الانشاد الصوفى وبعض المناسبات الدينية تبدى بعض الفتيات اهتماما بالغا حتى إن لم يكن على التزام كامل بما يصفه البعض الآن بالزى الإسلامى. إحدى الممثلات الشابات على حسابها على الفيس بوك سجلت رؤيتها الدينية على أنها «صوفية» فى حين أنها طوال الوقت تبدو متحررة سواء داخل صفحتها أو على شاشة العرض السينمائى.
هذه المفارقة لا تشغل بال السيدة ماجدة عيد ــ زوجة السيد محمد الشهاوى شيخ الطريقة الشهاوية ــ التى ترى فى هذا خير وخطوة على الطريق قد تدفع إلى طريق الله، وكذلك تؤكد حنان محفوظ أن نمط الحياة اليومى والحس الروحانى والقدرة على التأمل هو الذى يجعل شريحة من الشباب اليوم تميل إلى الصوفية دون أن تدعى أنها كذلك، وتقول حنان: «حين قرأت للنفرى وغيره من شعراء الصوفية شعرت بتقارب كبير فى أفكارى مع بعض الأفكار الصوفية عن الروح والزهد والرضا واليقين وفكرة التوبة، كلها أشياء دقيقة بالنسبة لى، لكن اختيارى هو أن تكون علاقتى مع الله منى وإلىَّ وليست خاضعة لتبعية أو مراقبة من أحد».
حسب حديثها أيضا فهى تغبط من تفرغن للعبادة من الناسكات القدامى أمثال رابعة العدوية وغيرهن لكنها بيدها مواهب ترى أن عليها الاستفادة منها بل والاستمتاع بها أيضا.
العودة إلى ساحة الشيخة زكية فى حى الجمالية تحيى صورة المرأة الصوفية الناسكة الزاهدة التى بدأت فى التلاشى، وتكفى نظرة على خلوتها التى كانت محل ذكر وتسبيح حتى تنقل إلى الجالس فى حضرة الشيخة احساسا بأنها كانت نموذجا يحاكى عقيلات آل البيت والعابدات الأوائل، أما اليوم فهناك من احتفظت بتصوفها فى قلبها، وهناك من تحاول رسم صورة جديدة للمرأة الصوفية أكثر تماشيا مع الواقع.
فى حفلات الانشاد الصوفى وبعض المناسبات الدينية تبدى بعض الفتيات اهتماما بالغا حتى إن لم يكن على التزام كامل بما يصفه البعض الآن بالزى الإسلامى. إحدى الممثلات الشابات على حسابها على الفيس بوك سجلت رؤيتها الدينية على أنها «صوفية» فى حين أنها طوال الوقت تبدو متحررة سواء داخل صفحتها أو على شاشة العرض السينمائى.
هذه المفارقة لا تشغل بال السيدة ماجدة عيد ــ زوجة السيد محمد الشهاوى شيخ الطريقة الشهاوية ــ التى ترى فى هذا خير وخطوة على الطريق قد تدفع إلى طريق الله، وكذلك تؤكد حنان محفوظ أن نمط الحياة اليومى والحس الروحانى والقدرة على التأمل هو الذى يجعل شريحة من الشباب اليوم تميل إلى الصوفية دون أن تدعى أنها كذلك، وتقول حنان: «حين قرأت للنفرى وغيره من شعراء الصوفية شعرت بتقارب كبير فى أفكارى مع بعض الأفكار الصوفية عن الروح والزهد والرضا واليقين وفكرة التوبة، كلها أشياء دقيقة بالنسبة لى، لكن اختيارى هو أن تكون علاقتى مع الله منى وإلىَّ وليست خاضعة لتبعية أو مراقبة من أحد».
حسب حديثها أيضا فهى تغبط من تفرغن للعبادة من الناسكات القدامى أمثال رابعة العدوية وغيرهن لكنها بيدها مواهب ترى أن عليها الاستفادة منها بل والاستمتاع بها أيضا.
العودة إلى ساحة الشيخة زكية فى حى الجمالية تحيى صورة المرأة الصوفية الناسكة الزاهدة التى بدأت فى التلاشى، وتكفى نظرة على خلوتها التى كانت محل ذكر وتسبيح حتى تنقل إلى الجالس فى حضرة الشيخة احساسا بأنها كانت نموذجا يحاكى عقيلات آل البيت والعابدات الأوائل، أما اليوم فهناك من احتفظت بتصوفها فى قلبها، وهناك من تحاول رسم صورة جديدة للمرأة الصوفية أكثر تماشيا مع الواقع.
No comments:
Post a Comment